"إذا لم يكن هناك خبزاً للفقراء .. دعهم يأكلون كعكاً" نسبت هذه مقولة شهيرة للملكة الفرنسية ماري أنطوانيت زوجة الملك لويس السادس عشر ملك فرنسا ، قالتها وهي لا تدرك معنى الجوع ، ولا تدرك ماذا يعني الخبز للفقير الجائع ، ولم تكن تدرك عاقبة ما قالت ، وبغض النظر عن صحة هذه المقولة -فقد ذكرت في كتاب الاعتراف لجان جاك روسو- فالجوع كما يقال "كافر" ، لكن من لم يجربه لا يدرك المعنى ، فالمضطر إلى الطعام إذا واجه خطر الموت يبيح لنفسه المحظورات من اجل البقاء ، فيبيح لنفسه اكل الميتة والسرقة والنهب وقطع الطريق والقتل وغيرها مما حرم الله . وهاهي اليوم بدأت شرارات الغضب العارم تنطلق من اليمن شماله وجنوبه وشرقة وغربه معلنة وعلى الملأ رفضها للوضع الذي بات يؤرقها ، لم يعد هناك مجالاً للمجاملات ، فقد ضاق الجمل بما حمل ، نعم ان الأفواه الجائعة تكون صامته ولكن عندما تنطق يخرج من بين ثناياها لهب يحرق ودون رحمة ، ان ثورة الجياع أوصلت ملك فرنسا وزوجته إلى المقصلة لقطع رأسيهما على رؤوس الأشهاد . الجياع لا يخافون الموت ، فهم حقيقة يشعرون أنهم ميتون ، ولا يخافون العسكر ولا نيرانهم وقنابلهم ولا حتى مدرعاتهم .
إن قضية الشعب اليمني الآن ليست قضية مؤامرات انقلابية أو إرهاب القاعدة أو صراعات مراكز نفوذ على الحكم ، فما هذه الإشكاليات إلا نتاج العدو الأكبر وهو الجوع . الشعب اليوم لم يعد بحاجة إلى الطرقات والمستشفيات والمدارس بقدر ما يحتاج إلى لقمة العيش ، مئات من الأسر تعجز ان تجد قيمة شراء القوت الضروري ، فكيف بالدواء والماء والكهرباء ؟! .
أتذكر أنني زرت إحدى المناطق الساحلية بين لحج وعدن ذات مرة ، وجلست مع احد الصيادين دون سابق معرفة ، وقال لي أن الحكومة قررت أن تعمل لنا جامعة ندرس فيها الأسماك التي نصطادها من البحر ، ثم ظل يضحك ويقول ساخراً : نحن لسنا بحاجة الى جامعات ، فنحن صيادون وبحاجة الى قوارب وثلاجات للصيد من اجل لقمة العيش لنا ولأولادنا !! .
الحقيقة اصبح الشعب لا يثق بالحكومة ، ولم يعد يضع عليها اية آمال لمستقبل واعد ، فلم تحقق ثورات الوطن للشعب رفاهيته التي كان يحلم بها ، وقدم الغالي والرخيص لأجلها ، وتمسك الشعب بخيار الوحدة لربما لتكون خط امتداد لثورتي الوطن شماله وجنوبه ، وها هي تمر قرابة العشرين عاما منذ قيامها التي كانت أمل الشعب في تحقيق طموحاته ورفاهيته ، وجاءت الوحدة من اجل تغيير الأنظمة الشمولية لتفتح آفاقاً جديدة في التعددية السياسية ، والمشاركة الوطنية لكل فئات الشعب ، ولكنهم عقروها بانتهاكاتهم للمواثيق والعهود ، واستنزفوا خيراتها لصالح فئة معينة ، وحولوا ارض اليمن من اقصى شرقة الى غربه غنيمة يتقاسمها اصحاب المعالي والسعادة والنفوذ والوجاهة ، فربما نسوا ان الشعوب اذا جاعت تثور . الدولة في نظر السلطة الحالية الموارد المالية من بترول وضرائب وجمارك وجبايات الأوقاف والأراضي وغيرها ، وهي القوة العسكرية الضاربة لحماية العرش ، وتجاهلوا بل واستهانوا بالإنسان اليمني الذي هو اساس الدولة وعمادها .
الإنسان هو من بنى الحضارات ، وهو اللبنة الأولى في بناء المجتمعات ، فالمفترض إعادة بناء شخصية الانسان نفسه وفي هذا يشاطرني الكاتب والمحلل السياسي المقرب من السلطة الأستاذ نصر طه مصطفى في ندوة أقامها مكتب صحيفة الخليج بصنعاء ، ونشرتها الصحيفة يوم الاثنين السابع من أيلول سبتمبر من هذا العام حيث قال : إن الانشغال بالصراعات والخلافات السياسية أخذ جزءاً كبيراً من وقت الدولة والحكومات المتعاقبة بحيث أدى ذلك إلى الابتعاد عن الكثير من المهام الإستراتيجية وفي مقدمتها مهمة إعادة بناء شخصية الإنسان اليمني بشكل عام ، مشيرا إلى عملية التنمية في البلد والتي كانت على حساب بناء الإنسان نفسه، بمعنى أنه تم الاهتمام بالمشاريع من حيث بناء الجامعات والمدارس والمستشفيات والطرق، لكن الإنسان نفسه لم ينل الاهتمام الكافي بإعادة صياغته، حيث نجد أن هناك اختلالات في العملية التعليمية ، واختلالات أخرى في مستوى معيشة الإنسان نفسه، وأكد أن ذلك كلها أخذت تعكس نفسها شيئا فشيئا على مفاصل الحياة كافة ، ونوه إلى أن الإصلاحات الاقتصادية التي تمت كانت ضرورية بكل تأكيد وحققت أهدافاً معقولة لكنها أيضا لم تكن ذات رؤية شاملة، فقد كانت تحدث إصلاحات مالية-وهي مهمة بالتأكيد- لكن لم يكن يصاحبها بنفس المستوى إصلاحات إدارية فاستشرت البطالة والاختلالات الإدارية واستشرى الفساد المالي والإداري فأثر بشكل أو آخر في الأوضاع . حُرم الشعب من الحياة الكريمة إلا أصحاب الكرامات من السادة أولياء الله الصالحين في السلطة الحالية ، حتى وصل الأمر ان يحرموا المواطن حق التعبير وإبداء الرأي ، والغريب انه لدينا حديقة تسمى "حديقة الديمقراطية"على غرار حديقة الهايد براك بلندن ، وذلك في ظل قمع للصحفيين وإيقاف الصحف عن الصدور وانتهاك للحريات الشخصية وعدم تقبل الآراء!! ، عجيب أمركم يا سادة البلاد!! .
أين الديمقراطية التي تدعونها وهناك من يختطف الصحفيين ، ويعتقل المحتجين والمطالبين بادني حقوقهم الإنسانية ويودعهم في المعتقلات وبدون محاكمات ؟ وأين الديمقراطية وهناك انتهاك للقوانين وخرق للدستور الذي يكفل للمواطن حرية التعبير عن أرائه، ناهيك عن نبرات التخوين لكل من كتب كلمة حق بقلمه الشريف ، ثم ان الشعب عرف حقيقة هذه الديمقراطية التي اصبحت رمزأً للنهب والسلب.
المفترض ان تسمى هذه الحديقة بحديقة الذئاب المسعورة ، التي أصيبت بحمى البطش والجشع ، وأصبحت تأكل الأخضر واليابس ، أصبحت تمتص دماء الفقراء والضعفاء ، وتمزق جيوبهم الخالية لاهثة وراء المال والسلطة والنفوذ ؟ وأين الأمن والعسكر في كل مكان يمارسون دور الجباة لجيوبهم ، ثم قطع السلاح تدخل الدولة وتباع في الأسواق ، وأطنان المشروبات الكحولية وحبوب الهلوسة تدخل البلد عن طريق تسهيلات تقدم من (رجال الأمن) حماة الوطن والثورة والوحدة والشعب ، والغريب انهم ينهشون وطناً ويترنمون به .
وما يجري اليوم في صعدة من صراعات وصدامات مسلحة لقوى خارجة عن القانون مع السلطة كما تدعي هي بذلك !! ومن جانب آخر يخرج غالبية ابناء المحافظات الجنوبية في مطالبات حقوقية تحولت الى المطالبة بفك الارتباط ، وبالأمس القريب ينطلق حراك المنطقة الوسطى من محافظة تعز باعلان حركة شعبية للعدالة والتغيير ، والمعارضة تعمل لعقد حوار وطني في دول عربية يتضمن كافة القوى الوطنية المعارضة في الداخل والخارج ، ان كل هذه التحركات بوادر الرفض الشعبي على السياسات التي تنتهجها السلطة الحالية .
أخيرا : ربما تكون ماري أنطوانيت بجهلها بما يدور حولها أسدت معروفا لشعوب العالم الجائعة بمقولتها المشهورة ، تذكرهم بظلم قادتهم وزعمائهم واستهتارهم بالإنسان وابسط حقوقه ، وربما أسدت معروفا آخر للقادة والزعماء أنفسهم بأن يحذروا غضب شعوبهم الجائعة .