لا أحد من أفراد عائلته يعرف عنه شيئاً، ومضى وقت منذ شاهدوه آخر مرة, كما أنه ليس مهماً كي يجتمعوا ويبدأوا البحث عنه, مهمة إنجاب البديل أسهل من العثور عليه. إنه هنا ينقل عينيه الصغيرتين جيداً في الوجوه ويرقب أيدينا عل أحدها تتدخل لإنقاذه، الدائرة تتسع وعدد المشاركين يزداد رغم أنها الساعات الأولى للصباح في حي متفرع من شارع هائل وسط العاصمة وكل من يرى المجتمعين يترك ما بين يديه ويأتي للفرجة.
حتى أنأى بنفسي عن المساهمة معهم لزمت الصمت وأضمرت التعاطف مع السجين ذي العينيين الصغيرتين الممتلئتين بالخوف والسهر والإجهاد .
بدأوا يطرحون لصاحب أفضل وسيلة للقتل كي يختار أقربها إلى ميوله للاقتصاص من غريمه وتعددت المبادرات, ذهب أحدهم لشراء "شمة بيضاء" مادة توضع في الفم للشعور بالنشوة وتصنع من أوراق التبغ". حين عاد فتح كيساً صغيراً وصب ما بداخله من "الشمه" على رأس الضحية وهو يحدثنا "الان سيدخل في غيبوبة"، ولكن هذا لم يحدث, أخذ يكرر إخراج لسانه الصغيرة جداً ليتذوقها ولم يصب بغيبوبة، فتطوع آخر بإحضار النوع الأكثر تأثيراً "شمة سوداء" وهو يقول "هذه بتدخله في الإغماء السريع"، وهو ما لم يحدث أيضاً.
كانت رغبتي تكبر لأعلن تعاطفي والتصفيق لفوزه، لكن صاحب الدكان - وهو الغريم الرئيسي- جعل ما حدث دليلاً جديداً على أن السجين كان يتسكع في أنحاء السوق ويتناول ما يريد في الليل وقد جرب كل شيء حتى أنواع ألشمه لم تعد تؤثر فيه.
في هذه الأثناء استحضر من يبدو عليه الوقار التأريخ وقال إن هذا المخلوق كان سبباً في خراب سد مأرب ودفن حضارتنا تحت التراب, التأريخ أكثر القتله احتراماً يجعلنا نتسابق لقتل بعضنا تحت راياته القديمة ويجعلنا نكرره بأوجه مختلفة على احتمال أن ينصفنا أو يتحدث عنا في صفحاته .. يدور هذا في خلدي فقط, وعلى الفار الآن أن يدفع جزءاً من رواية التاريخ له كمخرب دمر سد مأرب وأهلك ما حوله ويمكننا أن نقتص من حفيد المخرب الذي جرفته صنيعته ولاحقته الأسطورة التى نتخذها دائماً مقدمة لأي صراع.
أحدهم يبدو أنه أشد عدوانيه، استفسر عن أقرب محطة ليحضر مادة الجاز "الكيروسين"، ويصبها على جسد الفار وإشعال النار فيه – وحدها هذه البشاعة أخرجتني من حيادي لأصرخ "لا يمكن"، ووجدت أصواتاً مؤيدة للإعتراض، فغادر صاحب المقترح غاضباً، كان أمله رؤية كائن يحترق، وهي صورة يصعب طمسها من الذاكرة، فهي تظل قادرة على تجديد نفسها، ومع هذا، من يحرقون أجسادهم أصبحوا يتباهون بحجز حيز من ذاكرتنا المخيفة.
بدأ الملل يغزو صاحب الدكان الذي يكرر القصة لكل جديد يصل، ويزداد حماسه في الجزء الخاص بنصب المصيدة داخل المحل، ولا ينسى امتداح التصميم البديع لها، فهي تغري الفأر بوجود الطعام داخلها، وعندما ينتهي من وجبته يكتشف أنه أصبح في صندوق حديدي، وعاجزاً عن الخروج.
كانت هناك أصوات تهمس "فك له ولن يعود إلى دكانك" لكنه تجاهل سماعها، فقد كان مركزاً على الإنتقام وبادر صاحب مقترح سابق "بالتأكيد أن الفئران أكثر المخلوقات نسياناً، وقد أثبتت التجارب فشلهم في التذكر. أصبح الإفراج مستحيلاً حين أحضر متطوع كيساً بلاستيكياً ووضعه ملتصقاً بالمصيدة من جهة الباب, فتح ليهرب الفأر إلى داخل الكيس الذي لم أكن قد فهمت بعد ما الهدف منه إلا حين ارتفعت اليد التي تحمله عاليا لتهبط مسرعه ويرتطم بالإسفلت، ليقفز الفأر من خلال ثقب تكون بفعل الارتطام عاجزاً عن أي شيء، غير حركة صغيرة من قدمه اليسرى أنهى بها حياته. هنا تعالت كلمة "حرام"، لكن هذه الكلمة التي جاءت متأخرة لم تكن قادرة على إعادة روح المخلوق الذي دفع حياته ثمناً لاستيلائه على حوالي أربعة جرام من الطماطم، بينما من يدمرون البلاد والعباد نوفر لهم الحماية لأنهم من جنسنا القاسي الذي يريد الإنفراد بكل شيء ويقتل كل من يحاول الاقتراب مما يعتقد أنه يخصه.
عكرت الحادثة مزاجي وكشفت لي أولاً تعاطفاً مع كائن يراه الكثيرون غير جدير بأي رحمة وكنت أداري غضبي .. كان يمكنهم أن لا يتفننوا بالقتل وأن يجدوا طريقة أقل إيلاماً لا تزيد قلوبنا غلظة، وحتى لا أخفي سراً أعتقد أن تعاطفي قادم من إعجابي الشديد بالمسلسل الكرتوني توم وجيري، وشخصية الفأر تعني لى الكثير وإن كانت المتهم الأول في تفشي الطاعون وفقاً لرواية الكاتب الرائع ألبير كامي.
كما أن الطب لم يخطو إلى الأمام لولا وجود الفئران التى تقدم نفسها في المختبرات الطبية كحقول تجارب، وأجيال منها ساهمت في نجاح العقاقير والمحاليل التي تساعدنا على التخلص من الأمراض وأصبح شائعاً مصطلح "فئران تجارب"، ومرد ذلك الى التقارب الجيني بين الإنسان والفأر إلى الحد الذي يجعل الدواء المؤثر في الثاني فعالاً في الأول، لا أدعو إلى تربيتها في كل بيت، ولكن أقصد أن نتلطف في قتلها حين نجدها متلبسة بالجرم. المصدر أونلاين