العلامة الشيخ "الزنداني".. رائد الإعجاز وشيخ اليمن والإيمان    اشتراكي الضالع ينعي رحيل المناضل محمد سعيد الجماعي مميز    العليمي يؤكد دعم جهود السعودية والمبعوث الأممي لإطلاق عملية سياسية شاملة في اليمن    على طريقة الاحتلال الإسرائيلي.. جرف وهدم عشرات المنازل في صنعاء    التعاون الدولي والنمو والطاقة.. انطلاق فعاليات منتدى دافوس في السعودية    ميسي يصعب مهمة رونالدو في اللحاق به    الهلال يستعيد مالكوم قبل مواجهة الاتحاد    الشبكة اليمنية تدين استمرار استهداف المليشيا للمدنيين في تعز وتدعو لردعها وإدانة جرائمها    الفنانة اليمنية ''بلقيس فتحي'' تخطف الأضواء بإطلالة جذابة خلال حفل زفاف (فيديو)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    بالصور.. محمد صلاح ينفجر في وجه كلوب    18 محافظة على موعد مع الأمطار خلال الساعات القادمة.. وتحذيرات مهمة للأرصاد والإنذار المبكر    مئات المستوطنين والمتطرفين يقتحمون باحات الأقصى    وفاة فنان عربي شهير.. رحل بطل ''أسد الجزيرة''    خطر يتهدد مستقبل اليمن: تصاعد «مخيف» لمؤشرات الأطفال خارج المدرسة    أسعار صرف العملات الأجنبية أمام الريال اليمني    اسباب اعتقال ميليشيا الحوثي للناشط "العراسي" وصلتهم باتفاقية سرية للتبادل التجاري مع إسرائيل    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    مجهولون يشعلون النيران في أكبر جمعية تعاونية لتسويق المحاصيل الزراعية خارج اليمن    طالب شرعبي يعتنق المسيحية ليتزوج بامرأة هندية تقيم مع صديقها    فريدمان أولا أمن إسرائيل والباقي تفاصيل    تضامن حضرموت يحسم الصراع ويبلغ المربع الذهبي لبطولة كرة السلة لأندية حضرموت    شرطة أمريكا تواجه احتجاجات دعم غزة بسلاح الاعتقالات    ما الذي يتذكره الجنوبيون عن تاريخ المجرم الهالك "حميد القشيبي"    تجاوز قضية الجنوب لن يغرق الإنتقالي لوحده.. بل سيغرق اليمن والإقليم    الحوثيون يلزمون صالات الأعراس في عمران بفتح الاهازيج والزوامل بدلا من الأغاني    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    وفاة شابين يمنيين بحادث مروري مروع في البحرين    اليمنية تنفي شراء طائرات جديدة من الإمارات وتؤكد سعيها لتطوير أسطولها    اعتراف أمريكي جريء يفضح المسرحية: هذا ما يجري بيننا وبين الحوثيين!!    تشيلسي ينجو من الهزيمة بتعادل ثمين امام استون فيلا    مصلحة الدفاع المدني ومفوضية الكشافة ينفذون ورشة توعوية حول التعامل مع الكوارث    ضربة قوية للحوثيين بتعز: سقوط قيادي بارز علي يد الجيش الوطني    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يعزز مركزه بفوز على بلباو    وصول أول دفعة من الفرق الطبية السعودية للمخيم التطوعي بمستشفى الأمير محمد بن سلمان في عدن (فيديو)    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    قيادية بارزة تحريض الفتيات على التبرج في الضالع..اليك الحقيقة    قبل شراء سلام زائف.. يجب حصول محافظات النفط على 50% من قيمة الإنتاج    وزارة الحج والعمرة السعودية تحذر من شركات الحج الوهمية وتؤكد أنه لا حج إلا بتأشيرة حج    «كاك بنك» يدشن برنامج تدريبي في إعداد الخطة التشغيلية لقياداته الإدارية    فريق طبي سعودي يصل عدن لإقامة مخيم تطوعي في مستشفى الامير محمد بن سلمان    ارتفاع إصابات الكوليرا في اليمن إلى 18 ألف حالة    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    لحظة يازمن    لا بكاء ينفع ولا شكوى تفيد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التاريخ يقول: أصحاب الأرض باقون، والغُزاة دومًا إلى زوال .. ثورة مُستمرة.. استقلال يتجدد
نشر في المنتصف يوم 23 - 02 - 2021

الثورة الحقيقية رُوح وثابة، تتجدد ما تجدد الظلم، وتنتصر ما توفرت الإرادة.
يُحدثنا التاريخ كثيرًا أن الثورة -أي ثورة- لا تحظى في بدايتها بالدعم المُحفز للاستمرار، وأنَّ الثوار -أي ثوار- يكونون عُرضة للتآمر والاحتقار، من القريب قبل البعيد، إلا أنها مع مرور الوقت تُصبح سلوكا مُعديا، وظاهرة مُجتمعية عصية على التشويه والانكسار.

أفكار الكفاح المُسلح
حددت ثورة 26 سبتمبر 1962، منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، حقيقة توجهها الوطني كثورة شاملة لا تعترف بالحدود الشطرية، وعَبرَّت عن خطها الوطني المُعلن صبيحة ذلك اليوم المجيد. كما جاء ضمن أهدافها الستة، أو في بيانها إلى الشعب اليمني، على اعتبار أنَّه شعب واحد يؤمن بالله، وبأنَّه جزء من الأمة العربية.

عبر الشعب اليمني حينها عن فرحته بذلك الحدث العظيم. وفي شوارع عدن خرجت الجماهير مُحتفية، وبدأت طلائع المُتطوعين تتجه شمالًا، ليقوموا -وقبل أنْ ينتهي ذلك العام- بإعادة تنظيم أنفسهم في إطار سياسي يُمثل أبناء الجنوب أمام القيادة الشمالية، وسموا تنظيمهم ب(هيئة تحرير الجنوب اليمني المُحتل).

بازدياد العمليات العسكرية المُوجهة ضد الجمهورية الوليدة، بدأ المصريون يفكرون جديًا في إيجاد إطار سياسي يلم شتات الجنوبيين المتواجدين في الشمال، يستطيعون من خلاله تنظيم أنفسهم للقيام بعمليات عسكرية ضد الاحتلال. استغل القوميون العرب ذلك بصورة ذكية؛ وبدأت الحركة التي كان يقودها في الجنوب فيصل عبداللطيف الشعبي، وفي الشمال مالك الإرياني، تروج لأفكار الكفاح المسلح، وتعد العدة لإنشاء تنظيم مُنبثق عن الحركة الأم، وأجرت اتصالاتها مع قياداتها في الخارج للاتصال بالزعيم جمال عبدالناصر للحصول منه على الضوء الأخضر.

جاء الضوء الأخضر، وتوجه قحطان الشعبي من القاهرة إلى صنعاء، وتمّ تعيينه مُستشارًا للرئيس عبدالله السلال لشؤون الجنوب بدرجة وزير. وقد استطاع الأخير خلال فترة وجيزة أنْ ينال ثقة الجنوبيين، عقدوا أكثر من اجتماع، وكان أهمها ذلك الذي عُقد بدار السعادة 24 فبراير 1963، وحضره أكثر من 100 ثائر جنوبي. ومن هؤلاء جميعًا تشكلت النواة الأولى لحركة التحرر الجنوبية، اتفقوا على توحيد جميع القوى الوطنية في إطار جبهة مُوحدة، واستقر الرأي على تسميتها باسم (جبهة تحرير الجنوب اليمني المُحتل).

وهكذا، وكما بدأ أحرار الشمال نضالهم من عدن، بدأ أحرار الجنوب نضالهم من صنعاء، وبرز على صدر ميثاق الجبهة شعار: من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية.

ساعة الصفر
حين زارت لجنة تقصي الحقائق، المنبثقة عن لجنة تصفية الاستعمار بالأمم المتحدة، صنعاء في 29 مايو 1963، نظم الجنوبيون مسيرة حاشدة تحركت من العرضي إلى دار الضيافة حيث تقيم اللجنة، وسلموها مُذكرة تشرح أوضاعهم تحت حكم الاحتلال، وحددوا مطالبهم بالاستقلال.

توجهت المظاهرة بعد ذلك إلى منزل الرئيس عبدالله السلال، وسلموه نسخة من تلك المذكرة، وطالبوه بدعم الكفاح المسلح، وفتح مكتب للجبهة، وتعيين قحطان الشعبي رئيسًا لمصلحة أبناء الجنوب حتى تكون له صفة رسمية وصلاحيات قانونية. وقد لبى السلال مطالبهم، إلا أنَّ فتح المكتب رفض من قبل بعض القوى.

وفي 5 يونيو 1963، صدر بيان جنوبي تاريخي، وتمّ توزيعه في صنعاء باسم قطاعي القبائل والجيش، تضمن تصميم قطاع القبائل على الدخول في المعركة في جبهة موحدة مع كل الطلائع والقوى الوطنية المُؤمنة بالتحرر الكامل، ورفض أسلوب المساومة وأنصاف الحلول، وكان من ضمن الموقعين عليه الثائر الشيخ راجح بن غالب لبوزة.

وفي مُنتصف ذات الشهر، عُقد في منزل القاضي عبدالرحمن الإرياني اجتماع ضم عددًا من الشخصيات الوطنية، وقد شدد الشماليون فيه على ضرورة فتح جبهة في عمق الأراضي الجنوبية من أجل تخفيف الضغط على الثورة. وافق الجنوبيون على ذلك، وعقدوا في اليوم التالي اجتماعًا قرروا فيه تشكيل لجنة اتصال مهمتها الإعداد والتهيئة للثورة، مكوَّنة من 12 شخصًا، ستة ممثلين لحركة القوميين العرب، وستة ممثلين لتشكيل القبائل.

غالبية البيانات التي صدرت حينها عن التنظيمات السياسية الجنوبية كانت تعتبر اليمن إقليمًا واحدًا، شمالًا وجنوبًا، وجزءًا من الوطن العربي المُوحد، وقد كانت تلك الشعارات تؤذي الإنجليز وحكومتها الاتحادية. أصدر الأخيرون في ذات الشهر قانونا صارما مُوجها لدعاتها، جاء نصه: «من يوافق أو يدفع الآخرين إلى التفكير بأنَّ اتحاد الجنوب العربي يعتبر جزءا من دولة أخرى، يتعرض لعقوبة السجن لمدة لا تزيد عن سبع سنوات، أو لغرامة لا تزيد عن خمسمائة جنيه استرليني».

في الأسبوع الأول من يوليو 1963، عُقد في قرية حارات ناحية الأعبوس - تعز اجتماع تشاوري لعدد من أعضاء حركة القوميين العرب، حضره: قحطان الشعبي، وفيصل عبد اللطيف، وسلطان أحمد عمر، وعلي السلامي، وطه مقبل، وسالم زين، وآخرون، وتم فيه الاتفاق على توسيع دائرة التحالفات الجنوبية على قاعدة الكفاح المسلح، وإضافة كلمة القومية لاسم الجبهة.

وذكر سلطان أحمد عمر -أحد أولئك المجتمعين- في مُقابلة صحفية أنَّ قيادة الحركة اتخذت في ذلك الاجتماع عدة خطوات حاسمة، أهمها الإعداد للثورة، واختيار جبال ردفان لتفجيرها؛ لأسباب عدها استراتيجية، وهذا يعني أنَّ ساعة الصفر حُددت مُسبقًا، ومن هناك، من جبال الأعبوس.

توجه بعد ذلك عدد من الثوار الجنوبيين إلى مدينة تعز، وشكلوا قيادة لتنظيم التعاون مع المخابرات المصرية للإعداد للثورة، وفتحوا مكتبًا لها، ونشروا الميثاق القومي، وبيان مارس كما أقر، ولم يغير فيه سوى اسم جبهة التحرير إلى (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل)، وتم إعادة نشرهما في صحيفة (الثورة) التي كانت تُصدر من ذات المدينة.

تبعًا لذلك، عقد في مدينة تعز اجتماع كبير ظم غالبية ثوار الجنوب الفاعلين 19 أغسطس 1963، أخذت الجبهة فيه تسميتها الجديدة، وقد اندمجت فيها وتبنت خيارها سبعة تنظيمات سرية، وهي: حركة القوميين العرب، والجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، والمنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، والجبهة الوطنية، والتشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية. وقد التحقت بها ثلاثة تنظيمات أخرى، وهي: منظمة الطلائع الثورية بعدن، ومنظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل.

عُقد اجتماع تعز الموسع بالتزامن مع عودة الشيخ راجح بن غالب لبوزة وأصحابه إلى ردفان، وأثناء مرور الأخيرين بمدينة إب التقاهم المقدم أحمد الكبسي قائد اللواء، والذي كانت تربطه بلبوزة عَلاقات وثيقة جمعتهم فيها أعمالهم القتالية في جبهة المحابشة، طلب الكبسي منه دراسة الأجواء في ردفان للقيام بالثورة، مؤكدًا استعداده لدعمهم، وتدريب كوادرهم.

ثائر أمي
عاد الثوار إلى ردفان نهاية أغسطس 1963، وبحوزتهم أسلحتهم الشخصية، وبعض القنابل، وحين علم ني ميلن الضابط السياسي البريطاني بذلك، أرسل إلى الشيخ لبوزة ومجموعته، وطلب منهم تسليم أنفسهم وأسلحتهم، ودفع 500 شلن غرامة على كل فرد؛ كضمانة لعدم عودتهم إلى الشمال مرة أخرى. رد بطلنا الثائر عليه برسالة قوية، وأرفقها بطلقة رصاص.

لبوزة الثائر الأمي، الذي لا يجيد الكتابة إلا بلغة البندقية، أملى لكاتب رسالته عبارات مُختزلة خالية من مفردات المهادنة الاستسلام، قال للضابط الإنجليزي: «عُدنا إلى بلدنا، ولم نعترف بكم ولا بحكومة الاتحاد المزيفة، وإن حكومتنا هي الجمهورية العربية اليمنية، ونحذركم من اختراق حدودنا».
استشاط الضابط الإنجليزي غضبًا، وتقدم في اليوم التالي صوب ردفان، ألقى القبض على مجاميع قبلية عائدة لتوها من الشمال، فما كان من الثوار إلا أنْ تمترسوا فوق جبل البدوي المُطل على الحبيلين، لتدور في صبيحة يوم الاثنين 14أكتوبر 1963 مواجهات شديدة بين الطرفين، استمرت لأربع ساعات، انتهت قبل أن ينتصف نهار ذلك اليوم بسقوط الثائر لبوزة شهيدًا، عن عمر يناهز ال 64 عامًا، متأثرًا بثلاث شظايا لقذيفة مدفعية اخترقت جسده الطاهر.

أذاعت إذاعتا صنعاء وصوت العرب من القاهرة النبأ الفاجعة، وبعد مواراة جثمان الشهيد، فتيل الثورة وفارسها المقدام، تعاهد الثوار فوق قبره على مواصلة المشوار، اختاروا ولده بليل قائدًا لهم، وجعلوا من وادي دبسان مسقط رأس الشهيد مقرًا لعملياتهم العسكرية.

مثلت لحظة استشهاد لبوزة بداية حقيقية لمرحلة الكفاح المسلح، جميع الكيانات الجنوبية المسلحة اعتبرتها كذلك، أصدرت الجبهة القومية لتحرير الجنوب بيان حماسي نعت فيه الشهيد، وأكدت مواصلة النضال، جاء فيه: «ونعاهد راجح بن غالب أن نخوض المعركة حتى النصر، مهما كانت التضحيات».

إمكانيات ثوار ردفان كانت حينها ضئيلة جدًا، ولذات السبب توجهت مجموعة منهم برئاسة القائد بليل راجح لبوزة إلى إب وتعز، ثم صنعاء طلبًا للدعم والمساندة، وكان أول دعم يتلقونه عبارة عن ذخائر وألغام، وقد تم نقلها على الأكتاف إلى مقر قيادتهم. وقد عمل بليل بعد عودته من الشمال على إكمال مهمة أبيه، نجح في لم شمل القبائل المُتصارعة، بمساعدة مائزة من قبل بعض المشايخ، وهكذا صار أبناء ردفان يدًا واحدة في مواجهة الإنجليز وأذنابهم.

زار الرئيس جمال عبد الناصر اليمن 23 إبريل 1964، وألقى من مدينة تعز خطابًا حماسيًا، عُدَّ نقطة تحول فارقة في تاريخ اليمن المعاصر، وكان الشرارة التي أشعلت حرب التحرير الشاملة، انطلقت بموجبه عملية (صلاح الدين) الذائعة الصيت، وكانت تعز مقرها، وقد شكلت ذات المدينة وقرينتها قعطبة ملاذًا آمنًا لثوار الجنوب، وكانتا بحق مركز دعمهم، ونقطة انطلاقهم حتى تحقق الاستقلال.

الذئاب الحُمر
سعى الإنجليز لكبح الثورة في مهدها، قاموا خلال العام 1964 بخمس عمليات كبيرة، شارك فيها آلاف الجنود، وعدد كبير من الأسلحة الثقيلة، أطلقوا على حملتهم الأولى (نتكراكر)، ومعناها كسارة جوز الهند، تكونت من الكتائب الثانية والثالثة والرابعة لجيش الاتحاد، معززة بكتيبة مصفحات، وبعض القوات البريطانية المسنودة بالدبابات والمدفعية والطائرات، وكانت منطقة الثمير نقطة تجمعها.

ما إن أقلت طائرات الهيلوكبتر كتيبة من الجنود فوق الهضاب المشرفة على وادي ربوة ووادي المصراح، حتى انهال الثوار عليها بالضرب من بنادقهم، لتسارع القيادة الإنجليزية بوقف هذه العملية نهاية ذات الشهر، ثم عادت وأمرت باستمرار إنزال الجنود. وبالفعل أنزلت ثلاث فرق، أحاط بهم الثوار وأجبروهم على الرحيل مشيًا على الأقدام.

قام الإنجليز بعد ذلك بحملتهم الثانية رستم، سيطروا فيها على وادي تيم ووادي ذنبة. نجح الثوار بعد أنْ وصلهم الدعم في استعادة تلك المناطق، وقتل عدد من الجنود. أعلنت إذاعتا صنعاء والقاهرة نبأ ذلك الانتصار، الأمر الذي أغاض الإنجليز، قاموا أواخر مارس بإرسال سرب مكون من ثمان طائرات من نوع هنتر لضرب حريب، وهو التعدي الصارخ الذي أثار سخطًا عامًا في الصحافة البريطانية وهيئة الأمم المتحدة.

اعترفت تقارير المخابرات البريطانية حينها أنَّ عدد الثوار في ردفان وصل إلى أكثر من 500 مُقاتل. ولأول مرة ذكروا بأنَّ الثوار صاروا يلبسون بدلات رسمية، وأنَّهم في غاية التنظيم، ومسلحون تسليحًا جيدًا.

بعد فشل الحملة الثانية منتصف إبريل من ذات العام، قرر الإنجليز القيام بعملية عسكرية كُبرى بقيادة المأجور جنرال جون كابون، القائد العام للقوات البرية في الشرق الأوسط، وهي قوات خاصة سميت (بقوة ردفوس)، وقد خصص للعملية عدد كبير من الطائرات، وحددت أهدافها بمنع الثورة من الانتشار، وإيقاف الهجمات على طريق الضالع، فيما بلغ عدد الجنود المشاركين بها حوالي 3000 جندي وضابط، واستمرت لحوالي 25 يومًا. وكسابقتها، كان مصيرها الفشل الذريع.

على الرغم من تمركز قوات الكومندوس البريطانية فوق الجبال المُطلة على وادي تيم ووادي ذنبة، وتهجيرها لسكان قرى الواديين، استمر الثوار المتمركزون شمال وادي تيم ووادي المصراح وجبال البكري بمناوشتهم وتكبيدهم الكثير من الخسائر. ولذلك قرر الإنجليز القيام بحملة رابعة بقيادة بلكر، استمرت من 11 حتى 23 مايو من ذات العام.

أراد الإنجليز من خلال هذه الحملة تعريف الثوار بقدرة جنودهم على التغلغل في عمق المناطق الوعرة، والاستحواذ على جبال البكري الاستراتيجية، وقد كان لهم ذلك. دارت المعركة الرئيسية في قرية القطيشي، ليشهد الإنجليز بعد انتهائها بشجاعة أبناء ردفان وبسالتهم.

بعد ذلك، تأتي الحملة الخامسة من 24 مايو إلى 23 أغسطس 1964، بقيادة بلير، ثم بلكر، وكان الهدف منها السيطرة على جبل الحورية أعلى قمة في ردفان. شن جيش الاحتلال هجمات فجائية على وادي تحلين بهدف السيطرة عليه، وقطع طرق قوافل الثوار المُحملة بالذخائر والمؤن من الشمال، إلا أنَّ الثوار تصدوا لهم، أسقطوا طائرة هيلوكبتر، وأعطبوا طائرتين.

اضطر وزير الدفاع البريطاني دنكن ساندر حينها أن يأتي لجبال ردفان الملتهبة في عز شهور الصيف، محاولًا رافع معنويات جنوده المنهارة. كما اضطرت الحكومة البريطانية أن تستقدم بعض جنودها المتواجدين في جنوب إفريقيا وإيرلندا. ولقوة وبسالة ثوار ردفان كانت الصحافة البريطانية تطلق عليهم: (الذئاب الحمر).

عقد مجلس العموم البريطاني جلسة خاصة لمناقشة تداعيات ذلك الوضع المُربك، وذكر أحد المؤرخين -حضر تلك الجلسة- أن أعضاء المجلس تحدثوا عن صمود أبناء ردفان، وتساءل أحدهم: كيف لم تستطيع قواتهم المزودة بأحدث العتاد العسكري من القضاء على المتمردين؟ وكيف لم تتمكن 1700 غارة جوية من ضرب مواقعهم؟ وعلق ساخرًا: «لقد أقاموا متحفًا أطلقوا عليه متحف الرؤوس البريطانية، لكثرة قتلانا هناك».

لم يسترح ثوار ردفان لحظة، تمكن الإنجليز نهاية عام 1964 من تضييق الخناق عليهم، تمترسوا في المرتفعات الوعرة، الصعبة المسالك، ظلوا أيامًا بلا ماء ولا طعام ولا ذخيرة، حتى الهواء لم يكن سوى غلالة كثيفة من رائحة البارود، الأمر الذي زادهم قوة وصلابة. لم يتزحزحوا عن مواقعهم قيد أنملة، تغلبوا على جميع المعوقات، وأثبتوا للجميع أن الثورة مُستمرة، وأنَّ بريطانيا يمكن هزيمتها.

تأكد حينها للقاصي والداني نُبل مطالب الثوار، وقوة شكيمتهم، وقساوة المُحتل وحقارة عملائه، خاصة بعد أن مارس الأخيرون جرائم حرب شنيعة في حق ردفان وأبنائها، أخذت طابع الأرض المحروقة. سمموا الآبار، وزرعوا الألغام، وقصفوا المنازل، وتسببوا بكارثة إنسانية فظيعة، نزح بسببها آلاف المواطنين إلى الضالع وماوية وعدن. وقد أدان أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني تلك الأعمال، وتناقلت تصريحاته وكالات الأنباء العالمية.

وفي عدن، وقف أحد السياسيين الجنوبيين يتأمل أفوج النازحين، وقال مُتهكمًا: «هذا ما جنته ردفان من الكفاح المسلح»، وما هي إلا أيام قلائل حتى ضجت شوارع تلك المدينة بالثورة، ولم يكد ينتهي العام 1965 إلا وهناك 12 جبهة مفتوحة في أرياف الجنوب. ساهمت عمليات عدن الجريئة في تخفيف الضغط عليها، وصارت ردفان في فم كل ثائر، حسب أغنية شهيرة للفنان محمد مرشد ناجي، لتكلل تلك التضحيات برحيل المُحتل نهائيًا 30 نوفمبر 1967.

الثورة قضية صادقة، وفعل مُستمر. وهي قبل هذا وذاك إنسان حر يُضحي دون مَنّ، وجُغرافيا صامدة تختزل الوطن. وكما لكل صمود ضريبة؛ فإن لكل انتصار ثمنا. وتبقى 14 أكتوبر 1963 ثورة ردفان، واجهت أعتى احتلال، وانتصرت، وهو انتصار محسوب لكل اليمن. والتاريخ يقول: أصحاب الأرض باقون، والغُزاة دومًا إلى زوال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.