الوكيل الحسني يطلع على سير اعمال مشروع إعادة تاهيل الشارع العام مدخل مدينة الضالع    قناص اسرائيلي شارك في حرب غزة يستفز طلاب جامعة جوروج واشنطن المتظاهرين وهكذا كانت ردة فعلهم    بيان حوثي بشأن إغلاق مكتب قناة الجزيرة    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    الحبيب الجفري ناعيا الشيخ بن فريد.. أكثر شيوخ القبائل والساسة نزاهة في بلادنا    خصوم المشروع الجنوبي !!!    "حضرموت تضع حدودًا: بن ماضي يرفض مساعدة عدن على حساب أبناء حضرموت"    افتتاح دورة مدربي الجودو بعدن تحت إشراف الخبير الدولي ياسين الايوبي    لماذا اختفت مأرب تحت سحابة غبار؟ حكاية موجة غبارية قاسية تُهدد حياة السكان    إنعقاد ورشة عمل حول مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب مميز    قيادي حوثي يعاود السطو على أراضي مواطنين بالقوة في محافظة إب    سر خسارة برشلونة لكل شيء.. 270 دقيقة تفسر الموسم الصفري    الدوري الانكليزي: خماسية صارخة لتشيلسي امام وست هام    مجلس القضاء الأعلى يقر إنشاء نيابتين نوعيتين في محافظتي تعز وحضرموت مميز    تنفيذي الإصلاح بالمهرة يعقد اجتماعه الدوري ويطالب مؤسسات الدولة للقيام بدورها    بعد رحلة شاقة امتدت لأكثر من 11 ساعة..مركز الملك سلمان للإغاثة يتمكن من توزيع مساعدات إيوائية طارئة للمتضررين من السيول في مديرية المسيلة بمحافظة المهرة    الإصلاح بحضرموت يستقبل العزاء في وفاة أمين مكتبه بوادي حضرموت    تقرير يكشف عن توقيع اتفاقية بين شركة تقنية إسرائيلية والحكومة اليمنية    بخط النبي محمد وبصمة يده .. وثيقة تثير ضجة بعد العثور عليها في كنيسة سيناء (صور)    ماذا يحدث داخل حرم جامعة صنعاء .. قرار صادم لرئيس الجامعة يثير سخط واسع !    الرئيس الزُبيدي ينعي المناضل الشيخ محسن بن فريد    غدُ العرب في موتِ أمسهم: الاحتفاء بميلاد العواصم (أربيل/ عدن/ رام الله)    عندما يبكي الكبير!    أمريكا تغدر بالامارات بعدم الرد أو الشجب على هجمات الحوثي    حادث تصادم بين سيارة ودراجة نارية على متنها 4 أشخاص والكشف عن مصيرهم    الحكومة تجدد دعمها لجهود ومساعي تحقيق السلام المبني على المرجعيات    أطفال يتسببون في حريق مساكن نازحين في شبوة بعد أيام من حادثة مماثلة بمارب    اشتباكات بين مليشيا الحوثي خلال نبش مقبرة أثرية بحثًا عن الكنوز وسط اليمن    نجوم كرة القدم والإعلام في مباراة تضامنية غداً بالكويت    أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني في صنعاء وعدن    كارثة وشيكة في اليمن وحرمان الحكومة من نصف عائداتها.. صندوق النقد الدولي يدق ناقوس الخطر    ماذا يحدث في صفوف المليشيات؟؟ مصرع 200 حوثي أغلبهم ضباط    ثعلب يمني ذكي خدع الإمام الشافعي وكبار العلماء بطريقة ماكرة    قطوف مدهشة من روائع البلاغة القرآنية وجمال اللغة العربية    الحرب القادمة في اليمن: الصين ستدعم الحوثيين لإستنزاف واشنطن    كيف تفكر العقلية اليمنية التآمرية في عهد الأئمة والثوار الأدوات    المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    صندوق النقد الدولي يحذر من تفاقم الوضع الهش في اليمن بفعل التوترات الإقليمية مميز    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الافتراء الملَكي على المسيح .. لليمن.. لا لعلي عبدالله صالح (34)
نشر في المؤتمر نت يوم 25 - 03 - 2010

أوضحنا في الحلقة السابقة جانبا مختصرا من التشوه الذي أصاب المعتقدات الإسرائيلية بتأثير الدمج بين الملكية والدين، حيث كان ملوك بني إسرائيل يستخدمون الدين كغطاء لتبرير انغماسهم في ممارسة الظلم والاستبداد والفساد واكتناز الثروات، وما ترتب على ذلك من ضم والحاق ما أسموه (الشريعة الشفوية) إلى التوراة ، بواسطة كتب الأسفار وكتاب (التلمود) وصولا إلى تحريف التوراة نفسها بعد أن اختلطت بتلك الإضافات التي زعموا أنها (وحي ثان) أنزله الله إلى النبي موسى عليه السلام بعد التوراة، وما تضمنته تلك الإضافات من تعاليم ومعتقدات منافية لشريعة موسى، مارسها ملوك وأحبار بني إسرائيل باسم الحكم الإلهي، وهو ما يفسر غضب الله عليهم، بقوله في القرآن الكريم : { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ( النمل 34).
والثابت أن ما أصاب الديانة المسيحية من ضلال لا يمكن فصله عن تسلل التراث الإسرائيلي إلى هذه الديانة بعد صراع مرير خاضه عيسى المسيح عليه السلام مع ملوك واحباربني إسرائيل، الذين قاوموا رسالته بمختلف أشكال الكيد والتآمر والقسوة، حيث لم يكن الانحراف عن شريعة النبي موسى عليه السلام في سلوك ملوك بني إسرائيل الظلمة فقط، بل امتد ليشمل أحبارهم ورهبانهم الذين ربطوا الغفران بدعائهم لمن يقدم لهم النذور والقرابين، ثم أنكروا الحساب والعقاب وانغمسوا في متاع الحياة الدنيا واكتناز الذهب والفضة، ما أدى إلى فساد العقيدة وفساد الأخلاق معا.
وكانت رسالة المسيح عليه السلام موجهة إلى بني إسرائيل الذين دعاهم إلى إتباع ناصية الحق، بعد أن أيده الله بمعجزات ذكرها الله في القرآن الكريم بقوله : {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ( عمران 49)
بهذا المعنى تكون المعجزات التي أيد بها الله عيسى عليه السلام محددة في أربع على نحو ما ذكره القرآن الكريم الكريم، أما المعجزة الخامسة فهي المائدة التي طلبها الحواريون منه :
{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ} (المائدة 112 115).
والثابت أن كلمة (المسيح) وردت في التوراة، ولا يزال الأصوليون اليهود يؤمنون بحتمية ظهوره، كملك عظيم يحقق لهم السلطان على الأرض، ويجعل كلمتهم هي العليا وجيشهم هو الجيش الأعظم باعتبارهم شعب الله المختار، بيد أنهم لم يصدقوا بنبوءة المسيح بن مريم؛ لأنه جاء ليدعوهم إلى الأخلاق، ويوجههم وجهة روحية، ويحذرهم من اكتناز المال والذهب والفضة، ولذلك لم يروا فيه صفات المسيح المنتظر، وقاوموه وتآمروا على قتله، ولا يزال الأصوليون اليهود يؤمنون حتى الآن بظهور المسيح المنتظر الذي يحقق لهم السلطان المطلق على الأرض وكافة أجناس البشرية.
وقد تميزت التعاليم المسيحية في عهدها الأول قبل محاكمة وصلب المسيح أنها كانت تهتم بالوعظ والتسامح . ولعل أهم ما ترويه الكتب الدينية عن اهتمام المسيح بن مريم بالوعظ قوله : (طوبى للمسكونين بالروح فإن لهم ملكوت السموات ، وطوبى فإنهم يرثون الأرض وطوبى للجياع والعطاشى إلى البر، فإنهم يشبعون، وطوبى لأتقياء القلوب فإنهم قريبون إلى الله) إنجيل متي الإصحاح الخامس والسادس والسابع.
وبالإضافة إلى الوعظ دعا المسيح إلى التمسك بشريعة موسى وأكد على وجوب حفظ الوصايا القديمة التي أنزلها الله على موسى في الجبل بقوله : {إن كنت تريد أن تدخل الحياة الأبدية فأحفظ الوصايا المتعلقة بالله وهي : الرب إلهك، فلا تكن لك آلهة أخرى، لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، وأحفظ كل الوصايا المتعلقة بالبشر وهي لا تسرق، لا تزن، لا تقتل، لا تشهد الزور، أكرم أباك وأمك، لا تشته زوجة قريبك).( انجيل متي 5254 )
ولئن كان ثمة تشابه بين الناموس المسيحي والناموس اليهودي باعتبارهما صادرين عن الله، فإن عددا من الكتاب والباحثين في التاريخ المسيحي يرون أن ثمة تمايزا بين الناموسين على قدر كبير من التسامح الذي تميزت به دعوة المسيح بن مريم في حياته، لكنه لا يصل إلى درجة التناقض، فقد نهت شريعة موسى عن القتل، أما المسيح فقد ذهب إلى أبعد من ذلك فنهى عن التفكير في الإساءة إلى الغير، كما نهى المسيح عن البغضاء والكراهية واحتقار الآخرين بقوله : (قيل للأولين لا تقتل، فإن من قتل يستوجب الدينونة. أما أنا فأقول لكم إن كل من غضب على أخيه يستوجب الدينونة )(إنجيل متي 5 – 21).
في السياق ذاته نهت شريعة موسى عن الزنا، أما المسيح فقد نهى عن كل فكرة أو شهوة مدنسة تداعب الحس والخيال بقوله : (إن كل من نظر إلى امرأة لكي يشتهيها فقد زنى بها في قلبه) (متى 5 – 27).
أما فيما يتعلق بالزواج والطلاق اللذين أباحتهما شريعة موسى، فقد ألغى المسيح الطلاق بحجة أن موسى ما سمح به إلا لقساوة قلوب قومه، بينما سمح المسيح بالهجر المشروط بألا يعقبه زواج جديد، فيما نهت شريعة موسى عن الحنث بالعهود والحلف بالله، أما المسيح فقد نهى عن الحلف بالله على الإطلاق أيا كان نوعه بقوله : (لا تحلف البتة بالسماء فإنها عرش الله، ولا تحلف برأسك،لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة منها بيضاء أو سوداء، ولكن ليكن كلامكم نعم ولا، وما زاد على ذلك فهو الشر (متى 33 – 37).
وقد نصت شريعة موسى على محبة الأحباء وبغض الأعداء، أما المسيح فقال بمحبة الأحباء والأعداء بقوله : (أقول لكم أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى من يبغضكم وصلوا لأجل من يعنتكم ويضطهدكم، لأن شمس الله تطلع على الصالحين والأشرار ومطره ينزل على الأبرار والظالمين) (منى 43 – 44).
والثابت إن التاريخ المسيحي بكل ما انطوى عليه من حروب واضطهاد وقسوة يتعارض تماما مع هذه التعاليم التي أوردناه بإيجاز شديد لضيق الحيز، ولا يمكن فهم هذا التحول من التسامح والمحبة إلى القسوة والاضطهاد بدون التعرف على جذوره التاريخية في التلمود، حيث كان الأباطرة الوثنيون قبل ظهور المسيح يقومون بحماية السكان من جيش بني إسرائيل، ولذلك فقد كان الأباطرة لا يعرفون من أمر الدين الجديد سوى أنه امتداد لليهودية.
مما له دلالة أن التشوه الذي أصاب العقيدة اليهودية لم يتمحور فقط حول الروايات الشفوية التي قام الأحبار والحاخامات بتدوينها بعد أن اخترعوها ونسبوها إلى النبي موسى عليه السلام، بل إنها تجاوزت ذلك إلى تضمين العقيدة أساطير وخرافات تركت آثارها السلبية على الاختلافات المذهبية اليهودية من جهة، وعلى العلاقة بين اليهود وغير اليهود من جهة أخرى.
وبالنظر إلى أن رسالة المسيح ظهرت وتوجهت إلى بني إسرائيل بعد أن اشتد انحرافهم عن التعاليم الصحيحة لشريعة موسى عليه السلام، فقد تعرضت المسيحية لمقاومة شرسة من داخل البيئة الإسرائيلية التي تحركت فيها وتوجهت اليها . ولعل أخطر أشكال هذه المقاومة هو تسلل الإسرائيليات إلى العقيدة المسيحية نفسها ، خصوصا بعد أن اعتنق ملوك أوروبا الديانة المسيحية وطوعوها لمصالحهم بالتعاون مع رجال الدين المسيحيين.
وبوسع من يطالع الكتب المقدسة عند المسيحيين ملاحظة العلاقة البنيوية بين الأساطير والخرافات والروايات التي نسبها الحواريون والرسل والرهبان إلى المسيح عليه السلام، وبين المعجزات الخمس التي أيد بها الله عيسى بن مريم عليه السلام لنشر رسالته في أوساط بني إسرائيل .. فقد أفرطت الأناجيل في إيراد طائفة كبيرة من الموتى ، وزعمت بأن المسيح أحياهم بعد الموت، وطائفة أخرى من المرضى الذين شفاهم من المرض أو جعلهم يبصرون . كما تذكر الأناجيل أحاديث وروايات عن العشرات والمئات من المجانين والمصروعين والعميان والموتى والمشلولين الذين زعمت ايضا أن السيد المسيح عليهم السلام شفاهم تماما من أمراضهم، بل إن إنجيل منى يذكر أن (جموعا كثيرة جاءت ليسوع وفيهم الأعرج والأعمى والأخرس والمشلول فقبلوا قدمي يسوع فشفاهم).
وعلى النقيض من ذلك يرى كثير من الباحثين أن المعجزات التي أيد بها الله عيسى بن مريم حدثت مرة واحدة وبهدف واحد هو إثبات صدق نبوءته، بمعنى أن عيسى كان قويا بمشيئة الله الذي قرر أن يمنح رسوله ونبيه عيسى بن مريم البرهان لإثبات النبوة أمام الذين أنكروا رسالته ، بيد أن ما ترويه الأناجيل يجعل العلاقة بين الله والمسيح تنافرية، أي أن الله يميت، ثم يأتي عيسى لينقض مشيئة الله ويقوم بإحياء من أماتهم الله، ثم يقضي الله بالعمى فيقوم عيسى بإعادة البصر إلى العميان وهكذا.
كما يرى باحثون في علم الأديان أن أكثر معجزات الرسل والأنبياء تأتي متوافقة مع البيئة الفكرية والثقافية في عصر كل منهم، فالسحر كان معجزة موسى والبلاغة كانت من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لانتشار السحر في عهد موسى وانتشار البلاغة في عهد النبي محمد عليه الصلاة والسلام، بيد أن الأساطير التي دخلت على المسيحية توحي بأن الطب كان منتشرا بين بني إسرائيل في عهد عيسى ، مع أن التاريخ يدل على عكس ذلك .. فقد كانت معرفة بني إسرائيل بعلم الطب قليلة في عهد المسيح وقبله . وليس ادل على ذلك من انتشار الأوبئة والأمراض بينهم ، والتي كانت من أهم أسباب إخراجهم من مصر. أما معجزات عيسى فإنها تتفق مع طبيعة مولده، حيث أن معجزاته تعلي من شأن الجوانب الروحية وتقيم الدليل على وجود الروح التي اشتهر بني إسرائيل بإنكارها، وهو ما يفسر قيام عيسى وبتأييد من الله سبحانه وتعالى بخلق شكل الطير من طين لا حراك فيه، ثم نفخ فيه فكان طيرا.
ومما له دلالة أن الأب الياس أدعى في كتابه (يسوع المسيح) أن (من مميزات المسيح التي لا يفاضله فيها نبي ولا رسول أنه أفضى بالقدرة على إتيان المعجزات إلى تلاميذه، ثم جدد منحها لهم بعد قيامه من الموت وصعوده إلى السماء، وأورث الكنيسة تلك القدرة أيضا وجعل من رجال الدين القديسين ورثة لرسالته وتعاليم كل الرسل والانبياء من قبله ).
وعند هذه النقطة يمكن فهم أبعاد الافتراء على المسيح وانعكاساته على مسار التاريخ المسيحي، خصوصا بعد اختفاء إنجيل عيسى على نحو يشابه اختفاء التوراة من التابوت الذي وضعه موسى فيه . حيث يقول سفر الملوك ان سليمان لم يجد التوراة عندما فتح التابوت بعد ان وضعه في الهيكل، ولم يجد فيه سوى اللوحين الحجريين اللذين وضعهما فيه النبي موسى إلى جانب التوراة، وقد ترتب على اختفاء إنجيل عيسى قيام بعض الحواريين بتدوين أناجيل مختلفة عرفت بأسمائهم ، مثلما ترتب على اختفاء التورات تدوين الأسفار الملحقة بها وصولا الى تدوين ( التلمود ) والزعم بأنه السنة النبوية لموسى عليه السلام ، بيد أن التطور الأبرز في التاريخ المسيحي حدث بعد أن اعتنق الملك قسطنطين المسيحية واعتنقها معه بولس، وهو كاهن للملك قسطنطين عندما كان وثنيا قبل اعتناق المسيحية. وتعود إلى الملك قسطنطين والكاهن بولس عقيدة التثليث وعقيدة ألوهية المسيح ونقل عقيدة تجسيم صفات الله عن اليهودية، ما أدى إلى بداية تاريخ طويل من الاضطهاد والقتل والقسوة بين المسيحيين بعضهم البعض، وبينهم وغيرهم.
ومن نافل القول ان الكتب التاريخية المسيحية وغير المسيحية أجمعت على أن التحول في هذه العقيدة حدث على يد بولس والملك قسطنطين اللذين كانا معروفين بمحاربتهما للمسيحية عند ظهورها ، واضطهاد وملاحقة وقتل المؤمنين الأوائل برسالتها، وعندما اعتنق بولس المسيحية بالتزامن مع انتقال الملك قسطنطين من الوثنية إلى المسيحية نقل بولس إلى العقيدة المسيحية كثيرا من الأفكار الوثنية واليهودية، حيث زعم بولس (أن عيسى لم يكن المسيح الموعود، فحسب بل إنه ابن الله، نزل إلى الأرض ليقدم نفسه قربانا ويصلب تكفيرا عن خطايا البشر، فموته كان تضحية مثل موت الآلهة القديمة في أيام الحضارات البدائية من أجل خلاص البشرية) A short History Of the world 170 – 179. وقد أدخل بولس على الديانة المسيحية بعض تعاليم اليهود ليجذب له العامة منهم، كما أدخل بعض فلسفة الإغريق لجذب الأتباع من اليونان ، حيث استعارمن فلاسفة اليونان فكرة اتصال الاله بالارض عن طريق الكلمة ، او عن طريق ابن الاله او عن طريق الروح القدس ، وهي فكرة وثنية اغريقية قديمة تمحورت حول الدور المركزي لرجال الدين القديسين في الوساطة بين الاله والملوك والمحكومين .
ويرى القرآن الكريم أن المسيح نزل رسولاً إلى بني إسرائيل بعد أن تمادى ملوكهم وأحبارهم في التحريف والضلال والاستبداد والفساد (قال المسيح يا بني إسرائيل إن الله ربي وربكم) (المائدة الآية 72)، بل إن الأناجيل نفسها تؤكد ما ذهب إليه القرآن الكريم، فقد جاء في إنجيل متى : بالحرف الواحد : (وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت قائلة أرحمني يا سيد يا ابن داوود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين : أصرفها لأنها تصيح وراءنا فأجاب يسوع : لم يرسلني الله إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) (متى 15 / 21 – 42).كما جاء في إنجيل برنابا قول عيسى (وقد أقامني الله نبيا على بني إسرائيل لأجل صحة الضعفاء).
ويؤيد الكثير من الكتاب المسيحيين هذا الاتجاه، حيث يرى المؤرخ الشهير أنطوان بري أن اضطهاد الرومان لإتباع المسيح كان سببه الأساس هو اعتقاد الأباطرة الرومان بأن دعوة عيسى المسيح عليه السلام هي امتداد لليهودية التي كانت شديدة التعصب والعدوانية والعنصرية بعد تحريفها من قبل ملوك وأحبار بني إسرائيل عقب اختراع الروايات الشفوية المنسوبة إلى النبي موسى عليه السلام وتدوينها في (التلمود) A History of Freedom of Thougt.))
والحال أن رسائل بولس شكلت جوهر العقيدة المسيحية بعد رحيل المسيح وحوارييه ورسله ، مع العلم أنه لم يعرف ولم ير المسيح إطلاقا، ولم يعاصر حوارييه وأتباعه الأوائل. ويوسع كل من يقرأ رسائل بولس وسيرة الإمبراطور قسطنطين الذي أعتنق المسيحية في وقت متزامن مع بولس ملاحظة أنه بقدر ما حرص بولس وقسطنطين على تضمين المسيحية أفكارا وتعاليم وثنية ويهودية وإغريقية تزيل الهوة بين ديانات بني إسرائيل وأفكار الأمم الأخرى، بقدر ما تم ذلك بالترابط الوثيق مع التوجه للغزو والفتوحات الدينية من قبل الملك قسطنطين والأباطرة اللاحقين، وهو الأمر الذي نقل المسيحية على يد بولس والملك قسطنطين إلى مرحلة تاريخية جديدة سالت فيه الدماء بين المسيحيين أنفسهم، وبينهم وغيرهم من الشعوب الأخرى.
ومما له دلالة عميقة أن برتبط التشوه الذي أصاب المسيحية بعقائد التثليث والألوهية والربوبية والتجسيم التي تجعل الله والرب والروح القدس عنوانا للاتحاد المقدس بين الله والملك ورجال الدين الذين يرثون رسل الأنبياء .. لكن أخطر ما دخل على العقيدة المسيحية من انحرافات كانت تلك التي افترى فيها بولس على المسيح بن مريم بقوله في إحدى رسائله إن يسوع المسيح قال : (أيها الناس أطيعوا سدتكم بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم)، ثم يقول في رسالة أخرى (جميع الناس الذين هم تحت نير ملوكهم وسادتهم فليحسبوا الملوك والسادة مستحقين كل إكرام لئلا يفترى على اسم الله وتعاليمه بالفتن الدائمات)، ثم يكتب إلى تلميذه تبطس (ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين ويطيعوا) (تاريخ المسيحية – مقارنة الأديان) د . أحمد شلبي – الطبعة العاشرة 1998م.
وبسبب هذه الروايات التي نسبها بولس إلى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، أنقسم المسيحيون إلى مذاهب وضعية متناحرة، وتميز تاريخ المسيحية الجديدة على أيدي بولس والملك قسطنطين والأباطرة اللاحقين بالقسوة والاضطهاد والحروب والظلم والقمع على نحو ما سنأتي إليه في الحلقة القادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.