من يدرس تجربة ليبيا القذافي الثورية سيجد انها افقدت الدولة وجودها، لصالح نظرية اخترعها القذافي، وقسر المجتمع عليها بالقهر الفوضوي، وتمكن القذافي ولجانه الشعبية والبنية القبلية من تخليق دولة مغايرة للنموذج المتعارف عليه عالميا، وبناء شرعية مركزها القائد باعتباره الدولة، لذا كان سقوط نظام القذافي كارثة على ليبيا وعلى نخبة الحكم، وتحولت ليبيا الى جغرافيا مفتوحة للمليشيات وللصراعات القبلية والتناقضات المناطقية وتحولت المؤسسات التي تم بنائها لتأسيس الدولة الى مجالا لا يمكن ضبطه. تشكل تجربة القذافي عينية معملية للوعي القبلي عندما يتعصرن في بيئة ثقافية هزيلة وهشة وبيئة اجتماعية مشتتة يحكمها وعي عصبوي متجذر يتم شرعنته بإدوات سلطوية تبدو انها مؤسسات وهي تشكيلات لا يمكنها ان تخلق أي تراكم وأنما مجالات لفرض هيمنة القائد وسيطرته المطلقة، وهي اشبه بدكتاتورية شعبوية بلا دولة، ولم تتمكن ديمقراطية القذافي الشعبوية والغريبة من بناء عدالة ولو بحدها الاعلى وجمدتها بالنظريات الثورية وبخطاب شعبوي متشعب أدى الى افشال أي عملية تنموية وتضييع موارد البلاد في مشاريع منهكة لليبيا وإلى قوة تستخدمها منظومات معلنة وخفية لخدمة اجندات لا علاقة لها بالمصالح الليبية او العربية. يبدو لي ان التجربة الليبية القذافية كان يراد لها ان تكون هي النموذج للربيع العربي مع ادخال سمات اخرى اكثر تدميرا بحيث يتم اضعاف الدولة الى درجات قصوى مع تفجير طاقات الجماعات المختلفة ليكون لها القول الفصل، دولة بمؤسسات مرتهنة لمراكز حزبية واقتصادية تعاظم من مصالحها وتدير حروب أهلية وحروب متنقلة لإنهاك المنطقة وتدمير التراكم التنموي للعرب، ولا مانع في بعض الحالات من وجود جماعة قوية تحكم الدولة، مع وجود حاكم قوي للدولة يحكم الحاكم من خارجها، ويكون له القول الفصل في صنع سياسات الدولة وتحديد خياراتها الخارجية، دون ان يكون له او لهم مواقع رسمية. بمعنى ان المؤسسات موجودة لكنها تعمل وفق مخططات قوة من خارجها. أما من خلال مرشد او قائد حزبي او شيخ قبيلة او عصبة اقتصادية. هذا النموذج اشد وطأة ويحتاج الى تفكيك المؤسسة الامنية والعسكرية وتشتيت قوتها بحيث تغدو قوة تدير نفسها دون ان يكون لها دور في ضبط حالات الانفلات القصوى لهذا النموذج، وربما توظيف قوتها لتوسيع دائرة الهيمنة والسيطرة للتنظيمات الحركية المسيطرة على الدولة. هذا النموذج لم يتمكن من فرض نفسه في تونس رغم محاولات بنائه وكان يعمل في مصر دون الوصول الى مآلاته بفعل قوة المأسسة في مصر وقوة الدولة الوطنية وانتفضت شبكت التحالفات الوطنية متجاوزة تناقضاته وقضت عليه بثورة وظلت ليبيا النموذج الفوضوي لربيع الدمار ويتم اليوم قهره من خلال بقايا المؤسسة العسكرية والامنية وفي اليمن مازالت التعددية في المراكز التي هي اقوى من المؤسسات متنازعة وتدير صراعاتها في اتجاهين احدهما يريد اليمن دولة مفككة بدولة مركزية ضعيفة يحكمها توافق من خلال الفوضى والآخر يسعى لبناء دولة تحكمها المؤسسات لا المراكز المراهنة على استمرار الفوضى. النموذج الذي راهن عليه الاسلام السياسي يركز على خلق دولة شكلية تحكمها نخبة تابعة لقوى مهيمنة من خارجها وهو الاقرب للنموذج الاخواني الذي حكم دولة عريقة كمصر، والتي كادت ان تصبح مستعمرة لدول اقليمية، ودولة مشتتة منقسمة على نفسها، وكان المخطط ان تصبح مصر فراغ ومصدر لتصدير فوضى شاملة في المنطقة. نموذج كهذا لن يؤسس للحرية ولا للتنمية وإنما تخليق استبداد مضاعف من خلال ديمقراطية شكلية وحرية مفتوحة مشتتة للرأي العام ومربكة له فيصبح الاضطراب والقلق مستمر وتنتشر الفتن دون ان يحدث السقوط وهذا كفيل بابتلاع اي تراكم تنموي ومصدرا للفشل وجعل الفشل طريقا تعبويا ثوريا لخلق اضطرابات شاملة داخلية وخارجية منهكة للدولة والتعامل مع الدولة باعتبارها خلية مقاتلة في مخطط الفوضى الشاملة التي كانت كفيلة بضرب الوجود العربي لصالح المراكز الاقليمية والدولية، ولو تمكن هذا النموذج من فرض نفسه فإن امكانية تعديلة صعبة، ومآلاته استمرار حالة الصراع العبثي دون الوصول الى نتيجة الا تعميم الفقر وتراكم الثروة لدى القلة، ونهب المنطقة العربية، مع وجود تنظيمات اسلاموية مهيمنة تحكم دول هشة تبدو ليبرالية ليحكم التنظيم والدولة اقلية نخبوية مرتبطة بالخارج ومصالحه على حساب العرب. يشكل النموذج العراقي في تحولاته المتلاحقة عينية قريبة، باعتبار ان ربيع الاسلامويات انطلق من العراق لذا فان الصراع الطائفي والمظالم الذي يعيشها العراق ليس إلا نتيجة لهذا النموذج الرخو الذي جعل العراق دولة شكلا الا ان القوى الطائفية والعرقية تديره وفق آليات قد تبدو قانونية إلا انها مرتبطة بارادة الاقليات النخبوية المهيمنة المرتبطة بالمصالح الخارجية وهذا يفسر الرخاوة التي تعيشها العراق والتدخل المكثف للخارج. وهناك محاولات لخلق مركز مهيمن من خلال المالكي باعتباره نموذج القائد الاسلاموي الذي انتجه حزب الدعوة الا ان تناقضات الشيعة فيما بينهم وبينهم وبين السنة المشتتين ايضا وبين العرب والكرد جعل المنظومة التوافقية للعراق لا تنتج الا فسادا معم ابتلع أي تراكم للتنمية وجعل العراق جغرافيا محتاجة الى فوضى وتمرد لتعيش الدولة ويتمكن الخارج من فرض وجوده وتحويلها الى فاعل مساند لمنظومات دول اخرى!! هذا النموذج مازالت المحاولات قائمة لنهب واستغلال المنطقة العربي والوصول بها الى فقدان وجودها. ومازال الاسلام السياسي بمنظوماته المختلفة وتسنده شبكات واسعة من المنظمات المدنية ورموز ارتبطت بالمراكز الاقليمية والدولية رأس حربة هذا المشروع، وفشله في مصر لا يعني التوقف عن العمل ولا يعني فشله في الدول الاخرى. تشكل كتلة دول الخليج نموذجا مناهضا لهذا المشروع وهي الهدف والغاية، وعجز الاسلام السياسي من التحرك في المنظومة الخليجية نظرا لتركز القوة ونمو مؤسسات واضحة مرتبطة بولاء لمركز الحكم الذي شرعن وجوده بالتقاليد والانجاز. ناهيك عن ضبط قوة الدولة بالشرعية الشعبية بصورتها التقليدية وبناء فاعلية المؤسسات عبر ادارة مختصة تنمو حسب مطالب الواقع وحركته صحيح ان الديمقراطية بنموذجها الليبرالي ليست خيارا مطروحا إلا ان التراكم كافي لبناء تحول ديمقراطي اكثر عقلانية، وليست تجربة الكويت بكل مشاكلها الا عينية معملية لهذا التراكم. وهذا لا يعني ان التغيير لن يحدث ولكي يحقق نتائج ايجابية يحتاج الى الدخول بمواجهة صارمة مع نموذج الربيع الاسلاموي الذي يتحدث عن مقاومة الاستبداد ومآلاته اعادة صياغة استبداد فوضوي لإفشال اي نمو اقتصادي او ثقافي او اجتماعي وانما تسييس دائم يفجر قدرتنا وينهك وجودنا ثم تحويل التنظيمات المهيمنة الى طاقات ثورية لتدمير بقية الدول العربي لينتهي العرب كفريسة لأعدائهم وإنهاء أي امل ببناء مشروع حضاري عربي اسلامي مشارك في البناء الانساني للحضارة العصرية بثقة واقتدار وفي افضل الحالات فإن الاسلام السياسي سيجعل الشراكة عبر دول منهكة ومجتمعات مفككة ومشوهة صورتها ومرتبطة بمنظومة عولمة يديرها وحوش الاقليم كايران وتركيا مع ارتباط بمراكز مهيمنة دوليا. وهذا ما يجعلنا نرى ان الربيع العربي الاسلاموي ليس ثورة بل انتفاضة جامحة متقنة تفكك ولا تبني هي انتفاضة ضد فكرة الدولة وتهيمن عليها عصبويات من كل نوع بعضها تقليدي وبعضها عصري إلا ان وعي القبيلة المحقون بعولمة مشوهة يحكم تفاصيل ثورة افتراضية تتحكم بها استراتيجية الاعداء!!!