نسلط الضوء في هذه المقالة على بعض جوانب الحضارة اليمنية القديمة التي سادت قبل ظهور الإسلام، وقد سبق نشر موضوعاتها الخمسة في وقت سابق على شكل حلقات في منتدى المؤرخ الحصيف على الواتس الذي يحتوي على كوكبة من المؤرخين والآثاريين اليمنيين، ونعيد نشرها هنا تعميما للفائدة. أولا: اللغة والكتابة اليمنية القديمة: تكلم العرب الجنوبيون (اليمنيون القداما) لغة أطلق عليها المختصون تسمية اللغة العربية الجنوبية أو اليمنية القديمة، وتسميها كتب أهل الأخبار ومعها عامة الناس في عصرنا الحالي باللغة الحميرية، وهي تسمية طغت عليها كون الدولة الحميرية كانت آخر الدول اليمنية القديمة ظهورا، وتمكنت من حكم اليمن منفردة بعد أن تداعت الدول الأخرى التي كانت سائدة على الأرض اليمنية، مع العلم أن اللغة اليمنية القديمة بكتابتها المسندية كانت سائدة في اليمن قبل ظهور الحميريين بقرون عديدة. وقد اختلف الدارسون حول ما إذا كان هناك في اليمن القديم لغات عديدة، أم لهجات في إطار لغة واحدة. والرأي الراجح أنها كانت لهجات ضمن لغة واحدة، كون النقوش المسندية لم تمدنا بأدلة تثبت بأن اليمنيين القدما بدولهم المتعددة كانوا يحتاجون لمترجمين فيما بينهم، إلى جانب أن الاختلافات بين تلك اللهجات هي اختلافات طفيفة وفقا لما يقرره الدارسون المتخصصون في اللغة اليمنية القديمة. وقد تمكن الدارسون المحدثون من واقع النقوش المسندية التي عثر عليها في اليمن الحديث عن أربع لهجات رئيسية هي: السبئية والقتبانية والحضرمية والمعينية، إلى جانب لهجات أخرى أقل انتشارا. وقد استخدم اليمنيون القدما كتابة أطلقوا عليها تسمية (المسند)، وقد دار خلاف بين الدارسين حول زمن ظهور تلك الكتابة، وتعيدها أرجح الآراء إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، لتكون بذلك واحدة من أقدم الكتبات الأبجدية التي عرفتها البشرية، إلى جانب الكتابات التي عرفت في بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء. ويذهب بعض الدارسين للقول إن كتابة المسند تم اشتقاقها من بعض الكتابات الأبجدية التي سادت في بلاد الشام وشبه جزيرة سيناء كوننا لم نعثر على البدايات الأولى لتلك الكتابة في جنوب جزيرة العرب، لكنهم أيضا لم يقدموا لنا بدايات مقنعة لتلك الكتابات خارج اليمن، إلى جانب أن تلك الكتابات التي يشيرون إليها كانت تتكون من 22 حرفا، بينما الأبجدية المسندية تتكون من 29 حرفا، وتتكامل تلك الحروف فيما بينها بتناسق كامل، من غير أن نلاحظ أي اختلاف فيما بينها، وهو ما يدل على أن ابتكارها تم في لحظة واحدة، ولم يتم نقل بعضها وإضافة البعض الآخر في وقت لاحق. أما القول بعدم عثورنا على البدايات الأولى لتلك الكتابة فمردود عليه، لأننا حتى الآن لم نصل في تنقيباتنا الأثرية إلى العصور الأولى للحضارة اليمنية القديمة، بل إن حواضر الدول اليمنية القديمة لم تشهد حتى الآن تنقيبات جادة تصل إلى بدايات الاستيطان الأولى فيها لنقول بأننا لم نعثر فيها على البدايات الأولى لتلك الكتابة. وقد دار خلاف آخر حول أيا من الدول اليمنية القديمة عرفت الكتابة المسندية في أرجائها أولا، ولا زال الأمر حتى الآن يدور في إطار التخمينات أكثر منها حقائق علمية، وفي اعتقادي أننا لن نتمكن من الجزم حول ذلك الأمر مالم نصل للبدايات الأولى لتلك الكتابة. ورغم أن الدراسات الخاصة باللغة اليمنية القديمة تضرب بجذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي إلا أننا إلى الآن لا نعرف كيف كانت تسمية الحروف المسندية لدى أصحابها، ما يضطر الدارسين في عصرنا الراهن لقياسها على لغات سامية أخرى مثل العربية والعبرية، ومثله عدم معرفة كيفية ترتيب الحروف المسندية، وإن كانت بعض النقوش الخشبية المكتوبة بالخط الشعبي لكتابة المسند (خط الزبور) توحي بذلك الترتيب وفقا لما ذكره بعض الباحثين. ويعتقد أن اللغة اليمنية القديمة بدأت بالانحسار مع مطلع العصور الميلادية، مفسحة الطريق لصالح اللغة العربية الشمالية (اللغة الفصحى التي نتكلم بها اليوم) حتى أن الإسلام عندما ظهر في مطلع القرن السابع الميلادي كانت العربية الفصحى قد صارت لغة مفهومة لدى اليمنيين، ولم تحدثنا المصادر أن اليمنيين الذين توافدوا على المدينةالمنورة ليعلنوا إسلامهم قد احتاجوا لمترجمين. أما كتابة المسند فقد كانت النقوش التي خلفها لنا أبرهة الحبشي في منتصف القرن السادس الميلادي هي آخر النقوش التي عثرنا عليها حتى الآن، علما أن النقوش المسندية المتأخرة كان يشوبها العديد من الأخطاء الكتابية، ما يدل أنها قد صارت خلال تلك الفترة كتابة رسمية محصورة ولم تعد تمثل الكتابة الشائعة التي يدون بها عامة الناس شؤونهم. تجدر الاشارة أن الفروقات تكاد تختفي بين حروف الكتابة المسندية التي تعود إلى بداية ظهور تلك الكتابة في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد وبين آخر نقوش تلك الكتابة التي تعود إلى القرن السادس الميلادي.. اللهم إلا في طريقة الكتابة وطريقة نقشها على الأحجار، إلى جانب بعض التجميلات التي ميزت حروف الكتابة المسندية خلال العصر الميلادي، بعكس ما كانت عليه في عصر ما قبل الميلاد. نذكر أخير أن هناك لغات خارج اليمن قد اشتقت الخطوط التي كتبت بها من الحروف المسندية اليمنية القديمة، مثل اللغة الجعزية في بلاد الحبشة واللغات المتفرعة عنها المستمرة إلى اليوم كالأمهرية والتجرينية. وكذلك بعض شعوب شمال الجزيرة العربية في العصر القديم كتبوا لغاتهم بأبجدية اشتقوها من كتابة المسند مثل اللحيانيون والثموديون والصفويون. ثانيا: الديانة اليمنية قبل الإسلام: بداية من أقدم النقوش المسندية التي عثرنا عليها في جنوب جزيرة العرب (اليمن القديم) تتوارد لنا في تلك النقوش ذكر لمعبودات متعددة، بصفتها راعية لتحركات الحكام في حروبهم العسكرية وصراعاتهم السياسية، وملجأ للمواطنين العاديين طلبا لأن تحميهم تلك المعبودات من الأخطار وتشفيهم من الأمراض، وتمن عليهم بالخيرات مثل الأمطار والأولاد حسبما كانوا يعتقدون فيها...الخ. لذلك تقربوا إليها بالقرابين، ومنحوها الهبات والنذور، بما فيها عبيدهم وإمائهم وبعض أولادهم ليكونوا خداما لتلك المعبودات في معابدها. ويتفق الدارسون أن تلك المعبودات التي عرفها الإنسان اليمني القديم كانت تمثل عبادة كوكبية، تعكس الأجرام الفلكية الأكبر كما تتبدى لهم في السماء (القمر، الشمس، كوكب الزهرة). وكانت المعبودات القمرية هي أشهر تلك المعبودات، حيث تمثل لدولهم وكياناتهم السياسية المعبود الوطني الذي تتحرك باسمه الدولة أو القبيلة، وهو في سبأ (إل مقه)، وفي قتبان (عم)، وفي حضرموت (سين)، وفي معين وأوسان (ود) ...إلخ، ونفهم من بعض النقوش أن شعب كل دولة كانوا يعتبرون أنفسهم أولادا لمعبودهم الوطني (القمري) حيث كانت قبائل الدولة القتبانية على سبيل المثال تصف نفسها بأنهم (أولاد عم)، والبنوة هنا غالبا هي بنوة انتماء وانتساب وليس اعتقادا بأن مواطني كل دولة كانوا أبناء فعليين لمعبوداتهم. أما المعبودات الشمسية فيعتقد أنها كانت تتعدد لديهم بتعدد الفصلين الرئيسيين في السنة ( فصل البرودة، وفصل الحرارة)، حيث كانت تعرف في سبأ مثلا ب(ذات بعدان) و(ذات حميم)، بمعنى وصفها بالبعيدة (في فصل البرودة) وبالحامية (في فصل الحرارة) وتتكرر تلك الثنائية في بقية الدول اليمنية القديمة. أما كوكب نجم الزهرة فقد عرف المعبود المنتمي إليه في كل الدول اليمنية القديمة باسم (عثتر)، وأحيانا كان يتم اختصار الاسم إلى عتر أو عثت، أو تخفف ثائه إلى سين فيقال عستر. وتذهب بعض الآراء أن تلك المعبودات كانت تمثل عائلة واحدة، يمثل فيها القمر الأب، والشمس الأم، ونجمة كوكب الزهرة الابن. لكن في اعتقادي هناك ملاحظات تجعلنا نضع ذلك الرأي في خانة الاحتمال وليس اليقين، لأن المعبود (عثتر) كان يتقدم المعبودات القمرية والشمسية عند التضرعات، فكيف للابن أن يتقدم على والديه في مجتمع شرقي عرف باحترام الأبوين وحفظ مكانتهما. وكذلك لماذا صار عثتر هو الابن الوحيد لكل تلك المعبودات القمرية والشمسية التي تتعدد بتعدد الدول والكيانات السياسية في اليمن القديم، ولم نجد لكل معبودين (أبوين) أولادهم أو ولدهم الخاص؟! وفي الواقع لا يمكننا البت بشكل قطعي حول ذلك الموضوع، كوننا في اليمن القديم مع الأسف الشديد نفتقر حتى الآن للقصص الدينية التي عرفت على سبيل المثال في المجتمعات المصرية والعراقية واليونانية القديمة، التي نفهم منها طبيعة العلاقة وصلات القرابة التي كانت تربط بين المعبودات في تلك المجتمعات، بعكس اليمن القديم التي تزخر نقوشه بأسماء لمعبودات كثيرة من غير أن نفهم منها بشكل واضح طبيعة العلاقة وصلات القرابة التي كانت تربط بين تلك المعبودات. وقد أقام الإنسان اليمني القديم معابد كثيرة لمعبوداته، كثير منها تميز بالفخامة مثل معبد أوام في مارب، وقام على تلك المعابد كهنة تولوا مهام الإشراف عليها وعلى أملاكها، وقاموا بدور الوسيط بين المعبودات وعبادها القادمين لزيارتها من مختلف أرجاء الدولة أو القبيلة التي تقدس هذا المعبود أو ذاك. لذلك كانت المعابد الرئيسية تقام خارج أسوار المدن ليتسنى لها استيعاب كل زوارها، خصوصا في المواسم الدينية التي تكون فيها تلك المعابد محط لزوارها، وكذلك في مواسم الحج الذي يتضح من بعض النقوش أنه كان شعيرة معروفة من شعائر الديانة اليمنية القديمة. وعلى ذكر الشعائر المرتبطة بالمعبودات الكوكبية في اليمن القديم نفهم من بعض النقوش أن هناك محرمات كان على من يعبدون تلك المعبودات اجتنابها، ويتوجب عليهم التكفير في حالة إتيانهم لها، وينطبق ذلك على الرجال والنساء على حد سواء.. مثل مرور الإنسان في المعبد وهو غير طاهر (على جنابة) وكذلك ممارسة العلاقة الحميمية بين الزوجين أثناء فترة الحج أو أثناء نفاس المرأة وحيضها. ونفهم من محتويات بعض المقابر اليمنية القديمة التي تم العثور عليها أن الإنسان اليمني القديم كان يؤمن بحياة البعث بعد الموت، بدليل بعض الأثاث الجنائزي الذي كان يدفن مع المتوفي، ويشمل بعض الأدوات المنزلية وأدوات الزينة والأسلحة، وأحيانا مصوغات ذهبية ثمينة حسبما تناقل المواطنين عن بعض المقابر التي عثر عليها مؤخرا وتم نهبها مع الأسف الشديد. ولعل إيمانهم بالحياة الأخرى هو الذي جعلهم يحنطون جثث بعض زعمائهم وفقا لما تم العثور عليه من جثث محنطة. استمرت تلك الديانة الكوكبية سائدة في اليمن (وفقا لما نملكه من نقوش) منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد حتى أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع الميلادي، حيث بدأ الأمر يتغير منذ ذلك التاريخ، فقد ترافقت الوحدة السياسية التي فرضها الحميريون على اليمن القديم بظهور ديانات توحيدية. وهناك من يرى أن الديانة اليمنية الكوكبية كانت منبثقة في الأصل عن ديانة توحيدية، بدليل تكرار اسم (إل/إيل) في اليمن القديم ودخوله في مسميات الملوك والأشخاص (كرب إيل، يدع إيل.... الخ) مما يدل على أن اليمنيين القداما كانوا يعبدون (إل) وإلا لما تسموا به، وإل هي التسمية السامية لخالق الأرض والسماء الله سبحانه وتعالى، لذلك ارتبطت أسماء الملائكة به (جبرائيل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل ....الخ). وإذا تأملنا في اسم المعبود (إل مقه) سنجد أن اسم الإله (إل) يدخل فيه، ولذلك من الخطأ كتابة اسمه بالطريقة الشائعة بين الدارسين (المقه) حيث يبدو اسم (إل) وكأنه مجرد أداة تعريف لاسم المعبود (مقه)، وهو أمر غير صحيح لأن اليمنيين القداما كانت أداة التعريف في كتابتهم هي نون تلحق في آخر الإسم وليس ألف ولام. ولعل ذلك هو ما جعل الحميريون بعد فرض سيطرتهم على كل اليمن القديم كما ذكرنا أعلاه يقدمون المعبود (إل مقه) على كل المعبودات الكوكبية الأخرى، وكان ذلك قبل أن تختفي كل تلك المعبودات وتظهر بدلا عنها معبودات توحيدية، مثل الرحمن، والإله الذي له السماوات والأرض. وقد اعتقد البعض خطأ أن المعبود (ذي سماوي) هو معبود توحيدي، كون اسمه يعني الذي في السماء، إلى جانب انتشار معابده في أكثر العواصم والحواضر اليمنية القديمة، لكن اتضح بعد ذلك أن المعبود (ذي سماوي) ماهو إلا معبود قمري، وهو معبود خاص بقبيلة أمير في بلاد الجوف، أما وجود معابده في بقية المدن الرئيسية في اليمن القديم فيعود إلى كون قبيلة أمير كانوا جمالة (أصحاب جمال) يجعلونها في خدمة القوفل التجاربة، وهو ما جعلهم ينتشرون كجاليات في كل المدن والمراكز التي كانت تحظى بأهمية تجارية. أما الرحمن فقد تمت عبادته في اليمن القديم باعتباره معبودا سماويا، حيث تعدد ذكره في نقوش تخص اليهود والنصارى في اليمن القديم، ونقوش أخرى لا تتضح الهوية الدينية لأصحابها، ما جعل البعض يعتقد أنها تخص بقايا اتباع الديانة الحنيفية في اليمن (ديانة نبي الله إبراهيم). وقد ساد الإشكال الخاص بالرحمن في بداية ظهور الإسلام، حيث وصف مدعو النبوة بهذا الاسم، فقيل لمسيلمة الحنفي أنه رحمن اليمامة وللأسود العنسي أنه رحمن اليمن، بل وأحدثت الصفة المميزة التي يذكر بها (الرحمن) دون باقي الصفات الإلهية في القرآن الكريم إلى جانب اسم (الله) لبس لدى كفار قريش، واعتقدوا أن المسلمين يعبدون إلهين اثنين (الله، والرحمن) فرد عليهم القرآن الكريم بقوله {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}. وعندما دخل الإسلام إلى اليمن في مطلع القرن السابع الميلادي كانت المعبودات الكوكبية قد اختفت من اليمن، وكان سكانه قد صارا بعضهم يعتنق الديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية التي بدأت تتسرب إلى اليمن منذ القرن الرابع الميلادي بشكل خاص، وبعضهم صاروا يعبدون أصناما وثنية شبيهة بالأصنام التي انتشرت في الحجاز ونجد وليس لها علاقة بمعبودات اليمنيين الكوكبية السابقة، حيث دخل اليمنيون في دين الله أفواجا، وانتقلوا لمرحلة جديدة لا تدخل ضمن موضوعنا هذا، صار الإسلام فيها هو الدين الغالب في اليمن. ثالثا: الزراعة والصناعة في اليمن القديم: عرف الانسان اليمني القديم الزراعة منذ عصور ماقبل التاريخ، حتى أنه عندما عرف الكتابة في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد كان قد أصبح يبني السدود الكبيرة التي تساعده في مشروعه الزراعي، حيث أثبتت حفريات البعثة الأثرية الألمانية أن أساسات سد مارب تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد على الأقل. ومثلما برع الانسان اليمني القديم في تشييد منشآت الري وتخزين المياه (برك، كروف، صهاريج، قنوات، حواجز، سدود، آبار) فقد عرف أيضا تشييد المدرجات والحقول وإقامة الحواجز الحامية لها، وحظيت تلك الحقول باهتمامه على مدار العام، وقد جعله ذلك الاهتمام يضع لكل حقل (جربة) اسما خاصا به. إلى جانب ذلك فقد اهتم الانسان اليمني القديم بسن الأعراف والقوانين التي تنظم العملية الزراعية، مثل الملكية العامة والخاصة للأراضي، طرق إيجار الأراضي الزراعية والانتفاع بها، حجم الضرائب على المحاصيل الزراعية وطريقة تحصيلها....الخ). وقد اهتم الانسان اليمني القديم بزراعة العديد من المحاصيل الغذائية، مثل الحبوب بمختلف أنواعها، والبقوليات، والفواكه خصوصا التمور والأعناب. لكن تجارته الدولية كانت تعتمد على المحاصيل النقدية التي يزرعها أو يجلبها من أماكن أخرى خارج اليمن، وتمثلت أبرز المحاصيل النقدية في اليمن القديم باللبان، والمر، والقطن، والصبر. وبلغ الانسان اليمني القديم مبلغا في معرفة المواسم الزراعية التي تقوم عليها مواعيد بذره وحصاده للمحاصيل المختلفة، وقسم سنته إلى فصول أربعة. ولازال المزارعين اليمنيين حتى اليوم يعتمدون في كثير من عادات نشاطهم الزراعي على ذلك الموروث الأصيل الذي توارثوه عن أجدادهم منذ عصر ما قبل الإسلام. تلك نبذة استمديناها مما أمدتنا به نقوشهم المسندية التي خلفوها لنا، أما كتب التفسير وكتب أهل الأخبار فقد بالغت كثيرا في أهمية النشاط الزراعي اليمني قبل الإسلام، حتى أنها ذكرت وهي تتحدث عن أرض الجنتين المذكورة في القرآن الكريم أن الثمار كانت تتساقط من تلقاء نفسها وتملأ الأطباق المحمولة فوق رؤوس من يمشي في تلك المزارع. ورغم عدم صحة كثير مما ورد في تلك الروايات إلا أنها يمكن أن تدلنا على الأهمية التي حظيت بها الزراعة لدى الانسان اليمني القديم. تجدر الإشارة أن الإنسان اليمني القديم قد عرف مهنة تربية الحيوانات الأليفة على هامش نشاطه الزراعي، ونعرف من بعض النقوش الحربية لملوك الدول اليمنية القديمة وهي تتحدث عن الغنائم الحجم الوفير لتلك الحيوانات. وكانت أبرز تلك الحيونات تتمثل بالأغنام والماعز والأبقار والإبل والحمير والبغال. أما الصناعة فقد بلغ الانسان اليمني فيها مبلغا محترما قياسا على ما كان معروفا منها في عصره. حيث عرف الانسان اليمني صناعة المنسوجات والملابس، يتضح ذلك لنا من خلال الملابس الأنيقة التي تبدت لنا على تماثيلهم التي تركوها لنا، سواء كانت لنساء أو لرجال. حتى أن زكاة أهل اليمن في صدر الإسلام جعلت من الثياب، كون ذلك أيسر لهم وأنفع لأهل المدينة، وهو ما يدل على الرواج الكبير الذي حظيت به تلك الصناعة لديهم. وقد عرف الانسان اليمني القديم أيضا صناعة الأسلحة المعروفة في عصره، ومعها الأدوات الزراعية والمنزلية وأدوات الزينة. وعرفنا من حذاء عثر عليه مع أحد الموميات المحفوظة في متحف قسم الآثار بجامعة صنعاء الرقي الكبير الذي وصلت إليه صناعة الأحذية الجلدية في اليمن القديم، حتى أنها تكاد لا تفرق عن أرقى المصنوعات المماثلة في عصرنا الراهن. ويمكننا ونحن نتحدث عن رقي الصناعة في اليمن القديم أن نضرب مثالا بصناعة التماثيل الحجرية والمعدينة، وكذلك المشغولات الفضية والذهبية البديعة. ونختتم الحديث في هذه العجالة المختصرة بالإشارة إلى معرفة اليمنيين القدماء لصناعة الطيوب، حيث نعرف من بعض المصادر أن تلك الطيوب كانت تصدر إلى خارج اليمن مثل الهند ومناطق شمال الجزيرة العربية، وكانت مدينة عدن أشهر مناطق اليمن في تلك الصناعة، ولازالت تحتفظ بتلك الشهرة إلى يوم الناس هذا. ربعا: التجارة والعلاقات الدولية لليمن القديم: عرفت اليمن القديم مثلها مثل بقية مناطق العالم القديم التبادل التجاري منذ وجود الانسان على الأرض، حيث بدأ الانسان يقايض ما يملك من سلع بسلع أخرى ينتجها غيره. وقد عرفت اليمن القديم الأسواق الداخلية التي كان الانسان اليمني القديم يصرف فيها منتجاته ويأتي منها بما يحتاجه من سلع، حيث قامت الأسواق اليومية، وكذلك الأسواق الاسبوعية التي كانت تخدم مستوطنات سكنية عديدة، ولا زالت الأسواق الأسبوعية (التي تسمى غالبا باسم اليوم الذي تقام فيه) قائمة في اليمن إلى يوم الناس هذا. لكن تجارة اليمن الخارجية هي من مثلت ركيزة أساسية من الركائز التي قام عليها ازدهار الدول اليمنية القديمة، وهو ما يفسر لنا حرص تلك الدول على أن تكون عواصمها على دروب الطريق الدولي لتلك التجارة، رغم مروره في مناطق شبه صحراوية، مع أن أراضيها تمتد إلى مناطق زراعية خصبة. ونستدل من بعض الشواهد الأثرية والتاريخية أن اليمنيين القدماء قد تمكنوا من تنظيم طريق دولي لتسويق تجارتهم، عرف لدى المؤرخين باسم طريق البخور، حيث امتدت دروبه الجغرافية من سواحل بحر العرب جنوبا إلى سواحل البحر المتوسط شمالا، مارا في مشارق اليمن، ومنها إلى بلاد الحجاز، ثم إلى بلاد الشام وبقية مناطق البحر الأبيض المتوسط، وتفرع منه طريق فرعي امتد من نجران صوب مناطق الخليج العربي وبلاد الرافدين. ويذكر الكاتب الروماني بليني أن الطريق من مدينة تمنع عاصمة الدولة القتبانية حتى مدينة غزة في فلسطين كان يمر في ستين محطة، وكل محطة تعني يوما كاملا من عبور القوافل التجارية على ذلك الطريق. وتدل الشواهد الأثرية والتاريخية المشار إليها أن طريق البخور قد انتظم في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وذلك على انقاض الطريق البحري الذي كان يربط بين بلاد الرافدين والهند قبل تلك الفترة. وكانت مهمة التجارة الدولية التي تدار على طريق البخور المذكور تتمثل في الربط عبر جزيرة العرب بين عالمي المحيط الهندي والبحر المتوسط، اللذين كان يعدان بمثابة أهم مسطحين مائيين في العالم القديم. وقد أدى الازدهار التجاري في اليمن القديم إلى اهتمام اليمنيين بتنظيم ذلك النشاط والأسواق الداخلية المرتبطة به، حيث يتضح لنا ذلك جليا من خلال قانون سوق شمر في العاصمة القتبانية تمنع، الذي يعد أهم تلك القوانين في إطار مانملك من نقوش مكتشفة. وقد عرف اليمنيون عملية سك النقود، وكانت أول النقود التي سكوها تتم على غرار العملات الإغريقية، ويعود ما تم اكتشافه من تلك العملات اليمنية إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وقد استمرت بعد ذلك عملية سك العملات في الدول اليمنية القديمة، خصوصا العملات الفضية والبرونزية، بينما كانت تلك الدول تستخدم إلى حد كبير في تجارتها الدولية خلال العصر الميلادي العملات الذهبية الرومانية والأكسومية. تجدر الاشارة أن العلاقات الدولية للدول اليمنية القديمة ارتبطت بدرجة رئيسية بنشاطها التجاري، فقد أكدت الشواهد الأثرية والنقشية والتاريخية أن منطقة شمال الجزيرة العربية وبلاد الحبشة كانت بمثابة الامتداد الحيوي لليمن القديم، مع العلم أن ارتباط اليمن بشرق أفريقيا المطل على المحيط الهندي يسبق ارتباطه بالحبشة المطلة على البحر الأحمر.
وقد امتدت علاقات اليمن الدولية في عالم المحيط الهندي باذرعه المائية المختلفة لتشمل العديد من البلدان، مثل بلاد الرافدين، وبلاد الفرس، والهند، وجنوب شرق آسيا. أما علاقاته في الجانب الآخر مع عالم البحر المتوسط فقد شملت بلاد الشام، ومصر، واليونان وأراضي الدولة الرومانية. وكان اليمنيون يقومون بدور الوسيط التجاري بين عالمي المحيط الهندي والبحر المتوسط، فينقلون إلى كل منطقة ما تحتاجه من بضائع، ويستوردون منها البضائع التي تحتاجها مناطق أخرى. وقد مكنهم من القيام بذلك الدور الموقع الاستراتيجي المهم لليمن على طرق التجارة الدولية. وكانت أهمية طريق البخور تزداد عندما تشتعل الحرب بين الفرس ودولة السلوقيين الهلنسية ومن بعدهم الامبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، حيت تؤدي تلك الحروب لتوقف طريق الحرير الذي يمر عبر بلاد الفرس قبل وصوله إلى سواحل البحر المتوسط، وبالتالي تحول جزء من بضائعة للنقل عبر طريق البخور. ويحدثنا كتاب دليل البحر الأرتيري (لمؤلف مجهول) الذي يعود إلى القرن الثالث الميلادي عن حركة نشطة في الموانئ اليمنية القديمة، مثل موزع (بالقرب من المخاء) وعدن، وقنا (بير علي في ساحل محافظة شبوة الحالية) وسمهر (في محافظة ظفار الواقعة في عمان حاليا)، وجزيرة سقطرى (سكرد). ومثل ما أن للموقع الاستراتيجي فوائد مهمة عادت على اليمنيين القدماء، إلا أن ذلك الموقع المهم جعلهم عرضة لأطماع القوى الدولية المعاصرة لهم، حيث تعرضت بلادهم للتهديدات والرغبة في السيطرة عليها من قبل تلك القوى. وكان الاسكندر المقدوني هو أول من عمل من أجل السيطرة على اليمن القديم في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، لكن الموت عاجله قبل أن يتمكن من تنفيذ مشروعه، فتولت دولة البطالمة في مصر التي أسسها أحد قادته مهمة تنفيذ ذلك المشروع. وعلى الرغم من عدم تمكن البطالمة من تحقيق حلمهم في السيطرة على اليمن، إلا أنهم تمكنوا ابتداء من أواخر القرن الثاني والثلثين الأولين من القرن الأول قبل الميلاد من اكتشاف حركة الرياح الموسمية في المحيط الهندي، وهو ما مكنهم من الوصول المباشر إلى الهند دون وساطة اليمنيين، فتمكنوا بذلك من تحويل جزء كبير من التجارة الدولية التي كانت تنقل على طريق البخور إلى طريق بحري يربط بين مصر وبلاد الهند. ومع ذلك فقد عمل الامبراطور الروماني أغسطس (الذي انتزع مصر من البطالمة بعد أن قضى على دولتهم) على إرسال حملة عسكرية إلى اليمن عام 24 ق.م لكنها باءت بالفشل وعادت أدراجها، وهو ما يؤكد لنا أن اليمن كانت ما زالت تحتفظ بجزء مهم من التجارة الدولية، خصوصا البضائع ذات المنشأ اليمني. الجدير بالملاحظة أن الرومان ومن بعدهم البيزنطيين منذ فشل حملتهم على اليمن قد أوكلوا إلى دولة أكسوم الحبشية الواقعة على الحدود الجنوبية لولايتهم المصرية مهمة التحرش باليمنيين ومنافستهم على تجارة البحر الأحمر، حيث تمكنت الدولة الأكسومية ابتداء من منتصف القرن الثاني الميلادي والنصف الأول من القرن الثالث من فرض سيطرتها المباشرة على تهامة اليمن وماجاورها شمالا حتى نجرانوجنوبا حتى المعافر. وكان ذلك قبل أن تتمكن الدولة الحميرية من طردهم من اليمن، حيث ظلوا يتحينون الفرصة لمعاودة التدخل العسكري في اليمن، وهو ما تحقق لهم في مطلع القرن السادس الميلادي، وتمكنوا هذه المرة من فرض سيطرتهم على كل اليمن القديم بعد إسقاطهم للدولة الحميرية. وقد استمر الأحباش في اليمن نصف قرن من الزمان، إلى أن تمكن أهل اليمن من إجلائهم عن اليمن بمساعدة الفرس عام 575م الذين مالبثوا أن أخضعوا اليمن لسيطرتهم المباشرة وجعلوا منها ولاية فارسية، واستمروا فيها حتى ظهور الإسلام واعتناق آخر ولاتهم في اليمن لذلك الدين. خامسا: الحياة العسكرية في اليمن القديم: تحدثنا النقوش المسندية عن حروب لا تكاد تتوقف بين الدول اليمنية القديمة التي تعاصرت على الساحة اليمنية في عصر ما قبل الإسلام، وذلك يجعلنا نتساءل عن الملامح التي ميزت الحياة العسكرية في اليمن القديم. ودعونا نجعل البداية من الجيوش التي كانت تابعة للدول اليمنية القديمة، حيث نفهم من القرآن الكريم أن مملكة سبأ في عصر ملكتها المعاصرة للنبي سليمان في القرن العاشر قبل الميلاد كانت تمتلك قوة مهابة {قالوا نحن أولي قوة وأولي بأس شديد}. ويتأكد ذلك من خلال النقوش المسندية التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد والنصف الأول من الألف الأول الميلادي، حيث حدثتنا تلك النقوش عن تلك الجيوش المقاتلة التي كانت تتكون من جنود مشاة (أرجل/راجلين)، وهجانة (ركبت/راكبين)، ثم فرسان (أفرسم). وكان الملك/المكرب هو القائد الأعلى للجيش في الدول اليمنية القديمة، ويتولى بنفسه قيادة الجيش في المعارك الكبرى، ويرافقه الأقيال والأذواء بقواتهم الخاصة التابعة لمقولاتهم التي يديرونها. وكان قائد الجيش في اليمن القديم يسمى (مقتوي)، ويبدو أن ذلك المقتوي كان يعتبر نفسه في خدمة الملك ومنفذا لأوامره في الجوانب العسكرية، وهو ما جعل المعاجم العربية الفصيحة تفسر معنى المقتوي بأنها تعني (الخادم) مستدلين ببيت شعري لعمرو بن كلثوم يقول فيه: تهددنا وتوعدنا رويدا متى كنا لأمك مقتوينا. ويلاحظ أن بعض الأقيال الكبار كان يجمع بين كونه قيلا على شعب محدد (قبيلة) وبين كونه مقتويا للملك الذي يتبعه. وفي أحيان أخرى يصبح للقيل إذا تعاظمت مكانته مقتويا يتبعه ويتولى المهام العسكرية لمقولته. ومنذ بداية العصور الميلادية، خصوصا في عصر ملوك سبأ وذي ريدان، ظهر لنا في النقوش تسمية (خميس) للدلالة على الجيوش الرسمية للدول، إلى جانب قوات شعبية يتم استنفارها أثناء اشتعال الحروب، وتشارك في القتال جنبا إلى جنب مع الجيش الرسمي (الخميس)، وهو ما عليه الأمر في الحروب التي تشهدها اليمن إلى يوم الناس هذا. وغياب مسمى الخميس في النقوش التي تعود إلى عصر ما قبل الميلاد جعل كثير من الدارسين يتساءلون عما إذا كانت الدول اليمنية القديمة تمتلك جيوشا رسمية (نظامية) خلال تلك الفترة، أم أنها كانت تعتمد على الرجال البالغين من مواطنيها في حروبها، بحيث يعودون إلى أشغالهم المدنية بعد انتهاء الحرب، في وضع مشابه لما كانت عليها الدولة الرومانية قبل عصرها الامبراطوري، وكذلك ما كانت عليه الدولة العربية الإسلامية في بداية نشوئها. ولم نجد في النقوش المسندية تفسيرات واضحة لمعنى الخميس، واعتمدت التفسيرات لمعناه على تحليلات للدارسين استندت على مقارنات لظهور مسمى الخميس في جيش الدولة العربية الإسلامية، حيث اعتبر البعض أن مسمى الخميس سببه انقسام الجيش في أرض المعركة إلى خمس فرق (قلب، مقدمة، مؤخرة، ميمنة، ميسرة)، بينما أعاد البعض التسمية إلى حصول الجيش على خمس الغنائم والضرائب، مع تفسيرات أخرى أقل شأنا. وكانت تتبع كل جيش في هذه الدولة اليمنية القديمة أو تلك مجموعة من التحصينات الدفاعية: حصون وقلاع وأسوار للمدن، ومعسكرات (حيرت)، مع قوات ترابط على حدود الدولة وتكون مستعدة لصد أي هجوم مفاجئ على أراضي الدولة إلى أن يصل المدد من عاصمة الدولة أو من أحد الأقيال التابعين لها. ورغم أن النقوش اليمنية القديمة لم تخبرنا عن طبيعة الصناعات العسكرية التي كانت معروفة في اليمن القديم إلا أننا يمكن أن نستشف ذلك من خلال بعض التماثيل القديمة التي عثر عليها، حيث نلاحظ تمنطق تلك التماثيل ببعض الأسلحة مثل الخنجر والحربة، وكذلك ارتداء خوذ على الرؤوس للوقاية من ضربات الخصوم في المعارك، ويمكن مثالا على ذلك مطالعة تمثال الجندي اليمني القديم المرسوم على فئة الخمسين الريال من العملة النقدية اليمنية. وكذلك نفهم من كتب أهل الأخبار أن صناعة الأسلحة في اليمن كانت رائجة عند ظهور الإسلام، وهو ما يعد امتدادا لتلك الصناعة من العصر القديم السابق للإسلام. تجدر الإشارة أن الحروب بين الدول اليمنة القديمة كان يرافقها أعمال حرق وتخريب لمدن الخصوم، وكذلك أسر وسبي للخصوم (عسكريين ومدنيين)، مع أخذ أملاك الطرف المنهزم كغنايم للطرف المنتصر، خصوصا الثروة الحيوانية (جمال وأبقار وأغنام وماعز.. إلخ). علما بأن الحروب في اليمن القديم لم تقتصر على الحروب الداخلية بين الدول اليمنية القديمة فقط، لكنها امتدت لتشمل مقاومة التهديدات الأجنبية، مثل حروب اليمنيين ضد الغزو الروماني، وكذلك ضد التدخلات الحبشية التي انتهت باحتلال الأحباش لليمن وقضائهم على الحضارة اليمنية القديمة في مطلع القرن السادس الميلادي. وكذلك كان لجيوش الدول اليمنية القديمة (خصوصا السبئية والحميرية) حملات عسكرية صوب منطقة وسط الجزيرة العربية وشمالها لصد هجمات الأعراب التي بدأت تتجه صوب الحواضر اليمنية خلال العصور الميلادية، بعد أن تدهور وضع طريق البخور البري الذي كان يخترق الجزيرة العربية من جنوبها إلى شمالها، بسبب تحول مسار طريق التجارة الدولي إلى البحر الأحمر. وقد دفع ذلك بعض الدول اليمنية القديمة التي تمتلك حدودا مع مناطق وسط الجزيرة العربية (سبأ وحضرموت على وجه الخصوص) لأن تستعين ببعض المقاتلين الأعراب ليكونوا رديفا لجيوشها الرسمية، بحيث تصد بهم هجمات الأعراب المعادية، وتستخدمهم في نفس الوقت في حروبها الداخلية ضد الدول اليمنية الأخرى. وبعد فرض الدولة الحميرية سيطرتها لتشمل كل اليمن القديم في أواخر القرن الثالث الميلادي قامت بتجميع قوات القبائل الأعرابية (البدوية) في جيش خاص بقيادة قائد حميري يسمى كبير الأعراب، وجعل مقر ذلك الجيش في مدينة نشق بجوف اليمن القريبة من مناطق تلك القبائل البدوية، وكان ذلك الجيش البدوي يمثل رديفا مهما للجيش الحمري الرسمي، وشارك في العديد من الحروب التي خاضتها الدولة الحميرية في جنوب الجزيرة العربية وشمالها. نشير أخيرا أننا في اليمن القديم نفتقد إلى اللوحات التي ترسم مسارات بعض المعارك ونتائجها وتصور بعض الأسلحة كما كان عليه الحال في العراق القديم ومصر الفرعونية وغيرها من الدول القديمة. وكان الطرف المنتصر في اليمن القديم يكتفي بتسجل انتصاره بنقش مكتوب، يتم تدوينه في معظم الأحيان على إحدى الصخور الثابتة في الأرض التي دارت فيها المعركة. أخيرا: هناك جوانب أخرى للحضارة اليمنية قبل الإسلام تناولها زملاء آخرون في ذلك النقاش المشار إليه في مطلع المقال الذي دار في منتدى المؤرخ الحصيف، مثل الأنظمة القانونية ونظام الحكم، ودور المرأة في اليمن القديم، ولذلك لم ندخلها ضمن هذا المقال الذي اقتصرت فيه على إيراد ما تناولته أنا من جوانب الحضارة اليمنية القديمة في ذلك النقاش. * (أستاذ تاريخ اليمن القديم وحضارته في جامعة صنعاء)