عندما تشتد ماسأة الواقع فتتحول إلى رافد يستقي منه الخيال، أو عندما يولد الواقع لشدة آلامه الشعر وعلى مدى قرون طويلة يغدو الواقع في شدته خياليا. ولعل هذا ما حدث مع حضرموت وسجله الشعراء الذين قد يكون أولهم بو ريا (الذي عاش حوالي القرن العاشر الهجري) وصولا إلى الشعراء سعيد فرج باحريز وحسين أبوبكر المحضار وعوض عبدالله بن سبيتي وأحمد عبود باوزير، والذين لن يكون آخرهم الصديق الشاعر د. سعيد سالم الجريري الذي استفتح ديوانه (بخيتة ومبخوت) الصادر حديثا بالمكلا ببعض أشعارهم: يقول بو ريا على حضرموت لولب من الرحمن مفروت ويقول أحمد عبود باوزير: ياطم منيحة معانا ماسكين القرون وغيرنا يحلبون كلما تكلمت قالوا لي سكت من تكون قبلك عرب يعرفون ما قدر الله يكون ويقول سعيد الجريري: بخيتة من غثا الأيام ونت وعاكسها الزمن في ما تمنت وكلما له تعبثها.. تعنت وكم في صدرها من غيظ مكبوت بطت عا تهتري برتوت ورتوت انضيع صوتها في بير برهوت وتمت صابرة عالضر.. تبكي لغير الله ما ظنيت تشكي على من تتكي لا جات تدكي ولولب حظها والبخت مفروت إذا قبضت لقته الحبل مبتوت!! هذا التوجع على حضرموت المرموز إليها ببخيتة والمنيحة (الشاة الحلوب) وإلى سوء أحوالها (بانفرات) اللولب عليها، يشير إلى أن سيرة الشعر العامي وسيرة حضرموت بمآسيها المتلاحقة تمضيان معا، ولعل هذا هو ما عزز الأثر الفاجع في المخيال الشعبي عن حضرموت وحظها العاثر. وإن كان الشعر على حرقته يحمل رغبة دفينة في استنهاض الإنسان واسترجاع الذات بكل تكويناتها الحضارية. لقد كان الشعر العامي الحضرمي وما يزال متصلا بالسياسة وتقلباتها المختلفة، مما يشير إلى أنه– وهو أحد أبرز وجوه التكوين الثقافي للمواطن الحضرمي- يحمل من أثر السياسة وأزماتها الاجتماعية والنفسية الشيء الكثير، فالشعر بهذا أحد تكويناتنا الثقافية التي تنوء بالإحباطات والهموم.. ينغرس فينا يوميا، ويجوس في إحساساتنا، ويجددها جيلا بعد جيل. غير أنه يمكن عد هذا الشعر بدءا من بو ريا وصولا إلى الجريري جرس إنذار يجب التنبه إلى ما يشير إليه من مآس وتجنبها بمحاولة التعمق في فهم أزماتنا التاريخية والمعاصرة وتجاوزها، لا قراءته بوصفه تقرير حال والاطمئنان إليه، فهنا تكمن خطورة مثل هذا الشعر، وخطورة مثل هذه القراءة، ذلك لأنه يعيد إنتاج مآسينا فينا، ونعيد إنتاج مآسينا فيه من حيث نطمئن إليه ونلهج به مأخوذين بجماله التصويري والإيقاعي. إشارة: المقصود ب (قراءة ثقافية) ما يتصل بمفهوم النقد الثقافي.