حين قرأت عن الحفلين، وتزمع السيدة فيروز إحياءهما قريباً في 'البيال' وسط بيروت، تبّدل مشهد العالم في نظري بشكل غريب، أصبح كل شيء رائعاً، ومثيراً. في 7 و8 تشرين الاول/أكتوبر المقبل تُغنيّ السيدة في منطقة قبالة البحر، من الريبرتوار الذي صنعته مع ابنها الموسيقار زياد الرحباني، ومن ألبومها الجديد من تأليف وتلحين زياد: 'أيه في أمل' و'قال قايل' و'الله كبير' و'قصة زغيرة كتير' و'ما شاورت حالي' وكل ما الحكي'، إضافة الى مقطوعتين موسيقيتين من جديد زياد. قرأت الخبر عن الحفلين، وفجأة طاولة مكتبي الكريهة، غدت فاتنة حتى أنني لم أر من قبل طاولة مكتب بمثل تلك العذوبة والجمال والبياض والرومانسية. قبل الخبر، لم أكن رأيت هكذا، طاولة مكتب مبتسمة، ورائعة بلونها العاجي المستكي، ولا كان حيّز المكان في الجريدة حيث أعمل، هادراً كنهر على هذا النحو، وذا إشراق مبهر. قرأت عن الحفل وتُحييه اخيراً السيدة فيروز، فبدا كل شيء فجأة مثل سلسلة من مناظر طبيعية خلاّبة، تُرى بعينين جديدتين صافيتين. مع الخبر ، صورة للسيدة، يُرى منها جزء من عينيها الفاحمتين، حزينتين كما منذ الأبد، وشفتيها في إضمامة لا تسمح برؤية أسنانها البيضاء اللامعة، وتُبرق حين تُغنّي. خصلة شعر ضالّة على عنقها، وأخرى مثلها على نحرها المستدير، الملفوع بلوعة قديمة، غائصاً داخل وشاح ازرق، وكتفيها مكوّرين غير صلبين، كما تلوح أذنها وردية شفافة. مع أنني من المتيمات بصوت أم كلثوم، أحسّ بعاطفة رقيقة حيال صوت فيروز، لأنها تنتمي إليّ بمعنى ما. أغنياتها إنسانية وقابلة للإمتلاك، انها في حياتي نفسها وتستلقي في أيامي. مع صوت أم كلثوم أجد الوقت أشّد غنى وإمتلاء من الوقت الذي أمضيه مع فيروز، مع ذلك في الحقيقة، احتاج الى مثل الوقت الذي تمنحهُ فيروز، خفيفاً، هشّاً ومغناجاً. أحسّ لدى سماع فيروز بالإلهام والإندفاع، وأغنياتها تفهمني بشكل أفضل، وصوتها يمتلك المثالية المتطلّبة التي تزخر بها الروح الفتية. من الصعب أن تخونني أيّ من أغنيات فيروز أو تتخلّى عنيّ، ولكي أربح صوتها، أربح حبي له، أبقى نقية كما تريدني تماماً، غير ناضجة، ولا يُفسدني الواقع الذي تسندهُ كلماتها بالأحلام الدائمة. في اغنيات فيروز الجديدة على وجه التحديد(في تعاونها المشترك مع زياد الرحباني) هناك تواز بين اللعب في عوالم المراهقة، والإبداع الفنيّ، وفيها حساسية الأطفال ونزقهم، ومن هنا تتدّفق روحيتها. في أغنياتها، من ألحان زياد، ذلك الشيء اللبناني، خاصية ما عندهُ، تميل الى نفاد الصبر والطبع الملول، وفيها إدارة الظهر حتى الى الحب إن كان مؤلماً ومُكلفاً. تعود فيروز للغناء في السابع والثامن من الشهر المقبل، بعد أن أُثير ما أُثير من خلاف حصل بينها وبين أبناء الراحل العظيم منصور الرحباني، شقيق زوجها عاصي، ونديم روحه وفنه وإبداعه. تعود للغناء بعد مهزلة منعها عنه (نتيجة الخلاف بين الطرفين) لأمور لا أعرف عنها الكثير. ما أقرأه وأعرفه الآن أن فيروز إن لم تغنِ، ماذا تفعل إذن؟ ماذا نفعل نحن؟ ماذا يفعل هذا اللبنان المهترىء من دون صوتها؟ فلسطين ماذا تفعل؟ القدس والشام، العالم كلهُ .. ماذا؟ كنت أشتهي طبعاً، أن أسمع من فيروز في حفليها المزمع إقامتهما قريباً، اغنيات لعاصي ومنصور معاً من وزن 'راجعين ياهوا' و'لا تسألوني' و'بعدك على بالي' و'يا مايلة ع الغصن' و'يامن حوى' تغنيها في نقاء صوتها وطبيعيته وإتساعه وقدرته على أداء أدقّ الإلتفافات دون تكلّف، كما وتطويع نبراته في خدمة التعبير اللغوي، ومزجه بين الصوت الطبيعي والصوت المستعار في تجانس تّام. هذه الصفات لصوتها بقيت حتى الساعة مسحوبة على الأغنيات التي تعاونت مع زياد على تظهيرها لكنها رغبتي، وحنيني الى أداءاتها القديمة. نريد ان نسمعها بلا غايات. ونريد ان نسترجع معها ذلك النوع البريء من العبادات، في قوة الإحساس الذي فقدنا. نريد صوتها المدمن على الحب، ونريد أن نراها بكيانها الشجيّ الناحل، تغني في البيال، وفي كل زاوية في المدينة، كانسة بصوتها كل الهراء والرعب. في البيال سوف نستمع إليها في السابع كما في الثامن، الليلتين المباركتين تُغنيّ فيهما السيدة، ونرى الى جمهورها الذي ما زال يحيا أحلامه، ويرى من المستحيل مقاومة المتعة الهائلة في الإغراء والمغازلة في أغنياتها، حتى وإن لم يعد البلد كله في حالة حب. أية إثارة أن تُحيي فيروز حفلها، في مدينة تتهاوى تحت ثقل 'ردح' ساستها، ووحشية طوائفها، وفساد أخلاقياتها وثقافتها. أية إثارة!! وصوتها المرسل قريباً فيه زهو متسلّق أعلى القمم، أية إثارة، والجمال الذي خلناه خبا، سوف يُضيء ثانية المدينة المظلمة. عن القدس العربي