"رجل كثير" ديوان شعري للشاعر اليمني الراحل محمد حسين هيثم صادر عن مركز عبادي للدراسات والنشر، يتكون من عنوانين كبيرين :"المشاء العالي" و"جمهور الليل" ينضوي كل عنوان على عدد من القصائد .هو ديوان سميك على صغر حجمه ، لوحة غلافه الخارجي للرسام الايطالي "بوتشيوني" . وهو ديوان مدهش تحيل أشعاره إلى السخرية من وقائع عطنة .تتوالد فيه صور غامضة دون أن تحمل شحنة القلق أو تجهض المعنى . فالصور مكتظة بالإيحاء تحمل دلالات قوية للوجود الكوني . وتنسجم المعاني في موضوع واحد على تفرعها إذ تتكامل في لوحة مشهدية من نسج التعابير الشعرية المتآلفة في قصد معين لذلك تترابط في نسيج صورة كلية تتجزأ عند الغوص في قراءتها : الوجه هلال مغبر مهترئ أحيانا وعلى الجبهة / غربان تنفض حكمتها وممرات لخيول وبغال تنحت العينين يجر النمل شموسا حافية ومساءات ملساء ترى أي هلاك تدروه الآن هالات هلال ( قصيد بروفيل) يزاوج الشاعر بين المشاهد العينية وقسمات الوجه محاولا رصد علاقات ممكنة بين الوجه الظاهر وبين الوجه الباطن المختزل لتراكمات الذاكرة وصورها . بين الصورة الحسية والروح المعتمة بارتسامات تتجاوز حدود اللحظة إلى عمارة تجربة شعرية متسمة بالإغماض مما كساها بذلك التآلف الذي يفضي إلى معنى يدرك فظاعة الوجه المشوه للحياة. ولا تخلو أشعار الديوان من انفعالات نفسية سواء طفت على السطح من خلال السرد أو التقرير والمعالجات الفنية المبدعة ، حيث تنبري تقاسيم الانفعال على إيقاع عزف الحروف وتوقيعها في الكلمات الموحية ذات الصيغة التبليغية ، وقد بث الشاعر محمد حسين هيثم قرع الإحساس المدوي في قصيد "زلزلة" : أي باب يسع خرافته؟ وبأي انسلال يكحلنا ؟ هذه حكمته : بمعول يتزوج الصدأ أي حكمة تزلزل هكذا ؟ أي ملك هذا؟ ينفض على أكتافه الجدران ! الاستفهام المتكرر في أكثر من بيت يحيل إلى الذهول ، إلى تجريد العقل من حدوده الواعية مما يؤدي إلى غموض العلاقة بين المفردات وإلى خلق صور فنية تنأى عن التصور المباشر إلى عمق المعنى النافذ في رعشات النفس موشاة بصنعة فنية يؤدي من خلالها الشاعر إيحاءً قصدياً. وقد أدى السرد والتقرير غاية نثرية تتمثل في نسج مكونات الأحداث ووضعها على محك الفكر ، إذ يؤديان وظيفة مختلفة في البناء الشعري حيث تغيب الصور الواقعية ، ويقع كسر الجزئيات والتفاصيل ، فالخيال الشعري يقتضي الانفعال الخلاق الذي يخلق صور القصيدة ويبتكرها فتتهادى في نسيج فني تنسجم فيه الرؤيا مع الصيغ الجمالية المبدعة ، ونلمح في قصيد المشاء العالي أن النثر قد تلبس بالشعر فعبر عن الحقيقة الباطنية للشاعر: يتقوس نيسان في صلب المجنون المشاء وفي رعدته تتكدس أضبارات وكواسر كيف ترن القيلولة ؟؟ وتر صدى لقيافات ولألقاب وعطور عطن فخم سيليق به رهبوت النرجس شعر محمد حسين هيثم قد يبدو غامضا للقارئ العادي ، وقد يعسر عليه تفكيك العلاقة بين المفردات ودلالات الصور ، والخط الرابط بينها ، ولكنه يطغى عليه الحدس الملتبس بالصور وكأنه يبعث رؤيته الخاصة شعرا فتستحيل إلى رسالة مشفرة تحمل بين طياتها محمولا فكريا شحنته قدرة الشاعر على الإيحاء دون اللجوء إلى الكلمات الفضفاضة أو تسمية المدلولات بأسمائها: هل كنا نأتي من وجدانك كي نلقى ظلك في الحائط في الغيم وفي ورق يعلو أو تنزيل الحكمة أو في زهو "مرايا الشوق"... ولا نلقاك على شرفة أحلام مرتجلا في العصف