تقترب الساعة من الخامسة مساء وهو موعد هبوط الرحلة رقم 511 للخطوط اليمنية والقادمة من دولة شقيقة أو من يسمون أنفسهم أشقاء بينما هم يشقون ظهورنا شقشقة ، قبل أن أغادر الطائرة التي كانت تحمل علي متنها مالا يقل عن 50 شابا بعمر الزهور تتفجر يتبادلوا الضحكات التي ليس لها طعم أولون يحاولون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم عائدون من رحلة استجمام علي شواطي دولة عربية قريبة وجارة يحاولون أن يقنعوا أنفسهم أنهم بشر لهم واجبات وعليهم حقوق مدنية وفي حقيقة أنفسهم هم يؤمنون أنهم مكسورين محطمين لنهم ببساطة طردوا خارج حدود تلك الدولة لفظوا كما لفظ سيدنا يونس من بطن الحوت العظيم حيث قبلها لبثوا في السجن والعذاب المهين ، يحاولوا أن يشعروا من يوجد علي متن الرحلة بأنهم غير مبالين بينما عيونهم تقول كلام كثير أسائلة حائرة تناقلها عيونهم تعجز ألسنتهم عن الكلام بها تبرق من بين عيونهم المغرغره بالدموع حسرة وألم وضياع يتبعه خوف وخزي ، بكل بساطة هم يحملون في صدورهم مرارة الحياة و قبلها لفظتهم ظروفهم المستحيلة . دار في رأسي الفارغ كباقي الرؤؤس منظر رجل كان كلما عاد الي وطنه يقبل أرض المطار وعرف عنه هذه الحركة وأقسمت أنني سأفعلها كما كان يفعلها لكنني خفت للحظة توقفت لا أدري لماذا ؟ طردت الفكرة عن رأسي لكنني أعتقد أنه ليس بيني وبين هذا الوطن مثل هذه المواقف فنحن صديقان وليس حبيبان ونحن في زمن ألا حب خفت أن تراني عيون المخبرين والمتلصصين ويضنون أنني قد عدت فاتح منتصرا أطالب بحكم البلاد أو أنني من بقايا الأبطال ونحن في زمن الاغتصاب والاغتراب المباح وعبرنا المطار الصغير الذي لم يتغير من عشرات السنين وكأنه منسي ووقفنا طابور مبعثر كعادتنا مبعثرين بين الشرق والغرب ويجمعنا الشمال من ناحية والجنوب من ناحية أخر ونظل نتشاجر ونتضارب ونتشاتم علي الشمال والجنوب في كل الدنيا الشمال والجنوب مشكلة المشاكل لم نسمع أن هنالك منطقة شرقية وغربية يتشاجران كتشاجر الشمال والجنوب المهم وقفت وجاء دوري في طابور المطار أمام الضابط الذي يختم الجوازات يتفحصني وكأنه يعرفني او يبحث عني بين صور المطلوبين للنهش والفخش وأنا أقول يا..مخارج ليكون عرف أني كنت اشتي اقبل أرض المطار يالله وأرجع أقول ليكون أتهور وتابع موقع أخباري وشافلي مقال وأنا أدشون فيه علي الجماعة تهمة مين راح يفكني منها المهم عادت لي رواحي عندما زفرني بالنظرة الأخيرة نظرة الطلاق وصك البراءة وسلمني جواز سفري الدليل الوحيد الذي يثبت أنني صديق لهذا الوطن وحبيب لكل شيئا فيه . وغادرت المطار بكرامتي التي لا أملك غيرها فهنا تستباح الكرامات وتهان المقامات ، الأرض قبل دقائق انتهت من حفلة مطر جميلة والأجواء جميلة لكنها مخيفة مقلقة الأشكال الآدمية غريبة وكأنهم بعثوا لتوهم من القبور حتى أنني تصورت موقف الناس حين يقومون من القبور ليوم الحشر المعلوم الأبصار شاخصة والأفواه مكممة يعني مخزنه والدنيا أخر كلام ، إحساسي ما عمرة خدعني ولو خدعني أخر ما بيني وبينه قبيلة حيقع دم للركب يخبرني أن شيئا ما سيحدث فكل الأشياء مترقبة رائحة البارود قريبة من أنفي ركبنا السيارة لتنطلق صوب شوارع صنعاء التي تصدم الزائر عند مشاهدتها غير شوارع الدنيا من حيث الوساخة والعابرين الغير مبالين بالسيارات بذات وقت الخمده والتكيفة وما هي إلا لحظات وصدق أنفي الكليبي تعترضنا نقطة تفتيش ثم تنكيش وكان المدينة قد أحتل الطرف الجنوبي من قبل أصحاب الطرف الشمالي مدججين بالأسلحة معتمرين الخوذات المعدنية لتحميهم من الرصاص والشظايا المتناثرة ونمر من بينهم لنهم مشغولين بزبون دسم وهاتك بيع وشراء بصراحة شاطرين بالبيع والشراء أحسن من العسكرة ، وأنت تمر تشعر أن هنالك شيئا ما سيحدث العاصمة على موعد قريب مع التغير الشوارع تحاول أن تشد ظهرها المتهالك من سنين والمحفر بشكل جميل لكنها هذا المساء تحاول الشوارع أن تثبت أنها مع القادم من بعيد والشجر يهمس في أذان عمدان الكهرباء الواقفة لتترقب من القادم من بعيد المارة مختفين الأقدام تكاد لا تري تسير ، يالله ماذا سيحدث لماذا هذا الجو الكئيب السيارات على غير عادتها توقفت عن الدوران كل شيئا صامت مترقب . وعند حلول المساء البارد الأنفاس يسمع صوت كصوت السيل العظيم قادم من خلف الجبال المحيطة بصنعاء الأسيرة صوت يوقف له شعر الجسد تتصلب لدية الأذان صوت تصاحبه زمجرة غريبة وأنين وصيحات مكتومة الصوت قادما من كل الاتجاهات من جميع مداخل المدينة لحظات ويقتر الصوت أكثر وأنا القادم الذي لم أفهم قدري أني في هذا المكان أصم أمواج بشرية سيل العرم جميعهم متجهون صوب ساحة الحرية سمعت بها لكنني لا أعرفها وكل ما أعرفه عنها أنها للمهجرين والمظلومين الذين لم تنصفهم الدنيا . هم قادمون ويهتفون يقترب الصوت أكثر استطيع أن أسمع ما يقولون الأشكال تقترب المعالم تتضح يا لله أطفال بالمقدمة الرضع يحبون على ركبهم وأيدهم منظر لما تراه الدنيا له مثيل خلفهم الأطفال بعمر الزهور ينشدون النشيد الوطني الحبيب وأيديهم تلوح با أغصان بعيدان القمح طعام الجائعين وبالأخرى ألعابهم الخشبية البدائية الجميلة لتسكت الدنيا كلها لتردد الجبال والتلال التي شهدت تحرير صنعاء أيام السبعين النشيد الوطني العظيم وخلفهم الشباب والرجال ليعلنوا للدنيا انهم موجودين على ظهر الأرض يعلنون أنهم مازالوا أحياء يرزقون يتنفسون لم يدفنون ساكنون لا هامدون فهم ليسوا أصحاب الكهف ولا أصحاب الأخدود العظيم ساحة الحرية ليست بعيدة عن الحدث فهي العروس التي سيتجمع فيها كل منشدا للحرية وكل باحث عن الحرية والخلاص من العبودية رمزية المكان وتجلي الموقف ، مأوي للضعفاء والمشردين والهاربين من جبروت النظام الفاسد وعنجهية المتسلطين والأقطاعين ومصاصي دماء المسحوقين هيا مسكن من لا بيت له الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء الذين يشرعون للبارد القارس صدورهم وللشمس الحارقة جباههم وللأمطار ظهورهم ، فخيامهم التي تحتاج الي من يقيها الطقس الخيام المتهالكة من بقايا صدقات من تصدق في يوم زلازل ذمار عام الفيل الماضي . الأرض تثور كعادة الأم قبل الغروب لصغارها ليعودوا للبيت تصرخ لمن يمشون علي ظهرها تصرخ فيهم لا تخشوا الغول لا تخافوا يا صغاري ، والسماء ترسل الريح لتدفع بالجموع الي الأمام وتقذف بمن يتراجع للخلف ترسله الي مقدمة الصفوف ، وصنعاء القديمة كعادة بيوتها الأزلية ترقب الوضع عن كثف . ويدلف المساء باردا كعادته كل ليلة في مدينة الضباب ليضئ للثائرين شموع الاحتجاج السلمي ليرسلوا رسالة سلام لا .. رسالة عنف ودماء يرسلوا علي أجنحة الحمام ، حضروا ليبدأ الخلاص من العذاب المهين ولتراهم أرواح من سافروا الي السماء أرواح من مروا علي طرقات صنعاء أرواح من مروا ذات يوم من هنا الي السماء . فذات يوم وبينما الناس في سبات كانوا يمرون بأحذيتهم الطاهرة علي هذا الطرقات الضيقة المتعرجة ويقبلون الأزقة وأركان البيوت ويمسحون بأيديهم علي طين الأبواب والشبابيك الخشبية ، كانوا عشاق متيمون لوجهك يا..صنعاء مليحة النساء لوجهك المخفي خلف الشرشف الصنعاني المزركش لعينيك يا.. صنعاء كانوا يرددون أناشيد الشهادة ، لعينيك يا..صنعاء طلبوا الموت بصكوك الشهادة فطاروا الي السماء . هم يصرخون بناء تقدموا وأوقدوا الشموع أسمعوا أصواتكم للمارد الأصم وزلزلوا عيبان ونقم لتصنعوا لصغاركم يوم أبيض ومساء دفي ...