تفصل بين أوتيل كريون حيث نزلت البعثة الرئاسية اليمنية وقصر الأليزيه حيث يقيم الرئيس الفرنسي المنتخب لتوه مسافة قد لا تتعدى طول شارع القيادة في صنعاء. يطل ال «كريون» على ساحة الكونكورد التي تعني الوئام بالفرنسية. قبل ذلك كانت الساحة نفسها تسمّى ساحة لويس الخامس عشر، وبعد الثورة البرجوازية عام 1789 م صار اسمها ساحة الثورة. في تلك الساحة قطع رأس الملك لويس السادس عشر ومن بعد رأس زوجته ماري أنطوانيت. ليتم بعد اقل من عامين قطع رؤوس الذين أفتوا بقطع الرأسين الملكيين زعماء ما يسمى اليوم في باريس ب «عهد الإرهاب». من العهد الملكي إلى عهد الثورة إلى عهد الإرهاب كانت المقصلة منصوبة في هذه الساحة وقد ظلت تستخدم حتى العام 1981 حين انتخب فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية وألغى قانون الإعدام ومعه فقدت المقصلة دورها و دخلت إلى ردهات التاريخ. قبل إقالة المقصلة من التداول ارتأى الفرنسيون أن الحل الأمثل لبلادهم يكمن في المصالحة الوطنية التي تقوم على اعتراف كل طرف بالآخر وعدم إلغائه ضمن النظام الجمهوري الذي ضمن للجميع حق الوجود والتطور فكان أن تكيف الملكيون والإكليروس مع القواعد الجديدة وكفوا عن الخروج عن الشرعية الجمهورية عموما، أما الذين خرجوا عليها فكان مصيرهم الهزيمة والفشل.في هذا السياق فقدت ساحة الثورة اسمها لتعمد بساحة الوئام وليتم وضع حد نهائي لسيل الدماء التي أريقت في العهود المختلفة. ولعل هذه المساومة التاريخية هي التي أتاحت استقرار وتطور فرنسا وانتقالها من دولة ضعيفة ومكروهة ومعزولة في أوروبا إلى دولة قوية وطامحة لبناء إمبراطورية عالمية خلف البحار. يقول الفرنسيون لا يجوز أن تقارن أشياء غير قابلة للمقارنة ويقول العرب لا يجوز القياس مع وجود الفارق وعليه من الصعب مقارنة التجربتين اليمنية والفرنسية بيد أن ذلك لا يحول دون النظر في بعض القواعد المتعارف عليها في النظم الجمهورية والتي قد تصح عموما في بلدان مختلفة الثقافة والتاريخ والغنى والتقدم وما نعرفه في هذا المجال انه ما من دولة اعتمدت النظام الجمهوري وعادت عنه إلى ما قبله أي إلى النظام الملكي المطلق أو «الكهنوتي» على ما يوصف النظام السابق في اليمن.وحدهم الذين حاولوا العودة بالتاريخ إلى الوراء دفعوا ثمنا باهظا لمحاولاتهم اليائسة وحملوا بلادهم أعباء ردعهم عن التعرض للدولة الجمهورية. في أوتيل كريون كان الرئيس علي عبدالله صالح يؤكد لوسائل الإعلام أن اليمن قد فرغ لتوه من وضع حد للتمرد في صعدة وبالتالي حماية المساومة التاريخية اليمنية ما بعد الجمهورية من الخطر وما لم يقله هو أنه كان من الضروري أن يقر المسؤولون عن التمرد بالنظام الجمهوري والدستور وقد اقروا بذلك ربما بعد أن اكتشفوا بعد سنوات مؤلمة من العصيان أن الناس في اليمن ما عادوا إماميين وان أحدا لا يريد العودة إلى الوراء والدليل أن جغرافية التمرد ظلت حيث هي فهل تكون نهاية المطاف في هذا المجال؟ في أوتيل كريون المطل على ساحة الكونكورد الوئام كان الرئيس اليمني يتلقى ويجري اتصالات حول النزاع الفلسطيني في غزة وكان يحث على الوئام والمساومة للفلسطينيين. لا نعرف إن كان صوته قد سمع بما فيه الكفاية من أصحاب الشأن ولا نعرف انطباعه الشخصي في هذا الصدد فكل ما وصلنا هو تصريح مختصر ينطوي على التمني بوجوب الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال لكن ما نعرفه من خلال التجارب اليمنية وغيرها هو أن المساومة أقل كلفة من القتل والدمار العبثي في كل الحالات وفي كل الصراعات الأهلية ذلك أن هذا النوع من النزاعات لا يمكن أن ينتهي بغالب ومغلوب. لم تختم حرب أهلية واحدة في العالم بإزالة طرف من أطرافها: في أمريكا عجز الشماليون عن إلغاء الجنوبيين. و في أسبانيا عجز الملكيون عن إلغاء الجمهوريين وفي لبنان عجز المسلمون عن إلغاء المسيحيين والعكس هو الصحيح وفي فلسطين سيعجز أي طرف عن إلغاء الطرف الآخر ما يعني أن المساومة والتوافق والوئام هي اقصر الطرق لحفظ «الهيكل» وما يحتويه من مصالح ورؤى متداخلة. ماري انطوانيت .. جميلة. في بهو فندق الكريون كان أحد أعضاء البعثة اليمنية يعبر عن إعجابه بالفندق وبكل ما يحيط به فهو يزور باريس للمرة الاولى لكنه لا يتورع عن ابداء ملاحظات قاطعة: باريس جميلة لكن الغلاء فيها لا يطاق بل أغلى من ألمانيا أو بريطانيا يرد آخر نافياً وينطلق نقاش تفصيلي ثم فجأة يتحول الحديث إلى التاريخ الفرنسي فيقول أنا أحب ماري أنطوانيت لقد كانت إمرأة جميلة بل رائعة الجمال. كيف عرفت ذلك؟ لقد شاهدتها في فيلم وربما مسلسل تلفزيوني. أغلب الظن أن الجمال ينسب إلى الممثلة التي لعبت دور ماري انطوانيت. لكن ذلك لا يعني أن ملكة فرنسا الراحلة لم تكن بهيّة الطلة وساحرة الحسن وبالتالي ينطبق عليها وصف صديقنا اليمني خصوصا أن جمالها النمساوي «فهي من النمسا» كان يثير حسد وغيرة نساء البلاط فيمطرنها بالإشاعات والأقاويل ويلقبنها احتقارا ب «النمساوية». وربما ما لا يعرفه صديقنا اليمني أن سحر ماري انطوانيت ما زال حاضراً إلى ما قبل عقدين من الزمن، ففي مناسبة المائوية الثانية للثورة الفرنسية كشف استطلاع للرأي أن أغلبية ساحقة من الفرنسيين لا تقر إعدام ماري انطوانيت وتعتبر أن «النمساوية» ظلمت...