نهائي دوري ابطال افريقيا .. التعادل يحسم لقاء الذهاب بين الاهلي المصري والترجي التونسي    هاري كاين يحقق الحذاء الذهبي    نافاس .. إشبيلية يرفض تجديد عقدي    نهائي نارى: الترجي والأهلي يتعادلان سلباً في مباراة الذهاب - من سيُتوج بطلاً؟    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقف الصرافات الآلية بصنعاء يُضاعف معاناة المواطنين في ظل ارتفاع الأسعار وشح السلع    الكشف عن أكثر من 200 مليون دولار يجنيها "الانتقالي الجنوبي" سنويًا من مثلث الجبايات بطرق "غير قانونية"    صحفي: صفقة من خلف الظهر لتمكين الحوثي في اليمن خطيئة كبرى وما حدث اليوم كارثة!    فرع الهجرة والجوازات بالحديدة يعلن عن طباعة الدفعة الجديدة من الجوازات    تعيين شاب "يمني" قائدا للشرطة في مدينة أمريكية    الوية العمالقة توجه رسالة نارية لمقاتلي الحوثي    "لا ميراث تحت حكم الحوثيين": قصة ناشطة تُجسد معاناة اليمنيين تحت سيطرة المليشيا.    دعوات تحريضية للاصطياد في الماء العكر .. تحذيرات للشرعية من تداعيات تفاقم الأوضاع بعدن !    جريمة لا تُغتفر: أب يزهق روح ابنه في إب بوحشية مستخدما الفأس!    وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة في حادث مروري بمحافظة عمران (صور)    تقرير برلماني يكشف تنصل وزارة المالية بصنعاء عن توفير الاعتمادات المالية لطباعة الكتاب المدرسي    القبائل تُرسل رسالة قوية للحوثيين: مقتل قيادي بارز في عملية نوعية بالجوف    لحوثي يجبر أبناء الحديدة على القتال في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الحرب إلى 35 ألفا و386 منذ 7 أكتوبر    وزارة الحج والعمرة السعودية تطلق حملة دولية لتوعية الحجاج    حملة رقابية على المطاعم بمدينة مأرب تضبط 156 مخالفة غذائية وصحية    التفاؤل رغم كآبة الواقع    الاستاذة جوهرة حمود تعزي رئيس اللجنة المركزية برحيل شقيقة    انهيار وشيك للبنوك التجارية في صنعاء.. وخبير اقتصادي يحذر: هذا ما سيحدث خلال الأيام القادمة    اسعار الفضة تصل الى أعلى مستوياتها منذ 2013    وفد اليمن يبحث مع الوكالة اليابانية تعزيز الشراكة التنموية والاقتصادية مميز    الإرياني: مليشيا الحوثي استخدمت المواقع الأثرية كمواقع عسكرية ومخازن أسلحة ومعتقلات للسياسيين    الجيش الأمريكي: لا إصابات باستهداف سفينة يونانية بصاروخ حوثي    الهيئة العامة للطيران المدني والأرصاد تصدر توضيحًا بشأن تحليق طائرة في سماء عدن    بمشاركة 110 دول.. أبو ظبي تحتضن غداً النسخة 37 لبطولة العالم للجودو    طائرة مدنية تحلق في اجواء عدن وتثير رعب السكان    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    أمريكا تمدد حالة الطوارئ المتعلقة باليمن للعام الثاني عشر بسبب استمرار اضطراب الأوضاع الداخلية مميز    فنانة خليجية ثريّة تدفع 8 ملايين دولار مقابل التقاط صورة مع بطل مسلسل ''المؤسس عثمان''    أثناء حفل زفاف.. حريق يلتهم منزل مواطن في إب وسط غياب أي دور للدفاع المدني    منذ أكثر من 40 يوما.. سائقو النقل الثقيل يواصلون اعتصامهم بالحديدة رفضا لممارسات المليشيات    في عيد ميلاده ال84.. فنانة مصرية تتذكر مشهدها المثير مع ''عادل إمام'' : كلت وشربت وحضنت وبوست!    حصانة القاضي عبد الوهاب قطران بين الانتهاك والتحليل    نادية يحيى تعتصم للمطالبة بحصتها من ورث والدها بعد ان اعيتها المطالبة والمتابعة    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    الهلال يُحافظ على سجله خالياً من الهزائم بتعادل مثير أمام النصر!    مدرب نادي رياضي بتعز يتعرض للاعتداء بعد مباراة    منظمة الشهيد جارالله عمر بصنعاء تنعي الرفيق المناضل رشاد ابوأصبع    تستضيفها باريس غداً بمشاركة 28 لاعباً ولاعبة من 15 دولة نجوم العالم يعلنون التحدي في أبوظبي إكستريم "4"    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    تدشيين بازار تسويقي لمنتجات معيلات الأسر ضمن برنامج "استلحاق تعليم الفتاة"0    اختتام التدريب المشترك على مستوى المحافظة لأعضاء اللجان المجتمعية بالعاصمة عدن    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    وصول دفعة الأمل العاشرة من مرضى سرطان الغدة الدرقية الى مصر للعلاج    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    تسجيل مئات الحالات يومياً بالكوليرا وتوقعات أممية بإصابة ربع مليون يمني    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    افتتاح مسجد السيدة زينب يعيد للقاهرة مكانتها التاريخية    الامم المتحدة: 30 ألف حالة كوليرا في اليمن وتوقعات ان تصل الى ربع مليون بحلول سبتمبر مميز    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    دموع "صنعاء القديمة"    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرية الاعتقاد في القرآن الكريم والسنة النبوية
نشر في شبوه برس يوم 10 - 02 - 2015

( مع تفصيل في أحاديث حد الردة وسياقات الفقهاء وأهل الحديث)
المقدمة
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا)، وصلى الله على من بعثه الله رحمة للعالمين، وعلى من سار على منهجه إلى يوم الدين.
من يتأمل القرآن الكريم يجد فيه شفاء لمشاكل العصر، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو الإنساني، هذا كلام يقوله كل المسلمين، والقليل من يوفقه الله للوصول إلى تطبيق أقرب إلى هذا الكلام النظري، ولا يوفق الله من يشرك به شيئاً، فكل شريك يذهب بنصيبه، سواء كان هذا الشريك فرداً أو مذهباً أو دولة أو رأي عام..
فلذلك نسأل الله قبل كل شيء أن يوفقنا في تجنب إشراك غيره في المراقبة، بمعنى ألا يراقب الباحث إلا الله، لا يراقب رضا القريب ولا البعيد، ولا الدنيا العاجلة ولا السمعة والثناء، فحب الناس عبادة والمصلحة عبادة والمذهب عبادة إذا راقبهم الباحث عند كتابة أي بحث أو فتوى، ولا نظن أن تحذير الله من الشرك كان عبثاً أو أنه سيأتي عليه زمن تنتهي صلاحيته، بل ولعل أكثر الناس نهياً عن الشرك هم واقعون في أنواع منه عندما يراقبون الشيخ أو المذهب..الخ، وعندما يهملون شرك الأحبار والرهبان والرأي العام وحب الثناء وتزكية النفس..الخ.
غايات خلق السموات والأرض والإنسان:
وقد خلق الله السموات والأرض والإنسان لأربع غايات كبرى، يترتب بعضها على بعض، وترتيبها منطقياً لمن تأمل القرآن الكريم هي:،
الغاية الأولى: الابتلاء
والثانية: العدل
والثالثة : الإيمان
والرابعة: العبادة
إذن فليس غاية الخلق الوحيدة هو عبادة الله فقط، كما يظن أكثر المسلمين؛ فهذا وهم كبير أوقعهم فيه الواقع السياسي؛ لصرفهم عن فهم حقيقة الابتلاء، وللتنصل من لوازم الإيمان، وفراراً من صعوبة العدل، وأبقى الواقع السياسي على العبادة جافة من أهدافها، عقيمة عن إنتاج ثمرتها، فخرجت عبادتنا عبادة عجيبة، لا تعرف معنى الابتلاء ولا مركزية العدل، ولا حقيقة الإيمان، فهي لا تصبر على بلاء ولا تقاوم ظلماً ولا تستجيب لعادل، وامتلأت الدنيا بالعبّاد الحمقى والسلاطين الظلمة، وخلت ممن يعبد الله حق عبادته.
الابتلاء غاية إلهية أولى:
أما الدليل من كتاب الله على علة الابتلاء واختبار الإنسان في ما أعطاه الله من نعم الحواس والعقل والقلب والمال والصحة ..الخ ففي آيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة المائدة المدنية: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وقال في سورة الأنعام المكية : (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ، إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) / بل ذكر في سورة هود أن الغاية من خلق السموات والأرض هو الابتلاء : (( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ - وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) / وقال في سورة الكهف المكية (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) / وفي سورة الملك المكية (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) وغير ذلك من الآيات.
إذن فالابتلاء غاية من غايات خلق السموات والأرض والإنسان، وهي الغاية الأولى، التي يترتب عليها التكليف، إذ لولا إرادة الله للابتلاء لما كلف المكلفين، ولجبلهم على الطاعة كما جبل الحيوان والنبات والجماد على التسبيح له، ثم التكليف ينبني عليه الحرية، حرية الاختيار،، فلا ابتلاء في حق غير المكلف من حيوان ونبات وجماد وإنما هم مجبولون على أداء وظائف معينة، وكذا لا ابتلاء في حق المجنون والصغير والنائم لغياب موطن التكليف ألا وهو العقل ، فالابتلاء لا يكون إلا في حق من يمتلك حق الاختيار، ومن هنا تأتي مقدمات النجاح في الابتلاء وهو حسن استخدام الحواس فهي المفتاح الأساس لتحقيق الهدف من الابتلاء ويتوقف عليه الهدى أو الضلال، أعني يتوقف على توظيف الحواس، فمن أساء توظيف الحواس فعطلها أو تبرع بها لرأي عام أو قبيلة أو عادة ورثها عن الآباء والأجداد فلا يستحق إلا الضلال فيكون قد أضل نفسه، لأنه أغلق أبوابها الإبتدائية بنفسه، ومن سمع وأبصر ( أحسن توظيف نعم الحواس) دلته – بتوفيق الله- على الهداية، وهذا المعنى موسع في القرآن الكريم.
إذن فالآيات الكريمة السابقة وأمثالها تقرر أن الابتلاء – ابتلاء المكلفين- غاية كبرى من غايات خلق السموات والأرض والإنسان، ولكن الابتلاء مراحل وليست مرحلة واحدة، مرحلة الحواس ثم العقل والقلب ثم الإيمان، وأعظم الابتلاء بعد تجاوز مرحلة الحواس هو الابتلاء في أعظم نعمة وهبها الله للإنسان المكلف ألا وهو العقل، فالعقل هو الفارق الجوهري بينه وبين سائر الأصناف الأخرى من حيوان ونبات وجمادات.
وقد ربط الله بين الابتلائين في عدة آيات من باب أن الحواس أول العقل، مثل قوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) وقال : ( فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) فالذي لا يسمع البرهان ولا يرى الحجج يكون قد أغلق منافذ العقل، لأنه لا مدخل للعقل إلا عن طريق الحواس ، ، والابتلاء للعقل ومنافذه متقدم على التكليف بما يشمله من اتباع للأوامر واجتناب المناهي، أي من عدل وإيمان وعبادة وتقوى ..الخ، هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ لأن كل مكلف محل للابتلاء بمشيئة كونية قدرية، آمن أو لم يؤمن، عبد الله أو عبد الأصنام، علم بالإسلام أم لم يعلم، بلغته الحجة أو لم تبلغه .. كل مبتلى على قدر ما سمع وما أبصر وما عقل، فقد يكون هناك أقوام لم يسمعوا بدين قط، لكن العاقل منهم يذم مساويء الأخلاق من ظلم وكذب وسرقة ..الخ إذن فهو مبتلى في ما عقله حتى ولو لم تبلغه رسالة، لأن ما وصله من الحث على محاسن الأخلاق وذم مساوئها يكون قد وصله من بقايا النبوات من باب : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر]، فكل هداية في الدنيا فمصدرها من الله، إما من بقايا نبوة وكتاب أو هداية عقل وضمير.
ثم الغاية الثانية هي العدل:
من غايات الله في بعث الرسل وإنزال الكتب هو العدل وهي غاية قبل الإيمان والعبادة لما سبق أن ذكرنا ولما سيأتي، فقال تعالى في سورة الحديد المدنية: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .. الآية (25 من سورة الحديد)، فهنا يخبر الله أن من الغايات الكبرى التي من أجلها بعث الله الرسل وأنزل الكتب هو أن يقوم الناس بالقسط، ومنها ما سبق من كون العقل حجة في ذم الرذائل الإنسانية المعروفة، فكل أمم الأرض قبل الإسلام وبعده تذم الظلم وتمدح العدل، بل حتى الظالمين يذمون الظلم ولو نظرياً ويمدحون العدل ولو نظرياً، ففطرية العدل مقدمة على فطرية الإيمان، ولما أتى الإسلام جعل الإيمان اختيارياً وجعل العدل لزاماً ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) بينما لم يجعل العدل اختيارياً، أي لم يقل ( فمن شاء فليعدل ومن شاء فليظلم) ولم يعلل أو يقرر حرية العدل والظلم كما قرر حرية الإيمان والكفر.
الغاية الثالثة : الإيمان:
رأينا أنه في الغاية الأولى ( الابتلاء) هي واقعة اضطراراً وقدراً، وقد علل الله بها سبب خلق السموات والأرض والإنسان، ورأينا أن الغاية الثانية (العدل) قد علل الله بها إنزال الكتب وإرسال الرسل، وقد قدمناها على غاية الإيمان لأنه لا خيار بين العدل والظلم، ولا حرية للظالم أن يظلم بل هو ملزم بالعدل – والظلم هنا الظلم الحقوقي أو الاعتداء المباشر- بينما الإيمان اختياري (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وقضية الإيمان قضية مركزية في الرسالات السماوية، والإيمان عدة قضايا تتفاوت من حيث الأهمية – وكل على أهمية كبيرة- ولكن أهم قضايا الإيمان أمران، الإيمان بالله واليوم الآخر، فهو أهم من الإيمان بالرسل والكتب والملائكة، لأن الذي يؤمن بالله ويعرفه، يكون بحسب معرفته بالله أقوى على تحمل الابتلاء والاستعداد له، لأنه يعرف أنه يضحي ويصبر ليحصل على رضا الواحد الأحد الذي ابتلاه ورآه أهلاً للاختبار، وكذلك من آمن باليوم الآخر يعرف أن عمله في الدنيا لن يترك سدى، وأن هذه الدنيا دار عبور وأنها لا تستحق الوقوف عندها كثيراً وأن الدار الآخرة هي المثوى الأبدي الذي يجب العمل له والذي سيكون فيه التعويض الأوفى عن كل مظلمة لحقته أو صديق فقده أو مكانة تبوأها، ففي الآخرة العزاء الكافي عن كل مفقود في الدنيا من المعنويات والمحسوسات ، فالإيمان بلا شك من أكبر دلائل النجاح في الابتلاء، ومن مثبتتات العدالة ومحفزات الفضيلة، فالدنيا لا تستحق من الإنسان أن يضحي فيها بضميره وصدقه وشهادته لله ونصرته للعدالة ..الخ، وهذه الأمور تكلف الإنسان كثيراً من الخسائر الدنيوية، ولكن إذا عرف المبتلى بأن الله بهذا الابتلاء إنما ابتلاه حباً له وثقة به وربما ليباهي به ملائكته ..الخ، زاده هذا إيماناً وعزماً وتشبثاً بالله الواحد الأحد، وأن ولذلك نجد الله عز وجل يخصص الإيمان بالله واليوم الآخر ويفضلها على كثير من مسائل الإيمان الأخرى حتى الإيمان بالرسل والكتب المنزلة، كما في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة/62] فهنا لم يتحدث الله عن الأنبياء والكتب المنزلة والملائكة لأسباب، أولها لأن كل ملة من هذه الملل لا تؤمن بأنبياء الملة الأخرى ولا كتبهم باستثناء المسلمين، فألزمهم بالحد الأدنى والأهم ( الإيمان بالله واليوم الآخر) فإذا عملوا صالحاً ( وهو الأخلاق العالمية من عدل وصدق وبر..) فقد تحققت نجاتهم، وكذلك قوله تعالى في حق أهل الكتاب : (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) [آل عمران].
ولكن الواقع السياسي أراد أن يحصر النجاة بدين ثم بمذهب من سبعين مذهباً وهو مذهب السلطة، كما في الحديث الذي رواه معاوية: (قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين و سبعين ملة و تفترق هذه الأمة على ثلاث و سبعين كلها في النار إلا واحدة و هي الجماعة) ! وتبع العلماء سلطتهم في هذه العقيدة فقال ابن تيمية في شرح العقيدة الواسطية - ( 360) : ( أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ؛ كُلُّهَا فِي النَّارِ ؛ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ)! ثم يحصر أهل الجماعة بأمور كلامية وخلافية ..الخ
هذا هو الأثر السياسي القديم الذي يسير عليه الواقع المذهبي، فتسير الأجيال خلف ما كتبه الأسلاف، وينقل الأسلاف ما رواه السلاطين، وكتاب الله في الحالتين غير حجة! ولا يلتفت إلى مثل الآية السابقة، وإنما ينشغل المسلمون في طريق عمرو بن شعيب أو صفوان بن عمرو ال *** كي، وهؤلاء إنما رووا ما بثه قصاص السلطة ورواتهم، وأصبح الناس يتدينون بما وضعه السلطان ويعرضون عما نطق به القرآن، وهنا نجح مكر الشيطان، وأبلغ مكره أن يظن المسلم أنه عدوه وهو ينطق بلسانه، فاللهم عونك على بيان شرعك، واعصمنا من الشيطان وذويه.
إذن فالأيمان على محوريته إلا أنه مسائل بعضها أهم من بعض، وكلها من كبار ما أوجبه الله، ولكنه مع هذا كله لا إكراه في الدين، ومن هنا قلنا أن العدل مقدم في المطلبية على الإيمان، والإيمان مقدم على العبادة، والعبادة شاحنة للإيمان، كما أن الإيمان عامل شاحن للعدالة ، والعدالة اختيار موفق للابتلاء.. من هنا عمل الواقع السياسي على تغفيل البشر وصرفهم عن الترتيب لهذه الغايات لما يترتب عليها من كشف للخلل السياسي والثقافي، وبالتالي العمل الجاد على إصلاح الوضع، فتم صرف الناس إلى العبادة المحضة الجامدة التي تغفل عن وظيفتها في شحن الإيمان الذي ينتقل إلى الواقع العملي من توظيف قدرات الإنسان العقلية والعملية والروحية في زرع الفضيلة والإبداع وإنمائها على الأرض، لكون استخلاف الله للإنسان على الأرض واستعماره فيها، وهذه الغايات الأربع فيها حديث طويل لا يتسع له المقام هنا، وللأمانة لم أجد أحداً من قبل رتب هذا الترتيب، وجل الدراسات المعاصرة يستجيب لمسألة العدل فقط تجاوباً مع لغة العصر، أما أن يقرر معنى الابتلاء المتدرج من الحواس إلى العقل والضمير إلى ثمرة ذلك فلم أجد من أشار إليه فضلاً عن بحثه وتقريره، مع أن القرآن الكريم ناطق بهذا الترتيب، ولكن يحتاج للتدبر لولا أقفال التقليد والعوائد وضغط الواقع الفكري والسياسي (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)؟.
ثم الغاية الرابعة : هي العبادة :
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات]
والغاية العبادية لا تتناقض مع غاية الابتلاء ولا العدل ولا الإيمان، فمن لا يعبد إلا الله يكون قد مر بمراحل الابتلاء والإيمان والعدل، والعبادة هنا أشمل من الصلاة والزكاة والصوم والحج.. فالعبادة ألا تتخذ مع الله إلهاً آخر، لا صنماً ولا شيخاً ولا عادة ولا مذهباً..الخ، فمن فعل هذا فقد عبد الله ومن لم يفعل هذا فلا أدري هل عبادة الله تتفق مع التعبد بظلم الناس والركون إلى الظلمة أم لا؟ سياق الآيات يدل على شمولية العبادة كما في قوله تعالى : (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)، فمن عطل العقل لفتوى أو عقيدة، أو قتل الأبرياء لفتوى أو عقيدة، أو ظلم الناس لفتوى أو عقيدة، أو أكل أموال الناس لفتوى، أو عطل سمعه وبصره وأعرض عن آيات الله النيرات لفتوى أو عقيدة أو شيخ.. هل يختلف عن الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أم لا؟ والجواب: لا، اللهم إلا إن كان في مستوى عقلي ضعيف يرفع عنه التكليف العقلي والقلبي والبصري والسمعي، فهذا أمر يعرفه الله وحده، فالله هو الذي يعلم من يستطيع أن يعبده وحده ومن لا يستطيع إلا أن يعبده إلا مع غيره، كل القرآن الكريم قائم على هذا المبدأ والمنطلق، فمن شاء فلينظر ومن شاء فليعرض.
* بقلم : الشيخ حسن بن فرحان المالكي - الرياض
* مفكر وباحث تاريخي مهتم بشئون حقوق الإنسان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.