هي مرات عديدة، أستدعي فيها الشاعر الأعرابي الجلف، (علي بن الجهم)، الذي لا يعرف من الحياة إلا ما يراه في الصحراء، من كلب وماعز ودلو وبئر وخيمة من شعر.. وفي كل مرة نستدعيه في قاعة الدرس، نضرب به مثلا؛ لبيان أثر البيئة والمجتمع وما يعتمل فيهما على عاطفة المبدع وذوقه وأحاسيسه، فالشاعر (علي بن الجهم) البدوي الجلف القائل للخليفة (المتوكل) ذي السطوة والهيبة والجبروت: (أنت كالكلب في حفاظك للود.. وكالتيس في قراع الخطوب). ليس هو الشاعر (علي بن الجهم) الشفيف والعاشق، القائل: (عيون المها بين الرصافة والجسر... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري). لقد أدرك المتوكل أن طبيعة البداوة قد غلبت على الشاعر ابن الجهم فأمر له بقصر منيف على شاطئ دجلة، وجعل أجمل الجواري تغدو عليه وتروح بما يلذ ويطيب، فقال قصيدته الغزلية التي مطلعها (عيون المها)، وما إن سمعه المتوكل ينشدها، حتى قال: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة. وفي كل مرة من الاستدعاء للبيت الشعري أيضا (أنت كالكلب...) نمر على الكلب كأيقونة للوفاء وعدم الخيانة والاستعداد للتضحية فداء لصاحبه، لكن هذه الأيقونة تظل موضع النظرة السطحية وعدم اليقين، فالكلب مصدر إزعاج وتخويف وإيذاء، وهو ما يقلل من درجة حضور الأيقونة. المهم، عشرون عاما ويزيد ونحن نردد قول علي ابن الجهم الشعري: (أنت كالكلب في حفاظك للود.. )... لكن طوال هذه الفترة الزمنية لم نكن نؤمن بأن هذا القول ينزل منزلة النظرية العلمية أو الحقيقة الثابتة.. واليوم، وبعد صداقة دامت ثمان سنوات، كان صديقي الكلب خلالها الحارس الأمين للمنزل والمزرعة، وكنا والأولاد وكافة الأسرة نتخاطب معه بالرموز والحركات، وقبل شهرين ونيف وبعد شيخوخة صديقي الكلب، وظهور بعض ملامح المرض على جسده، عقد مجلس الأسرة اجتماعا طارئا واتخذ بالإجماع قرارا بنفيه وإبعاده إلى مكان يصعب عليه العودة مرة ثانية إلى المنزل، وتم تكليف من يأخذه على السيارة إلى مسافة تبعد عشرات الكيلو مترات، تجاوز خلالها عشرات القرى ومدينة واسعة. كان الأمر عاديا بالنسبة لنا، وإن شعرنا بقليل من الحزن حينه. ومضت الأيام، أسبوع، أسبوعان، ثلاثة، شهر، شهر ونصف، شهران. وبعد شهرين ونصف وقد نسينا موضوع صديقي الكلب كليا، وقبل مغيب يوم أمس الأول، رأى ابني الصغير (همدان) ذو الخمس السنوات صديقي الكلب بالقرب من المنزل، وهو يقف على مؤخرته ويشخص ببصره الحاد نحو المنزل ويتفحصه، وحين تحقق من المكان، أخذ يهر بقوة وينبح ويعوي باتجاه المنزل، وفي الوقت نفسه كان الطفل يصرخ بأعلى صوته.. الكلب.. الكلب.. لم يفزع الطفل ولم يفر من مكانه، كان من خلفه ثلاثة من إخوانه، وخلال مدة لا تتجاوز الدقيقة، كان صديقنا الكلب يلقي بنفسه بين الأولاد ويصافحهم أو يحتضنهم بطريقته الخاصة، ويذرف الدموع. ارتفع صراخ الأولاد فرحا واستغرابا، فخرجت مرعوبا، وحين ظهرت عليه ترك الأولاد وجرى نحوي بقوة، وأخذ يتحسسني بيديه، ويلتصق بي. وهكذا كلما ظهر فرد جديد من أفراد الأسرة، ذهب إليه ليطمئن عليه ويصافحه، حتى كنا حلقة دائرية عليه، وهو يتفحصنا واحدا تلو الآخر، حتى اطمأن علينا جميعا، وفي كل نظرة له يبدي سعادته وعتابه لنا.. أذن المغرب ونحن نحتفي بصديقنا الكلب ومنا من يذرف الدموع، ومنا من يقبح نفسه على القسوة والتفريط واللا مبالاة.. انسحبنا إلى داخل المنزل وانسحب معنا صديقنا إلى عتبة الباب ثم بسط كفيه وتنفس الصعداء.. صديقنا الكلب أتى منهكا وضعيفا، مما يدل على أنه كان في رحلة بحث شاقة استمرت لمدة تزيد عن شهرين... في المساء كنت في نزهة مع (ابن خلدون) في مقدمته، فتصور لي صديقي الكلب في صفحة من صفحات ابن خلدون.. يا الله كم هو صديقي الكلب أكثر نقاء ووفاء وودا، قياسا بصديقي ابن خلدون العاقل والعالم والمؤرخ والناقد والشاعر ومؤسس كثير من العلوم.. العلم بدون دين وأخلاق وحفاظ للود لا يجدي، ومقارنة بين صديقي الكلب وصديقي ابن خلدون، يتبوأ الأول منزلة الوفاء والحفاظ للود، أما الثاني، فصفحات تاريخه سوداء، وثمة العشرات من الأمراء والوزراء، كان نديمهم في المساء وشريكا لخصومهم في الصباح لقتلهم أو خلعهم من السلطة. ليس ابن خلدون وحده من تصور لي في صفحاته هذا المساء، فوفاء صديقي الكلب وحفاظه للود جعلا صفحات الذاكرة والتاريخ تنهمر بصور الغدر والخيانة. فها هو الشاعر والثائر الشهيد زيد الموشكي يتجلى من على منصة المشنقه، والحبل يتدلى من رقبته، وهو ينظر إلى رفاقه في السياسة والمسامرة والمناظرة الشعرية والمؤامرة على الإمام، وهم يصطفون في الصف الأول لمباركة مراسيم شنقه، ومشاهدة تفاصيل الخلاص من رأسه الذي شاركوه في إنتاج الفكرة، وفي التخطيط والمؤامرة، وهو يتأمل فيهم، ويعيد الكرة ببصره في وجوههم، ليتحقق من هول ما يراه أمامه من غدر رفاقه وخيانتهم له، وحين أتاه اليقين، صرخ في وجوههم بأعلى صوته، بقوله الخالد: (ألا لعنة على علم بلا دين، وعلى سياسة بلا أخلاق). ربما لم يكن يقرأ صديقي الكلب كثيرا في السياسة، ولم يكن يعلم أنها خساسة وبلا قيم ومبادئ، وأن الصداقات عداوات، كما يقول متنبي اليمن عبد الله البردوني: (والصداقات كالعداوات تؤذي.... فسواءٌ من تصطفي أو تعادي). يا الله، صديقي الكلب لم يغادرني هذا المساء، إنه يستفز التاريخ القديم والحديث، ويحفزه على استدعاء الأحداث والمؤمرات والضحايا.. نعم، صديقي الكلب ليس سياسيا، ولا يفقه شيئا فيها، وإلا ما ظل وفيا وحافظا للود، لكن إلحاحه هذا المساء على مسامرتي وإثارة أتربة السياسة، استدعى بروتوكولات حكماء صهيون، ككتاب مقدس يحتل المرتبة الأولى في عالم المكر والغدر والخيانة، فالبروتوكول الأول يشير إلى أن الطبائع الفاسدة من الناس أكثر عددا من ذوي الطبائع النبيلة، وأن ما يكبح الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس، ليس القانون وإنما القوة. ويضيف أن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع.. بل إن الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة.