المُدن كائنات حية .. تنمو وتتنفس وتشعر وتكبر وتحنو وتذبل وتموت تماماً كأي كائن حي آخر.. في المدينة الواحدة .. مشاعر وعواطف وأحاسيس وذكريات وشواهد وشهود ومرجعيات .. المدن تتطور وتتغير وتذهب حيث يذهب الناس كلما تحرك التاريخ .. تحركت وراءه الجغرافيا والمدن والبلدان وكلها إلى تبدُّل أو زوال أو اندثار .. والمدن التي تزول أو تصاب بظاهرة الجنون تبقى في النفس أبد الدهر كالجوهر المكنون .. فكما في تاريخ كل منّا هذه الظاهرة - ظاهرة الجنون - كذلك هي في تاريخ الامم ومدنهم ، وهذا ليس بجديد .. فالمتأمل لجغرافية أي دولة يرى كمّ التبدلات والمحو والانتقال والتغير للأماكن ، وتغيّر الأماكن .. جنونها !! وجنون المدن إرتدى بعضها بعضاً ، وركوب بعضها فوق بعض ..!! وبما أنّ صنعاء مدينة كغيرها من المدن فقد اعتراها الجنون منذ سالف الأزمان تغيرت وتبدلت من عصر إلى عصر ومن مكان إلى آخر .. احتفرت في ذاكرة التاريخ كمدينة أشد جنوناً وأشد عشقاً له ..
هي اليوم مجنونة ومجنونةٍ بأسلوب تقليدي وأدوات عصرية .. بينها وبين عناصرها - الشخوص والأزمنة والأمكنة - قاعدة مشتركة هي " الجنون " فصنعاء جُنّت عندما تعممت بسحابة سوداء أحاطت برأسها في الأيام الماضية الغابرة ، وارتدت الخراب والدمار في الأسابيع والشهور الخوالي .. صنعاء جُنّت عندما جُنّت جميع الجماعات والأحزاب الدينية والسياسية .. المجانين المتواجدين في المدينة المجنونة .. جُنّوا عندما انخرطوا في الصراع المذهبي والجيوسياسي الذي جعل أجزاء من خارطة اليمن أرض محروقة .. جُنّوا عندما آمنوا بعقيدة الفيء وحوّلوها إلى مدينة مهدورة ومن نصيب قبائل الله كما حدث لها في عام 48 م ..
صنعاء جُنّت عندما نزفت النازحين الى خارج أراضيها وجُنّت عندما أُكلت من أطرافها .. والزمن أيضاً جُنّ وتغيّر والذين كانوا يحملون العصي والفؤوس في العهد البائد صاروا اليوم يحملون المدافع والصواريخ ويسيرون في موكب من الدبابات والمدرعات حتى وصلوا إلى تخوم أسرّة النوم وثغور الدواليب .. " جنونٌ يُنْجيك خير من عقلٍ يؤذيك " ربما قد تصدُق هذه العبارة .. فجنون المدينة وأهلها كشف الحقيقة كلها أو بعضها ، هذا الجنون المتوحش هَتَكَ الستر عن وجوه بعض الساسة المسوسين بالنفاق وأظهرهم على حقيقتهم وفضح آخر أوراق غموضهم وتعطّشهم لدماء الأبرياء الساذجين الطيبين وانتقامهم من أحلام الحيارى والمتعبين وسلب الرغيف من بطون الجائعين .
لعل من الجنون أن تسأل مجنوناً أو مجموعة مجانين .. متى ستخروج أو تخرجون من وهم الجنون إلى واقع العقل وتعيش أو تعيشون معنا كل تفاصيل هذا الواقع المروع والأحلام البعيدة المنال !!؟؟ متى سنعيش معاً ونفكّ طلاسم الخلافات ..!!؟ لكن يبقى لنا ومضة أمل " خذوا الحكمة من أفواه المجانين "..!