ما إن تقرأ له نصاً من نظراته أو عبارةً من عبراته ؛ إلا وتشعرُ أن وجهكَ بدأ يربد ، و أعضاؤك تختلج ، و عيناك تدمع ؛ لكنك سرعان ما تعجب من جمال أسلوبه ، ودقة وصفه ، ورقة عبارته ، وقوة بيانه ، و رشاقة ، و تناسق فكره ، وسمو لغته ، وبلاغة نصه ، متأنقاً في اختيار مفرداته ، بديعاً في نثره ، إماماً في نهجه . هو الأديبُ ، والشاعرُ ، والكاتبُ ، وقبل ذلك كله ؛ الإنسان الذي تجّرع من كأس الألم ، ولواعج الأحزان حتى الثمالة ؛ فلم يسلم من نكبات الدهر التي توالت عليه ، وأحاطت به حتى سَمج وجه الحياة في نظره من تلك الخطوب و الأرزاء التي لاقها .
كان مصطفى لطفي المنفلوطي -رحمه الله -الذي ولد عام 1876 ميلادياً رقيق الطبع ، عزيز النفس ، حسن السّمت ، دقيق الملاحظة ، عف الضمير ، مترفعاً عن الدنايا ، يتقي المجالس ، و ينأى بنفسه عن الجدال .
تحسبه إذا حدّثك للوهلة الأولى أنه عامياً من عامة الناس لاحظ له من بلاغة اللسان ، و فصاحة البيان ؛ لكن ما إن تجالسه رجلاً إلى رجل و تستمع إليه يجعلك تطرب و تترنم من البيان البديع ، و الحكم القويم ، و الرأي السديد. استطاع أن يتغلبَ على قيود التمثُّل و الاحتذاء ، واستعان بذوقه في التأليف معتمداً على مابقي في ذاكرته مما كان يقرأه من منثور القول و منظومة . وقد تَمَكَّنَ بفضل ماسبق ذكره آنفاً من تكَوَّين وعاءً لغوياً فريداً جعله يبتعد عن الركاكة و الحشو ، ويفتح نافذة ًجديدةً من نوافذ الإنشاء و النثر في الأدب العربي الحديث الذي لا عهد لنا به من قبل !
كان لا يتحدث اللغة الفرنسية ؛ و لكنه استطاع تعريب العديد من الروايات و القصص الغربية ذائِعت الصّيت بفضل أحد أصدقائه الذي كان يجيد اللغة و يقص أحداث الروايات و القصص على المنفلوطي وهو يقوم بإعادة ترصيفها و تهذيبها وترتيبها ، و يلبساها الثوب الشرقي الأصيل حتى يخيّل إليك أيها القارئ أن أحداث الرواية أو القصة كانت ماثلةً أمامه أو ليست بعيدةً عنه بل هي شرقية عربية الأصل ! و خير دليل على ذلك رواية – ماجدولين - أو تحت ظلال الزيزفون وهي من الأدب الرومانسي العالمي للروائي الفرنسي الشهير ألفونس كار ، و قد قام المنفلوطي بنقلها إلى العربية ، و أسبغ عليها من محسناته و عبارته و تصوراته جمالاً خاصاً ليخرج لنا عملاً جمع بين سمتي الأدب العالمي و روعته ، و الأدب العربي و بلاغته .وهكذا هم الأحرار دائماً ما يتذوقون لفحة من الجحيم ، فقد انقاد المنفلوطي للسجن لستة أشهر بعدما قال قصيدةً عرَّضَ من خلالها بالخديوي عباس قائلاً:
قدومٌ ولكن لا أقولُ سعيد ومُلكٌ وإن طالَ المدى سيبيدُ رحلت وثغر الناس بالبشرِ باسِمٌ وعدتَ وحُزنٌ في القلوب شديدُ
حملت نصوص المنفلوطي في طياتها العديد من الرسائل الاجتماعية ذات طابع توجيهي إصلاحي ؛ تدعو إلى تقويم الأخلاق ، و إبانة الفضيلة و التشبث بها و التحلي بالإحسان ، و صون الوفاء ، و البذل في العطاء ، و حفظ النفس و العقل ، و إكرام المسكين ، و الرحمة بالضعيف ، ونصر المظلوم . ولم تخلو تلك الرسائل أيضاً من التنديد بالجشع ، و الظلم ، و الرذيلة ، و الفساد ،و المحرمات الدينية. ذاعت شهرته الأدبية في جريدة المؤيد حيث كانت تتولى نشر مقالاته و أقاصيصه الموضوعة ، و المعربّة ، والتي تناول فيها موضوعات شتى تتعلق بالمجتمع ، و الفن ، و الأدب ، و السياسة ، و الدين ، و النقد .
بدا حزن المنفلوطي واضحاً جلياً في كل نصونصه و كتاباته ؛ مما جعل بعض النقاد يعيبون عليه ذلك البؤس و الحزن الشديد . إلا أننا يجب أن نتّلمس العذر لصاحب النظرات في حزنه ؛ ذلك أن الدهر قد كتب عليه الأسى و الحزن بعدما سلب منه أربعة أبناء بالموت ، واحداً تلو الآخر ما شوهَ صورة الحياة في نظره.
وقد رثى طفله الأخير في النظرات تحت عنوان ( الدفين الصغير ) حيث كتب " دفنتُك اليوم يا بني، ودفنتُ أخاك من قبلك، ودفنتُ من قبلكما أخويكما؛ فأنا في كل يوم أستقبل زائرًا جديدًا، وأودع ضيفًا راحلاً، فيا لله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوبُ، واحتمل فوق ما تحتمل من فوادح الخطوب! "
الموت لا يعرف صغيراً أو كبيراً ، و لا يطرق الأبواب ، و لا يستأذن بل يسلب الروح إنفاذاً لأمر السماء . فقد توفى مصطفى لطفي المنفلوطي رغم صغر سنه يوم محاولة اغتيال سعد زغلول ، و شيّع في جنازة متواضعة في عام 1924 . و قد رثاه أمير الشعراء أحمد شوقي قائلاً :
اخترت يوم الهولِ يوم وداعِ ونعاك في عصفِ الرياح الناعي
من مات في فزعِ القيامة لم يجد قدماً تشيّع أو حفاوة ساعي
خل الجنائز عنك لا تحفل بها ليس الغرورُ لميتٍ بمَتاعِ
غابت شمس المنفلوطي لكنه أبقى تركةً أدبية و مادة لغوية للأجيال العربية القادمة علها تنظر في تاريخها الأدبي و أن تحذو حذوه !