كان اخي بجانبي عندما رن جواله ، ومضى يرد على المكالمة، ولكن صوته تغير فجأة وسمعته يحوقل : .. لا حول ولا قوة إلا بالله فأيقنت ان مصيبة جديدة قد حلت ولكني لم انزعج كثيراً، فاخبار القتل والموت والحرب أضحت تداهمنا على مدار الساعة حتى صرنا مثل أولئك الذين يعملون في طوارئ المستشفيات فلم يعودوا يتأثروا لحالات الموت والحوادث المروعة . انتهت المكالمة القصيرة بعد أن صدمتنا بخبر فاجع ومن غير أن تترك لنا بصيص أمل في سلامة من صدمتنا بوفاته . إذن قد توفي حقاً صديقنا وزميلنا أبو محضار ، الأستاذ عبدالله حسن مساعد الجعوف المالكي ... ثم توالت التفاصيل.. لقد كان عائدا من عدن إلى السعودية مكان هجرته على متن سيارته وقبل أن يصل إلى مكان إقامته تعرض لحادث مروري مروع أودى بحياته. ما أقرب الموت من الحياة !! قبل ساعات كان عبدالله ملء السمع والبصر يودع أهله وأصدقاءه فرحا هذه المرة أنه قد أعطى لأهله وأطفاله اهتماما أكبر وقد تمشى معهم واسعدهم وأنه قد التقى بكثير من أصدقائه القدماء والجدد خلال مدة إقامته بعدن، وهو لا يعلم أن هذا توفيق من الله تعالى لأنه كان وداعا أخيراً. ... عبدالله حسن مساعد الجعوف المالكي من مواليد مطلع الستينات في قرية (بلاد المالكي)( حالمين) درس الابتدائية في مدرسة(سحانر) وأكمل الإعدادية في مدرسة الثورة في (الضباب) ودرس جزءا من الثانوية في مدرسة الشهيد لبوزة في الحبيلين ثم التحق مبكرا في سلك التدريس نظرا لظروف أسرته الفقيرة. ومنذ مطلع الثمانينات تقريبا إلى نهايتها ظل فقيدنا العزيز يعمل معلما بدأ مشواره في مدرسة الثورة في الضباب ومن ثم انتقل إلى مدرسة (حبيل الريدة )عند تأسيس هذه المدرسة الوليدة التي تطورت فيما بعد إلى مجمع تعليمي واسع يسمى الآن بمدرسة الفقيد سعيد صالح قاسم الدباني. لقد كان فقيدنا واحدا من مؤسسي هذا الصرح التعليمي الكبير الذي انطلق في منتصف الثمانينات مقتصراً على الصفوف الدنيا جنباً إلى جنب مع زملائه من المؤسسين مثل الأستاذ ناجي أحمد محسن مشرف التعليم في حالمين آنذاك والأستاذ عبد الملك علي حمود والأستاذ محسن قاسم الأعجم والأستاذ صالح علي محسن والاستاذ محمود احمد ناصر الدعري والأستاذ صالح بن صالح ناصر رحمه الله وغيرهم من الزملاء الأحباء. انفرد فقيدنا عبدالله بتعليم الصف الأول الابتدائي ...قبل التحدي الصعب فالتلاميذ المستجدون الصغار لا يتسع لهم الصف ضحيجا وطفولة وشكاوى وبكاء واشتباكات طفولية تنضح براءة وسلاما ، حتى مصائبهم الصغيرة يضحك لها الحزين والثكلى. ... لكن قلب فقيدنا كان أوسع من الصف نفسه ... لم يتبرم من ضجيجهم ولم يضج منهم ومعهم، كنت أنا رئيس شعبة اللغة العربية ، وكان علي أن أعاين أداء مدرسي هذه المادة الأم وقد كان المعلم عبدالله وعدد من زملائه أكثر مني خبرة وأكبر مني سنا وكان الفرق بيني وبينهم في المستوى التعليمي لا غير. كنت أعجب من صبرة وهدوئه وهو يتعامل مع الأطفال ويناديهم بأسمائهم ويبتسم لهم مشجعا ويسأل بعضهم عن آبائهم وأخوانهم الكبار مخففا من شعورهم بالغربة والاستغراب. كان فقيدنا عبدالله يمتلك روح فنان .. لقد رشحه خطه الجميل ليدرس تلاميذ الصف الأول فأظهر خلال الممارسة قدرات أخرى لقد كان يعزف على العود ويحب الغناء والشعر وصاحب فكاهة ونكتة وظرف. ....ومرت الأيام وزادت الظروف قسوة وبدأت الابتسامة تغادر وجه فقيدنا أحيانا فيبدو مكتئبا وكثير التفكير .. لقد بدأ يغكر بالغربة فقد مل رتابة العمل وبدأت المسؤولية تكبر والأسرة تتسع وبين جوانحه قلب طموح لا يرضى بقسوة العيش فقرر أن يركب المخاطر في سبيل تحسين وضعه ووضع أسرته. وفي ذات يوم كان عبدالله قد غادر قريته ومدرسته بعد أن ودع أهله وبيته المنفرد المنحاز بجانب الجبل.. قريبا من الطريق حيث للمساء وحشة حين يهبط على قرية (بلاد المالكي) تجللها أصوات طيور الليل والجبل وقبله ومن بعده غادر آخرون نحو مدن النفط عبر الحدود بين الجنوب والشمال في طرق وعرة وخطرة يعرفها المهربون بعيدا عن أعين حرس الحدود المتربصين بكل شبح يلوح ذلك قبل أن يبتلع الشمال الجنوب، فبعد حرص طويل على كل شيء خسرنا كل شيء!! وخلال غربته الطويلة في المملكة العربية السعودية لم ينقطع تواصلنا ولكنه كان نادرا. ساهم مثل غيرة من أبناء الجنوب في المهاجر المختلفة في دعم قضية شعبهم العادلة وثورته التحررية، وكنا نجده بيننا في بعض المسيرات والمهرجانات التي كانت تقام أثناء وجوده في الوطن وتجده كذلك متابعاً لمسيرة القضية عبر شبكة التواصل الاجتماعي ناشرا آراءه ومتفاعلا مع ماينشر خلالها. سلاما عليك أخي وصديقي أبا محضار لقد كنت دمث الأخلاق منفتحا على الآخرين لا تجد صعوبة في كسب الأصدقاء والمحبين. سلاما عليك وأنت تغادر هذه الدنيا الفانية إلى رحاب رب رحيم نسأله تعالى أن يتقبلك قبولا حسنا وألا يحرمنا أجرك ولا يفتنا بعدك وأن يغفر لنا ولك. د عبده يحيى الدباني