قيل قديما إن الثورات بخطط لها العباقرة وينفذها الشجعان ويستفيد منها الانتهازيين الجبناء ولا نعتقد إن مثل هذا القول يحتاج الى دليل تاريخي ذلك أن أغلب الثورات التي عرفها التاريخ أكدت مثل هذا القول بل وأكثر من ذلك جعلت منه بمثابة القاعدة والقانون لمسار الحركة الثورية عبر تاريخها الطويل. ولقد جاءت الثورات العربية الأخيرة ومنها الثورة التحررية الجنوبية لتقدّم النموذج الحيّ لمثل ذلك المنطق اللامنطقي في تجسيد حركة الجدل الداخلي بين صنّاع الثورة ومفجّريها من جهة والمستفيدين منها أو الراكبين عليها من جهة ثانية. إن الإنتهازيين والوصوليين ومن لم نرى لهم أثرا أو بصمه أو إسهاما في ساحات المعارك والصراع المرير مع المحتلين الطغاة والجلادين في لحظات المواجهة التي تفترض التضحية والعطاء والمخاطرة هم أنفسهم الذين سوف تغصّ بهم ميادين السمسرة والسطو على جهود وتضحيات الثائرين الحقيقيين الذين حرروا الوطن وقضوا على رموز الفساد والاستبداد وهم ذاتهم الذين سوف يصطفون تباعا ضمن طابور المستفيدين من الثورة.. والأغرب من ذلك هو إستغلال حركة الجماهير لشرعنة المكاسب الميدانية لصالح الانتهازيين في حرب المواقع وقاموا بتوظّف وسائل الإعلام والدعاية لتلميع صور المتصدّرين لمواقع أخذ القرار بداية من المصنع وصولا الى مؤسسات الحكم وتقديم البديل التسويقي الجديد للمرحلة المقبلة من خلال وجوه لم تشارك في صنع الثورة مطلقا ولم يكن لها أيّ إسهام يذكر في مختلف مراحل العمل الثوري. وهكذا تولد تراجيديا الثورة فمن رحم العمل الثوري الحقيقي ومن عمق معاناة الجماهير وتضحياتهم تولد التراجيديا القائمة بحيث يتم حذف مرحله كامله من مراحل الفعل الثوري والتي تسبق عادة مرحلة الإنتقال الديمقراطي... وإنها مرحلة المحاسبة أو العدالة الانتقالية التي يتم من خلالها طرد بقايا النظام السابق وتطهير جميع مؤسسات الدولة من أدوات القهر والفساد وتحييد أصحاب النفوذ المالي ومنعهم من إستعمال إمكاناتهم لصالح إستمرار النظام شكلا ومضمونا عبر وجوه جديده من حيث الشكل وقديمة من حيث المضمون والبرامج والتوجهات... إن الحاصل الطبيعي والمنطقي لتفويض يقفز على مرحلة العدالة الانتقالية سوف يتحكّم فيها بالنهاية عنصري المال والإعلام وما هذان العنصران إلاّ غنائم تكتيك حرب المواقع التي خاضها الانتهازيين بنجاح وبشكل وجدت فيه الجماهير نفسها ضمن إطار المربّع الأول وكأنها لم تتحرّك مطلقا أو أن تحرّكها قد كان يتراوح في المكان نفسه... وهنا نستذكر قول أحد منظّري الثوره الفرنسيه الذين أكلتهم الثوره ذاتها إنطلاقا من هذه المعادله التراجيديه في صراع الثوره مع أعدائها إذ يقول روبيسبيير : إن الخونه موجودون هنا مختبؤون تحت مظهرهم الكاذب والزائف.. إنهم سيتهمون من يوجه لهم الإتهامات وسيضاعفون خداعهم ليضربوا وجه الحقيقه... قال روبسبيير ذلك بعد أن كان شاهدا وشهيدا على سقوط رموز الثوره الفرنسيه وقادتها ومفجّريها الواحد تلو الآخر بداية من هيبير وشومات مرورا بدانتون وديمولان وصولا الى مارا وسان غوست. الحقيقه إذن مرّه ومرارتها تزيد من إنحسار خطّ الثوره حتى أننا أصبحنا لانرى أثرا لأولائك المناظلين الابطال الذين صنعوا أمجاد من حملتهم المنصات بعد الثوره فالثائرون الحقيقيون اختفوا عن الانظار او ربما تمت ازاحتهم واخفاءهم بفعل فاعل وتغييبهم عمدا بإستعمال وسائل الإعلام القديمه المتجدده التي كان شعاراها ولازال : مات الملك عاش الملك. إنه من المؤسف حقّا تشويه الثورة وكأن من خاض غمار التصدّي لنظام الاحتلال وأذنابه ومشروعه قبل ذلك التاريخ لم يكن قد أسهم في بناء المراحل الأولى لبداية نهاية نظام الاحتلال وهنا نتذكّر بفخر وإعتزاز وتقدير شهداء الثوره الجنوبيه الذين سقطوا على طريق الحريه والكرامه.. أولاءك الذين وضعوا رؤوسهم على أكفّهم وخرجوا بصدور عاريه متحدّين رصاص القهر والظلم والإستبداد طالبين الخلاص من الاحتلال وعصابته الحاكمه... في وقت لم يكن أحد من الثورجيون الجدد ثوّار مابعد الثوره قد أدرك بعد أن نظام الاحتلال يحتضر... وأنّنا نأسف جدا بان الشهداء الابطال الذين أسهموا بدمائهم الطاهره في تحرير الوطن يتم استثنائهم من قائمة شهداء الثوره عند وصول الإنتهازيين وسماسرة السياسه الى مواقع القرار.... انها مأساة حقيقيه تكشف عمق الصراع القائم بين خطّين متوازيين لايلتقيان أبدا خطّ النضال والثوار وخطّ الانتهازيين والوصوليين... ولعلّ أهمّ تجليات المهزله هو تنصيب بعض القيادات الذين ساندوا نظام الاحتلال كما فعل الثورجيون الجدد مع رموز الظلم والإستبداد في تاريخنا الوطني... فنجدهم يمتدحون من كانوا بالامس مع نظام الاحتلال ويعددون مناقبهم وفتوحاتهم في وقت يحرم فيه شهداء الثوره الجنوبيه من مجرّد التذكير بهم أو المطالبه بحقوقهم... أنظروا من تصدّر موقع القرار بداية الثوره الجنوبيه وبعد الحرب الاخيره وستعلمون أن الثوره سرقت حينما اصبح بعض المنتمين للاحزاب اليمنيه أوصياء على الثوره... والأكثر من هذا وذاك وأخطر من هذا وذاك لم تصل الثوره الى مواقع القرار الرئيسيه في الإدارات الحيويه إذ بقي بعض مدعين التفويض على حالهم يصطادون الولاءات ويتصيدون صراع القوى على الساحه ليحددوا مواقعهم مع الطرف الفائز وبذلك تحقّقت استمرارية النظام السابق عبر حلقات الإدارات المركزيه والجهويه التي لم يطرأ عليها اي تغيير جذري يذكر حتى الان... اننا نرى نفس السيناريوا السابق يتكرر اليوم على إستبعاد الثوّار الحقيقيون ليحلّ الإنتهازيون محلهم ويملؤوا الفراغات التي خلفها الثوار ...
فحينما قرر الثوار الخروج للشوارع من أجل كرامتهم وحريتهم المسلوبة من نظام الاحتلال أصدرت بعض الاحزاب بيانا تعلن فيه عدم مشاركتها في المظاهرات وبعد نجاح الثوره ووصولها الى مرحلة متقدّمه ترجّح سقوط نظام الاحتلال خرجة هذه الاحزاب الذين رفضوا المشاركه بالمظاهرات في الأمس القريب ليتصدروا صفوف الراكبين على الثوره... أما صنّاع الثوره الحقيقيين فقد تمّ إستبعادهم تماما من المشهد وهكذا تبرز ملامح الصوره النموذجية للركوب على الثوره وهي الصوره التي تتكررت في بعض الثورات بأشكال مختلفه ووجوه مختلفه ولكن تحت سقف حقيقه واحده مفادها إن الإنتهازيون هم دائما المستفيدون... فبعد هذا كله... ألايحقّ لنا أن نقول إن الإنتهازيين قد سرقوا ثورتنا؟؟ ألايحقّ للشهداء أن يعيدوا كتابة وصاياهم بدمائهم الطاهره محذّرين الأجيال الثائره في المستقبل القريب والبعيد من أمثال أولائك الإنتهازيين؟؟ أليس من الضروري والحاله تلك أن نكرر ونعيد قول شهيد الثوره الفرنسيه دانتون الذي صرخ بأعلى صوته وهو يساق الى مقصلة الإعدام : لا تنسوا أن ترفعوا رأسي ليتفرّج عليه الناس إنه مشهد يستحقّ الفرجة حقّا...