معركة السلاح والحرب والقتال قد تحسم في وقت قصير لتبدأ بعدها معركة أخرى أشد وطأةً وأكثر إيلاماً وأوسع انتشاراً هي معركة البناء. معركة البناء تبدأ بالانتصار الحقيقي ببناء الثقة أولاً في قلوب الجماهير المنتظرة لما ستؤول إليه أوضاع ما بعد الحرب والسياسة التي سينتهجها المنتصر ومن المهم في هذه المرحلة طمئنة النفوس التي خرجت من جحيم الحرب وآلامه وغصصه وأحزانه بأن الماضي بات منسياً قد طويت صفحاته إلى غير رجعة وأن حقبة جديدة من المواطنة والكرامة وصيانة الحقوق والحريات قد بدأت.
تلي مرحلة بناء الثقة مرحلة بناء الدولة والبدء بما خربته الحرب من بنىً تحتية وخدماتية أساسية مرتبطة بحياة المواطن ومعيشته وكل كسب أونصر في الحرب يبقى بلا طعم ولا لون ما لم يتحقق الانتصار في هذه المعركة التي تمس حياة المواطنين إذ الفشل في هذه المرحلة هزيمة بلا سيف ولا رمح.
الفشل في معركة الخدمات يعني ذلك انتكاسة لأي نصر بالسلاح يحقق في أرض الواقع فحين لا يستطيع المنتصر أن يوفر حياة كريمة يكفل فيها أساسيات العيش من رواتب الموظفين والكهرباء والمياه والغاز والمشتقات النفطية فحينئذ لا قيمة لنصره ما دامت الوجوه شاحبة والبطون جائعة والقلوب تائهة.
وهذه المرحلة الحساسة في بناء الدولة ما بعد الحرب ينبغي أن تُطوى فيها ملف الفاسدين وهي تعني قطيعة كاملة وطلاق بائن بالعهد القديم لا ينفع معه استصلاح الفاسد من وجوه ثار الناس عليها ليتم معالجتها عن طريق التدوير والاستصلاح وذر مساحيق التجميل فالذين ينتقلون من مركب الغرق إلى ميناء السلطة كثر فلا ضير عند هؤلاء أن يصرخوا بسب الظلام الذي تسببوا فيه من أجل مصالحهم الشخصية فكل موجةً يستمر اقتياتهم يصطادون فيها ويركبون له المركب الجديد!!.
الوجوه المستدورة من بقايا الفساد إذا رآها المواطن تتحدث باسم العهد الجديد عادت ذكرياته للماضي فازداد حسرةً وألما مع آلامه ولسانه حاله: "كأنك يا بو زيد ما غزيت".
في بداية معركة البناء ينبغي الحزم والشدة بحيث تكون عنوانا لمرحلة ما بعد الحرب إذ هي أخطر مرحلة في بناء الدولة إذ هي أشبه بجنين ولد بعد مخاض عسير إن لم يوله أهله عنايةً فائقةً تخطفته الأمراض والأسقام والتساهل مع المفسدين والمهددين أمن المجتمع أو التعاطي معهم ومسايرتهم يقوض أركان الدولة الحديثة ويظهرها مهزوزة ضعيفة ويجرء غيرهم فيزداد الخرق على الراقع.
ينبغي لسلطة ما بعد الحرب أن تنتصر في معركة البناء وتحشد لها كل جهدها وتوليها عنايتها فكل نصر سقيم إن لم يحقق الانتصار في البناء والتنمية وتوفير الخدمات وتحقيق الأمن ومحاربة الفساد وكفالة حياة كريمة للمواطن يحقق فيها كرامته وحريته.