عشت هادئا طوال حياتك , هادئا في كلامك وهادئا في عملك وحتى هادئا في مرضك لكن موتك كان صاخبا وهادرا ومزلزلا أوشك أن يسمع به الموتى في قبورهم أحزاننا كثيرة ومتجددة لكن الحزن لموتك كان طاغيا أصبح الموت ملازما لنا في كل ساعات أيامنا لا يكاد يفرقنا, فما أن نكمل التعازي بميت حتى نبدأها بميت آخر وما أن نمسح دموعنا لفراق شهيد حتى نذرفها لموت فقيد حتى جفت دموعنا أو أوشكت . في هذا الركن القصي من العالم أصبح الموت هو القاعدة والحياة هي الاستثناء لدرجة لم نعد نسأل من مات كيف مات بل أصبحنا نسأل من مازال حيا كيف بقي نموت بكل شيء , بالحروب والجوع والأوبئة وبالحر والبرد وبالقحط والشدة ونموت بالمطر ونموت بالجفاف ونموت بالكهرباء ونموت من إنطفائها , لا يوجد شيء لا نموت منه حتى لكأن الموت أصبح رئيسنا وحكومتنا وسيادتنا ووطننا وكل تلك المسميات المفقودة التي نبحث عنها منذ عقدين ونيف رغم كل هذا التآلف بيننا وبين الموت إلا أن موتك مستغربا وفاجعا وإستثنائيا حتى أن الدموع عادت لتسح مجددا من مآقينا في هذا الوطن المجازي الذي تتقاسمه السباع تحول الإنسان إلى سلعة وتحولت القيم والمثل والمبادئ بل وحتى الأديان والمعتقدات ناهيك عن الطب وبقية المهن إلى تجارة ووسائل للربح , وحين أصبح الطبيب تاجرا وغدا ملاك الرحمة شيطانا مريدا بقيت أنت إنسانا ومارست الإنسانية في أرقى صورها ومعانيها حتى لكأن مرضاك -ومن فرط إنسانيتك وطيبتك في معاملتهم ورحمتك وتواضعك لهم حين تجس بسماعتك نبضات قلوبهم لتحدد بكل رقة وحنو وعطف مكامن آلامهم وتصف لهم علاجهم مشفوعا بإبتسامتك العذبة - لكأنهم يبدأون بالتعافي بمجرد أن يخطون مغادرين عتبة بابك وهم غير مصدقين أنه مازال في الدنيا من هو مثلك ملاك رحيم بعد أن ظنوا لعقود أن الطبيب في بلاد التماسيح هذه أقرب ما يكون جلادا أو قرصانا أو قاطع سبيل أو تاجر جشع أو على الأقل شيطانا رجيم كانوا يفاجئون من تعاملك معهم وأنك مازلت ملاكا للرحمه وأنك تبحث عن أوجاعهم في أجسامهم ولست تبحث عن نقودهم في جيوبهم لذا وحين كانوا يعودون إلى مرابعهم كانوا يقصون بتعجب لعوادهم عنك وكيف أنه مازال يوجد طبيب إنسان تعلم الإنسانية قبل أن يتعلم الطب ولهذا كان أكثر مريديك من الطبقات المسحوقة من الغلابى والمساكين والفقراء والمستضعفين ممن يعيشون على هامش الحياة لا في متنها , وممن يقتاتون الكفاف فيها وليسوا من مترفيها وكنت تغنيهم بطيبتك وتشعرهم بالعزة بتواضعك وتشبعهم بإبتسامتك وتقويهم بلينك ورفقك ويخرجون من عندك وقد ملأت قلوبهم بالأمل وكانت مملؤة باليأس والإحباط والحسرة وهم داخلون إليك نم قرير العين فمثلك لا يموتون في قلوب الناس وذاكرة الأجيال وأسفار التاريخ حتى وأن دفنوا في التراب وتحولوا إلى تراب