المتأمل في الأحداث اليمنية في الشمال والجنوب , يمكنه أن يرى لوحة جميلة للثورة , وشعب مخذول , الثورة التي لا تستطيع تغيير المجتمعات وتشكيل بنيتها الثقافية والسياسية , لا معنى لها , هي مجرد شعارات ترافقها أحداث دموية , تعيد تموضع قوى العنف والقوى التقليدية بأشكالها المختلفة , لتبدأ مرحلة صراع تلك القوى على السلطة والثروة , وادخلت البلد في صراعات دموية وحروب عبثية , الكل فيها مهزوم , الوطن والثورة والارض والانسان . الثورة هي فعل ثوري مؤثر في نضوج البنية الاجتماعية للشعوب , نضج الوعي لتدرك مصالحها واختيار نخبها السياسية والثقافية , الشعوب التي تختار نخبها السياسية من ذوي الجهل والتخلف والعصبية والاصولية وتراهن على العنف في عملية التغيير , شعوب لم تستوعب الفعل الثوري بعد , ولم تدرك مصالحها الحقيقية , ولم تجد نخب ثقافية بمستوى المسئولية التاريخية ,ولازالت تحت سيطرة تلك القوى الذي ثارت عليها , لازالت مستعبدة لأفكار التخلف والعصبية والأصولية , مستعبدة لقوى العنف , لم يؤثر فيها الفعل الثوري لا وعيا ولا ثقافة . ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر تفجرتا في بيئة كانت خاملة لعقود , خمول سياسي وثقافي , ما عداء مناطق محدودة كعدن بحكم انفتاحها على العالم وتأثيرها على صنعاء وتعز , ركود كدس قوى تقليدية تحكمت بمقدرات الشعب وثرواته , في الشمال الإمام والعكفي وفي الجنوب السلاطين والمشايخ والأمراء واتباعهم , واقيم الظلم والقهر والفساد والسياسي والاجتماعي والثقافي . ومن عدن ثم صنعاء وتعز وبعض المناطق المنفتحة على العالم كانت اليقظة الشعبية بالتحرر من تلك القوى , وكان لابد من الخلاص من الاستعمار الداعم الرئيسي لسلطة تلك القوى , التي كانت على توافق مع الاستعمار واتفاق حماية , وكيان الجنوب العربي هو وليد تلك التحالفات , التي تهدف لإطالة عمر الاستعمار في الجنوب والإمامة في الشمال , وكانت ثورتي 26 سبتمبر ضرورة ملحة للتخلص من الإمامة في الشمال لتوحيد الجبهة الوطنية ضد الاستعمار في الجنوب , وهب شرفاء الجنوب لمناصرة ثورة سبتمبر , وفك حصار السبعين على صنعاء , ومن ثم كانت صنعاء وتعز وقعطبة وكل حد من حدود الشمال جبهة خلفية للثور ضد الاستعمار البريطاني , حتى تم طرد اخر جندي بريطاني من عدن في 30 نوفمبر 1967م , وأقيمت الجمهورية في الشمال والجنوب , يبقى السؤال هل تغيرت البنية الاجتماعية والثقافية , لتكن رافد قوي ودعم اساسي للجمهوريات الوليدة ؟ وهل كانت النخب السياسية على رأس تلك السلطة في مستوى الحدث والتغيير والجمهورية والحرية والعدالة ؟ ام العكس . لا نستطيع ان ننسى تدخل القوى التقليدية الاقليمية في اعادة رسم المشهد بما يبدد مخاوفها من الثورة , الاهمية انه وجد قبولا وحصل على ادوات عمل له , لان المجتمع لازال غير محصن وعي وثقافة ومبدأ , مكن من تلك القوى لفرض تسوية لرسم المشهد لإشراك قواعد الإمامة في السلطة , وبدأت مرحلة من مخاض صراع خفي بين الثورة والثورة المضادة , فلا يختلف المشهد في الجنوب , لم تستطيع النخب السياسية تقبل التنوع السياسي والفكري والثقافي القائم , ومن اول يوم بدأت تفكيك بنية المجتمع لخدمة العنف والمنتصر بالبندقية . بهذه الحقيقة هَفَتَ وهج الثورتين سبتمبر وأكتوبر , وتحويلها لمجرد لوحات حائطية جميلة المنظر والمعنى ,نرفعها في كل عام ونتغنى بها بالأناشيد , والمهرجانات الجماهيرية , والواقع لا علاقة له بالثورة واهدافها واقع يعيش مخاض صراع عن السلطة والثروة , بين قوى الثورة والثورة المضادة , من الاسبوع الاول للثورتين تم تصفية قوى الثورة , في الشمال تم مطاردة الضباط الاحرار وتصفية ما استطاعوا تصفيتهم , وفي الجنوب الحرب الاهلية في عدن بعد خروج الاستعمار مباشرة , تم تصفية افضل المناضلين , وطرد جبهة التحرير واي مختلف لا يقبل التبعية لفكر المنتصر عسكريا , وحكمت الجبهة القومية وهي مخترقة من تلك القوى وتفجرت صراعات دموية خلفت تراكمات وثارات , إلى اليوم تستغلها تلك القوى للتحريض والتحشيد لمزيد من المعارك الدموية , والنهاية عاد الشمال لحكم احفاد الامامة , ويسير الجنوب وتسليمه لأحفاد السلاطين والمشايخ , وعادة القوى التقليدية المتخلفة تتحكم بالمشهد , بمزيج من رجال دين ومشايخ قبيلة بعصبية واصولية , تفرز كراهية و عنصرية بغيضة , لم يعد الناس تقبل بعض , وعاد الفرز المناطقي والطائفي بقوة وصار الحديث عن الحرية والمساواة والعدالة والمواطنة الوان جميلة تزخرف تلك اللوحة الثورية المعلقة على الحائط . هذه مأساة شعب عريق , بعراقة التاريخ واصالة الامة وجذورها وارثها وريادتها في المنطقة , اليوم منهكة ومفككة , وبعض من قواها المثقفة والأكاديمية ونخب اليسار والليبرالية , ابتلعت الطعم بسذاجة , بعضهم يناصر عنف قوى دينية تدعي بالحق الإلهي , ويعتبرها قوى ثورية , والبعض الاخر يناصر قوى عنف خليط من الاصولية والعصبية , وارتمى بحضن الرجعية العربية , بمبررات واهية , وجميعهم يقتاتون من فتات ما يتركه لهم اسيادهم مما ينهب من وطن وما يسطو عليه من الارض , صاروا مجرد موظفين بالمال او بالخديعة , يبررون الانتهاكات والحروب العبثية والسجون السرية والقتل وتعذيب الناس في الخدمات ورواتبهم ومعيشتهم واهانة لكرامة الامة , والواقع شاهد على كل ذلك والله المستعان .