عندما زار فلاديمير لينين، مؤسس الاتحاد السوفياتي، مدينة لندن في أوائل القرن الماضي وقف على جسر وستمنستر وحدق النظر في المارة على الجسر. وقال: «شعبان!» ما كان يقصده هو أن بريطانيا كانت تتكون من مجموعتين من الشعب، الطبقة الرأسمالية الحاكمة، والطبقة العمالية (البروليتاريا) المحكومة. مر أكثر من قرن على كلماته وخلال هذه المدة تطور المجتمع البريطاني، كباقي المجتمعات الغربية، وتلاشت هذه الفروق إلى الحد الذي يجعل الكثيرين يقولون إن الطبقات قد اختفت وزالت الفوارق الطبقية. والواقع أن من الصعب للإنسان أن يفرق اليوم بين الرأسمالي والعامل عندما ينظر لمن حوله في القطار أو الحافلة. غير أن تباينا جديدا قد حل محل الفارق الطبقي القديم. هذا الفارق الجديد فارق جغرافي. جنوب بريطانيا المتمحور حول العاصمة لندن وضواحيها الجنوبية في ولاية سري وسسكس التي تتركز فيها الثروة والحياة النعيمة، وشمال بريطانيا حول منطقة المدلاند وتشمل المناطق الصناعية التي أصبحت تعاني من البطالة وضيق العيش. عندما تمشي في شوارع لندن، تجد مطاعمها وباراتها ومقاهيها تغص بالزبائن وكثيرا ما تفيض بهم إلى الرصيف المجاور. تتساءل أين هي إذن الأزمة والبطالة التي يحكون عنها؟
تجدها في الشمال تتجول في شوارع مدينة برادفورد أو شفيلد أو نيوكاسل وغيرها، فتلمسها في الدكاكين المغلقة والورشات العاطلة والمواطنين الساهمين يجلسون على المصطبات العامة ودكات الأبنية الفارغة.
عالمان مختلفان. لا عجب أن نرى الخير دافقا في لندن، فقد كانت عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها. زالت الإمبراطورية ولكنها ظلت مركزا أساسيا في العالم لدنيا المال والأعمال. يحن إليها ويهرع لأحضانها الملأ من سائر جهات العالم، ولا سيما العالم العربي. وفي السنوات الأخيرة أصبحت ملاذا لدهاقنة المال، الحلال منه والحرام، من روسيا وأوروبا الشرقية ومنطقة الخليج العربي. وجدوا فيها خير مكان لحمل ملايينهم واستثمارها. سرعان ما اكتشفوا أن شراء العقارات فيها وسيلة آمنة ومضمونة للاستثمار. ومن جانبها بذلت السلطات، ولا سيما بلدية لندن في عهد رئيسها المحافظ بوريس جونسن، كل ما وسعها لتسهيل نقل الأموال منها وإليها وحمايتها، فراحت تضارع دبي في هذا المسعى. ومن جانبهم شرع المستثمرون بالمضاربة فيما بينهم على الأسعار حتى تجاوزت حدود المعقول. البيت الذي لا يزيد ثمنه في الشمال على ربع المليون، انقله إلى ضواحي لندن ليرتفع ثمنه إلى المليونين أو الثلاثة ملايين.
تقول الأرقام إن 38 في المائة من مبيعات العقارات في العام الماضي كانت لمشترين أجانب. كواحد من الساكنين في منطقة ويمبلدون من لندن قلما يمر يوم دون أن أتسلم في البريد عروضا من روس أو صينيين أو كوريين يتوسلون بي أن أبيعهم داري. وسرت هذه الحمى في كل المناطق. يملك الآن المواطنون الأجانب 65 في المائة من الدور التي يربو ثمنها على الخمسة ملايين باوند. والمؤمل أن ترتفع هذه النسبة إلى 85 في المائة بعد إنجاز بناء العقارات الوفيرة الجاري بناؤها الآن.
الظريف في الأمر، أنك في الشمال تجد أحياء فارغة من السكان لأن أصحابها من العمال العاطلين لم يستطيعوا البقاء فيها. وفي لندن الكبرى تجد مثل ذلك في الأحياء الراقية لأن أصحابها من أصحاب المليارات يعيشون في الريفييرا أو جزر البهاما ولا يستعملونها إلا لقضاء إجازاتهم في لندن أو للتسوق من مخازنها الأرستقراطية. *من خالد القشطيتي