لا تبدو الأجواء المعتادة في استقبال شهر رمضان الفضيل حاضرة على الدكتور/ محمد الشميري، الذي يلخص، ل"أخبار اليوم"، واقع الحال، بقوله: "نحن اليوم نبحث عن القوت الأساسي لأطفالنا"، ويصمت.. يأتي رمضان هذا العام وموظفو محافظة تعز، وسط اليمن، يعانون، إضافة إلى الحصار والقتل والدمار، انقطاع مرتباتهم، والتي تمثل العمود الفقري للاستمرار في حياتهم. فالمدرس محمد القرشي، الذي بات يعيش على قروض ومساعدات أقاربه منذ انقطاع مرتبه، لم يعد أمامه حل لأسرته في مواجهة متطلبات شهر رمضان سوى الالتجاء لمنزل والده، وزوجته لمنزل أسرتها.. بتنهيدة يأس يقول: " هاهو شهر رمضان، وحتى لا نموت من الجوع سوف نفترق وأسرتي، أنا سوف أذهب إلى بيت أبي وزوجتي إلى بيت أبوها". "ثمانية أشهر والأصوات تتعالى في شارع جمال بتعز، وسط اليمن.. لكن لا جديد سوى المزيد من الأوجاع"، هكذا يصف الأستاذ/ عدنان الأثوري حالة البؤس الساكنة ملامح وجهه.. فمنذ أغسطس/آب 2016، وعدنان، كغيره من موظفي تعز، يعيش وضعاً صعباً بعد انقطاع مرتبه، الأمر الذي فاقم من معاناتهم، وجعل أعباءهم تزيد بشكل كبير، وصار همهم الأكبر هو لقمة العيش. ويعيش سكان مدينة تعز ظروفاً مأساوية بعد أكثر من عامين من الحرب، في حين فاقم تأخر المرتبات من معاناة الناس هناك، لتستمر معاناة الموظفين أكثر في هكذا ظروف صعبة يعيشونها، في ظل الحرب وانقطاع المرتبات، دون أن يلتفت لهم أحد. تشرد مؤجل "تعز المدنية الحالمة بوضعها الاستثنائي كل شي فيها يجعل منها مدينة للموت".. هكذا يقول محمد أحمد غانم، أثناء حديثه ل"أخبار اليوم"، بينما يفترش رصيف مدينة التربية.. بوجه عابس يقف غانم، ممسكا بإحدى يديه كيس لوحات بيضاء كمطالبه المرسومة بتراكمات الوجع، وفي اليد الأخرى ورقة مناشدة صغيرة أفقية لا تتسع لوصف مدى سوء حالته فقط مكتوب عليها "تعز ترفض التميز في صرف المرتبات". محمد أب لبنت مهددة بالحرمان من مواصلة تعليمها لعدم قدرة الأب على دفع تكاليف دراستها في إحدى المدارس الخاصة. وكانت منظمة اليونيسف، قالت أن استمرار الصراع وعدم قدرة السلطات على دفع أجور المعلمين والتربويين في مختلف محافظاتاليمن يهدد بحرمان مزيد من الأطفال من التعليم، علاوة على وجود قرابة مليوني طفل في سن التعليم خارج المدارس معظمهم كانوا خارج التعليم قبل هذا الصراع الجاري. يقول محمد: "منذ ثمانية أشهر ونحن في انتظار صرف مرتباتنا، لكن للأسف لا يمكن أن نقتات من وعود الصرف، رغم كثرتها، ولم نعد نملك غير الصبر الإجباري الذي نحافظ به على قليل التفاؤل المصطنع في البيت والمدرسة بانتظار صرف حقوقنا". يضيف: "ضاق بنا الحال وانقطعت بنا سبل العيش، خرجنا إلى الشارع هروبا من مالك البيت الذي يطالب بالإيجار وصاحب البقالة وبائع الخضروات بالحارة إلى هذا الرصيف مطالبين بحقوقنا".. يصمت، محاولا ترتيب الكلمات لعل شكوته تكون واضحة هذا المرة، يعود صوته الشاحب بتنهيدة يأس: " هاهو شهر رمضان، وحتى لا نموت من الجوع سوف نفترق وأسرتي، أنا سوف أذهب إلى بيت أبي وزوجتي إلى بيت أبوها". يعيش التربوي محمد القرشي على قروض ومساعدات من أقاربه، منذ انقطاع مرتبه، ويتساءل"إلى متى سوف يستمرون في مساعدته..؟ في ظل هذا الصراع الدائر الذي يقذف بشريحة كبيرة من أبناء المحافظة إلى رصيف الجوع والتسول. محمد موظف من بين عشرات الآلاف من موظفي محافظة تعز، وسط اليمن، الذين انقطعت مرتباتهم، بسبب الصراع الذي تشهده تعز، فهل يدرك القائمون على هذا الصراع حجم معاناة هؤلاء والعودة إلى طاولة الحوار وتحكيم العقل؟!. تتشابه قصص كل موظفي الدولة بمدينة تعز، الذين يجمعهم الوجع ذاته، ولكن مع اختلاف درجاته، وهو يشتد يوما بعد آخر مع كل يوم يمر عليهم دون أن يكون هناك ريالا واحدا في منزلهم. مسيرات الأمعاء الخاوية لم يقف موظفو تعز عاجزين عن فعل شيء، بعد أن تفاقمت معاناتهم بعد مرور قرابة ثمانية أشهر منذ آخر مرتب حصلوا عليه، ووعود كثيرة لم تطعمهم، وإنما كانت كالمسكنات، جعلت الموظفين يتعلقون بحبل الأمل شهرا بعد آخر. وفي ردة فعل استنكارية على تأخر صرف مرتباتهم لجأ موظفو محافظة تعز إلى تدشين فعاليات احتجاجية مطلع فبراير المنفرط للمطالبة بسرعة الإفراج عن مرتباتهم الموقوفة. وضمن فعاليات "برنامج الأمعاء الخاوية" واصل موظفو مختلف القطاعات في تعز احتجاجاتهم من خلال المسيرات والوقفات، وغيرها من الأنشطة، حتى ترضخ الحكومة الشرعية بصرف مرتباتهم كاملة. ومؤخراً وصل موظفو تعز إلى خيار تصعيد فعالياتهم، ولم يقف التصعيد عند التهديد بالإضراب الشامل في الخامس والعشرين من مارس، إذا لم تتخذ حكومة بن دغر خطوة جادة في تنظيم وصرف مرتباتهم المنقطعة منذ نصف عام. بل وصل الأمر بموظفي تعز إلى تنفيذ مسيرة "البطون الخاوية" التي انطلقت مشياً على الأقدام في الأول من مايو، تزامنا مع اليوم العالمي للعمال، وذلك من شارع جمال بتعز في اتجاه العاصمة المؤقتة للحكومة الشرعية عدن. وتهدف المسيرة الاحتجاجية حسب القائمين عليها إلي مطالبة الحكومة الشرعية بصرف المرتبات المتوقفة منذ 8 أشهر. وكان نشطاء شباب قد دعوا إلى فكرة المسيرة من تعز، وسط جدل كبير من قبل بعض الأحزاب السياسية التي حددت موقفها من المسيرة بالرفض. وتأتي المسيرة بعد عشرات الوعود التي لم تنفذ من قبل الحكومة الشرعية وحكومة الحوثي وصالح بصرف مرتبات الموظفين، باعتبار هذه المسيرة شكل من أشكال الاحتجاجات الحقوقية المرتبطة بنضال العمال والموظفين في الحصول على حقوقهم ومرتباتهم المنقطة منذ 8 أشهر. احتجاجات تقابلها وعود كاذبة العديد من الوقفات الاحتجاجية والمسيرات السلمية التي نظمها موظفو الدولة لمطالبة حكومة الشرعية بصرف مرتباتهم وإغاثة المدينة بطرق سليمة وحضارية طيلة الفترة الماضية دونما قطع شارع أو الاعتداء على أي مؤسسة حكومية. يتحدث فهد العميري، الناطق الرسمي باسم مسيرة البطون الخاوية بقوله: "خرجنا إلى الشارع للمطالبة بحقوقنا التي التزمت بها حكومة الشرعية أمام المجتمع الدولي، أثناء نقلهم البنك المركزي إلى العاصمة المؤقتة عدن، فالراتب حق، وعلى رئيس مجلس الوزراء القيام بمهامه والوفاء بالالتزامات المترتبة على منصبه". ويضيف: " لا نعلم لماذا كل هذا التخاذل تجاه تعز وموظفيها؟!.. عشرات الآلاف من موظفي الدولة منذ ثمانية أشهر لم يستلموا مرتباتهم ولك أن تتخيل حجم الكارثة والمعاناة". ويشير العميري ل"أخبار اليوم" بأن "حكومة الشرعية اكتفت بالوعود فقط وتوجيهات على أوراق، وأن رئيس الحكومة بن دغر يعيش حالة من التناقض، حيث أعلن في جنيف أنه صرف مرتبات الموظفين في مغالطه للرأي العام الدولي على حساب قوت أطفالنا. ويعتبر "أن المبرر الأخير الذي تحدث عنه مدير البنك الأهلي بعدن، والذي ربط فيه سبب تأخر صرف مرتبات موظفي تعز بعدم توريد إيرادات المحافظة ما هي إلا هروب من المسؤولية. متسائلاً: "وما ذنب الموظف إذا كان الخلل ناتج عن أداء السلطة المحلية المعينة من قبل حكومة الشرعية". توجيهات مُسكِنة وكانت حكومة بن دغر أعلنت مطلع شهر مارس عن بدء صرف مرتبات موظفي محافظة تعز، وأولهم التربويون، وذلك عبر شركة الكريمي للصرافة، بحسب ما كشفه السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء أحمد عبيد بن دغر/ غمدان الشريف ل"سبتمبر نت". جاء ذلك بعد يوم واحد من انتفاضة موظفو محافظة تعز لمطالبة الرئيس عبد ربه منصور هادي توجيه حكومته مباشرة وبدون تلكؤ بصرف رواتبهم المقطوعة لستة أشهر متتالية. ورغم التوجيهات الصادرة عن رئيس الوزراء بصرف مرتبات موظفو تعز، إلا أن موظفي المحافظة يعتبرون ذلك مجرد وعود لتسكين الوجع، حد وصفهم. ولم تكن توجيهات ووعود الحكومة الشرعية هي الأولى من نوعها، فقد سبق أن وجه رئيس الوزراء في تاريخ 20/12/2016 بصرف مرتبات 3 أشهر للموظفين المدنيين بمحافظة تعز. ومطلع مايو الجاري وجه رئيس الوزراء- الدكتور/ أحمد عبيد بن دغر بصرف جميع مرتبات موظفي محافظة تعز، وذلك بعد انقضاء أقل من يوم واحد على انطلاق موظفو المحافظة في المسيرة الراجلة "البطون الخاوية" من مدينة تعز باتجاه العاصمة المؤقتة، عدن. إلا أن هذه التوجيهات ظلت حبرا على الورق ولم يستلم الموظفين مرتباتهم، حد تأكيدات موظفين اعتبروا ذلك عملية تحفظ من قبل محافظ البنك المركزي على شيكات مرتبات محافظة تعز التي تأكد استلامه لها. وينتقد ناشطون التباطؤ في تنفيذ تلك التوجيهات، بحجة عدم وجود سيولة تارة وتارة أخرى بمبرر مخاوف انهيار الريال اليمني أمام العملة الصعبة. معاناة وتهجير هجر الكثير من أبناء تعز بسبب الحرب، إلا أن الوضع هنا يختلف مع هذه الشريحة من موظفي تعز، فالمعاناة تكالبت عليهم، بعد انقطاع مرتباتهم التي تعد مصدر قوت آلاف الأسر. يشير الأستاذ جميل العبسي، نائب رئيس اللجنة الإشرافية لمسيرة البطون الخاوية ل"أخبار اليوم" إلى العديد من الحالات التي انتهى المطاف ببعضها إما بطرد الموظف من منزله المستأجر من قبل مالك البيت أو السجن بأسلوب ضغط على الموظف ليقبل بالتهجير. ويضيف: "تواصلنا مع بعض الجهات والأشخاص من أجل إيجاد حلول لمن تراكمت عليهم الإيجارات بسبب انقطاع الراتب، إلا أن الأمر لن يفضي إلى حل وما تزال المشكلة مستمر". ويعد جميل العبسي واحد من ضمن أكثر من ثمانية وعشرين ألف معلم وتربوي بالمحافظة يُمثلون 14 مديرية لم يتسلموا مرتباتهم لشهر ديسمبر 2016م حتى الآن، وفق بيانات نقابة المعلمين بمحافظة تعز، ناهيكم عن الشهور السابقة واللاحقة لهذا الشهر. وهو ما زاد معاناتهم، إلى جانب ما يعانونه من وضع معيشي صعب، في ظل الحرب والحصار المفروضتين على المحافظة مذ أكثر من عامين. مخاطر سياسة التجويع ويحذر اقتصاديون من الانعكاسات السلبية لتأخر صرف المرتبات، سواء على المدى القريب أو البعيد، على المجتمع. والذي من شأنه إيجاد حقول ملغومة من البشر الجائعين الذين يسهل تجنيدهم وتجييشهم من قبل الجماعات المسلحة، لتنفيذ أعمال إرهابية سيكون لها أثرها على البلد، فضلا عن المشاكل الاجتماعية التي قد تلحق بالأسرة كارتفاع نسبة الطلاق، وغيرها من المشاكل الأسرية. ويذهب الصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي/ نبيل الشرعبي، إلى أن عدم تسليم المرتبات للموظفين جعلهم يصرفون كل ما جمعوه من مدخرات مادية وعينية، فضلا عن لجوء بعضهم إلى بيع أثاث السكن والأدوات المنزلية، وصولا إلى نفادها كليا في بعض الحالات. ونجم عن تعثر تسليم المرتب- كما يقول الشرعبي ل"أخبار اليوم"- نجم عنه إتباع أسلوب إجباري في الحد من الإنفاق على الصحة والغذاء والتعليم وتحسين ظروف الحياة، مما أثر سلبا على عملية التحصيل العلمي، وتزايد المشاكل الصحية مع العجز عن مواجهتها، عاظم من ذلك سوء التغذية، وهذا يمتد أثره على المدى البعيد، ومعالجاته مكلفة للغاية. وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على تعويض المدخرات التي فقدت بأنواعها كافة، فما أنفقه موظف خلال بضعة أشهر يحتاج إلى سنوات لاسترداده، بل سيكون استرداده على حساب الإنفاق على تجويد تعليم الأبناء وصحتهم وتغذيتهم، وهو ما يعني أن المشكلة لن يكون من السهل علاجها كليا إلا على مدى بعيد وبتدخل من الدولة، حسب الصحفي الشرعبي. ويشير إلى أن عدم تسليم المرتبات، يتسبب في زيادة المشاكل الأسرية وارتفاع نسبة الطلاق، وهو ما لا يمكن تجاوزه بمجرد عودة المرتب، وسيبقى أثره ولو على مدى متوسط، وهو ما لا يجب إغفاله. ويعتبر الحلول التي يتحدث عنها مختلف الأطراف في قضية تسليم المرتبات، بأنها ليست أكثر من مخدر موضعي لإزالة الألم مؤقتا، ومن ثم عودته أقوى بكثير مما كان عليه وبالذات مع معاودة التعثر مجددا. ويتطرق الصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي/ نبيل الشرعبي، إلى سياسية التجويع التي يبتكرها صناع الحروب وتجارها؛ لإيجاد حقول ملغومة من البشر بالجوع والفاقة يسهل معها تجنيد وتجييش هؤلاء البشر. ويقول:" إن مسألة إعلان الطرف المسئول عن عجزه عن الوفاء بمرتبات موظفي الدولة ثم التوقف عن دفعه، ليس مجرد عمل عبثي بل تكتيكي يلجأ إليه سماسرة الحروب للقضاء على أي توجه رافض أو مناهض لهم". ظروف مأساوية ويعيش سكان مدينة تعز، وسط اليمن، ظروفاً مأساوية بعد عامين من الحرب، بسبب الحصار المفروض من قبل المتمردين الحوثيين الذين يسيطرون على المنفذين الشرقي والغربي للمدينة، ما أدى إلى نقص شديد في المواد الغذائية والطبية. وفاقم تأخر الرواتب من معاناة الناس، إذ تواجه المالية العامة عجزاً في تغطية مرتبات موظفي الدولة المقدر عددهم بنحو 1.25 مليون موظف، فيما تقدر المتطلبات الشهرية للمرتبات وفوائد الدين المحلي بنحو 115 مليار ريال (460 مليون دولار)، بينما تغطي الإيرادات العامة الشهرية نحو 30% فقط من تلك المتطلبات. تستمر معاناة الموظفين في محافظة تعز، في هذه الظروف الصعبة التي يعيشونها، دون أن يلتفت لهم أحد.. فواقع حال الدكتور/ الشميري، والمدرس القرشي، والتربوي الأثوري، كغيرهم من موظفي المدينة، الذين يستقبلون شهر رمضان هذا العام، وسط معاناة انقطاع المرتبات والحصار والقتل والدمار. ورغم لجوء البعض منهم إلى العمل على باصات/ حافلات نقل أجرة أو كباعة متجولين، أو في المطاعم، وغيرها من الأعمال، إلا أن ذلك لم يفِ بالغرض، وبالكاد يسكت أمعاء أطفالهم الخاوية.