تنطلق بي السيارة بسرعة 80كم في الساعه. أزحت زجاج النافذه قليلآ إلى الأسفل لأستلذ بنسمة هواء بارده تنعش الروح. تأمل حقول الذرة المترامية الأطراف يبعث في النفس الكثير الكثير من البهجة والإنشراح.. أطلقت لنظري العنان ليسرح بين الجنائن الآسره إلى آخر نقطة يمكنه بلوغها. تتمايل الزروع كجيش عذراوات في حفلة راقصه. خيوط أشعة شمس الأصيل الذهبيه تتسلل من ثغرة وسط السحب الكثيفه لتنعكس على سطح بحيرات صغيره تشكلت للتو إثر مطر خريفي غزير.. تتوغل بنا السيارة إلى أعماق البساط الأخضر ، فتزداد النسمة برودآ ورطوبة ، تتمازج المشاعر ، تتوارد الخواطر ، ويزداد الخيال اتساعآ.. قلت لعلها لحظة سعادة نادرة سألتقطها في هذا الوقت وأعيشها بنشوة عاشق يستريح بحضن حبيبته بعد غياب ، وبفرحة طفل أهديت له لعبة طالما تمنى تملكها. كيف لا وحولي مهرجان طيبعة زاخرة يبعث على السعاده والحب والهدوء. ثم كانت المفارقه.... هدأت سرعة السيارة تدريجيآ حتى كادت تتوقف ، سحبت عيني بالكاد من وسط لوحة بديعة الحسن والجمال ، وألقيت بهما الى الأمام ، لتقع على منظر مفزع..! إمرأة تقف على مشارف البؤس والحرمان ، اتخذت من "المطب" الذي له نفس لونها الأسود مصدرآ للرزق ، تمسك طفلها العاري بيد وتمد أخرى للعابرين مصحوبة بكلمات الترجي والإستعطاف وحولها فتاتين هزيلتين تتراوح أعمارهن ما بين السابعة والثامنه وعلى بعد أمتار منها رجل أسود ذو ثياب رثه وهيئة مزريه يبدو في الأربعين من العمر أو هكذا خيل إلي.. يفترش الأرض ويلتحف السماء قبالة كوخ من أخشاب وأكياس لا يكاد يتسع لثلاثه اشخاص.. غادرناهم بعد أن امتدت إليهم أيد كريمة بنقود معدنية لا تساوي شيئآ أمام ذلك الشقاء القاتل.. لكنها رسمت بسمة خاطفة وأطلقت دعوة عابره.! حاولت العودة إلى رياضتي الروحية التأمليه التي قطعت دون إرادتي.. استدعيت كل أدوات المسح والإخفاء والنسيان..لكن الذاكرة قاومتني بشراسه و أبت حذف ذلك المشهد المؤلم لتلك الأسرة المسحوقه..! داهمتني حسرة خانقه وانا أفكر في حالهم.. وكيف لذلك الطفل البريء أن يحتمل حرارة صيف قائظ أو برد شتاء قارص أو عاصفة مطر عاتيه.؟؟ يالها من مفارقة غريبة حين تعرض فصول من شقاء وبؤس الإنسان على مسرح طبيعة تنطق بالجمال.. تمايلت بنا السيارة وهدأت سرعتها مرة أخرى رفعت رأسي ، ارسلت بصري ، فارتطم بجبال سوداء كالحة وارتد إلي حسيرآ..!!