إذاعة الصباح، النشيد الوطني، نداءات معلمة من آخر الرواق تحفزنا لنحث الخطى نحو الفصول، جرس الحصة الأولى، وضحكاتنا الهستيرية على سلالم المدرسة،، تنافسنا في الحصص على المشاركة في مادة ما والهروب أحياناً أخرى من الإجابة على بعض الأسئلة في مواد أخرى، هرولتنا نحو "الكافتيريا" حين يدق جرس الحصة الثالثة ليخبرنا أن وقت "الفسحة" قد بدأ، تلك الدائرة التي كنا نكونها في باحة المدرسة نتبادل فيها الضحكات وحكايات لا تنتهي، وكأننا لم نكن مع بعضنا في الأمس، عودتنا للصفوف مرة أخرى وتفاعلنا في بعض الحصص والنوم في بعضها الآخر أو تبادل تلك القصاصات السرية -الممتلئة بهذيان الكلمات وثرثراتنا المضحكة- التي كانت ترتعد فرائصنا حين تقع إحداها في أيدي معلماتنا. قائمة طويلة من الذكريات، تلك التي احتوتها باحة مدارسنا وفصولها، كل زاوية بين تلك الزوايا تخبرنا حكاية ومشهد لا يمكن للذاكرة أن تمحوه، وخصيصاً في يوم كهذا (يوم المعلم) الذي يمر بنا في كل عام من شهر مايو تتقاذف بي الذكريات لأسترجع تلك القائمة الطويلة من معلماتي التي لا يمكن أن تتجاهلهن ذاكرتي أو تنساهن، تسترجع صورهن، وأسمائهن، نصائحهن، دروسهن ابتداء من القرآن الكريم وعلومه ومروراً بالمواد العلمية والأدبية وانتهاء بحصص الطبخ والرياضة واللغة، حتى صيحاتهن الغاضبة ما زلتُ أتذكرها، وكلماتهن الصادقة مازال بعضها يتردد في مخيلتي، تعود ذاكرتي لتلك التعليقات الساخرة علينا، والكلمات المحفزة لنا، والمقالب المتهورة والمغامرات العجيبة، لكل شيء منهن ولهن. كثيراً ما تجاهلت الكتابة عن المدرسة -منذ ذلك اليوم الذي تخرجت فيه منها- ودخلت عالم الجامعة، ليس فرحاً بذلك التخرج وإنما هو شدة الاشتياق للذكرى يلجمنا كثيراً عن التعبير عنها، في كل مرة أسير فيها في ساحة الحرم الجامعي بخطى متقاربة متزنة وأتحدث فيها بصوت منخفض أو مصارحة خافتة مع زميلاتي عن خوفنا من مادة ما، وأتذكر جنوني أنا وصديقاتي في باحة مدرستنا، أتذكر أصواتنا العالية التي كانت تنطلق بحرية مطلقة كون المكان الذي نحن فيه خاص بنا بلا منازع، أتذكر تلك المعلمات اللواتي كن لنا بمثابة الأمهات والأخوات، كلما أشغلنا موضوع ما هرعنا إليهن فوجدنا الصدور الرحبة والآذان المصغية، أشتاق لإذاعتنا المدرسية ومسرحياتنا وكلماتنا البسيطة فيها، لفعاليتنا الشهرية أو السنوية، لتلك الوجبات الجماعية التي كنا نجتمع حولها معلمات وطالبات نتقاسم فيها اللقمة وتأخذنا الأحاديث وتتعالى أصوات الضحكات من القلب، أشتاق لتلك الأسماء المضحكة التي كنا نلقب بها بعضنا البعض وغيرنا. أشتاق للحظات المراجعة قبل الاختبارات، لتلك الجداول التي كنا نعدها للمذاكرة ولا نطبقها، لفرحة استلام النتيجة وكل واحدةً منا حصلت على معدل نتنافس لنعلم من هي الأعلى، أشتاق لكل شيء عفوي بريء جميل صادق كصدق تلك الأيام، لباحة في قلبي امتلأت اشتياقاً لتلك الأيام، وفي كل لحظة أتمنى لو أنها أو يا ليتها تعود.. لأخبر معلماتي كم أحبهن، وكم بحقهن قصرت، لأعتذر عن كل لحظة طيش أو استهتار، لأخبر صديقاتي كم أيامي خاوية منهن، لأعوض كل لحظة أهدرتها صامتة أو هادئة، وأغرس في كل بقعة ذكرى أكبر وأجمل وأعمق. ليتها تعود تلك الأيام حيث همومنا الكبرى كانت نتيجة اختبار ومصروف يومي ولبس مهندم ودفاتر مكتملة وواجبات تم إنجازها بإتقان، ليتها تعود تلك الأيام في تلك الزوايا (المدرسة) التي كنت أجد ذاتي كثيراً فيها، أمام الطالبات ومعلماتي، أمام "مايك" الإذاعة، وفي لوحة الحائط، والمجلة الشهرية، ومسابقات الفصول، وكم أفتقد انسجامنا أنا وصديقاتي ونحن نلبس ذات الزي المدرسي ولا نشعر بفرق بيننا، ليتها تعود لأخبر معلماتي أن تلك الحياة التي كن يخبرننا عنها أكبر من وصفهن وأكبر من تخيلنا، وأن عالماً جميلاً كان يحتوينا معهن بكل مصاعبه كان أجمل، ولكن سأخبرهن في هذا اليوم أن يكن بخير فقد أخرجن جيلاً سيحفظ كلماتهن وعمق نصحهن وسيكون أفضل مما توقعن، لأخبر كل معلمة ومعلم أن يبقى على قيد الإخلاص لمهنته، لأن لا يكتفي بما في كتب المدرسة، فالحياة تحتاج جيلاً أكبر من مجرد قادر على القراءة والكتابة والحفظ،، جيل واعي قادر على البناء. وكل عام ومعلمينا على قدر الأمانة التي حملت لهم.