استوقفني كثيراً المشهد التعليمي في بلادنا، وقبل أن أكتب تذكرت أن من الواجب أن أشير إلى مكامن المواجع في مؤسساتنا التعليمية “التعليم العالي-والتربية والتعليم” وما تعانيه تلك المؤسسات من ضعف أداء رسالتها المجتمعية، حين تغرق بك الدنيا في بحر الوجع والغصة وأنت تلاحظ ذاك الواقع المبكي، تذرف دموعك كأنها رسالة تبعثها عيناك إلى ما تبقى من العقول في بلادنا، ممن يهمهم شأن الأجيال القادمة، إن ما ورثناه من احترام العلم- والمعلم في ماضينا، لم يعد اليوم كما كان، إذ يغلب على هذا الجيل الذي نعيش اليوم لحظته، مزاج العبث، الذي سقط معه كل جميل كنا في سبيله نستوحي رسالة عظيمة يهديها العلم ومخرجاته لواقع حياتنا، واليوم لم يعد الوضع كما كان، وفي تراجيديا انحدارية سحيقة، لم تمت معه الأحلام وحسب، بل باتت الدموع ذاتها تعيش الوضع.. وكلما لاح فجر الصباح، تتبدد الأحلام هكذا وكأنها عشق من سراب يغادر من بين أصابعك، تستوقفك اللحظة، العابرة عند حافة الفجر، تسألك عن ذات الوجع الجاثم على الصدور، تسترجع ذاكرة الحنين وتتساءل هي الأخرى، ما الذي يحصل لجيلنا؟؟، ليغدو على هكذا حال من تهاوي القيم والآمال، تتفجر عيناك من البكاء، حين تسأل الطلاب في الدراسات الأولية والثانوية، وأنت تواجههم عند شرفة الفجر، وهم يسابقون الوقت للتهافت على محلات الإنترنت، لماذا تركتم المدرسة؟؟.. يجيبون سؤالك بعلو صوت يحمل أعذاراً متباينة: المدير لا ينفع، مدرسنا اليوم غائب، ما الفائدة من الدراسة؟؟، ماذا استفاد فلان أخذ شهادة وذهب يبيع ماء “حده” في الجولات؟؟، ويواجهك آخر بقوله الفصول مزدحمة!!،، وحين تفتش عن تلك الذرائع والأعذار تلامس تسيب هذا الجيل، وعدم اكتراثه في ترتيبات أوراق مستقبله، وحين أقارن بين زمنين، جيلنا حين كنا ندرس، وهذا الجيل، الذي أضحى مهزوماً ومأزوماً في كيانه وتصرفاته، والذي لا يدرك ولا يعي وضعية حاله وما هو مطلوب منه في حياته إزاء مجتمعه وأسرته، وأهدافه المستقبلية... تشدك الساعات والأيام للمقارنة، لتبحث عن بصيص تشابه بين الحاضر والماضي، تكتشف أن لا يشدك من مفردات جيل معظمه يكره العلم، أن لا شيء يطربك لتغني له، قدر توديعك للدموع، وخوفنا من استمرارية ضياع الحاضر والمستقبل، وعندما تسأل المدرس عن الوضع التعليمي؟؟، تجهش عيناه بالبكاء، ويحمل إليك أوجاعه هو الآخر، ويحمل الفشل في مجمله، إدارة المدرسة، وبما تقترفه من أخطاء إدارية، تتمثل في انفرادها في تسيير العمل الإداري والعلمي، بعيداً عن إشراك أولياء الأمور ومجالس الآباء، والمدرسين كأساس في العملية التعليمية، ومع الأسف تراهم كل يغني في واد، وحين توجه سؤالك لمدير المدرسة، أنت متهم بالتسيب وسوء الإدارة في مدرستك؟؟، يتصنع عوائق لا تعد ولا تحصى، بعضها تقنعك، وعلى الأخص حين يشكو من الميزانية التشغيلية للمدرسة، وتأخير صرف الكتب المدرسية، وما يصرفه من رشاوى حين يقصد المركز التعليمي أو مكتب التربية، ضمن الرقعة الجغرافية للمدرسة التي تقع في مدى ذاك النطاق، إنه لأمر محزن بالفعل، حين تزور مدرسة، لا تجد أنشطة الماضي من حصص التربية الفنية- والرياضية، حصص التثقيف الخاص بطالبات المدارس، نعم وبصرخة وجع وألم إنها حالة من العبث المستهتر والمأساة حين ترقب دورات المياه الصحية في تلك المدارس تجدها لا أبواب ولا شبابيك ولا مياه... هذا هو وضع جيلنا الذي يعيش أزمة تتمثل في تدني مستويات التعليم، وتدني حالة الوعي القيمي، إضافة إلى ما أنتجته الأحزاب “اليمنية” من صراعات بلهاء في الحقل التعليمي، الغرض منه تجييش الشباب لتحقيق مآرب سياسية نفعية تغيب العقول وتستهوي حب الذات، أننا نعيش فوضى التسيب، واللامبالاة التي يعيشها هذا الجيل المخطوف وراء الشعارات الثورية، والتي أوجدت له مبررات الغياب عن موقعه، وأخذ يكيل الأعذار ويبرر غيابه في التحصيل العلمي وغياب وعيه لفهم حاجته وحاجة مجتمعه ورسالته في الحياة، أما المدارس التجارية “الخاصة” حدث ولا حرج، لا شيء تراه جميلاً سوى ما يشدك من أداء ديكوري لنظافة المبنى، ومرافقه الإدارية، أما العلم فهو كذلك مع الهباء، صحيح أن أعداد الطلاب في فصولهم أقل من الذي في المدارس الحكومية، إلا أن الشهادة والنجاح للجميع، تصور ماذا سيعطي؟؟ المدرس الذي تستغل شهادته “البكالوريوس”، وتعطيه مرتباً متدنياً جداً، هذا المرتب لا يفي بحاجة المدرس، بل لا يسد حاجته في التنقل بين المدرسة والبيت... حقاً الوضع التعليمي يوحي بضياع الجيل القادم كلياً، بعد حصوله على شهادات ورقية لمحو أميته، ولن تغرس تلك العقول نسائم إبداع خلاق، إلا من رحم ربي، من فرص إبداع تحتضنها أيادي خارج نطاق المؤسسة التعليمية، ما يهم وزارة التربية والتعليم في شأن المدارس الخاصة اليوم هو فقط منح تراخيص عمل لتلك المدارس وجباية مبالغ على هذا النحو...أنها مهازل حين يصبح التعليم فقط سمسرة ومنح شهادات ورقية، لأبناء الذوات، من تجار ومسئولين،..... واليوم الشرفاء لوحدهم من يحملون الوطن على أكفهم في كل موقع مؤسسي في رحاب وطننا (اليمن)، ويسعون حثيثاً للعمل بهمة ووفاء غاية في النقاء والمثابرة، إيماناً منهم أن الوطن هو الحب الأسمى الأولى بعطاء البذل والتضحية، وذلك فيما يوكل إليهم من أعمال سواء أكانت على المستوى الرسمي في الوظيفة العامة للدولة أو على المستوى الطوعي من خلال المنظمات المجتمعية المتميزة في تقديم خدماتها الاجتماعية بروح التعاون والتعاضد والتراحم، بعيداً عن نزف القيم واستهواء لغة الأنا وثقافة الانتهاز التي تنتصر لإشباع النهم الغرائزي لدى البعض، ما يجعل من الحياة رتابة تسكنها صراعات المنافع والانتهاز بعيداً عن القيم السامية والأخلاقيات الطاهرة.. إن ما يبكينا في لجة الضيق والحزن ما وصلت إليه كذلك جامعاتنا من الصراعات الباحثة عن مصالح ضيقة، لتقتل ما تبقى من وحي أمل للنهوض بمستوى الأداء الإداري والأكاديمي، لتصبح جزءاً من صراعات الأحزاب وبلاهة العقول التي تغتال الحياة، ليصبح حاضرنا ومستقبلنا وراء الغياب، في حين يتناسى هؤلاء أن الوطن رئتنا النابضة بالحياة والعاشقة لنقاء الحال وراحة البال، والكثير من أحزاب الخارطة السياسية ما هم سوى سياط الجلادين ممن يستهوون خيلاءهم وعشق مآربهم الذاتية، وتقديمها على مصلحة الاستحقاق الوطني، والذي يعد بعد الحرية الأوسع من المصالح الضيقة، التي تريد اختزال الوطن على مقاس الربحية، بغية الاستئساد على مقدراته ومصادرة الحقوق إبدالا بثقافة العقوق.. وكم نتمنى من تلك الأحزاب أن تنتصر على لغة حب الذات بعد أن تراجع مبادئها ولوائح أخلاقياتها في أدبياتها الداخلية والتي تراكم عليها غبار الزمن، بفعل انتهازية البحث عن الذات بين ركام الأنين وجروح الزمن، وأقول لهؤلاء: كم ستستمرون؟؟ على غيكم وتفصيل الحياة على مقاساتكم، لتجتمعون حول مصالحكم وتتفرقون على مائدة الوطن لتبديد خيراته، ونشر ظلام الجهل في أرجاء مؤسساته التعليمية، كم ضحكت ذات يوم فيما مضى من الزمن، حين أتى جمع غفير من التابعين لأحد الأحزاب، بعد أن ضحكوا على عميد الكلية، وطلبوا منه أن يعطيهم فرصة إلقاء محاضرة للطلاب حول المشهد السياسي اليمني ومتطلبات العمل المستقبلي، تألمت حينها حين رأيت هؤلاء يخطبون من على منبر المحاضرة، وكان الأولى أن أكون محاضراً أنا في تلك الساعة، لأن المحاضرة تخصني أنا وطلابي، هؤلاء القافزون إلى منابر الجامعة، المتسلقون أسوار الكلية، أتوا وأخذوا محاضرتي دون إذن مسبق، تألمت كثيراً، وأنا انتظر طلابي في باحة الكلية، و تمر الدقائق عن موعد حضورهم، أسأل ماذا جرى؟؟، لا أحد يجيب حتى الكلية، لم تعطني مجرد إشارة بأن هناك محاضرات سياسية، باغتت الكلية وغزت قاعة المحاضرة، أشطت غضباً حين مر موعد الوقت المحدد للمحاضرة، وذهبت إلى عميد الكلية، سألته متعجباً؟!، لم تعطون تصريح لأداء محاضرات خطابية من على منابر العلم، أجابني بأن رئيس الجامعة من أعطاهم إذن بذلك، قلت لا ينبغي أن تتحول قاعات الدراسة لغير هدفها الرسمي، يجب أن لا تقبلوا بأن يأتي أناس من خارج الجامعة، لتحويل قاعات الدراسة إلى قاعات لمباريات سياسية، جاذبة لصدامات الأحزاب، و من حقنا أن تكون جامعاتنا خارج إطار التصادمات السياسية، كي لا يستفحل الندم ونصبح هنا في جامعاتنا أشبه بالدمى، التي يحركها الشارع السياسي بأطياف أحزابه المختلفة، وحين كنت على مغادرة مكتب العميد، قلت له بلغ رسالتي هذه لرئيس الجامعة، أخبره أن قاعات الدراسة مخصصة لأداء الرسالة الأكاديمية التعليمية فقط، ولا ينبغي لمتسلقي لأسوار أن يحيدوا الجامعة خارج هدفها، ولا يجب الخلط، بين رسالة المدرسة والجامعة ومقاصد الساسة والأحزاب، ولكل موقع مؤسساتي دوره ومهام عمله الخاص، وإلا لا قيمة ولا تمييز عندما يتم الخلط، وهذا يعني مهانة للحياة وللعقول، وذبح الحياة من الوريد إلى الوريد،... من هنا يجب على المجتمع والمؤسسات ذات العلاقة، بأن يعوا حجم الكارثة التي وصلنا إليها عندما يصبح العلم مهزلة وعرضه للمزايدات والمناكفات، لتغدو حياة الناس كارثة بأيدي العابثين، وكم هو مؤلم عندما تقدم الجامعات التجارية إلى سوق العمل خريجين ممن تحمل عقولهم فتات العطاء، بل وفاقدي المهنية في الأداء، أن التحقوا بواقع العمل بعد تخرجهم، لاسيما أن تلك الجامعات وفي التخصصات الطبية والعلمية المختلفة تخرج حاملي شهادات ورقية،، أتصدقون!! أن الجامعات الأهلية تشتري تصريحات فتح جامعات بمبالغ تفوق المليون ريال ،وذلك من وزارة التعليم العالي، إذ يقوم رئيس إدارة المشروع الجامعي “التجاري” بعمل عقود مع دكاترة بمختلف التخصصات، يفترسهم من هنا وهناك، ويعدهم بالاتصال بهم بعد عمل تلك العقود الوهمية، ومن ثم تستخدم في وزارة التعليم العالي كاستكمال مستمسكات منح تراخيص، وعندما تلامس واقع العمل في الجامعات التجارية الخاصة، نرى الكادر التدريسي معظمه من خريجي البكالوريوس، ممن يتقاضون أجور ساعات زهيدة، مقابل أجور الدكاترة المتخصصين،، ومعروف أنه لا يحق لخريج البكالوريوس منح ذات الشهادة، أو تدريس مواد نظرية، في كل الكليات التخصصية، إنهم يخالفون كل القوانين والتشريعات الواردة في النظام التعليمي الأكاديمي ولوائحه، وأنا هنا أتوجه بنداء استغاثة إلى وزارة التعليم العالي- والى رئيس الحكومة للإسهام في إعطاء مؤسساتنا التعليمية القدر الكافي من الاهتمام حرصاً على مستقبل الوطن والحفاظ على ما تبقى من عقول المستقبل، كي لا تغدو حياتنا مخطوفة بأيدي العبث والعابثين،،،،، ،،،حماك الله يا يمن والله من وراء القصد....