زايد ناجي منذ أن بدأت أعي، في السابعة، الثامنة، التاسعة؛ لا أدري بالتحديد، لكني أعلم أن في أول صفحات ذاكرتي حكايات ومواقف لا تنتهي، فيها والدتي تتذمر من كوننا لا نملك دارًا، أمرٌ عنى – برأيها – فشلنا، وبالتالي أدنى الدرجات في هرم المجتمع، وعنى أيضًا سخطًا وغضبًا كبيرًا نحو والدي الغائب الحاضر، الذي لم يكن يمتلك – برأي الكثيرين – القدر الكافي من جينات الطمع ليترجم غربته في بلاد "الأنكل سام" إلى دارٍ فسيح وسيارة فارهة وما يلفت الانتباه. غير أن المسافة حَمَتْه – إلى حد ما – من ذلك الشرر المتطاير، والتذمر الذي كثيرًا ما تحوّل إلى هدايا غير مرغوبة تُسلَّم مرة بالأيادي، وأخرى بالأقدام، وكثيرًا عبر قواعد الأكواب السميكة. فعلى عكس والدي، لم يكن لديَّ وإخواني صحارى وقارات، جبال وغابات، بحار ومحيطات، تحمينا من تبعات مخاوف تلك المسكينة، التي جلُّ ما كانت تتمناه هو بيت يحميها وصغارها من تقلبات الدنيا وسواد الأرواح. لا أعرف متى بالضبط، لكن المؤكد أني كنتُ على بُعد سنوات من البلوغ، والآلاف من صنفها الضوئي لأكون مؤهَّلًا لحمل همٍّ بذلك الثقل؛ همّ شراء بيت. أردتُ أن أفرح أمي، أردتُ أن أنهي التذمر، أردتُ ألّا أسمع عبارة: (إذا قدّك في بيت أبوك، كُن العب!) سافرت إلى أمريكا وأنا في الثالثة عشرة، واعدًا والدتي ببناء منزل. لفترة قريبة، كانت هجرة الصغار من الأولاد في مجتمعنا أشبه بالظاهرة؛ فما إن كان الواحد منا يستطيع إلباس نفسه والذهاب إلى المدرسة بمفرده، إلا وأتت مخالب الغربة تناديه. فالمصروف لا بد أن يُرسل، والبيوت لا بد أن تُعمّر، والمستقبلات وجب بناؤها، والآباء – الذين هم الآخرون سُلبوا طفولتهم – بدأت كواهلهم تشكو، والحاجة للعون تنامت. فبعد وصولي بسنتين، إذا بأخي الأوسط يصل هو الآخر قبل أن يبرز شاربه، ثم ليست إلا سنوات قليلة، وإذا بأخينا الأصغر، الذي تركناه طفلًا، يحضر ومعه حِمل من الهموم، كل كتب المختصين تقول بأنها ستهده، وربما فعلت. وليت الأمر اقتصر على أسرتنا. الإجبار على النضوج بسرعة، والتضحية بالطفولة، لم يكن مصير أطفال المغتربين الذين لحقوا بآبائهم فحسب، ففي ظل غياب الذكور المتتالي بسبب الاغتراب، كثيرًا ما أُجبر الصغار أن يكونوا كبارًا. ربما أكثر عبارة قالها المغتربون اليمنيون في المطارات أثناء لحظات وداع صغارهم: (انتبه على أمك وإخوانك). ويا له من حِمل ثقيل. اتصلت بي تبكي، وقبل ذلك اتصلت بالعديد من الأقارب والوجهاء، كانت تبحث عن صغيرها المغترب، الذي لم تسمع منه منذ مدة. ذلك الطفل الذي اختارته الأقدار – رغم كونه أصغر أبنائها – لنيل فرصة الخروج من المستنقع الذي صارت بلادُنا، هو الذي مثل حُلم الأسرة الكبيرة لهزيمة الفقر، وأملهم لشق طريقٍ للقمة عيش كريمة. بعد البحث، تبين لي أنه أصبح مدمن مخدرات، وأضحى غير قادر على الالتزام بأي عمل، وقد تنقّل بين العشرات من الأعمال. وحين رأيته، وجدتُ طفلًا بوجه عجوز، إنسانًا أنهكه حمل ثقيل، نجمًا منطفئًا، شخصًا لجأ لما يُسكّن الآلام بعد عجزه عن تحملها. وأنا أنظر إليه، سألتُ نفسي: ماذا لو نال هذا الشاب الرعاية؟ ماذا لو لم يُقذف به إلى أطراف المعمورة، بعيدًا عن حضن الأم الدافئ وعن حماية الدار؟! ماذا لو لم يأتِ إلى أمريكا وحيدًا وهو طفل، وعلى كاهله آمال العشرات من أقاربه؟! ماذا لو عاش وطاش؟! ماذا لو لم تُسلب طفولته؟! حتما كان شكل الحكاية سيكون مختلفًا. عدتُ إلى تلك الأم، التي لجأت لكرم الأهل لتغطي الفراغ الذي أوجده تحطم حلمها وضياع ساكن قلبها، ولا خيار لديّ سوى الكذب لتخفيف وطأة الأخبار التي لم تكن في الحُسبان. عند العودة إلى نيويورك، وبعد ست سنوات من الفراق، ذهبتُ باحثًا عن قريبي وصديقي، زميل الطفولة، الذي جمعنا الدم وتشابه الوضع وحس المسؤولية، وفرّقتنا الغربة. ذهبتُ إلى متجر والده، حيث كان يذهب إلى "السجن الطوعي" بعد المدرسة ويعمل حتى التاسعة من مساء كل يوم، وما إن وطأت قدماي المتجر المتهالك في شمال البرونكس، حتى لمحتُ روحه خلف الكاونتر. يبدو أطول بكثير مما تعودت عليه، أو حتى ما تخيلتُ وما نُقل عنه. لاحقًا تبيّن لي أنه كان يستعين برفٍّ خشبي ليتمكن من الرؤية من خلف الكاونتر، حيث كان يدير المحل بجدارة رغم صِغر سنه. غير أن قصره وصغر حجمه سرعان ما تحوّلا إلى ميزة، فور أن رآني، فلو لم يكن كما كان، لما استطاع الخروج من نافذة الكاونتر الزجاجية ليستقبلني بتلك اللهفة. للحظة عدنا إلى صنعاء والقادسية وملاعبها حيث قضينا سنوات، إلى بقالاتها حيث شربنا "السينالكوا"، وإلى وديان الشَّعِر حيث جمعتنا ذكريات الطفولة وكرة القدم. لم يكن وضعه مختلفًا عن وضعي ووضع معظم أطفال المغتربين الذين ابتلعتهم الغربة في سن مبكرة؛ دوام في المدرسة، وآخر في الدكان، آباء هم أقرب إلى الحاجة للرعاية من كونهم قادرين على منحها، جراح، حرمان، تراكمات، علل، هموم؛ جلستُ معه حتى أنهى الدوام، ومعًا أغلقنا المتجر، أمرٌ لم يكن غريبًا عليّ وعليه، ثم على طاولة مطعم البيتزا المجاور، أملينا الفراغات التي أوجدتها السنوات بيننا. كان اليوم حينها في منتصفه، نهار الأحد، تقريبًا الثانية ظهرًا، فللتو كان قد صحا والدي، الذي تعودتُ منحه إجازة صباحية في الأيام التي لا أذهب فيها إلى المدرسة، وقد حان الوقت للقيام بأمر لم أكن أُحبه؛ لملمة ملابسنا والذهاب بها إلى المغسلة التي كانت تبعد خمسة شوارع عن متجرنا، الذي كان منزلنا أيضًا، فقد كان لنا غرفة ومطبخ وحمام في ركنه. في كيس بلاستيكي أسود كبير، وضعتُ الملابس بطريقة لا يمكن أن تكون إلا من صنع ابن الرابعة عشرة، الذي يريد مغالطة الزمن، كي يقوم بما فُرض عليه بأسرع طريقة تتيح له العودة قبل أن تنتهي المباراة. على السيكل الصغير، وضعتُ الكيس الأسود الكبير، وانطلقت نحو المغسلة. أمرٌ قمتُ به عشرات أو ربما مئات المرات من قبل، إلا أن هذه المرة كان الأمر مختلفًا، فليست إلا دقائق من عمر رحلة الانطلاق من دكاننا حتى المغسلة، وإذا بي على الأرض، والسماء في مرمى عيني، جزءٌ مني تحت رحمة ثقل الدراجة، والآخر مغطى بالملابس التي رفضت حدود الكيس الأسود.