أيوب التميمي في بلدٍ يتنازعه الفقر والانقسام، ويقف على أطلال دولةٍ منهكة وسلطاتٍ متناحرة، لم يبقَ لليمنيين سوى رموزهم الخالدة كي يتشبثوا بها ويحتموا من الانهيار. هكذا تتقد في وجدانهم ثورةُ 26 سبتمبر، ليست مجرد ذكرى عابرة على تقويم الزمن، بل صرخة وجودٍ تتحدى محاولات الطمس والمصادرة، وملاذًا وطنيًا أخيرًا يعيد إليهم إحساس الانتماء وسط عواصف الانكسار واليأس. يلوذ اليمنيون بالاحتفاء بثورة السادس عشر من سبتمبر بحثًا عن قيمةٍ ثابتةٍ يتشبثون بها في زمنٍ تفتّتت فيه روابطهم بالحياة. هذه القيمة — «26» — ارتبطت بالخلود كوسيلةٍ عصيةٍ على الاندثار، وصارت رمزًا يجمع شتاتهم عندما تتلاشى مشاريع الانتماء الأكبر. من الطبيعي إذًا أن يُتمجَّدَ هذا التاريخ لا كعلاجٍ لجراح فردية فحسب، بل كحارسٍ لوجودٍ عامٍّ يشعر الناس بأنه مهدور. وتزداد الحاجة إليه كلما تآكلت روابط الانتماء، أو ظهرت نزعاتٌ ارتدادية تحاول مصادرة آخر ملاذاتهم الوطنية. في ظل هذا الفراغ القيمي والسياسي، تتحوّل «26» إلى خيطٍ ناظمٍ لإطارٍ تنصهر داخله كل التناقضات: اختلافاتٌ اجتماعية، توجهاتٌ سياسية، ومرجعيات ثقافية تتلاقى حول رمزٍ واحد. يشعر اليمني بهويته وهو يستمع إلى أيوب طارش عبسي وهو يغنّي: «"أهلا بعيد اليمن سبتمبر الوضاح" أكثر مما يستشعر ذاته حين يستمع إلى سياسي يتكلّم باسمه من منصّةٍ أو محفلٍ دولي — إن لم يلقَ عليه الشتائم أو يغيّر القناة. ثورة 26 تسهم في تعزيز الرابطة الاجتماعية بين اليمنيين أكثر ممّا فعلت عقودٌ من السياسات الحكومية الفاشلة أو محاولات الاندماج الوطني المتعثّرة. هي لحنٌ شعبي يُعيد تأكيد الشعور بالانتماء حين تُعجز المؤسسات عن ذلك. لماذا «26» بالتحديد؟ سؤال قد يتبادر للبعض: لدينا ثوراتٌ أخرى، كأكتوبر ونوفمبر و21 سبتمبر… الإجابة تكمن في أن ثورة 26 تشكّل ملاذًا جامعًا في غياب مشاريع سياسيةٍ موثوقةٍ قادرةٍ على تحريك الناس؛ في ظل طاقاتٍ شبابيةٍ هائلةٍ مكبوتةٍ دون استثمار فعّال؛ وغياب جهةٍ تحظى بإجماعٍ كافٍ لاحتواء هذه الطاقات. الواقع مسدود بسلطاتٍ قمعيةٍ تضيق المجال العام وتمنع فرص تحقيق الذّات، فلا يبقى أمام الناس سوى التعبير الصادق تجاه ثورتهم المجيدة. لذلك، احتفلوا بها يا مقعللين ورددوا يا "بلادي يا كبرياء جراح." صوت الوطن ومجدّه لا تدعوا أحدًا يصادرها أو يحوّلها إلى أداةٍ للتفريق أو النكاية. اجعلوا منها ملاذًا للهوية ومجالًا للتلاقي، واستثمروا رمزيّتها في بناء مشهدٍ مدنيٍّ يُعيد للأيام معنى الوطن الحقيقي.