متقاعدون معاقون في عدن: راتب 25000 ريال لا يعيل أسرة ولا يغطي أجرة المواصلات    الكشف عن بنود الخطة الأمريكية للتسوية في أوكرانيا    تريليون دولار بلا مقابل: كيف تحوّلت الرياض إلى ممول للاقتصاد الأمريكي؟    إسبانيا تواصل الصدارة في تصنيف الفيفا    العزي يطلّع على سير العمل في ملعب الظرافي تمهيدًا لافتتاحه    اختتام جمعية المنتجين ومركز سند دورة في تمكين المرأة اقتصاديًا    وزير الداخلية.. جابي ضرائب لا حامٍ للمواطن.. غرامة مالية متنقلة على ظهور الناس    خبير في الطقس: البرد سيبلغ ذروته خلال اليومين القادمين ودرجات الحرارة السطحية تنخفض إلى ما دون الصفر    الاتفاق بالحوطة يتغلب على البرق بتريم في البطولة التنشيطية الثانية للكرة الطائرة بوادي حضرموت    قراءة تحليلية لنص "عيد مشبع بالخيبة" ل"أحمد سيف حاشد"    تعز.. مسلح يعتدي على قيادي تربوي وزوجته    المبعوث الأممي يناقش في مسقط جهود التوصل إلى تسوية سياسية في اليمن    (هي وهو) حين يتحرك النص بين لغتين ليستقر    صحفي: السماح لأسرة غازي الأحول بزيارته    صنعاء.. البنك المركزي يوقف التعامل مع شبكة تحويلات مالية وأربع منشآت صرافة    ناطق الإصلاح: وجود السعودية في هذا المستوى والحضور الدولي يضمن للمنطقة موقعًا فاعلًا    غداً... انطلاق بطولة غرب آسيا للجودو في عمّان بمشاركة يمنية    قبائل الشعر في إب تؤكد الجاهزية لمواجهة أي تصعيد    العراق يستفيد من نتائج القارات ويخوض مباراة واحدة في الملحق العالمي    نزول ميداني للرقابة على الأسواق والمخازن التجارية في صنعاء    مدينة الوفاء والسلام المنكوبة    تنفيذية انتقالي حضرموت تعقد اجتماعًا استثنائيًا وتقر تنظيم فعالية جماهيرية كبرى بمناسبة ذكرى ال30 من نوفمبر    العلامة مفتاح يشيد بالمشاريع الكبيرة لهيئة الزكاة    مسؤول بريطاني ل"الصحوة": نسعى لتعزيز الشراكة مع اليمن لمواجهة التهديدات    الوزيران السقطري والوالي وممثل الفاو يتفقدون المشاريع الإنشائية في المجمع الزراعي بعدن    رئيس هيئة حقوق الإنسان يناقش مع رئيس مركز عين الإنسانية آليات الشراكة وتعزيز العمل الحقوقي    الأمين العام للانتقالي يلتقي ممثل هيئة الأمم المتحدة للمرأة ويؤكد دعم المجلس لدور المرأة الجنوبية    الرئيس المشاط يهنئ سلطان عمان بذكرى العيد الوطني    مكافحة الفساد تتسلم إقرارات عدد من أعضاء ومدراء هيئة رفع المظالم بمكتب رئاسة الجمهورية    تنافس قوي على رئاسة الإعلام الرياضي بعدن    رودريغو: نحن نملك هوية واضحة مع انشيلوتي    المستحمرون الحضارم كما يراهم إعلام بن حبريش    رئيس سياسية الإصلاح: العلاقات اليمنية الصينية تاريخية ممتدة وأرست أساساً لشراكة اليوم    انقطاع كهرباء لحج يتجاوز نصف شهر: غضب شعبي واتهام "حكومة الفنادق" بإيذاء الناس    قوات النجدة تضبط 10 الاف حبة مخدر بعمليات نوعية بالحديدة    الهيئة العليا للأدوية تختتم الدورة التدريبية الثالثة لمسؤولي التيقظ الدوائي    مهرجان "إدفا" ينطلق من أمستردام بثلاثية احتجاجية تلامس جراح العالم    يا حكومة الفنادق: إما اضبطوا الأسعار أو أعيدوا الصرف إلى 750    الذهب يتراجع مع صعود الدولار    مليشيا الحوثي تحتجز جثمان مواطن في إب لإجبار أسرته على دفع تكاليف تحقيقات مقتله    عملية نوعية في مركز القلب العسكري    خطوة تاريخية للأسطورة.. رونالدو في البيت الأبيض    ترامب يصنّف السعودية حليفاً رئيسياً من خارج الناتو خلال زيارة بن سلمان لواشنطن    مطالب جنوبية بتعليق العمل السياسي فورًا والعودة فرض قبضة أمنية كاملة    قراءة تحليلية لنص"البحث عن مكان أنام فيه" ل"أحمد سيف حاشد"    13 قتيلاً وعشرات الإصابات في غارة إسرائيلية على مخيم عين الحلوة جنوب لبنان    الكاتب والصحفي والناشط الحقوقي الاستاذ محمد صادق العديني    تفاصيل اجتماع رونالدو مع الرئيس ترامب    الإعلان عن الفائزين بجوائز فلسطين للكتاب لعام 2025    فريق أثري بولندي يكتشف موقع أثري جديد في الكويت    مركز أبحاث الدم يحذر من كارثة    إحصائية: الدفتيريا تنتشر في اليمن والوفيات تصل إلى 30 حالة    مدير المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه ل " 26 سبتمبر " : التداعيات التي فرضها العدوان أثرت بشكل مباشر على خدمات المركز    قطرات ندية في جوهرية مدارس الكوثر القرآنية    الأمير الذي يقود بصمت... ويقاتل بعظمة    تسجيل 22 وفاة و380 إصابة بالدفتيريا منذ بداية العام 2025    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة تحليلية لنص "عيد مشبع بالخيبة" ل"أحمد سيف حاشد"
نشر في يمنات يوم 20 - 11 - 2025

تحليل متنوع وناقد لنص "عيد مشبع بالخيبة" للكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي
ملخَّص القصة
تروي القصة بوجع طفولةٍ مُباغتة عيداً كان من المفترض أن يضجَّ بالألوان والفرح، لكنه أتى على الطفل ثقيلاً كالصخر، ومُقفَلاً كالقبر.
يتحوّل فرح الطفولة إلى "عيد مشبع بالخيبة" بسبب الغياب المزدوج: غياب الأم الغاضبة المُنتحية عند أهلها، وتفجُّر شجار الأب. وهو ما ولَّد لدى الطفل شعوراً كثيفاً ب اليتم والغربة، جاعلاً العيد مُثقَلاً بوطأة الحزن.
يستدعي الكاتب مشهداً سابقاً يرمز للقسوة، حيث استخدم الأب حصاةً يضغط بها على شحمة أُذن الطفل، مجسداً سلطة العنف الأبوي.
تتصاعد الأحداث في يوم العيد بفعل وشاية فجّرت عنفاً أسرياً وصل إلى محاولة الأب طعن ابنه ب "الجنبية" والتهديد بالرصاص، ليهرب الطفل مذعوراً ليختبئ خلف جذع شجرة الجميز، محولاً إياها إلى حصنٍ أخيرٍ يحميه.
لا يكتفي النص بسرد حكاية طفل أفسد غيابُ أمه وعُنف أبيه فرحةَ عيده، بل ينسج خيطاً متيناً يصل بين قسوة الأمس وتمرُّد اليوم. حين قرص صديقٌ مسؤول أُذنه في صنعاء تحذيراً، عادت الأذن القديمة لتتذكّر حصاة الأب، وعاد القلب ليردد: "لن أتنازل عمّا كوّنتني عليه الحياة". وهكذا، يُطلِق النص صرخةً تُؤرِّخ ل سيرة تشكُّلِ شخصيةٍ ثائرةٍ نبتت من تربةٍ مُثقلةٍ بالوجع.
أهمية النص
قصة «عيد مشبع بالخيبة» تتجاوز حدود السرد لتصبح نصاً قوياً وجدانياً وفكرياً؛ إنه ليس مجرد اعتراف أدبي، بل هو شهادة سياسية تُصاغ في محراب الذاكرة.
1. النص كنموذج للكتابة الحقوقية-الشخصية:
تكمن أهميته في كونه نموذجاً متفرداً لكتابةٍ تجمع بين الحميمي والسياسي، مُبرزةً كيف يتحوّل الألم الفردي العميق إلى دافع لا يزول للالتزام الاجتماعي والسياسي.
إنه يمثل شجاعة اعترافية ووعياً أدبياً وقيمياً، مما يجعله مادة خصبة للقراءة الأكاديمية والحقوقية والنفسية، ويُثري بوضوح المشروع الفكري والحقوقي للكاتب.
2. وثيقة تخلُّق الوعي وبصيرة الجرح
«عيد مشبع بالخيبة» أعمق من سرد لطفولة موجوعة؛ إنه وثيقة تكشف لحظة تخلُّق الوعي في قلب القسوة. إنه برهان على أن الجراح التي لا تلتئم قد تتحول إلى بصيرة نافذة. فما يبدأ بوخزة صغيرة، ينتهي بوعيٍ قادر على مواجهة أنظمة بأكملها.
في هذا النسيج، يخلط الكاتب بين الخاص والعام ببراعة: يجعل من وخزة حصاة في شحمة أذن طفل مدخلاً لفهم البنية العميقة للعنف، ويكشف عن الآليات التي تصنع شخصية لا تنحني أمام القهر، بل تتخذ من الرفض مساراً.
3. تلاقي الخاص والعام والتمرد الممتد
تكمن القوة الجوهرية للنص في إظهاره كيف يتشكّل المناضل من هشاشته الأولى، وكيف تُصبح الذاكرة بما حملته من خوف وخيبة وقوداً لمسار طويل من الرفض.
وهكذا، تصبح التجربة الفردية، حين تُصاغ بصدق، شهادة على عصر كامل وعلى بنية اجتماعية تتكرر فيها السلطة، كأنها الأب نفسه ممتداً في هيئات وصور مختلفة.
الرسائل
هذا النص هو وثيقة تشكيل الوعي الثائر، تبدأ حكايته بجرح طفولي عميق لم يلتئم، لتُزهر منه قامة رجلٍ اكتمل بياض رأسه.
العيد وتحطيم الفرح
يكشف النص أن العيد ليس موعداً أبدياً للفرح، وأن المجتمع قد يُهدي أبناءه الخوف بدل الحلوى. كما يؤكد أن العنف حين يتسلل إلى البيوت يكسر في الروح شيئاً لا يجبره مرور الزمن، مُفرغاً بذلك أيام الفرح من معناها.
المأساة وشجرة التمرّد
تكمن الرسالة الأعمق في أن المأساة بوسعها أن تُنبت شجرة تمرّد باسقة. لتصبح قسوة الأب التي لم تكسر الطفل هي القوة التي نحتت فيه روحاً لا تقبل الانحناء.
تأصيل النزعة الحقوقية
مشاهد الحصاة على الأذن ومحاولات الطعن هي تجسيدٌ رمزيٌّ لسلطة الاستبداد والهيمنة الأبوية. تمرّد الطفل المستمر هو الأساس الذي بُنيت عليه مواقف البرلماني والحقوقي الرافضة للفساد والظلم.
استمرار التمرد (تطابق السلطات)
يصل التمرد إلى مرحلة النضج حين تتطابق صورة "قرصة الأذن" في الطفولة (سلطة الأب) مع "قرصة الأذن" في الكبر (سلطة النظام). هنا، يُعلن الكاتب رفضه للتنازل عن ضميره، مُعلناً استمرار تمرده حتى الأجل، ليثبت أن جرح الطفولة لم يندمل إلا ليُزهر موقفاً وطنياً راسخاً.
التعاطف النقدي وقيمة النبل
يُجسد النص قيمة أخلاقية عليا هي ثبات الكاتب على رفض الاستجداء الذليل. كما يظهر دفاعه عن والده ("ألتمس له أكثر من عذر") وعن صديقه المسؤول ("اعتبرتها بدافع من الود والحرص") عقلية الحقوقي الذي يوازن بين النقد الصارم للخطأ والتمس العذر للإنسان، مُجسداً بذلك منهجاً يجمع بين العدالة والتعاطف النقدي.
التحليل الأدبي والفني
الزاوية السردية واللغة
يأتي السرد بضمير المتكلّم، فيُقرِّب القارئ من نبض التجربة كما لو أنه يتلمّس الألم مباشرةً. اللغة مكثّفة، مشبعة بالانفعال، وتستند إلى صور حسّية دقيقة تُحوّل الألم إلى ملمسٍ محسوس.
أما التكرار فهو بمثابة الأوتار التي تُعزف عليها النبرة الداخلية للنص، وتُضاعف شعوريّاً من أثر التجربة.
النص مكتوب بنَفَسٍ اعترافي شفاف، يشكّل «سينما ذاكرة» تُستعاد فيها الطفولة كما لو أنها تحدث الآن.
البناء والزمن
البنية تقوم على حركة مستمرة بين زمنين: حاضرُ الراوي الذي اكتمل وعيه، وماضٍ يطفو كجرح ما زال دافئاً.
القفز بين الأزمنة يعمل على وصل السبب بالنتيجة، والطفل بالرجل، والجرح بالموقف. وهكذا تُغلق النهاية على استمراريةٍ تجعل التمرد شرياناً ثابتاً في حياة السارد.
التحليل النفسي
حين يلتقي الحب بالتمرد
يكشف النص عن علاقة مزدوجة بالأب: حبٌّ وتقدير، يقابلهما تمردٌ صريح ورفضٌ للهيمنة. إنها صورة نموذجية ل "الارتباط المزدوج"؛ علاقة تتأرجح بين الولاء والحاجة إلى النجاة. هذا التناقض هو ما يصوغ الحساسية المرهفة لدى السارد.
الصدمة الطفولية وتشكّل الحساسية
مشاهد العنف تُفسّر يقظةً داخلية مستمرة: حذرٌ متضخم، وحساسيةٌ مفرطة للأذى. يصبح التمرد هنا ليس فقط موقفاً فكرياً بل آلية دفاع نفسيّ ضد القهر، وطريقة لحماية الذات من الانكسار.
الهوية والتمرد
هوية الناشط والبرلماني هي امتداد طبيعي للطفل الذي رفض أن يستجدي الرحمة. التمرد هنا ليس ردّ فعل؛ بل مكوّن أساسي للذات، نبت من جرح واستقوى بالتجربة.
الكتابة كفعل خلاص
النص يشي بأن الكتابة ليست روايةً للماضي فقط، بل مصالحة معه وعملية تطهير بطيئة. من خلال الحكي، يخفّ ثقل الذاكرة، وتُمنح النفس مساحة يتنفس فيها ما تبقى من ذلك الطفل.
التحليل الاجتماعي والثقافي
يعكس النص بنية سلطوية تجعل من العنف أداة تربوية واجتماعية.
تدخل الجيران والنساء لتهدئة الأب يكشف عن حدود المجتمع بين التسامح مع العنف ورفضه.
يظهر العيد رمزاً لقيم الجماعة؛ وعندما ينهار العيد، تنهار وظيفة الجماعة.
علاقة السارد بصديقه المسؤول تكشف شبكة العلاقات وتأثيرها في الحضور السياسي.
نقد وتقييم النص
مكامن القوة
الصدق العاطفي وعمق التجربة
العمود الفقري للنص هو الصدق العاطفي الجارح الذي يجعله بصمة الروح على حجر السرد، مانحاً المشاهد قوة حضور آسرة تجعل القارئ يشعر ب "جرح لا يشيخ".
اللغة الحسية وتوتر السرد
اللغة التي ترسم الوجع باللمس هي لغة ثرية وحسية بامتياز، تُشيد مشاهدها بتفاصيل ملموسة، مما يصنع توتر السرد ويحافظ على نسيجه المتماسك.
توظيف الرموز الثقافية
نجح الكاتب في جعل النص ذاكرة تتنفس المكان عبر زرع رموز عميقة الأثر (العيد، الجنبية، الجمّيز)، مما يعزز الطابع المحلي ويجعل الذاكرة مُحمَّلة بالدلالات.
مصداقية الضمير وعمق الرؤية
استطاع النص أن يحقق توازناً نادراً بين الاعتراف الذاتي الموجع والتحليل الأخلاقي والسياسي، مما يمنح السرد مصداقية حقوقية متينة، تجعل من الجرح الخاص أساساً ل الموقف المبدئي.
مكامن الضعف
إضاءة خلفيات الشخوص
يمكن للمشاهد أن تكتسب عمقاً أكبر من خلال إضاءة الدوافع الكامنة للشخصيات الثانوية (كالأب والأم)، ليصبح الظلم الصادر منها أكثر فهماً في سياقه الإنساني، لا مجرد إعلان عن نتائجه.
القفزات الزمنية
على الرغم من ترابط الرسالة، فإن القفزات الزمنية السريعة بين بياض الرأس ووجع الطفولة قد تترك فروقاً زمنية وعاطفية غير مُشيدة بالكامل.
ضبط التصعيد الدرامي
ميل النص أحياناً نحو التصعيد الدرامي يمكن ضبطه بتفاصيلٍ إضافية توضح أسباب ردود الفعل العنيفة أو جنوح الشخصيات بدلاً من مجرد التركيز على النتائج المأساوية.
مقاربات
يضع هذا النص نفسه في سياق أدبي وفكري واسع..
مع عبدالعزيز المقالح: يربط النص بين الحفر في الجدار كفعل مقاومة شعري، مشيراً إلى البعد الحضاري والوعي الذي يمثله المقالح.
مع محمود درويش: يتشابه في عنصر الغربة والحنين وتهجين الحميمي بالسياسي، حيث يحوّل كلاهما الألم الشخصي إلى محطة للذاكرة الجماعية.
مع طه حسين (الأيام): يتشابه في تصوير قسوة الطفولة المبكرة واليتم الوجداني الذي يُولِّد قوة داخلية صلبة.
مع جبران خليل جبران (الأجنحة المتكسرة): يتقاطع في التركيز على الألم الشخصي كمدخل للتمرّد على الأعراف الاجتماعية والظلم القائم.
مع أدب الاعتراف: النص يضعه في خط طويل من أدباء السيرة والاعتراف الذين يحوّلون الألم إلى أداة نقد اجتماعي (مثل مارسيل بروست أو بعض نصوص تشيخوف).
الخاتمة
"عيد مشبع بالخيبة" نص يبرهن أن الجراح الأولى لا تندمل بسهولة، لكنها تصقل روح المناضل، وتمنح رفضه أصالة لا تشوبها المجاملة. فالتمرّد الذي يولد من القسوة، هو أبقى أنواع التمرّد وأكثرها صدقاً.
أحمد سيف حاشد لم يهرب يوماً من طفولته؛ بل حملها معه كشعلة تهديه في معارك الحقوق والحريات. من صبيٍّ يتوارى خلف جذع جميزة، إلى برلماني يواجه سلطات متعددة الوجوه، ظل المبدأ واحداً: الرفض. الرفض بوصفه شكلاً من أشكال الحياة، ومساراً يبني معنى الإنسان. وهكذا يثبت النص أن الجرح الشخصي يمكن أن يتحول إلى فعل عام، وإلى مشروع مقاومةٍ يُورّث، لا ينطفئ.
نص "عيد مشبع بالخيبة"
أحمد سيف حاشد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد الكبير.. عيد يتم انتظاره طويلاً وبصبر يكاد ينفد في عشية مجيئه.. يتم استقباله في الصباح الباكر بفرح دافق، وسرور يغمر وجه الكون، غير أن عيدي ذلك العام كان مكروباً، ومثقلاً بالحزن.. أشبه بميتم لأم رحلت وتركت صغارها.. شعور كثيف باليتم.. عيد أحسستُ فيه أن قدراً أفسده، وسوَّد صفحته!!
كان عيدي موجوعاً بأمي الحانقة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار استمر، وزاد عمّا يحتمل.. عيدي بعيد عن أمي, غربة طوتني نكداً وفقدانا.. أحسستُ بخيبةٍ تراكمت، واكتظت داخلي حتّى بلغت بي حد انبعاجي بها..!!
الوحشةُ والغربةُ والحزنُ سكنوني مجتمعين في يوم العيد الذي كان يفترض أن يكون عامراً بالبهجة والفرح والمسرّات.. في العيد يتسربل الصبية بالفرح ولباس العيد؛ ترى البهجة في عيونهم كالعصافير، وفي محياهم نوراً على نور.
وجوم, ورتابة, وتجهم جل ليالي العام، وحدها من تكسرهُ بهجة العيد، وتُمزق سوادهُ فرقعات "الطماش" ووميضها. السرور يوم العيد يغمرُ المُهج، والقلوب المتعبة تنتظر صباح العيد فيأتيها شلال من فرح.. أمّا أنا فشأني تكدَّر وأفسده قدر.. عيدي بات كئيباً بما أفسده.. هذا العيد لم يفسدهُ غياب أُمّي فقط، ولكن أفسدته أيضاً وشاية ابن جارنا الذي زعم أنني سرقتُ "الطماش" من دكان أبي.
أريدُ أن أهرب إلى أمّي التي حنقت من أبي قبل أيام قليلة من العيد، وذهبت إلى بيت أهلها، ولكني ما زلتُ أذكر المرّة السابقة التي أعادني أبي من هروبي مرغماً، ومجروراً بشحمة أُذني طول الطريق الطويل.
لم يكتفِ أبي بجرِّي من أُذني، ولكنه أيضاً وضع حصاة بين أصابعه وشحمة اذني، وظلت أصابع أبي تضغط على الحصاة وشحمة أذني لتزيد من وجعي وألمي، وهو يجرّني بوجه مائل وكأنه معتول من عنقه.
كنتُ كلّما شعرتُ أن الألم لم يعد يُحتمل في الأذُن اليمنى، وأحس أنها تكاد أن تنتزع من مكانها، طلبتُ من أبي أن ينقل أصابعه وحصاه، وعتلي بالأُذن الثانية!! كان يستجيبُ لطلبي بلطفٍ على غير عادته، ولكنّه في المقابل لم يرخِ أصابعه عن أذُني، وعن الحصاة التي كنتُ أظنّها من الألم قد اخترقتَ شحمة الأذُن. تقارب الوقت بين هذا الانتقال وذاك بسبب الألم، حتّى تبدّى لي الفرق بين الأذُنين، قد بات أضيق مما بين الحاجبين، فيما الألم المشتعل يتمدد من اُذني إلى وجهي وما دونه، ويلسع رأسي شرراً كسوط جلاد.
أحياناً بسبب صغير وبحجم أصغر من حبة الفول، كان والدي ما يكفيه أن يشعل حيالي حرباً، أو هذا ما كنت أتخيله بسبب قسوته.. ربما أبدو هنا مغالياً، ولكن وقع ما حدث في نفسي المرهفة، وصغر سنّي، وحساسية شحمتيّ أُذْنَيَّ حتى خِلتُهُ مقارباً لما أتحدثُ عنه.
* * *
والشيء بالشيء يذكر .. رغم كل شيء ما زلتُ أُكِنُّ كل حب وتقدير وتفهم لوالدي، غير أن هذا لم يخمد تمرُّدي، وما زلتُ متمرداً إلى اليوم، وقد تعديتُ سن الستين من العمر، وربما بتُ أطرقُ باب الكهولة.
أحد الزملاء الأصدقاء المسؤولين في صنعاء، والذين أشعر بلطفهم معي، وحرصهم نحوي، وما زلتُ أحفظ لهم قدراً من الود لتعاونهم معي، والدفاع عنّي في غيابي، تفاجأتُ في إحدى مناسبات العزاء والفقدان، وهو يبحث عن أذُني ليقرصها، وقرصها بالفعل، وهو يقول لي بنبرة طافحة بالحرص والمرارة التي غلبت صبره:
"تعبت من الدفاع عنك.. الرئيس قده لك للنخر.. ملفاتكم جاهزة.. أوقع رجال".
أثق بمحبة هذا الصديق وبمصداقية ما قاله، وسأظل أودّه، ولكنّي لم أستطع أن أعِدهُ بما ينال من ضميري، أو الرجوع عن تمرّدي، وعمّا عشته من رفض وتمرد طوال حياتي، بل عدتُ نفسي أنني سأظل كذلك، وبأي كلفة، حتى يداهمني الأجل الذي يبدو أنه قد بات منّي يدنو ويقترب.
زعم بعض رفاقي أن ما حدث فيه إهانة بالغة، ولكنني نافحتُ دفاعاً عن صديقي، وتمردتُ أيضاً على رفاقي، وعمّا ذهبوا إليه في تصوير الأمر وكأن تلك الإهانة تستوجب رد الصاع صاعين.. دافعتُ عنه بحميّة، كما أدافع اليوم عن أبي، واعتبرتها بدافع من الود والحرص والتحذير. أمّا تمرّدي على واقع الحال، فقررتُ أن يستمر حتى يتم إصلاحه و "لن يصلح العطّار ما أفسده الدهرُ"، ولذلك سيستمر رفضي وتمرّدي حتى يداهمني الأجل الذي لم أعد أتهيبه.
* * *
ربما دون أن أعلم كنتُ أستفز أبي، وأكثر ما كان يستفز أبي أن لا يراني مستجدياً لرحمته. عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه، وأن عقوقي يتحداه، وأنني أنتقص من هيبته، وهو المهاب.
عدم مناجاة عطفه كانت تعني لأبي أنني أتجاسر عليه، وهذا يثير غيظه وحفيظته.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة، وموغل في التحدّي لسلطته، وداعٍ مثير لإعادة اعتباره ومهابته.. إذا ما دعاني لأمر وتوانيت فقط في إجابته؛ تجد وكأن الجن تلبّسوه، وركب فوق رأسه ألف عفريت.
في يوم ذلك العيد، وبسبب احتجاجي الكتوم عن غياب أمّي، والتراخي عن طاعته، ووشاية "الطماش" التي أشعلت الفتيل بيننا، حاول طعني ب "الجنبية"، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون أن تطالني، وأصابت ابن عمي عبده فريد في يده.. ربما قصد أبي تهديدي فقط، أو داهمته نوبة غضب وانفعال. وربما كنت أنا عاق والده، رغم أنني مازلت حديث سن، ودون العقوق .. من المهم هنا وفي غيابه أن ألتمس له أكثر من عذر وسبب.. يومها تحوَّل العيد في وجهي إلى أحلك من ليل، وأكثف من ظلام سرداب سحيق.
هربتُ منه مائة متر أو أكثر من هذا بقليل، فيما أبي يحاول رميي بالرصاص أو هذا ما خلته حالاً ووشيكاً.. تداريتُ بجذع شجرة الجمّيز. كنتُ أختلس النظر من محاذاتها، فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حميته كما يثير المصارع الإسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران، وقد أصابه المصارع بطعنة من سيف.
العراكُ على أشدّه؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي، فيما هو يصر على محاولة إطلاق الرصاص، وربما ما فعله كان مجرد تهديد لا أكثر، ولكن ما كان يدور في خَلَدي هو الجدية الكاملة.
كنتُ أسائل نفسي بهلع عمّا إذا كان بمقدور الرصاص اختراق جذع شجرة الجميز فتطال جسدي.. شيء لم أجربه ولم أسمع به، ولا أدري قدرة ما يوفره جذعها من حماية.. ربما أُطمئن نفسي أن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص! ثم أشك وأرتاب.
غير أن المسافة بيني وبين أبي ما زالت قصيرة، خشيتُ أن يتمكن أبي الإفلات من ماسكيه، فرجحتُ قراراً بدا لي أكثر أماناً، وهو أن أستفيد من لحظة العراك، وأطلق ساقَيَّ للريح، وأنجو بهروب سريع.. هربتُ والذعر يضاعف سرعتي، كتب الحظ نجاتي، كما كتب أيضاً مزيداً من العذاب والخيبات في قادم الأيام.
في الأمس هربتُ إلى دار أمّي، أما اليوم إلى أين الهرب؟! لا أم لي ولا دار.. رحم الله أمي ودارها.. لا باب لي ولا نافذة غير الحفر في وجه الجدار، وعلى خيار شاعرنا الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح:
"سنظل نحفر في الجدار
أمّا فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار".
* * *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.