دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    شعب الجنوب أستوعب صدمة الاحتلال اليمني وأستبقى جذوة الرفض    فلنذكر محاسن "حسين بدرالدين الحوثي" كذكرنا لمحاسن الزنداني    رشاد العليمي حاقد و"كذّاب" تفوّق على من سبقه ومن سيلحقه    ليس وقف الهجمات الحوثية بالبحر.. أمريكا تعلنها صراحة: لا يمكن تحقيق السلام في اليمن إلا بشرط    الحوثيون يراهنون على الزمن: هل ينجحون في فرض حلولهم على اليمن؟ كاتب صحفي يجيب    أنباء غير مؤكدة عن اغتيال " حسن نصر الله"    شيخ بارز في قبضة الأمن بعد صراعات الأراضي في عدن!    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    "بعد وفاته... كاتبة صحفية تكشف تفاصيل تعرضها للأذى من قبل الشيخ الزنداني ومرافقيه!"    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    الأمل يلوح في الأفق: روسيا تؤكد استمرار جهودها لدفع عملية السلام في اليمن    دوري ابطال آسيا: العين الاماراتي الى نهائي البطولة    تشييع مهيب للشيخ الزنداني شارك فيه الرئيس أردوغان وقيادات في الإصلاح    كلية القيادة والأركان بالعاصمة عدن تمنح العقيد أديب العلوي درجة الماجستير في العلوم العسكرية    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    بن دغر يوجه رسالة لقادة حزب الإصلاح بعد وفاة الشيخ عبدالمجيد الزنداني    مفسر أحلام يتوقع نتيجة مباراة الهلال السعودي والعين الإماراتي ويوجه نصيحة لمرضى القلب والسكر    مركز الملك سلمان يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في الجوف    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    رئيس مجلس القيادة يجدد الالتزام بخيار السلام وفقا للمرجعيات وخصوصا القرار 2216    إعلان موعد نهائي كأس إنجلترا بين مانشستر يونايتد وسيتي    إنزاجي يتفوق على مورينيو.. وينهي لعنة "سيد البطولات القصيرة"    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    "ريال مدريد سرق الفوز من برشلونة".. بيكيه يهاجم حكام الكلاسيكو    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    لابورتا بعد بيان ناري: في هذه الحالة سنطلب إعادة الكلاسيكو    انقطاع الشريان الوحيد المؤدي إلى مدينة تعز بسبب السيول وتضرر عدد من السيارات (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مكان وموعد تشييع جثمان الشيخ عبدالمجيد الزنداني    التضامن يقترب من حسم بطاقة الصعود الثانية بفوز كبير على سمعون    قيادي حوثي يقتحم قاعة الأختبارات بإحدى الكليات بجامعة ذمار ويطرد الطلاب    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    برئاسة القاضية سوسن الحوثي .. محاكمة صورية بصنعاء لقضية المبيدات السامة المتورط فيها اكثر من 25 متهم    ميلشيا الحوثي تشن حملة اعتقالات غير معلنة بصنعاء ومصادر تكشف السبب الصادم!    دعاء مستجاب لكل شيء    ديزل النجاة يُعيد عدن إلى الحياة    رئيس مجلس النواب: الفقيد الزنداني شارك في العديد من المحطات السياسية منذ شبابه    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    ارتفاع الوفيات الناجمة عن السيول في حضرموت والمهرة    تراجع هجمات الحوثيين بالبحر الأحمر.. "كمل امكذب"!!    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الزنداني يكذب على العالم باكتشاف علاج للإيدز ويرفض نشر معلوماته    الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تفعل هذا الأمر    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    المواصفات والمقاييس تختتم برنامج التدريب على كفاءة الطاقة بالتعاون مع هيئة التقييس الخليجي    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    الممثل صلاح الوافي : أزمة اليمن أثرت إيجابًا على الدراما (حوار)    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات لم تكتمل
نشر في يمنات يوم 24 - 04 - 2018


أحمد سيف حاشد
"من طفولتي الأولى" 12 منشور
"القرية.. طفولة بطعم التمرد" 19 منشور
"المعلم والتعليم" 21 منشور
"في السلك العسكري" 16 منشور
"أحداث 13 يناير" 10 منشورات
"الجامعة والعمل بعد التخرج" 13 منشور
"حب لم يكتمل" 16 منشور
"متفرقات" 8 منشورات
من طفولتي الأولى "1 – 12″
(1)
حيرة
لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم الصاخب والمزدحم.. المحتدم بالصراع والغضب والجنون.. المليء بالقتل والمظالم والبشاعات.. عالم يُنحر فيه حق الحياة باسم الحياة، وتصلب فيه العدالة باسم العدالة، وتغيب عنه المساواة في تكافؤ الفرص حد العدم أغلب الأحيان.
جبابرة وطغاة بنوا مجدهم وحياة رغيدة لهم على حساب كرامة الإنسان ودمه وجوعه ووجعه وأحلامه.
ضعفاء وبسطاء ومحرومون، مخدوعون ومبتلون بلعنات الأقدار وسوء الطالع وعاثر الحظ.
الحياة بالبر والبحر والجو كاسرة ومتوحشة وممتلئة بالظلم والألم والجنون.
عالم لا زال محكوم في الغالب بشريعة الغاب، وشروط البقاء فيه لا زالت للأقوى، وكثيرون ما زالوا يسفكون الدم من أجل الله أو من أجل السلطة أو من أجل أنانية مفرطة ومستبدة وجشع يزداد ويستمر ولا يتوقف.
كيف جئنا؟! سؤال يمكن أن يُكلفك حياتك وتُزهق روحك باسم الله والذود عنه؟!
كم مليون صدفة كانت سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجود لو حاكيناه ربما أختاره البعض على أمل، وربما رأى البعض في المجهول شك ولا أمل في عالم ملؤه بالوهم والأكاذيب..
ربما رفض البعض هذا الوجود لو أتيح له الحرية و الإرادة في الاختيار.. الاختيار الذي يقوم بحسب فلسفة هؤلاء على إدراك عميق ومعرفة مستفيضة.
المكان لا يكف عن السير، والزمن يتسرمد للأبد، ومآلات الكون غامضة ومجهولة.
كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضرورات في عملية طويلة ومعقَدة وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!
أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاء لما أتيت وما وجدت.. وينطبق هذه على التراتُبيات كلّها.. إلى كل الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
سلسلة طويلة من الصدف والضرورات لا تكف ولا تتوقف، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسير، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمر نهاية!
وفي الحياة سباق مزحوم ومحموم، وليس كل ظافر في هذا السباق بالضرورة يكون محل سعادة ورضى صاحبه.
في سباق ال 300 مليون حيوان منوي واحد فقط من يلقِّح البويضة ويتخلق في رحم الأم وما عد ذلك يفنا ويموت. فأيهما المحظوظ، هل من ظفر بالحياة أمّن أدركه الموت والفناء؟!
يرى البعض أن الفوز بالحياة هو شقاء وتعاسة وعذاب للنفس.. فوزا بالألم والندم والوهم، وما نتصوره خسران يراه البعض تحرراً مسبقاً من آلام الحياة وأوجاعها ومشقاتها التي لا تنتهي إلاّ بالموت.
من علِق وتخلَّق تسعة أشهر لماذا يخرج إلى واجهة الكون صارحا أو باكيا؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلان وجود أم هو رفض واحتجاج على هكذا وجود؟! هل هو فزع من العالم أم خوف من المجهول؟!
لماذا لا نخرج إلى واجهة الكون فرحين أو مقهقهين أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولود من بني البشر لا يستهل حياته إلاّ بصرخة بكاء حادة؟! هل صرخة البكاء هذه هي تعبيراً عن رفض لقدر لم يختاره ولم يكن لإرادته فيه شأن؟!
بين صرخة الولادة وشهقة الموت عمر مثقل بالمعاناة وعالم من المتاعب والأحزان والأشياء والتفاصيل.
عندما تتعثر خطاك على الدوام، ويلحق السوء بحظك كلعنة لا تفارقك، وتخيب أمنيات حياتك، وتبطش بك الأقدار يميناً وشمالاً وتصير فريسة للحرمان والمتاعب.. هل تكفر بنعمة من كان سببا ومعجزة في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كل ما هو تعيس وخائب؟!
هل وجدنا صدفة أم ضرورة، أم هناك جواب آخر، أم أن الجواب سر عصي في عالم الغيب؟!
(2)
زواج أمي
تزوجت أمي مرتين قبل أبي ورزقت ببنت، والبنت في واقعنا الذكوري أنثى يلزمها دفع كلفة باهظة تستمر من الولادة حتى آخر العمر.. واقع اجتماعي ثقيل وظالم يحملها على أن تدفع ضريبة وجودها وجع وإرغام وانتقاص من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصريتنا المقيتة إلى الكفن والقبر وتحت التراب!.
لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجة أخطاء غيره وعلى هذا النحو من الكلفة الباهظة التي ترافقه حتى اللحظة الأخيرة من العمر بل وتمتد إلى تحت التراب؟!
لماذا بني البشر إن كان الأمر كذلك يستمرون بتحمل نتيجة خطيئة وأخطاء لم تكن من صنعهم أو لم يصنعونها هم؟!
لماذا الأبناء والأحفاد يتحملون أخطاء وخطايا الأجداد البعاد؟!!
لماذا على بني البشر أجمعين إن كان هذا الحال أن يتحملون خطيئة أمٌَنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمان إن كان للزمان آخر أو ختام؟!
أختي هذه بنقاء البلور وبساطة القديسين.. مستسلمة للأقدار بسذاجة البلهاء الصبورين.. لا زالت إلى اليوم تدفع ثمن أخطاء آخرين.. لا زالت مستسلمة لأقدار لم تصنعها ولم تشارك في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى الساعة. عاشت طفولة بائسة وزُوجت وهي طفلة لرجل يكبرها بحدود الثلاثين عام.. أختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدار السيئة على غير ما تريد هي.. حتى اسمها يبدو أنه قدر مخادع..
اسمها ليس على مسمى ولم تجد للهناء في حياتها وجوداً.. حتى أسماءنا مخدوعين بها، يختارونها لنا فنكتشف في آخر العمر أنها مجرد وهم على وهم وسراب على سراب طويل.
كانت أمي لا تريد الزواج مرة ثالثة وأرادت أن تكتفي بتربية ابنتها ولكن تم إقناعها بالزواج للمرة الثالثة حتى ترزق بولد.. قالوا لها: إن البنت لن تفيدك في حياتك وأنها غداً ستتزوج وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها بينما الولد سيكون لك خير عائن وساند في حياتك، وضماناً لمستقبلك من قادم الأيام وما قد تحمله من مجهول ونوائب.
كل له منطقه وحججه في ظل واقع ملغوم وغير آمن للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطة عميقة ومتجذِّرة وكلمته عليها فصل، أو على الأقل في أغلب الأحيان.
تزوجت أمي من أبي وكنت أنا الولد الغائب الذي تحدثوا عنه.. أنا الذي سيكون في حياة أمي ضماناً لمستقبلها من قادم الأيام، وما قد تحمله من مجهول ونوائب.
(3)
ملاذنا عدن
ملاذي الأول عدن، وحبي الأول في عدن .. نصف حياتي الأجمل كان في عدن ونصف حزني مدفونا في حنايا عدن. عدن بضعة مني وأنا بضعة منها إلى يوم القيامة.
تشكَّل وعيي في عدن وتعليمي الأهم كان في عدن، ورزقنا الأول جاء من عدن، وهجرتنا الأولى والثانية كانت إلى عدن.. ولي في عدن ملاذ ووطن ولي فيها حبيبة لا تموت إلى أن أموت.
عدن الثغر الباسم و"الكفر الحلو*" والإيمان المسالم..
عدن كانت تفيض بالتسامح والمحبة والتعايش.. فجاءها قوم تطرفوا حتى خنقوا فجرها القادم، وصادروا فسحتها وخياراتها بطيشهم المليء وتطرفهم الصفيق، وجاءها قوم آخر غارق بالتخلف أحالها من ثغر باسم إلى غنيمة مستباحة، ينهشونها كالذئاب.. قتلوا تسامحها الكبير، وحولوا إيمانها المسالم إلى تشدد يعشق القتل ويشرب الدم ويستبد على حرية الناس وخصوصياتهم، والتطفل على تفاصيل حياتهم اليومية..
تشدد ظلامي أراد أن يلف بظلمته الحالكة نور عدن، ونور العصر، ونور الله وجماله وسمواته العلى.
اليوم عدن يخنقها التطرف وتفتك فيها العنصرية وخطر يحدق في العيون ومستقبل ملتحي وندم بلا حدود.
(4)
وضعنا في عدن
أبي عامل .. مُفند ودابغ للجلود.. مهنة محتقرة عند قبائل الشمال..
أبي كان يعمل في عدن بشركة (البس)، يدبغ الجلود ويفنِّدها، وهي الحرفة التي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عمره وريعان شبابه..
بسبب الملح والجلود والمواد الكيمائية المستخدمة في الدباغة أصيب بضيق النَفَس وسعال ليلي رافقه سنين طوال حتى آخر أيام حياته..
جزء من طفولتي الأولى التي أتذكر بعضها بصعوبة كان في عدن حال ما كان والدي يعمل بشركة البس..
بعد سنين من عمله بشركة البس جاء بنا من القرية لنكون معه وإلى جواره.
أقمنا في (دار سعد) إحدى ضواحي عدن وكان عمري يومها سنتين وبضعة شهور، وأختين توأم (نور وسامية) عمرهما أقل من عام..
وفي دار سعد سكنا منزلا صغيرا استأجره والدي ويتكون من غرفه وحمام ومطبخ وصالة.
(5)
مغالبة "الحصبة"
في عدن مرضت بالحصبة .. كان مرض الحصبة ينتشر ويفتك بالأطفال..
الحصبة فيروس انتقالي حاد ومعدي يصيب الأطفال، ويسبب لهم مضاعفات خطيرة في بعض الأحيان.
كان مرض الحصبة أكثر الأمراض انتشارا في سن الطفولة بصفه خاصة، ومن أعراضه ارتفاع في درجة الحرارة مصحوب برشح وسعال ورمد وطفح جلدي على جميع أجزاء الجسم .. و رغم اكتشاف لقاح الحصبة في ستينات القرن الماضي إلا أنه لم يقوض هذا المرض و يصيره نادرا إلا في بداية التسعينات من القرن الماضي.
أول معركة خضتها في عدن مع هذا الفيروس القاتل للأطفال .. كان نذير موت يتهددني و يتربص بي بإصرار واشتهاء..
كل يوم يمُرُّ ولا زلت على قيد الحياة كان يعني لأبي وأمي معجزة، وكان بالنسبة لي بطولة ومأثرة..
غالبت المرض وقويت على المقاومة والصمود بفضل بعض النصائح التي أسدتها جارتنا لأمي، والتي كانت على بعض دراية بوسائل تخفف من وحشية وآثار هذا المرض .. وفي الأخير انتصرت على فيروس الموت وتعافيت واكتسبت مناعة منه لمدى الحياة.
(6)
سقم وهزال
وبعد شهور مرضت بمرض لا أعرفه .. أصابني هزال وفقدان شهية .. هزل جسمي إلى درجة جعلني أشبه بأطفال المجاعة بإفريقيا .. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراع مع الموت من أجل البقاء .. أمّا أن تغلب المرض أو يغلبك، الموت يحوم عليك ويتربص بك في كل يوم وساعة..
جارنا عبد الكريم فاضل كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني قال لأبي بذهول ودون مقدمات "ابنك سيموت ولن يعيش". هذه العبارة التي بدت صادمة لأبي جعلته يذهب بي على الفور إلى مشفى في عدن غير أن الطبيب أخبره أن الأمل في أن أعيش ضعيف.
شار جارنا لوالدي أن يذهب بي إلى طبيب ماهر في لحج لربما وجد عنده بصيص أمل.
و في لحج قال الطبيب لوالدي بأن حالتي سيئة جداً، وأنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن استطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن "لعل وعسى" قرر لي وصفة علاج دون إبر..
استجاب جسمي للعلاج وأخذت حالتي تتحسن ببطء، بدأت أقبل على الطعام بنهم يزداد كل يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطل من اللحم في اليوم الواحد أتناوله كله لوحدي ولا أترك لأهلي شيئا منه يأكلونه. كانوا إذا أعطوني قطعة منه ما ألبث أن أعود أطلب أخرى حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي.
وبعدها تعافيت بل وصرت مشاغباً وشقياً .. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها .. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء .. اكسر الزجاج .. أرمي بأواني الطعام .. ارتكب كل الحماقات وأرمي كل ما تطاله يدي على ما تقع عليه عيني .. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحيانا، وتغضب أحيانا أخرى، وتعاقبني بقسوة في معظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملأ البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي .. كنت مزعجا لأهلي وللجيران والمؤجر .. لم أكف عن الشقاوة والبكاء والصراخ.
(7)
بؤس وشقاوة
كان أبي يقضي بحدود العشر ساعات بالعمل المضني من أجل الحياة وسد لقمة عيشنا المتواضعة وعيش أسرة أخرى كانت لازالت تقيم بالقرية وتنتظر ما يأتيها من والدي..
كانت الحياة صعبة وصراعنا كان هو من أجل البقاء، فالستر واستمرارنا بالحياة هي أقصى ما نحلم به ونريد.
كانت أمي تطلب من أبي أن يغلق علينا الباب من الخارج خوفاً من أن يطالها قول أو شائعة، فهي ابنة "شيخ" كما كانت تصف نفسها وتعتز، وكان أبي لا يرفض طلبها ويغلق الباب علينا من الخارج حتى يرجع من العمل.
كانت أمي شديدة الحياء والمحافظة والتوجس إلى درجة حبس نفسها بين الجدران لا تفتح نافذة ولا باب. أبي هو وحده من يفتح الباب ومن يغلقه، فيما كانت أمي تشغل وقتها بالتنظيف وغسل الملابس والطبخ والقيام بجميع أعمال البيت..
ولكن لماذا أنا أيضا يتم حبسي ولا يُسمح لي أن أخرج للشارع لألعب مع الاطفال أو أطل عليهم من نافذة.. أريد أن أرى ماذا يحدث خارج جدران البيت.. أريد أرى الوجوه والناس والحركة وصخب الحياة..
كل ساعات النهار والليل عدا النوم نظري يرتطم بالجدران وسقف البيت.. لا يوجد شق في نافذة ولا خرم مفتاح في باب..
أسمع بعض ما يحدث خارج البيت ولكنني لا أراه.. فضولي مقموعا بجدران من اسمنت وخشب من ساج ولا مجال ولا أمل أن أرى ماذا يحدث في الشارع من ضوضاء وعراك وقهقهه..
أريد أن اعرف العالم خارج حيطان بيتنا.. أريد أن أرى أبناء الجيران و(شمس) المجنونة على سريرها في الشارع، والمحوطة بالصرر والقراطيس والأشياء الفارغة التي رأيتها ذات مرة عندما خرجت مع أبي مريضا من أجل العلاج..
أريد أن أرى كل التفاصيل خارج حيطان البيت المتواضع الذي نستأجره.. ليس أمامي من طريق أن أرى العالم خارج جدران بيتنا.. كل شيء ضيق في البيت كصدري الضيق، وجمجمتي الصغيرة.. أشعر أنني أقضي أيامي في محبس من حديد؛ فكان طبيعيا أن أكون شقيا، وأن يجد هذا الحرمان والمعاناة انعكاسه في سلوكي الشقي والمتمرد بين جدران البيت وسقفه.
(8)
الموت يداهمنا.. تساؤل ..
لماذا الموت يا إلهي؟ إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة فأنت على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات ولم يخلق الله الخلائق ولم تشهد الأكوان والعوالم حياة ولا موت؟! ربما لو حدث هذا لانعدم الحزن الذي يملئ هذا الوجود..
أكره الموت عندما يخطف منا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها ولا حولا ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منا حبيبا أو عزيزا أو كريم..
الموت رهيب جدا.. الموت سكونا موحشا.. عدما وفراغا يدوم.. الموت فراق للأبد ورحيل بلا نهاية.. الموت خراب وحزن ثقيل جدا على بني البشر.. هذا ما أشعر به عند رحيل كل عزيز وحبيب فيما الموت عند الميت ربما شيء مختلف ومغاير..
الموت حالة ربما تتأخر ولكن مجيئها في حكم الأكيد.. كبار المسلَّمات ربما تكون محل ظن وشك، وأما الموت فحقيقة ويقين.. ناموس لا يقبل الشك ولا التفاوض.. ولكننا لا ندري بيقين ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل.
(9)
موت الأختين
أسرتنا في عدن كانت تتكون من أبي وأمي وأنا وأختين توأم نور وسامية.. أسرة صغيرة وبسيطة تربص بها الموت حتى ظفر بالزهرتين ..
جاء الموت على نحو غريب وغامض لا زلت أجهل سببه وتفسيره إلى اليوم. شيء أخذ من أسرتنا الصغيرة الأختين (نور، وسامية) وكدت أكون أنا الثالث.
أختي نور ماتت وكان عمرها لا يتجاوز العام .. كانت تصرخ فجأة صراخ طافح وقوي، وما أن يتم حملها تسكت، وعندما يتم وضعها على الأرض تعود بنفس الصراخ حتى يكاد ينقطع نفسها فيتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتكف عن الصراخ ويستمر هذا الحال فترة طويلة إلى أن تنام محمولة.. وفجأة تصرخ ولا تستعيد نفَسها وماتت حالا.
أختي (سامية) عندما كان عمرها أكثر من عام تكرر معها نفس الحال والأعراض.. تصرخ فجأة دون سبب معروف، ثم يتم المسارعة لحملها من قبل أبي أو أمي فتسكت، وعندما يتم إنزالها إلى القاع أو الفراش تصرخ مجددا وبصوت قارح فيتم حملها بسرعة وينتهي الأمر إلى أن تنام محمولة..
وفي يوم صرخت فسارع أبي لحملها ولكن أنقطع نفَسها ولم تعد، ولم نعرف سببا لموتها إلى اليوم، قال البعض هراء : ماتت لأن البيت التي نحن فيها مسكونة بالجن، وقال آخرون ماتت "فرحة".. وأي فرحة إذاً وصرخة موتها يشق الجدار.
كنت أحب أختي سامية، كانت جميلة وبهية.. كانت حياتها خاطفة وسريعة.. حياة قصيرة كلحظة عاشق.. كحلم عَجول.. أما أختي نور فكانت حياتها أقصر وأسرع وتفاصيلها عصية على الذاكرة بعد خمسين عاماً من طفولة باكرة.
(10)
فقدان موحش
لازلت أذكر سامية وهي مسجاة على الفراش.. كانت الرغبة تستبد بي لأعرف ماذا حدث.. كان الغموض عندي بكثافة مجرة مملوءة بالأسرار العصية على الفهم..
كنت أنظر إليها مشدوها كأنني أشاهدها واكتشفها لأول مرة.. رغم الموت كان وجهها نابضا بالنور، وعيونها مشرقة رغم السكون، كانت تلبس ثوبا بلون دم الغزال.. لا زال هذا اللون أثيرا لنفسي وإن كان يذكرني بفراق طويل.. لم أكن أدرك حينها إن الموت خطفها وغيبها للأبد.. لم استوعب أنها لم تعد بيننا وإنها لن تعود..
كنت ابحث عنها على الدوام وابكي وأقول لامي ابحثي عنها في مكان نومها، أريد أختي، أريد ألعب معها.. لم تحتمل أمي كلماتي الموجعة التي تنز دما وحرقة، كانت تحاول تبلع غصصها وتداري حسرتها البالغة فيفضحها انهمار دموعها، فتنفجر بالبكاء وأبكي معها دون أن أعرف السبب..
كرهت الموت من حينها غير أن أمي كانت تخفف من وجعي ووجعها وتقول إنها في السماء وإنها مرتاحة وسعيدة بين بنات الحور وإنها تأكل اللحم والتفاح وكل أنواع الفاكهة.. كل ما أنا محروم منه في الدنيا الفانية هي تأكله وتنعم به في الحياة الثانية..
أخبرتني أنني سألتقي بها يوم القيامة.. ومتى ستأتي يوم القيامة؟! إنني أكره الموت والفراق الطويل؟
من فرط تعلقي بأختي سامية جاءت مولودة لاحقا فأسموها سامية تعويضا وتخفيفا من فراغ موحش تركه هذا الموت الذي يغيِّب عنّا من نحب.. هذا الموت القاصي والخالي من الرحمة والمشاعر.. سامية الجديدة جاءت شفيفة ومرهفة وحميمة، ومسكونة بالسمو والنبل الجميل.
(11)
كدت أموت
ماتت نور وسامية وكدت أكون ثالثهما.. مررت بنفس الحال والأعراض.. كنت أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غرة ويسارعان أبي أو أمي في حملي وما أن أعود للأرض حتى يعود الصراخ.. وأظل محمولا حتى أنام وأحياناً أقوم من نومي صارخا ويتكرر المشهد وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسهما أنني للحياة مفارق.
لماذا أصرخ ؟! لا زلت أذكر.. لا أستطيع أنسى ما كنت أشاهده .. ما زال المشهد عالقا بالذاكرة، حافرا فيها، وما زال تفسيره وكنهه غامضا وعصيّا على فهمي إلى اليوم.
كنت أشاهد ثعبان أبيض يخرج من القاع.. طوله بحدود المتر.. له أرجل.. أرجله منتشرة على حافتيه ورأسه مربعا متناسق مع جسمه باستثناء أنه مميز بعينين مدورتين وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان في مقدمة رأسه وكأنها للاستشعار..
أشاهده بغته يخرج من القاع يجري فأصرخ بهلع كما كانت تصرخ (نور، سامية) صراخ قارح وناري يشق الجدار.. كزمجرة رعد يأتي بغته على نحو صادم في لحظة شرود وتيه.. صراخ ينم عن مشاهدة أمر صادم، مرعب وفضيع.. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقني نصفين. وعندما كانا يحملاني أبي أو أمي يختفي هذا الثعبان بالقاع، وعندما يطرحاني في الأرض أراه من جديد يخرج من الإسمنت ويزحف بسرعة، ويتكرر هذا المشهد ويتكرر هذا الصراخ .. أبي وأمي لا يرونه، أنا كنت الوحيد الذي أراه، ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب الصراخ وما أشاهده إن كان لما أشاهد هنالك من وجود.
في إحدى المرات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها فانتهى صراخي ولم أعد أراه.. فهم الأمر أنني كتبت اسم شيطان .. ولكن هذا التفسير غير مقنع ولا يستقيم لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط .. كم أخشى من ظُلمنا للشيطان وربما الشيطان بنا كان رءوف ورحيم.
(12)
العودة إلى القرية
بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت الشركة التي كان يعمل فيها والدي عن عدد من العمال وكان أبي واحداً منهم.. فقد أبي عمله في عدن.. لم يعد هنالك من مصدر دخل لنا.. ظروفنا أزادت سوءًا وانحدار.. لم يكن أمام أبي إلا أن يعود بنا إلى قريتنا التي يهرسها بؤسا وشقاء ومعاناة لا تنتهي..
في طريق مغادرتنا لعدن كنت أشاهد عساكر الإنجليز في النقاط والحواجز العسكرية.. كانوا يلبسون القميص الكاكي والسروال القصير.. الغريب أنهم كانوا يودعوننا بتعظيم سلام.. يضع العسكري يده على محيّاه ويحيِّنا بتحية تَكرِم وتليق..
يحيِّنا وهو بوضع الاستعداد والانتباه بتحية عسكرية مملوءة بالمهابة والتقدير..
كنت أسأل نفسي ببراءة طفل: هل يتحركون؟! هل يستمرون بهذه الهيئة ليل ونهار؟! كنت أتمنى أن تتوقف سيارة (اللاندروفر) التي تقلّنا وقت طويل أمام كل واحد منهم لأراهم كم يستمرون على (تعظيم سلام)، كنتُ أريد أن أملئ عيوني من كل واحد منهم ساعات طوال.. اليوم بدا لي أنهم يريدون بهذا الوداع الجميل أن يتركوا انطباعاً حسناً لدى المغادرين إلى أرض الشمال.. وبين أمس واليوم عوالم وتحوّلات لم تكن تخطر ببال.
عدنا من عدن إلى قريتنا (شرار) مثقلين بالحزن، والفراق الطويل.. عدنا نمضغ بؤسنا كماضغ الملح والصديد.. عدنا وجراحنا عميقة وغائرة بالنفوس.. عدنا وقد نقصنا عن عدد مجيئنا اثنين "نور وسامية"، وكدت أكون ثالثهما.. مؤسف أن نعود وقد نقص من عدد أسرتنا الصغيرة اثنين.. عدنا ونحن نحمل حزنا ثقيلا وقليلا من المتاع.. عدنا وقد تركنا فيها ذكريات أليمة وقبرين صغيرين حصيلة غربة بدت لنا فادحة ومكلفة.
القرية.. طفولة بطعم التمرد "1 – 19 "
(1)
قريتي شرار
قرانا متناثرة حول الوديان وظهر الجبال.. قرانا متعبة مثل رجالها ونساءها وأطفالها.. لا ندري لماذا جدَّنا الأول جاء من أطراف الدنيا يقال أنه جاء من حضرموت إلى هذه المنطقة بالذات؟!! ليس في منطقتنا ما يدعي ويأسر!! لا زلنا نجهل هذا ولا ندري له سبب أو داعي.
قريتنا واحدة من تلك القرى.. قريتنا في وادي "شرار" تمضغ فقرها كل يوم وعلى مدار الليل والنهار.. كان الخبز أو العصيد و"الوزف" الوجبة الأساسية التي تبقينا على قيد الحياة.. نعم نحن نحمل ل"الوزف" جميلاً ومعروفاً كبيراً لا ينكره إلى جاحد، ومدانين له بالبقاء والحياة..
(شرار) قُرى متعبة ووادي شقي يبحث عن مجد وسط الحزن والسياسة والخراب.. شرار مملوء بالصراع والتمرد والفقر..
شرار كالشرق الذي يبحث عن شروق ولا زال الشروق عنه نائي وبعيد.. لا أدري لماذا كان اسم الوادي (شرار)، ولكن حكاية تروى أنه عاثر الحظ وكثير القنوع.. حكايته تقول عندما قسَّم الله البساتين والحدائق على الوديان سأل (وادي شرار) عما إذا كان يريد بستان أو حديقة، فأجابه إجابة قنوعة: (إن زاد وإلا ما أشتيش) فلم يزد لوادي شرار حديقة أو بستان.
شرار كثير الصخر والحجر وقليل النعمة، وبهذا يفسرون بؤس هذا الوادي وافتقاره لبستان أو حديقة.. يبدو أن (شرار) القنوع الذي يرى البعض أنه خذل رجاءنا قبل مجيئنا لا زال قنوعا إلى اليوم، ولا زلنا نحن مسكونين بلعنة قناعته التي عشقناها ولم نترك عشقها حتى وإن طوانا الجوع وبراء عظمنا وسقم الجسد . لا زلنا بالقناعة نعتز ولم تجفل هي عنّا ولم تنتهِ وما زلنا مسكونين بالمثل: القناعة كنزا يدوم ولا يفنى.
(2)
عناد
كنت مغرماً بأكل التراب.. كان التراب بالنسبة لي أشهى من الأكل وأمتع.. وما أن تكتشف أمي الأمر فتسارع بضربي حتى قبل أن تخرج التراب من فمي، ولكن ما أن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل وببعض من عناد، ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب.
واقع مشوّه وموبوء لا يأتي إلا بما هو مشوِّه ومريض.. عُقدنا وعنادنا المدمر للذات وللآخر بدأ معنا من نعومة أظفارنا، وكبر معنا، وربما يظل عالقا في أعماقنا حتى أرذل العمر إن بلغناه.
التربية غير السوية في مجتمعنا تبدأ معنا من الحضانة ويستمر رعاية التشوُّهات في فترة التنشئة والمراهقة حتى تبلغ الصميم، ويتعدى أذاها من الشخص إلى المجتمع..
إن أخطأت في البيت تُضرب وإن أخطأت في المدرسة تُضرب، بل إن الضرب هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، بل أن السياسة العقابية في تشريعاتنا المثقلة بالوجع والركام لا تقوم على أساس إصلاح الجاني وإعادة تأهيله ليندمج في المجتمع، بل تقوم على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.
كما إن العناد الذي نكتسبه أو الذي نتطبع فيه يمكن أن يتحول إلى قوة تدميرية تهلك المعاند ومن حوله وربما تمتد آثاره إلى المجتمع بل وأكثر ..
من الأنفع بل والأروع أن نحول عنادنا إلى تحدي ينتج طاقه خلاقة كبيرة ومبدعة تثري العلم والمعرفة وما يخدم العالم خيراً وفضيلة ورخاء..
كثيرا من العلماء المخترعين والمكتشفين وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيه في خدمة الناس والبشرية فاكتسبوا العظمة والخلود فيما هناك كثير من مجرمي التاريخ وسفاحيه بسبب عنادهم وتصلب رأيهم أهلكوا أنفسهم وشعوبهم والعالم.
(3)
أكل التراب
كان يشاركني أكل التراب في صغري ابن عمي سالم والذي كان يكبرني بعشرة أشهر، وصار التراب بيننا أكثر من عيش وملح.. شهيتنا لأكل التراب ربما يعود إلى سوء التغذية ونقص مادة الحديد في الجسم أو هذا ما قرأته بعد خمسين عاماً.
تأكل التراب بسبب سوء التغذية ونقص عنصر الحديد الذي يحتاج له بدنك، وتعاقب بالضرب لسبب خارج عن إرادتك، وربما تضرب بالحديد لأن جسمك ينقصه عنصر الحديد ولا تستفيد إلا مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد وتظل تكبر داخلك، وبأعماق نفسك، في الوعي وفي اللاوعي وتشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية تضر بنفسك وتضر بالآخرين، وتغيب عدالة الأرض عنك، وربما تتأخر عدالة السماء إلى يوم الحساب.
وفي الوقت الذي تضربني أمي لأكلي التراب، أجد في مناسبة أخرى أمِّي تدعيني لأكل التراب..
كانت أمي تصطحبني معها وهي تزور قبر جدها "الشيخ حيى" وكان يزدان بغرفة وقبة مُهابة وملاحق، كانت أمي تحمل الشمع الذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجدها، وتسرِّج بها ظلمة قبره وغرفته، كانت تشعر بفرحة غامرة وهي تفعل ذلك وتمد يدها في نافذة موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتخرج بعض فتات وفراتيت التراب من كوة جدار القبر وتأكل منه قليلا وتعطيني قليلا لآكل..
كانت أمي تحثني وتشجعني على التهامه، لأنه من تراب جدها الذي جاء من حضرموت ليحط به الرحال في منطقتنا فقيها وعالما وصاحب كرامات قبل حوالي ثلاثمائة عام..
كانت أمي تعتقد أن أكل قليلا من التراب من قبر جدها يفيد بكل شيء ويحميني من كل شر.. ولكنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدته وتعودت عليه.. ولكن لم أرده لأن هيبة القبر وكرامات صاحبه بحسب روايات أمي وما تفيده من محامد جدها وتعتقده جعلني آكله ولو لم يعجبنِ طعمه لأن ثمة سر مهم ومفيد بهذا التراب كما كنت اعتقد وتعتقد أمي.
(4)
علاقة أمي بجدودها
علاقة أمي بجدودها الأولياء وطيدة واعتقادها بهم راسخ وتليد، فهي تدعو الله وتستنجد به دون أن تنسى جدودها "الشيخ حيى" و"جنوب" و"الشيخ أحمد" ولديها ثقة إنهم يساعدونها وعندما تريد شيئاً تنطع لهم الشمع وتذبح لهم الذبائح إن كان الأمر يسمح وهنالك من خطب جلل.. وما زال هذا الاعتقاد الراسخ وهذه العلاقة الوطيدة بينها وبين جدودها قائم حتى وفاتها.
أمي تقول إنها ترى جدودها يأتونها في المنام ويخبروها بأشياء تتحقق أو تقع في قادم الأيام كانت مفرحة أو فاجعة.. أذكر أنها قالت في إحدى المرات إن جدتها "جنوب " جاءت تخبرها أنه سيحدث (أمر جلل) وتحقق ما قالته خلال أيام قليلة وكما وصفته دقة ومعنى.
عندما كنت معتصما ومضربا عن الطعام مع جرحى الثورة في عام 2013 كانت أمي تدعو الله أن يساندني ويقف معي وتدعو جدودها الأولياء أن يكونا معي في المحاذير وينجوني من المخاطر ويحضرون معي في كل نائبة أو ملمة حتى أنها كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية وتسبعها في الماء وتقرأ القرآن عليها وتنذرها للمساكين وتدّعي أن هذا الأمر كفيل بان يحفظني من شرور البشر التي تفوق أحيانا شرور الشياطين كما تظن وتعتقد.
أمي وبحسب روايتها عندما تضيق بها الدنيا أو يكون هناك أمر جلل أو شيء يؤذي مشاعرها على نحو حاد ومثير تشعر بشيء يتكور في داخلها ثم يكبر كالكرة وتظل تكبر حد الامتلاء، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها وترتعش ولا تهدأ ولا تستكين إلا بعد أن تقوم بإفراغ شحناتها بنطح الجدار مرات عدة وعلى نحو مخيف حتى تأخذ حقها من الجدار ضعفين.
في إحدى المرات منعتها وهي تنطح جدار من حجر وعلى نحو أخافني، ولم أكن أعلم أن منعها من استمرار فعلها حتى نهايته يؤذيها إلى حد بعيد.. كانت تقول لي عندما منعتها بعتاب طافح (عثرتني.. عثرتني) وتبكي ثم مرضت عدة أيام.
ما زال نطح الجدار يحدث مع أمي (إلى يوم وفاتها) وعمرها يزيد على السبعين عام.. ولكن في الأيام الأخيرة عندما يحدث معها مثل هذا، صرنا نتوقع في المستقبل القريب وجود مشكلة أو شيء لا يسر.. نقرأه كإحساس بشيء سيء سيحدث عما قريب، وإن هذا الإحساس لا تستطيع أن تعبر عنه إلا بهذه الطريقة المأساوية.
مشاهد كثيرة ومتفرقة شاهدتها فيها وهي تنطح الجدار.. تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثا وأربعا وعشراً .. هذا الأمر لم أجد له تفسير علمي إلى اليوم ولم أفهمه غير أنه غير معتاد، بل أنه خارقا للعادة.
كثير من الاعتقادات الغامضة لا زلت أذكرها إلى اليوم.. كان أبي إذا خرج ليلا وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقدا إن شر سوف يصيبه إذا تجاهله وتغافل عنه.. يبدو أنه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة..
وخالتي زوجة أبي الأخرى كنا إذا حدث أن أنملت رجل أحد منا يصل أخي علي من صنعاء أو يهل ضيف علينا، وإذا نملت يد أحدانا نستلم نقودا أو شيئا يفرحنا أو نصافح كريما أو ضيف يبهجنا..
كان لنا حدس وحواس يقظة لم يعد منها اليوم غير أطلال وبقايا.
(5)
واطل أبي من بين الزحام
فوضى وكركبة أوراق وقصاصات وجرائد وكتب تملأ المكان؛ تراكمت لسنوات طوال، إن أرت البحث عن مذكرة أو ذكرى فحالك كالباحث عن إبرة في كومة قش.
منذ أكثر من ست سنوات لم أنقل إلى شقة إيجار جديدة مرغما على تحمل إيجار مضاعف بسبب هذه الكركبة التي أشعر أنها تحتاج إلى أشهر لنقلها.
غير أن أكثر ما يضايقني فيها هي وثائق ومخلّفات مجلس النواب.. تشعرني بالضيق ونفاذ الصبر وتثير في نفسي قرف وعاصفة من غثيان، وعند النوم تجلب لي إزعاج وكوابيس تنزع قلبي وتقذفه بعيدا عني، وإن ضجرت مني سلمتني لأرقٍ ولعنات لا تخيب.
مجلس النواب الذي صلب الشعب أكثر من عشر سنين (اليوم صارت 14) فقر وفساد وتبعية، تزاحمني مخلفاته حتى في غرفة نومي.. تتزاحم تحت سرير النوم، وفي النوافذ، والأرفف، وعلى الدواليب، ولم يبق في المكان متسع أو متنفس إلا واكتظت فيه.
كنت كلما أعود إلى البيت من هذا المجلس حاملا بعضاً منه تثور زوجتي غضبا ونتشاجر ويتحول يومنا إلى "يوم حمار".
لطرد الكوابيس عند النوم.. قرأت المعوذتين والفاتحة.. قرأت ياسين.. وضعت تحت رأسي قطعة من حديد.. شربت الماء، وجربت النوم طوى؛ ولكن لا فائدة.. أعيتني الحيل وباءت كلها بالفشل، ولم تنفع مع هذه الكوابيس ولعناتها كل النصائح والهرطقات.
حاولت أن أعيد ترتيب وتنظيم تلك الفوضى المتراكمة، وفرز ما يجب أن يبقى وما يجب أن يذهب إلى مقلب القمامة، غير أنني وأثناء المحاولة كنت قد وجدت أمراً قادني إلى بقايا ماض مُهمل وحزن مختبئ..
طل أبي من صورة مهملة في زحمة حياة لا تبقي مكاناً للصور والذكريات.. وجدتها فاستعدت شريط حياة مضت كمن دنا أجله وأقبل على رحيل دائم لا ينتهي.. عدت إلى الذكريات بحلوها ومُرَّها نابضة بالحياة والحنين.. وجدتها جميلة ومؤثرة حتى وإن كانت تحمل قليلا من الفرح وكثيرا من المرارات والوجع والحرمان..
كان أبي قاسياً معي.. لكنه مات وكل منا متسامح وراض عن الآخر، وبين الحياة والموت حكايات، وآماد من الحزن والحنين والتفاصيل..
صادف هذا الحنين حالة أعيشها أشعر أنها لا زالت ملتبسة وغامضة؛ لا أدري عما إذا كانت حالة يأس وانكفاء على الذات تسير نحو غربة موحشة؟! أم هي حالة تمرد واحتجاج على أوضاع ما زالت عصية على البوح؟! أم هي استراحة محارب أثقلته الجراح والحراب في حرب ضروس؟! وربما هي حالة مخاض من مخاضات الحاضر تليها ولادة وبشارة، وخيارات متطلعة رغم ضيق مثل هذه الخيارات في بلد مثل اليمن، بلد مثقلة بالموت والغياب والتشظي..
(6)
الموت.. شكوك وأسئلة
وفي زحام الحنين تنتابني مشاعر غامضة ومتناقضة أحيانا، وتحاصرني الشكوك وتداهمني الأسئلة..
ابغض الموت الذي يخطف منّا من نحب.. الموت الذي يثقل كواهلنا بالحزن.. الموت الذي يمضي ويحكم بالفراق الذي لا يقبل التماس أو رجاء.. فراق لا لقاء بعده ولا معجزة.
وتجوس في خاطري الظنون والافتراضات العصية.. من يدري ربما الموت منحة لو عرفها المرء منّا ما كرهها بل وربما من أجلها سعى.
هذا الافتراض يعني إن الموت يقطع بضربة سيف حاسمة آلامنا وأوجاعنا وشقاءنا ومآسينا الدامية.. لا ضجر لميت ولا كآبة.. لا تعاسة ولا قهر ولا عذاب.. ربما الموت هو العدم الذي لا نجد فيه ظلم أو ضيم أو وهم أو ندم.
الموت هو السر أو اللغز الذي لم يجد له اليقين طريقا ليكشف سره وطلاسمه..
الموت يمر على الجميع، لا يدركه الراحل منّا بل هو عصيا على فهم الجميع.
ولكن السؤال ليس شيطانا، ولا قرن شيطان.. السؤال بوابة للعلم والمعرفة.. والشك ليس غواية؛ فكم من شك انتهي بحقيقة ويقين.. ولكن هل الموت عصيا على الشك والأسئلة؟! السؤال في وطني المستلب مغامرة.
ماذا كنتُ قبل ألف عام؟! وكيف سأكون بعد ألف عام أخرى؟! هكذا ربما أُتبع السؤال جواب بالعدم.. وأخيلة التيه عصية على الخيال.. ربما الموت هو العدم أو حال مقارب منه أو يشبهه..
ومن يدري ربما الموت شيء آخر يختلف.. وفي الموت عقائد ومذاهب وفلسفات، فلم يمت أحد من بني البشر وعاد ليخبرنا باليقين عمّا حدث، ويكشف لنا سر الموت ولغزه وغموضه.
لا أدري اليوم بأي حال أنت يا أبي.. هل أنت في الجنة أم في النار أم في حكم العدم أم بحال يختلف! ومع صورة أبي التي وجدتها بين القصاصات والورق حملتني الذكريات إلى الطفولة والصغر؛ تذكرت الشقاء والمرض والتعب.
(7)
معاناة منذ الصغر ..
رعيت الأغنام وكنست الدار وحملت روث البقر.. ساعدتُ أمي فيما لا تقوى عليه خصوصا عند الحمل والولادة.. وبسبب الكنس والدخان أنقطع النَفَس وأصبت بالربو وكدت أفارق الحياة مرتين.
كانت أمي تدعو الرب والأولياء الصالحين وقد أصابها الجزع والفزع، وكان أبي ينتابه القلق المكتوم والمكابر، وكنت أنا أشعر بالهلع وأنني لهذه الحياة مفارق إن لم تحدث معجزة، ويتدخل الرب والأولياء الصالحين.
في الصف الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم أكثر من عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة وعشرة مثلها عند الإياب.
تذكرت معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية وأنا أدرس في القسم الداخلي.. تذكرت قسوة والدي التي تجاوزت الضرب إلى التعليق والطعن وإطلاق الرصاص..
تمردت على ظلم سطوة السلطة الأبوية المفرطة.. قاومت أكثر من ظلم كنت أشعر أنه يفترسني ويهرس عظامي.. رأيت الموت أكثر من مرة، وتحديت الأقدار، وثرت في وجهها بألف سؤال.. فكرت باقتحام الموت واستيفاء الأجل ولم أعبء بجهنم وبأقوال أمي إن المنتحر يذهب إلى النار.
رفضت الانتقام، وحاولت الانتحار احتجاجا على واقع مُر وكرامة بدت لي مهدرة، غير أن العدول عن هذه الحماقة الجريئة كان فيه انتصار للحياة والحب والإنسان.
كان قد بلغ شعوري بالظلم حد المساواة بين جحيم الحياة وحياة (جهنم) .. هكذا بدا لي الأمر سيان لا يختلف.. كان أبي يضربني كل يوم مرات ومرات، ولو حصل وضربني أقل من ثلاث مرات فهو يوم عيد لا يعاد إلا في العام الذي يليه.. يوم يستحق الاحتفاء والاحتفال.
كان هذا الضرب يحدث غالبا أمام مشهد من الناس، وكنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني.. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي وما جرى من أبي.. كنت أشعر أن الإهانة تسحق عظامي.. كنت أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب.
ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً وهي الانتصار للمقموعين والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح، والدفاع عن الضحايا ولو كلفني هذا حياتي مرتين..
(8)
الصلاة والفاتحة
عشت الواقع بكل مراراته وقسوته.. كنت أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا تطاق.. رفضت أن أعتاد الأمر أو أتصالح معه، وكنت أعبر عن رفضي بحالات تمرد كثيرة بعضها كان عابراً للموت والمجهول أو يكاد يكون الحال كذلك في بعض الأحيان..
أهداني أبي كتيب حول تعلم الوضوء والصلاة، اسمه "سفينة النجاة" سعادتي بهذا الكتيِّب كانت غامرة وقلبي بهذه الهدية صار صرة فرح يرقص ويطير.
وفي غمرة هذه السعادة كنت أردد أنشودة :
"أنا طفل بطل شاطر وكل الناس يحبوني
أصلي الصبح بالباكر وأدعو الله يهديني"
ولكن هذه السعادة سرعان ما انقضت و تبدل الحال إلى ضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..
"علموهم على سبع واضربوهم على عشر" هذا الحديث المنسوب إلى النبي محمد أشقاني ونال مني الكثير حتى أنني وإلى اليوم وقد تجاوزت الواحد والخمسين عام (56 عام) لم أحسن ما ضربت من أجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير.
خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة. ضُربت من أجلها، وكنت عند قراءتها عجولاً وأنسي تشكيلها حتى خلت أن حفظها أمراً أكثر من مستحيل، واعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي بسبب أخطائي في القراءة أو هكذا فهمتُ من والدي الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام وحفظ القرآن والحديث على يد البيحاني في عدن.
(9)
حسرة وحيره
كانت الحسرة تبتلعني وأنا أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون فيما أنا الممنوع من أي لعب أو لهو.. كنت أغبطهم وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم ويفيضون عليهم بالمحبة والرجاء، فيما كنت أنا أمضغ جروحي وأختنق بالغصص.
كنت أسأل ربي لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقني هذا الرب في مكان آخر من الكون وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ (المهم أمي تكون معي)..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ولين؟!.
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: "اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفى سببه" وكانت فلسفة أبي في التربية الضرب "يشحط" ويجعل الرجال أفذاذا..
كان يعتقد أنها تربية سوية ومجربة، وسبق تجريبها مع أخي الأكبر علي وأتت أُكلها بما يروم ويرتجيه.
أنا وأبي – ربما – كل منا يقرأ الأمور بطريقته وكل منا يرى الحق معه.. لم أفكر بأي ردة فعل عليه أو تسجيل بطولة، بل التمست له ألف عذر وعذر.
إن الواقع مر والاستلاب فاحش والتنشئة مشوَّهة والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
رغم كل شيء كنت أحب أبي وأجزع إن مرض أو هدده الموت لأي سبب ..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل وأنا صغيرا لا أقوى على حمله ولا على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي رغم كل ما يفعله بي من ضرب وقمع وحصار.
(10)
أسئلة تتناسل كالضوء
كنت أمعن التساؤل في المفارقات بتلقائية، وأتمرد على المألوف بعناد، وأثور بالأسئلة عن المسكوت عنه دون أن أعلم أنني أثور..
كنت أتخيل الله بحسب الحال من غضب وفرح واستراحه وسعادة.. كنت أتخيل الله يراني في كل حال حتى عند قضاء الحاجة..
كنت أسأل عن الله وأتخيله في معظم الأحيان رجل ضخم بطول السماء مستريح على أريكه أضخم، أو سماء ملساء اشبه بمرآة عريضة عرض السماء، وأحيانا أتخيله مستريح على سرير عظيم، أو جالس على محفة عظيمة وثمانية من الملائكة العظام يحملونه.. ثم تتغير هذه الصورة وأنا أتخيل الله وهو يغضب من أسئلتي ويتوعدني بالعقاب والنار.
كنت أسأل أمي وأسأل الله أسئلة أشعر أنها تغضبه.
كنت أتساءل بتلقائية وأحتار مع كل سؤال يتفجر داخلي ولا يجد له جواب..
كانت تبدو الأسئلة بلهاء وساذجة، وكانت أمي تارة تتجاهل سؤالي وأحيانا تجيب على نحو لا أتصوره، وفي بعض الأسئلة الصادمة، كنت أرى وجه أمي وهو مصعوق بالخوف والهلع .
كانت الأسئلة كبيرة وإن غرق بعضها ببعض التفاصيل الصغيرة التي لا تأتي على بال الكبار، ولكن كان بعضها يلقم أمي عجزا بحجم جبل لا حجر، فتسارع بالتهديد المهول والوعيد المرعب وقمع السؤال..
وإجمالا بصيغة أو بأخرى كان مؤدى الأسئلة إلى الله كيف هو وكيف أوجد نفسه وكيف كان الحال قبله؟!
كنت أسأل نفسي وأسأل أمي بما معناه: لماذا لا يساعدني الله على حفظ سورة الفاتحة كما يجب؟! لماذا لا يخلق الله لنا من أجل قرآنه عقل يحفظه، أو ذاكره تجعل من السهل علينا قراءته وحفظة طالما هو كتابه ووحيه؟!
كنت عندما أرى وجهي في المرآة أرى قبحي في جحوظ عيناي فأسأل أمي: لماذا الله أقبحني بعينين جاحظتين ولم يساويني بأقراني؟! وكان الجواب قد تلقته من أبي أنني أشبه جدي "هاشم" في عيوني..
كنت أسأل نفسي: عندما أكبر هل سترضى بي من أحبها تتزوجني وكل هذه البشاعة التي خلقها الله في عيوني؟!
كنت أسأل: لماذا ثابت صالح فقير وهو طيب ومكافح ويكدح بأجر قليل؟! ولماذا "فلان" غني وهو ظالم ومحتال وشرير؟!
كنت أسأل: لماذا نذبح "العيد" يوم العيد؟!
لماذا قطتنا المسكينة والأليفة تأكل صغارها وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!
هل سيعاقب الله الثعلب الذي خطف ذات يوم دجاجتنا والتي كانت في لجة الليل تصرخ وتستغيث؟!
كنت أسأل: لماذا الله يزلزل الأرض؟! فتجيب أمي إن الأرض على قرن ثور.
كنت أسأل: لماذا الله يقتل الأطفال في الزلازل والسيول؟! ولماذا الأمراض تفتك بالصغار؟!
هل الموت أعور أم هو أعمى؟!
لماذا الحصبة التي هددت يوما حياتي تفتك بأطفال لا زالوا بعمر الزهور؟!
طبعا بعض الأسئلة لم تكن بتلك الصيغة التي أكتبها الآن بل كانت مقاربة أو مؤدية لمعناها الذي أستحضره اليوم وأكتبه.
أسئلة لا تنتهي، بل هي تتكاثر كالفطر وتتناسل كالضوء، يواجهها قمع وتعنيف وغياب جواب أو جواب خطاء أو جواب أبلعه بصعوبة.
كانت أمي تحاول الإجابة فتعجز وتقمعني وتمنعني من هذه الأسئلة التي تقود إلى الكفر وعذاب النار، أما أبي فلا أتجاسر على سؤاله لهيبته وخشيتي من عقابه.
كنت بأحد المعاني أثور بالأسئلة ولم أجد لها من جوابا كاف وشاف، وكنت أسخط ما يستسهل الموت ويهدر الحياة وينتج العنف والقسوة ويسوّغ الظلم ويبرره.
(11)
خروف العيد
خروف العيد الذي ربيته واعتنيت به وعشت معه يوما بيوم وصار رفيقاً حميما لماذا يذبحونه؟!
كنت أشاهده يوم العيد متوترا ومتسمرا في مكانه، رافضا مغادرة حظيرته ومفارقة أقرانه..
شاهدتهم وهم يكبوّه ويرغموه على السير عنوة وكأنه يدرك أنه ذاهب للسلخ.. كنت أشاهده مملوءا بالفزع والخوف.. عيناه هلعه ومرعوبة وهي ترى السكين..
كنت أشاهدهم يقدمون له الماء ليشرب قبل الذبح وهو يرفض وكأنه يحتج على أقدار ونواميس هذا الكون..
كنت أتابع تفاصيل حركاته وأنفاسه.. كان مرعوبا ويرتعش فزعا وخوفا.. كان يعيش اللحظة كما هي.. وكنت أتمزق من الألم والحزن وهو يُذبح، ثم ألوذ بالهرب مسكونا بالرفض وعدم الرضا أن تكون الحياة بشعة على هذا النحو.
كنت طفلا، وما كنت أظن أن عمري سيمتد إلى ما بعد الخمسين، وأشاهد ما هو أكثر من فادح ومرعب وبشع.. ناس يجزون رؤؤس ناس تقربا إلى الله وطلبا لغفرانه ورضوانه..
ناس يرتكبون كل حماقات الدنيا وفظائعها من أجل دخول الجنة ومضاجعة حور العين..
ما كنت أدري أن جوع الجنس أكبر من كل جوع.. ما كنت أظن أن مستقبلنا سيغتصب وأحلامنا ستصلب بهذا القدر من الجرأة والبشاعة والدموية المُغرقة..
ما كنت أعرف أن أوطاننا سَتَعلَق وستغرق بكل هذه الدماء، وأن حضارة وعمران أكثر من ثلاثة ألف عام سيطوله كل هذا الدمار والخراب، وإن الموت سيعبث فينا بهذا القدر من الجنون ، ويُعاث بالأرض كل هذا الفساد القادم من الناس لا من الشياطين..
ما كنت أظن أنني سأعيش إلى أن أرى داعش والنصرة والقاعدة وأنصار الشريعة ترتكب كل هذا الموت والدمار والخراب باسم الله والجنة والحور العين.
(12)
فقر وبؤس
سكان أريافنا فقراء، شبه معدمون، يعيشون شظف العيش وبؤس الحال، يكابدون ويكدحون من فجر الله حتى مغيب الشمس من أجل لقمة عيش كريمة، لقمة العيش في جبالنا صعبة المنال تدمي القلوب والأظافر.
جبالنا وعرة وشامخة؛ طينها قليل وعزيز؛ الأشجار تغالب الحما والضما؛ وجذور السدر والعوسج و"العسق" تشق طريق صبور في الصخر والجبل.
الزراعة موسمية؛ أغلب المواسم "تخيب ولا تصيب"، كثير من السحب كاذبة، تبدو وكأنها مثقلة بالغيث، ثم تكتشف بعد ساعات قليلة أنها خادعة لا تحمل غيث ولا مطر؛ مقالب الأقدار كثيرة ؛ قليلة هي المواسم التي أوفت وجادت بالمطر من موعد البذر حتى موعد الحصاد.
الماء شحيح معظم أيام السنة؛ النسوة يخضن معارك ضروسة ولساعات طوال من أجل جلب الماء من أمكنة بعيدة، المرأة تقضي أحيانا ثلث نهار أو ربع ليل لتظفر بدبة ماء واحدة لا يزيد سعتها عن عشرين لتر، النساء لا يظفرن بالماء أيام النزاف إلا وقد بلغت قلوبهن الحناجر..
كان الجوع يعصر البطون وحزام الفاقة يضعون تحته حجر، وسؤ التغذية رفيق حميم، والموت طليق يخطف من يشتهي، وأغلب من يخطفهم الموت ويشتهيهم أطفال وصبية وشباب بعمر الزهور ..
في مناطقنا كانت تجتمع علينا المخافات الثلاث؛ فقر ومرض وجهل.
كانت أيام عيد الفطر وعيد الأضحى هي أيام فرح العام وقلما يجد الفرح متسع في غير أيام العيد. أغلب الناس يشترون الثياب الجديدة مرة واحدة في العام، يلبسونها أيام عيد الفطر ثم يحتفظون بها لعيد الأضحى، يرمون عصفورين بحجر واحدة، قليلون هم أولئك الذين بمقدورهم شراء الملابس مرتين في العام.
في أريافنا، كان الصراع من أجل الحياة مرير؛ الحرمان يشبهنا وهو موطننا وفيه نقيم، لا يغيب ولا يُغتب ولا يفارق لكأنه رفيق حميم، أما "النادر فلا حكم له".
كان أغلب الناس يأكلون لحم الماشية في عيد الأضحى، وقلة هم من يستطيع أن يأكل لحم الضأن مرتين في العام؛ إن رُمت لأكل صدر دجاجة في غير أيام العيد فما عليك إلا مُلازمة المرض، وحنون يحبك ويهتم بك؛ وأما أنا فكنت لا يروقُني أن تُذبح من أجلي دجاجة حتى وإن بلغت "الصفراء" رأسي وبلغ السل مخ العظام..
(13)
عيد غير سعيد
الأطفال والصبية يفرحون بالعيد إلا أنا، أنا المنكوب بعاثر الحظ، لا يسلم فرحي بالعيد من قدر يفسده ويسِّود صفحته. عيدي هذا العام موجوع بأمي الهاربة عند أهلها من نكد تعاظم وشجار أستمر وزاد عما يحتمل..
عيدي بعيد عن أمي لا طعم له ولا لون، أشعر أن الوحشة والغربة والحزن قد سكنوني مجتمعين في أيام يفترض أن تكون بهجة وسروراً وفرحا..
في العيد يتسربل الصبية بالسعادة ولباس العيد؛ ترى الفرح في وجوههم كالعصافير ومحياهم نور على نور.
وجوم ليالي العام، ظلمتها، وحشتها، تجهُّمها، رتابتها، وحدها التي تكسره بهجة العيد، تمزقه فرقعات "الطماش" ووميضها.. السرور يغمر المُهج والقلوب.. أما أنا فشأني مُختلف.. لم يفسد هذا العيد غياب أمي فقط ولكن أفسدته أيضا وشاية ابن جارنا..
(14)
في يوم العيد
سبب صغير بحجم حبة خردل كان لدى والدي يكفي أن يشعل حيالي حربا عالمية.. وما يستفزه أكثر من ذلك أن لا يراني مستجديا لرحمته..
عدم استجداء رحمته كانت تعني بالنسبة له أنني أستفزه وأنتقص من هيبته وهو المهاب..
عدم مناجاة عطفه يعني أنني أتحداه وأثير غيضه وحفيظنه.. أمر كهذا لديه بالغ في الجسامة وموغل في التحدي لسلطته وداعي مثير لإعادة اعتباره ومهابته..
إذا ما داعاني لأمر وتونيت فقط في إجابته تجد وكأن الجن تلبسوه وركب فوق رأسه ألف عفريت..
حاول قتلي طعنا ب "الجنبية"، وحال المتواجدون من نسوة ورجال وفتية دون قتلي وأخطأتني الطعنة لتصيب ابن عمي عبده في يده بينما كان يحاول منعها من أن تخترق جسدي المُنهك والمثقل بالتعب..
تحول العيد في وجهي إلى احلك من ليل وأكثف من ظلام سرداب سحيق..
هربت من سطوته مأئة متر فيما هو يحاول قتلي بالرصاص وتداريت بجذع شجرة "السُقم"، كنت أختلس النظر من محاذاتها فيما كان الاختلاس يستفز أبي ويثير حماقته وحميته كما يثير المصارع الأسباني هيجان ثور خرج للتو من محبسه إلى حلبة مصارعة الثيران وقد أصابه المصارع في طعنة سيف..
العراك على أشده؛ نسوة ورجال يحاولون انتزاع البندقية من أكف أبي فيما هو يصر على محاولة قتلي؛ كنت أسائل نفسي بهلع عما إذا كان بمقدور الرصاص أن ينفذ من جذع الشجرة فيطالني، أعود لأطمئن نفسي إن الجذع قادر على أن يتولى مهمة صد الرصاص!
غير أن الأكثر أماناً أن استفيد من لحظة العراك وألوذ بهرب سريع..
هربت والذعر يضاعف سرعتي، كتب الله نجاتي، كما كتب أيضا مزيدا من الخيبات والعذاب..
(15)
هروب وعودة
هربت إلى دار "الشناغب"، دار جدي والد أمي الذي يبعد عن بيت أبي بحدود خمسة كيلو مترات، يقع في منطقة محاذية لحدود دولة الجنوب.. جدي رجل فاضل، مسالم، طيب القلب، نقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته في قراءة القرآن، كان تقيا، ورعا، محبا، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شرا، ولا يكترث ولا يعر بالا للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقا ثمنا لأفعال الساسة.
أقبل أبي بعد سويعات، رأيته من دار جدي دون أن يرانا، رأيته يمتطي حماره الأبيض، كان حمار أبي يشبه فرسا أو حصانا كريما، رأيت بندقية أبي مسطوحا أمامه، يبدو مستعدا لاستخدامها في أول وهلة يراني بها، رأيت في مَقدَمته شرا وشررا ونارا، خرجت مذعورا من الدار إلى الجبل في الاتجاه المعاكس لمقدمه متجها نحو حدود دولة الجنوب.. هنالك دولة ونظام لعله يتولَّى حمايتي ولجم حماقة أبي.
خالتي أخت أمي أبلغت والدي أنني خرجت من الدار وهربت؛ كانت خالتي صارمة وحازمة، تجيد الاستبسال، تجيد أيضا إشعال الحرائق. أدرك أبي وجهتي واستطاع الإسراع إلى مكان يحول دون وصولي إلى الحدود، وبعد طول تفاوض مع خالتي ورجال خيريين من عابري السبيل، التزم أبي بألا يؤذينني مقابل أن أعود إلى بيته؛ طمئنني الجميع أن الأحوال على ما يرام، لن يحدث لي أي مكروه؛ والدي تعهد ألا يلحق بي أذى أو انتقام، نزلت من الجبل، وعاد أبي وهو يبلع غيظه شاعراً بعدم الرضا لأنه لم يشبع حماقته، لم يشفِ غليله..
عدت بموكب يحيطني، كانت بعض النسوة وأختي من أمي إلى جواري يرافقن عودتي وخمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي، بدأت مع السير تضيق، تضيق.. وعندما بلغنا منطقة تسمى ب: "سوق الخميس"، لم يحتمل أبي أن أسجل عليه ما بدا له انتصاراً، استفزه منظري وساورته الريبة بأنني أُشمت به وأنال من سلطته وسلطانه، لم يحتمل ما جاس في صدره، ثارت حماقته، تمتم بالسباب وصوب بندقيته بانفعال نحوي، حمتني النسوة بأجسادهن؛ تعالى الصياح والذعر، تدخل المارة وكل من كان على مقربة منا؛ انتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهدا آخر للناس بألا يُلحق بي سوءاً أو ضررا، وبر هذه المرة بوعده ولكن على كره ومرارة ومضض..
عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وعشيرتها، عدت لبيت أخي وقضيت فيها بضعة أيام قبل أن أعود إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشد الندم على ما حدث وعلى تركها لي أياماً كنت خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي.
(16)
خذلني القدر بعد مائة صلاة
الآباء يحنون على أولادهم.. يغمرونهم بالعطف ويحيطونهم بالرعاية.. لا يردون لهم رجاء أو طلب إلا ما استحال وتعذر.. أبي الوحيد الذي من بين ألف طلب لا يستجيب لي بنصف طلب، لا رجاء يجدي معه ولا توسل.. أبي لا يتجلى ولا يرتخي طبعه حتى في يوم العيد.. أبي صعب المراس كالفولاذ وقلبه من صوان أو هكذا أعتقد.
الآباء لا يمنعون أولادهم من الذهاب للموالد والأعراس والعزاء.. أبي لا يمانع فقط بل ومستعد أن يرتكب أي حماقة إن فعلتها عنوة أو تجاوزا..
"الخضر"، ولي صالح لم يسبق أن حضرت "مولده" أو قمت بزيارة مزاره.. كنت اسمع من الأطفال والصبية عندما يعودون من "مولده" كثيراً من الحكايات والمشاهد التي يعودون بها كل عام ويسردوها بتباه وكأنهم ارتادوا كوكب آخر أو زاروا سطح القمر..
عندما يسردون الحكايات والتفاصيل أنا الوحيد الذي أجد الألم يعصرني والمرارة تذبحني لأنني ممنوعا ومقموعا، وزيارته أمل بظهر الغيب..
في "المولد" يأتي الناس من كل حدب وصوب.. وجوه الصبية تشع بالنور ابتهاجا وفرحاً..
كل الوجوه تلتقي بالأعياد والموالد.. البيع والشراء في الموالد على أوجُّه.. أشياء للبيع لا تجدها إلاّ بمثل هذه المناسبة التي لا تتكرر إلاّ مرة واحدة في العام..
البيارق وألوانها الفاقعة تخطف النظر، وتولد البهجة في النفوس وتعطي المناسبة تميزا وجلالة قدر..
الكرامات التي تسمع بحدوثها في الموالد أحيانا تفوق الخيال.. المجاذيب ترى منهم ما يدهش ويذهل.. هنالك ترى من يغرس رأسه بالساطور، وهنالك ترى من يخرج عينه من مكانها إلى يده برأس السيف ثم يعيدها إلى مكانها دون أن ترى توجع أو أثر.. حكايات كثيرة تجعلك تجن شوقا لأن تراها وتحضر دهشتها وتفاصيلها.
من أجل أن أحضر هذه المشاهد دعيت الله أسبوعا أن يلين قلب أبي لأتمكن من حضور هذا المولد البهيج.. وبدلا من الصلاة للرب ركعتين صليت مائة، وبدلا من أن أحمُد الله وأستغفره وأسبّح لملكوته مائة فعلتها آلاف وضاعفتها على أمل أن يجعل الله قلب أبي رقيقا حتى يسمح لي بحضور "مولد" الخضر هذا العام وهو حضور لطالما حلمت به وانتظرته وتأجل من عام إلى عام.
ولكن رغم صلواتي واستغفاري وتسبيحي خذلني القدر، وكانت خيبتي بطول وعرض السماء، وظل قلب أبي صعباً، لم يرق ولم يلين.
أمي أيضا تبذل مساعيها من قبل أسبوع ولكنها أخفقت، وفشلت فشلا مريرا في استرضاء أبي وانتزاع موافقته، فأبي عندما يمعن في الإصرار والعناد ويتصلب موقفه يحتاج قضاء وقدر وأكثر..
(17)
محاولة انتحار
حاولت التحدِّي وأذهب عنوة مولد الخظر، ولكنه كتَّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروسا في قاع، وضربني بعنف وقسوة لا أنساها ولا تنساها السنين الطوال.. نعم "نحن نسامح ولكننا لا ننسى"..
ظللت على وثاقي أكثر من ساعات انتهى فيها كل شيء وأجفل الناس والصبية، وعادوا من "المولد" إلى البيوت.. ذهب أبي وفكت أمي وثاقي وانتابتني نوبة سخط واستنفار جنوني.
صعدت إلى حجرة والدي ووجدت السلاح في متناول يدي. أخذت بندقيته الآلية وعمرتها وتمددت وضعتُ فوهتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أتم إطلاق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعت خوار بقرة أمي وكأنها تريد مني نظرة وداع أحتاجها أنا أيضا، أو ربما تريدني أن أكف عما أنتوي فعله وربما غريزة البقاء كانت أقوى مني.
ذهبت لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة. وأول ما رأيتها شعرت أنها تترجى وتتوسل بألا أفعل. أحسست أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعدا أو فراق. قبّلت ناصيتها، ومسحت ظهرها، وراحت أكفي تداعب عنقها وضميته بحرارة مفارق. كانت تصرفاتي معها أشبه بتصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلهاً أو معبوداً مقدس.
شعرت بحبها الجارف، وبادلتها محبة غامرة. شعرت أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.
غالبتُ دموعي ولكنها كانت تنهمر سخينة. رأيتها تشتمَّني بلهفة وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار. أحسست أنها هي أيضا تغالب دموعها. ذهبت لأسرق لها الطحين وأصب عليه الماء وأقدمه لها كحساء وداع أخير. كنت اختلس لها كل يوم القليل من الطحين وأصب عليه الماء لتشرب وتستمتع وتستريح، ولكن القدر المختلس في الوداع الأخير تضاعف ثلاثة على ما هو معتاد.. لم أعد أخشى انكشاف الأمر لأن القادم سيكون جلل وسيجعل الجميع لا يفكر بذرة طحين. إنه حساء العمر الذي لن يتكرر معها ولن يعاد. ودعتها بألف قبلة بدت لي أنها قبلات الوداع الأخير. وفيما أنا ذاهب عنها رأيتها ممعنة بالنظر نحوي وأحسست أنها تتوسل وترتجي ألا أفعل ولا أرحل.
تطلعت صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. أودع كل شيء، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل. كنت أتفرس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمي.
تذكرت أمي وحب أمي.. أمي التي ضحت بأشياء كثيرة من أجلي.. تشربت ألف عذاب وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء. كنت أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها.
لم أكن في تلك اللحظة أتخيل أن ثمة شيء يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمي هو من غلبني، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمي. تذكرت وهي تقول لي: "إن حدث لك مكروه سأموت كمدا وقهراً".
لا أستطيع أن أتخيل أمي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمي. كنت أتصور أن مشهدا كهذا سيكون صادماً وصاعقاً وفاجعاً للإنسان الوحيد الذي أهتم له؛ مشهد لا استطيع تخيُّله. مشهد لن يحس بمدى فاجعته غير أمي.
بسبب أمي وحبها وأخواتي أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أخف ضرراً وأقل كلفة.
(18)
بديلا عن الانتحار
أبي ذهب "للصراب"، وأمي ذهبت لتجلب الماء من بئر قريبة، وأخوتي في مكان قريب.
نزلت من الحجرة إلى الديوان، تموضعت فيه ووضعت أصبعي على الزناد و"هسترت" وأفرغت ما في البندقية من رصاص. لم أكن أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل. لا أدري كيف نجوت وكيف وجدت للمستحيل طريقاً!
لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من الخارج ويسمع لعلعة الرصاص يعتقد أن ثمة زلزال صغير قد حل.
صارت الجدران مخرّمة كوجوه عبث بها الجدري. فيما كانت رائحة البارود نفاذة تملأ المكان.
النسوة والرجال والأطفال يهرعون إلى الدار، وأمي تهرع وتتصرف كمجنونة، تصرخ وتبكي وتنوح؛ بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة، تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بمكان مظلم مملوء بحزم الزرع اليابس في الدار. أما أبي فقد هرع لينتقم مني أشد انتقام لكنه لم يجدني.
مكثت أياماً في مخبئي السري لا تواسيني غير أمي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من ألف مشكلة.
مللت مخبئي وملني هو الآخر. طلبت من أمي أن تترك لي فسحة بين أخوتي النيام لأنام بينهم ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي. ولكن أنكشف أمري بعد ساعة من زمن.
مر أبي على أخوتي النيام بحدود الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بالنوم. أنا الوحيد بينهم من كنت متوجساً ويقضاً أسمع دبيب النمل. سمعته يعد أخوتي ويقول لأمي هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثي على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وكان عددنا ستة، وما أن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض، فانقَّضت أمي على أبي كذئبه وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين، وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها.. يمزق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيب أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والفزع.
استفدت من لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. قفزت من فوق الدار. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة وربما مادة الإدرينالين التي تفرزها الغدد الكضرية في الجسم في مثل هكذا حالة تجنبنا مما قد يلحق بنا من ضرر محتمل.
(19)
ما أجمل الفقراء..
هربت إلى مكان قريب. ثم تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض الجبل"إجت الجفيف"، شعرت بالوحشة ولم اهدأ ولم يأتني نوم ولم اطمئن. كنت أتوجس أن يخرج الأموات من قبورهم. اسمع حكايات كثيرة عن حياة الأموات في قبورهم. أردت أن أجد مكانا أكثر أماناً حتى إذا ما داهمني سبع أو ضبع مفترس أجد من يسارع في نجدتي. لقد سمعت عن رجال كبار أكلتهم الضباع والسباع ولم يبقَ منهم سوى بقايا من عظام وأطراف.
لجأت إلى مكان قريب من منزل شخص كان يطحنه الفقر، شخص اسمه ثابت صالح. كان يكدح من الصباح إلى المساء بإيجار قليل. كان يحرث ويحمل الحجار على ظهره طوال النهار عندما يبني الناس بيوتهم. كان بيته متواضعاً جدا ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك وأخلاقه عظيمةً جداً.
سمع "ثابت" خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له أذان.. سمع حصى تتساقط بسب تسلقي بعض الجدران. ونتوءات الجبل أيقن أن هناك أمرا ما. وجه الضوء نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث. أزداد يقينا بوجود شيء يستدعي الاهتمام.
طلع إلى المكان الذي كنت فيه. وجدني وعرفني وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته. نزلت معه. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمي. لم تصدق أنني من وجده زوجها في الجبل. رحبت بي ترحيب الأم المحب. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أب حنون وأم ثانية. سألتني عما حدث في بيتنا ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا.
حكيت لها ما حدث. اغرورقت عيناها بالدموع. شعرت بعاطفة جارفة عندهم وحب كبير. ما أجملكم أيها الفقراء. قلوبكم بيضاء نقية دافقة بالحب والطيبة والحنان والمعروف.
وفي اليوم الثاني زفَّت زوجة ثابت الخبر لأمي المريضة وطمأنتها، وبعد ثلاثة أيام عدت للمنزل بعد مفاوضات بدت صعبة لكنها تمت على خير.
عدت إلى المنزل وكان أبي يشكو لأخي الأكبر من أبي "علي" والذي كان مسافراً عندما حدث ما حدث. سمعت أبي وهو يقول له": شوف أخوك أيش أشتغل". وكان يريه جدران الديوان وما لحق به من ضرر بسبب الرصاص. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في القرية عند خالتي التي أغرقتني بحنانها وعطفها.
المعلم والتعليم "1- 21″
(1)
معلم وخيزران
بدأت دراستي الأولى بالقرية (شرار) في القبيطة بمدرسة (الوحدة).. بدأت هذه المدرسة بمدرِّس واحد فقط، وهو الأستاذ علي أحمد سعد، من مواليد الحبشة لأب يمني جاء إلى القرية ليدرس أبناءها القراءة والكتابة والحساب.. جاء ليقدم شيئا من المعرفة الأساس لأبنائها المحرومين من التعليم وذلك بمقابل نقدي متواضع ومقدور عليه من قبل الآباء.. كان مدرساً ممتازاً وصارماً ومهتماً، ولكنه أيضا قاس في تعامله مع تلاميذه لمجرد أدنى تقصير أو إهمال.
ابتدأت مدرسة الوحدة بمسجد قروي متواضع وحُجرة متهالكة، تلاه بناء غرفة للإدارة، ثم صارت أربعة فصول.. تم بناء فصولها الأربعة اللاحقة على مقبرة قديمة لا نعرف إلى أي زمن تعود.. بدأ البناء فيها عندما غلب فتوى جواز البناء على فتوى منع البناء على المقبرة..
درس بعضنا فوق سطح المسجد وبعضنا تحت الشجر.. مدرسة الوحدة هي مدرستي الأولى التي درست بها إلى الصف الرابع.
كانت عصا الخيزران التي على ما يبدو أن (الاستاذ) علي أحمد سعد قد أحضرها معه من الحبشة لعقاب تلاميذه هي الوسيلة الأكثر استخداما في التربية والتعليم من خلال إنزال عقوباته على تلاميذه عند الإهمال أو التقصير أو التأخر عن طابور الصباح..
(الفلكة) واحدة من بين عقوباته الشديدة التي ينزلها على بعض تلاميذه، وهي الجلد على قاع القدمين والتي تربو أحيانا عن العشرين جلده، والأسوأ أن الجلد كان عنيفا لأطفال مثلنا حتى يبدو في بعض الأحيان أن ما يفعله هو انتقاما حاقدا وليس ما هو دون ذلك.
من أجل تنفيذ عقوبة الفلكة بحق تلميذ مقصر كان يحتاج إلى أربعة من أقرانه من ذوي الأجسام الغليظة لمساعدته في تنفيذ عقوبته، يمدونه على الأرض ويمسك اثنين منهم بيديه وصدره ومثلهم يرفعون قدميه ويمنعونه من الحركة ليتولى الأستاذ الضرب بالخيزران بقوة على قاع القدمين المضمومتين قبالته.
ومن عقوباته الشائعة التي يُكثر من استخدامها جلد بطن الكف بالخيزران بشكل متوال يصل فيها عدد الجلدات أحيانا إلى عشر لكل كف.. كنّا أحيانا نجد أنفسنا لا نقوى على مد اليد جراء شدة الألم الناتج عن هذا الضرب المُبرح.. كنا نحس أن أكفنا قد أدركها الشلل وهو يهوي عليها بالخيزران بقسوة دون رحمة أو مراعاة لألم لاسع يصل شرره أحيانا للجمجمة..
في أيام البرد يشتد هذا الحال وطأة ونكاية.. كنَّا نحس عقب ما ينتهي من تنفيذ عقوبته أن الدم يكاد يهر من الكفين.. كنا نرى أكفنا وهي تكاد أن تنبجس دماً.. كنا نشعر أننا لم نعد نقوى على حمل أيدينا فضلا عن الأكف بعد أن ينتهي من تنفيذ العقاب.
ومن عقوباته الجسدية الأقل وطأة هي إجبار التلميذ على أن يقف على ساق واحد أو الضغط على الإذن بثلاث من أصابعه بعد أن يضع حصية تحت إحدى الأصابع ليضغط بها على شحمة الإذن بينما يضغط بالأصبعين الأخريين على الجهة المقابلة ليزيد من حدة التنكيل والألم.. الأمر العجيب هو أن هذه القسوة المفرطة في العقاب لم تكن لتلاقي تحفظا أو اعتراضا من أولياء أمور التلاميذ، بل ربما يُسعد بعضهم!
(2)
ورطة تمرد
كنت على الدوام أشعر بقلق ورعب شديد من أساليب العقاب تلك.. كنت أحس أنها قاسية ومنفرة وغير إنسانية مؤلمة للجسد والروح!
في إحدى الأيام تأخرت عن طابور الصباح، وخشية من العقوبة ذهبت إلى حجرة مهجور فوق اصطبل بقرة جارنا مانع سعيد بدلاً من أن أذهب إلى المدرسة..
كانت بمثابة نُزُل مخصص لاستقبال الغرباء عند اللزوم والذين يقضون فيها يوما واحدا أو يومين إن طال المقام فيما كانت أغلب الأحيان تظل فارغة الأسابيع دون نزيل أو أنيس.
ولكي لا أتعرض للعقاب في اليوم التالي نظراً لتغيبي عن حضور اليوم السابق اضطررت لتكرار خطئي، ذهبتُ إلى نفس الحُجرة، وتكرر الأمر في اليوم الثالث والرابع، شعرت أن ورطتي تتعاظم وتتسع، فكلّما زاد تغيُّبي كلما اعترتني خشية أكبر من عقوبة أشد إيلاماً حتى تبدت لي في اليوم الرابع أنها ستفوق التوقع والخيال، وبالتالي أحسست ألا حيله سوى المجابهة إذا ما أنكشف أمري.
قرابة ست ساعات يوميا أقضيها في تلك الحُجرة المهجورة، مملة ورتيبة إلى أقصى الحدود، لكنها أقل وطأة من وجهة نظري من عقاب يفوق الاحتمال أشعر أنه نازل لا محالة.. كنت أحاول أن أخفف من وطأة رتابة تلك الساعات بالنظر من نافذة الغرفة إلى الفضاء المقابل .. الوادي والذاهبين والآيبين فيه، وكلما سمعت صوت في الجوار انتفض مرتاباً لأرقب من شقوق الباب ماذا يُدبر بالخارج وكلي توجس وقلق أحياناً، وفضول وشغف في أحايين أخرى.
في اليوم الخامس انكشف أمري وفضحني السؤال، حيث سمعت (الأستاذ) يسأل والدي عن سبب غيابي. فأجابه والدي أنني أذهب كل يوم للمدرسة، فهرعت إلى المدرسة وأدركت حينها أن الفأس قد أصاب الرأس وأن أمري انكشف، ولابد أن أستعد لدفع ثمن باهض ودفعة واحدة.
(3)
تعذيب في المدرسة
فور وصول (الأستاذ) للمدرسة استدعاني للحضور أمامه، رأيته يستعرض ويحوم ويهز الخيزران في وجهي كأنه يشحذ سيفه مستعداً للمبارزة والقتال بعد أن ظفر بخصم لدود انتظره دهرا وتحيَّن زمناً لمنازلته وجندلته.
كنت نحيلا وبنيتي آنذاك ضعيفة.. أمر (الأستاذ) أربعة من التلاميذ بأن يمسكوني ويسقطونني أرضاً ويرفعون قدماي مضمومتين إلى الأعلى ويمنعونني من الحراك، كادوا أن يمنعوني أيضا من التنفس، ثم أحسست بلسعات الخيزران تهوى بشدة على قاع القدمين حتى أحسست أن حمم جهنم قد صبت على قدماي. إنها ليست بعقوبة (الفلكة) المعتادة ولكنها كانت (فلكة) مضاعفة تعدَّت شدتها كل العقوبات المؤلفة والتي لم تصب لا من قبلِ ولا من بعد حتى أكثر التلاميذ إهمالا وتقصيرا وغباء في المدرسة.
بعد أن أفرغ (الأستاذ) جام غضبه لم أقوى على الجلوس أو السير إلا بعد ساعة زمن..
شاهدت بعد دقائق تورم أقدامي ووجود احتقانات حمراء في قاعها وجوانبها وعدت إلى البيت متعثرا لا أقدر على حمل قدماي إلا بمشقة كبيرة.. كنت أمشي عاثر الخطى وإذا ما بلغت حدود العشرين خطوة أستريح قليلا لأعاود السير لعشرين أخرى ودواليك إلى أن وصلت للبيت.
كنت أظن أن العقاب قد أنتهى عند هذا الحد وخصوصا أن (الأستاذ) قد أبلغ والدي أنه قد عاقبني بما أستحق وبما فيه الكفاية، غير أن والدي الذي كنت آمل أن يخفف عنِّي أفرط بعقابي أكثر من (الأستاذ) حتى بدا حالي (كالمستجير من الرمضاء بالنار).
(4)
تعذيب في البيت
وصلت إلى البيت وأقترب مني والدي مخاتلا ومخادعا على غير عادته، وظننت أن شفقة قد اجتاحته أو تفجرت بداخله أو أن رحمة قد تنزلَّت من عند الله على حين غرة وخصوصا أنه شاهدني أسير متعثرا بخطواتي لا أقوى على حمل قدماي إلا بصعوبة ومشقة بالغه، ولكنه باغتني وحملني بطريقة تنم على عقوبة جديدة أكثر وحشية.
رفعني من أقدامي على كتفه حتى صار راسي متدليا إلى الأسفل وقدماي إلى الأعلى وذهب بي نحو شجرة السدر بجانب بيتنا، وكان الحبل عليها معدا وجاهزا لتعليقي.. ربط أقدامي بالحبل ورفعني إلى فرع الشجرة ورأسي متدليا إلى الأسفل.. كانت هيئتي كديك أو خروف مذبوح قد عُلِّق للسلخ.
كنت أصرخ وأصرخ لعل الأمر يتوقف عند هذا الحد إلا أنه فاجئني بضرب عنيف بعصا على ظهري وبطني وسيقاني.. لم يكن هنالك من منجد أو مغيث يهرع إليّ بسرعة لانقاذي، كانت أمي في الجبل وكان صراخي يشق السماء ولسعات العصا تنهش في جسدي كذئب جائع.
كان صراخي أشبه بإعلان مجاني ودعوة للأطفال والنسوة ليشاهدوا المنظر الذي لم يألفونه ولم يعتادوا على مشاهدته إلا عند ممارسته ضدي من قبل والدي وهو حكرا عليه لا ينافسه أحد فيه ولا يفكر بممارسته أب في قرانا مهما كان الابن متمرد وعاق..
كانوا يشاهدون المنظر مجانا من فوق سطوح بيوتهم وبعض الأطفال هرعوا إلى مكان قريب ليروا تفاصيل أكثر عن هذا المشهد الذي لا زال عالقا في ذاكرتي إلى اليوم.
وبعد أن أفرغ ابي غضبه ظللت معلقا على الشجرة حتى هرعت أمي من الجبل لنجدتي وفك وثاقي.
(5)
مع ذلك كان أستاذ قديرا..
رحل الأستاذ القدير عنا إلى مدينة تعز بعد أن عثر على وظيفة.. وعلى الرغم من قسوته كان له الفضل الأول في تعليمنا دون غيره.. جاءنا في لحظة كنَّا فيها بأمس الحاجة للمعرفة والعلم والحلم.. لولاه ربما لكان الجهل قد عاث واستبد بنا كل العمر.. لولاه ربما لما وصلت ومُجايلي لأبسط وظيفة عامة في الدولة.. لولاه لكان الكثيرون منا لا يجيدون أكثر من الشقاء ورعي الأغنام.
ذهب وترك لنا أساساً من معرفة نبنى عليها علما في قادم الأيام.. ذهب ولم يذهب علمه وتعليمه ومعروفه.. ذهب وترك مكتبة صغيرة وصندوقاً أسوداً كان يجلس خلفه..
ورثنا بعضاً من كتيبات كانت مخزنة في دولابه.. أتذكر أنني أخذت كتيباً عنوانه (ما بعد الثورة اليمنية) لعبد الرحمن البيضاني..
أتذكر أنني حفظت منه حينها عدداً من الصفحات عن ظهر قلب رغم صغر سني، وعندما كنت أستعرض ما حفظته منه سمعني أحد المدرسين من اقرباء أمي اسمه عبده ردمان عبيد واندهش لما سمع مني من سرد لبعض صفحات الكتيب..
أوعدني أنه سيحضر لي قصة (النمر الأسود)، قصة خاصة بالأطفال وكنت متلهفاً لقرائتها أيما تلهف حتى أحضرها لي في اليوم الثالث، كانت أول هدية أتلقاها في حياتي..
لم أكن اعرف أنه يجب علي أن أقرأها حتى النهاية لألم بوقائعها كقصة واعتقدت أن المطلوب مني حفظها عن ظهر قلب، فصعب عليّ حفظها وفشلت بحفظ بعض من صفحاتها، وتحولت فرحتي إلى فشل وبعض تعاسة، وكنت أتهرب من الأستاذ الذي أهداني إياها حتى لا ابدو أنني غير جدير بما اهداني إياه ولم ادرك أن حفظها غير مطلوب.
(6)
مدير جديد عاقبني بالطرد
درست في هذه المدرسة حتى الصف الرابع.. أتذكر أن ياسين أحمد حسن كان مديرها في ذلك الحين وهو قريبي من جهة أمي.. كان أيضا معلماً فاهماً وحازما مع طلابه..
هذا المدير فصلني ما يقارب الاسبوعين بسبب أنه عاقبني في إحدى المرات فثرت في وجهه وقلت صارخا في وجه : "العن أبوها مدرسة".
لقد كان حازما حيالي ولم أتصور أن يفعلها ويفصلني من المدرسة كل تلك المدة, وحتى إعادة النظر بقرار الفصل من الدراسة كانت صعبة أو كادت تكون مستحيلة..
بعدها انتقلت للدراسة إلى منطقة شعب في جنوب اليمن والتي كانت محاذية لحدود الشمال، وتبعد عن قريتنا (10 15) كيلو متر، فيما ظل مدير مدرسة الوحدة ياسين يسألني بضعة (شلنات) ما زالت عالقة بذمتي ومقيدة دينا في عنقي إلى اليوم ولا زال مقيدها في أحدى دفاتره المخصصة بديون طلابه.. ومع ذلك لم يبق لي غير ذلك الرد الذي أجده بيدي ردا على عقوبة الطرد أو الفصل الذي أتخذه بحقي..
(7)
خامس وسادس
درست الصف الخامس في منطقة (شعب) التابعة لدولة الجنوب حينها وكانت مادة الإنجليزي دوما هي المادة الأخيرة في جدول الحصص الأسبوعية. كان المدرس المُكلف بتدريسها طيباً للغاية ومجيدا لمادته ومتمكنا من تدريسها، لكن ابتعاد المدرسة على البيت بأكثر من عشرة أو خمسة عشر كيلومترات كان سبباً يحملنا في معظم الأحيان على العودة دون حضور حصة مادة الانجليزي.. وأحيانا نعود من الطريق ولا نصل إلى المدرسة.
يتوجب علي القيام فجرا أو قبل الفجر وأسافر كل يوم مشيا على الاقدام وأصل إلى المدرسة وفي الإياب أيضا سفر.. مشقة يومية ثقيلة وتأتي على حساب الاجتهاد والمثابرة.. كان الانهاك اليومي ينال من الجسد والذاكرة.. وكانت أضافرأصابع قدمي دائما تشكوا التطامها بالحجارة كل صباح.. لازالت الاصبعين الكبيرتين في القدمين أظافرها مشوهة إلى اليوم من آثارالإلتطام بالحجارة كل صباح.
هذا الانهاك اليومي أدَّى إلى فشلي بثلاث مواد دراسية من بينها اللغة الإنجليزية. وهو أمر غير مسبوق لي في الدراسة.. وتم إعادة تلك المواد وتمكنت من النجاح بصعوبة وما كنت لأنجح لولا الرجل الطيب الحاج محمود من أبناء شعب.
كان في منطقة شعب أصدقاء للوالد الحاج محمود وإخوانه علي وصالح.. كانو ثلاثة اخوان يعيشون في منزل واحد ومعهم أكثر من ثلاثين نسمة.. كانوا مثال للأخوة والطيبة والمودة.. كانوا في منتهى الروعة وقلوبهم أبيض من الفل وبياض السحاب..
كنت أدرس مع بعض أبنائهم في نفس المدرسة.. أذكر أنني قضيت مقيما لديهم شهر أو شهرين بعد إلحاح شديد من قبل الأخوان الثلاثة على والدي أن أقيم لديهم وأجتاز الامتحان..
كانوا يشفقون على تعب أعيشه كل يوم.. كنت أقطع كل يوم مسافة تزيد عن العشرين كيلو مترإلى المدرسة ذهابا وإياب.. ولولاهم لما تجاوزت العام الدراسي وفشلت في كل المواد..
يا الله كم هؤلاء الناس طيبين.. بعد أن قُتل أخي وتشرد والدي أقام عندهم سنوات أحتضنوه خلالها دون أن يجرحوه يوما أو يتململوا من ضيف أطال الإقامة بل كانوا يفيضون طبية ومودة تكفي لأن تملى هذا الكون ويزيد.. ما أطيبهم يا الله.. لقد صنعوا لنا من الجميل والمعروف ما ندان لهم كل العمر أبناء وأحفاد..
وفي الصف السادس انتقلت إلى مدرسة المعرفة ب (ثوجان) حيث لا يوجد صف سادس في مدرسة الوحدة وكان الاختبار حينها (اختباراً وزارياً)، وثوجان منطقة تبعد عن منزلنا بما يقارب الثمانية كيلو مترات بالإضافة إلى أن الطريق إليها وعرة وشاقة وفيها جبل كبير أصعده صباحاً وأهبط منه ظهراً .. أتذكر أن حصيلة الامتحان الوزاري كانت 302 من 500 درجة وكنت أرى في هذه النتيجة جيدة ومرضية..
(8)
في طور الباحة مدرسة أعزتنا من الجهل
عندما انتهيتُ من المرحلة الدراسية الابتدائية كان لابد أن التحق بالمدرسة الاعدادية، لا توجد مدرسة اعدادية في منطقتنا النائية الواقعة في أقصى الأطراف الجنوبية لدولة الشمال..
كانت منطقتنا وقريتنا بعيدة ومحرومة من أبسط الخدمات.. لا مواصلات ولا اتصالات ولا صحة ولا رعاية اجتماعية ولا نجد أدنى اهتمام من قبل الدولة.. لا نجد لها أثرا في حياتنا إلا بما يزيد من وطأة المعاناة التي تثقل كواهل أهلنا مثل (التنافيذ) والملاحقات الأمنية والجبايات الزكوية..
خدمات الدولة نحونا لا نلمسها ولا نحس بها وهي بمثابة صفرا كبيرا بحجم غياب وطن. حتى التعليم وبناء الفصول الدراسية الابتدائية كان يقع على كاهل آباءنا.
لم يكن لنا من مناص من جور جهل محتوم إلا دولة الجنوب حيث كانت توجد مدرسة إعدادية في مركز طور الباحة الذي كنا نرتاد سوقه يوم السبت من كل أسبوع إن دعت الحاجة.. وتبعد هذه المدرسة عن قريتنا مسافة تزيد على العشرين كيلو متر ولحسن حظنا أنه كان يوجد قسما داخليا ملحقا بالمدرسة يُوفر فيه لأمثالنا المسكن والغذاء.
كانت (مدرسة الشهيد نجيب) في طور الباحة هي عاصمنا من جهل, وكان كثير من طلاب المناطق المجاورة في الشمال والمهددين بالجهل أو انقطاع الدراسة يجدون في هذه المدرسة الملاذ والملجأ.
كانت مدرسة كبيرة مقارنة بما مررنا به وما عرفناه حينها من مدارس، فضلا عن كونها نظيفة ومرتبة ومدرسيها أكفَاء.. غمرتني السعادة وأنا أجد حجرات دراسية لم أعهدها من ذي قبل، وكان قسمها الداخلي جديدا أو حديث بناء..
غمرتنا السعادة ونحن نستلم في أول يوم من التحاقنا بهذه المدرسة أغطية ومفارش جديدة وأدوات أكل نظيفة.. كل شيء مجانا ودون نقائص أو معايب غير أن التغذية فقط لم تكن تكفينا أو أن شهيتنا للأكل كانت أكثر مما يقدم لنا، وهذا ما جعل سوء التغذية يلازمني خلال فترة دراستي الإعدادية في هذه المدرسة التي أعزتنا من جهل.
كان مسموح لمن أراد منا أن يغادر ظهر الخميس ويقضي إجازة الجمعة بين أهله على أن يعود للمدرسة صباح السبت.. كانت السيارات تقلني إلى (رأس وادي شعب) وبعدها أكمل العودة إلى القرية مشياً على الأقدام ومثله الذهاب.. وأحيانا كنت امشي سيرا على الأقدام من البيت حتى (طور الباحة) لاستفيد من مصروف المواصلات التي كان يعطيها لي والدي وأحيانا أفعلها أيضا عند الإياب.. وعند المشي كنا نبحث عن الطرق المختصرة وأحيانا نتسلق السيارات في واسط الطريق مجاناً، نطلق عليها (تعبيرة)، في إشارة إلى حملنا على العبور بدون مقابل، يا لنبل أصحاب السيارات الذين يقدِرون ظروفنا ولا يأخذون منا أجراً!
(9)
في أوج التطرف الثوري واليساري
كانت المرحلة التي يعيشها الجنوب في تلك الفترة يسارية وثورية ولا تخلو من نزعات الطيش والتطرف.. عندما يركب طلاب وحتى مواطنون على ظهر سيارات (اللاندرفر) المكشوفة يرددون في الطريق هتافات ثورية، ومن تلك الهتافات التي مازالت عالقة في ذاكرتي:
"يا ويلك ويل يا سلبي من ضربتنا العنيفة, والمتستر بيُكشف والمراحل طويلة"
غير أن الهتاف الذي كان يحزُ في نفسي ويترك أثرا أداريه عمِّن هم حولي كان يقول: "دقوا المشايخ دقوهم"، وكان السبب يرجع إلى أن إخوة أمي في الشمال محسوبين على فئة "المشايخ" رغم ان ظروفهم كانت متواضعة للغاية.. لم تكن ثمة فروق اجتماعية مهمة تُميزهم عن عامة الناس.
اتذَكر أن خالي (علي سالم دعبل) كان يقترض ويستدين بعض المال من والدي الذي هو أيضا في حال ضيق أو غير ميسور.. و كان أيضاً جدي، والد أمِّي، معروفاً بزهده وتواضعه وكان يعمل لآخرته على حساب دنياه، وأغلب وقته كان معتكفا يتلو القرآن في ديوانه تقربا إلى ربه راجيا رحمته وجنته غير أن هذا لم يعفه من بعض تطرف وطيش اليسار في الجنوب عندما ذهب إلى عدن بغرض تلقي العلاج فأخفي قسرياً، وانقطعت جميع أخباره مذ ذلك الحين ولم نعد نعرف شيئا عن مصيره إلى اليوم.
درست المرحلة الإعدادية في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة في اواسط السبعينات وتحديدا من العام (1976 1978) إن لم تخني الذاكرة.. أقمت في (القسم الداخلي) وكان عدد غير قليل من أبناء المناطق الشمالية المجاورة يلتحقون بهذه المدرسة ويقيمون في قسمها الداخلي، توفر لهم دولة الجنوب التغذية إضافة إلى السكن.. وكان سبب توجهنا إلى الجنوب للدراسة إما بسبب عدم وجود مدارس إعدادية في أريافنا وإما لأسباب سياسية واجتماعية حملتنا على التوجه للدراسة في هذه المدرسة، وعلى كل حال كان لدولة الجنوب جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في ذلك الفضل الذي لم ولن ننساه ولن نجحده، لقد كنا بأمس الحاجة للتعليم.. وفي هذا المقام لا بأس من استحضار قول الشاعر المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته*** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
(10)
فصلي من المدرسة
كانت من أصعب المواد الدراسية التي واجهتها في سياق دراستي الإعدادية هي مادة الإنجليزي لأن مدارس الجنوب كانت تدرِّسها من الصف الخامس بينما مدارس الشمال كانت تدرسها من فصل أول إعدادي، وعندما درست الفصل السادس في الشمال وانتقلت إلى الفصل الأول إعدادي في الجنوب كانت قد فاتتني سنة من مادة الإنجليزي لم أدرسها في الشمال، فضلا عن الضعف السابق الذي رافقني في هذه المادة حتى بدت هذه الفجوة حاضرة وتتسع في حياتي التعليمية اللاحقة حتى أكملت الجامعة.
في سنة أولى إعدادي تم فصلي لمدة أسبوعين من قبل مديرها آنذاك الأستاذ عبده علي الكربي وهو أيضا من أبناء القبيطة، غير أن سبب الفصل هذه المرة كان بسبب قيامي وزميلي جميل قائد صالح بإعداد وتوزيع منشور مسيء في أروقة المدرسة والسوق..
لقد كشف المدير أمري عندما حضر ليلا إلى القسم الداخلي حال ما كنت أحل الواجبات المدرسية وشاهد طريقة كتابة حرف الهاء بنفس الطريقة الواردة في المنشور، فاستدعاني للتو وطلب مني الاعتراف، وفتح معي تحقيقاً ولكنني أنكرت بإصرار عنيد أن ليس لي أي علاقة بهذا المنشور، فيما كان الخط كاشفا لفعلي بوضوح تام..
استخدم المدير كل أساليب الترغيب والترهيب لانتزاع اعتراف مني أو لكشف من شاركني الفعل غير أنه فشل في نزع أي اعتراف رغم حنكته في التحقيق، ففصلني من المدرسة، وضللت مفصولا لمدة أسبوعين أو يزيد، وعندما أدركه اليأس ولم يستطع انتزاع شيء ألغى قرار الفصل وأعادني للدراسة.
(11)
عراك دامي
في سنة ثاني إعدادي تم إخراجنا من المدرسة لاستقبال الرئيس سالمين والأمين العام للتنظيم السياسي عبد الفتاح اسماعيل، خرجنا من المدرسة بصفوف منتظمة ثم بدؤوا ينظمونا في صفين على جانب الطريق الممتد من بوابة المركز وحتى مسافة كيلو متر تقريبا باتجاه طريق قدومهما..
كان مكاني في الصف بالجهة المحاذية للمستشفى وكنت أتشوق لأرى وجه سالمين وعبد الفتاح إسماعيل.. كنت متشوقاً كغيري لأرى هيئتهما.. كنت أتمنى أن يمران من أمامي ببطيء لأملئ عيناي الملتاعة لتفاصيلهما، فهذه هي المرة الأولى في حياتي التي سأرى فيها رئيس دولة وأمين عام تنظيم.. ولكن كان الانتظار تحت هجير الشمس مملاً ومضنيا لتأخر وصولهما بعض الوقت عن الموعد ولم يكسر هذا الملل عني غير استفزاز مقابل وتحدي..
كان في الجهة المقابلة لي مجموعة من أبناء منطقة طور الباحة تعاركت معهم أكثر من مرة ولطالما أستفزوني مرات عديدة.. كان بيني وبينهم بغض صبيان وتحد.. كنت عندما أراهم أشعر بغربتي وأنني لست من أهل الدار وربما هم شعروا أيضا أنني غاز أو دخيل غريب يثير الاستفزاز..
ظلوا يرمقونني ويسخرون مني ويستهزئون بي ويضحكون علي ويتحدونني.. وأنا في المقابل تحديتهم وقلت لهم اختاروا واحداً منكم لنتعارك أنا وهو رأس برأس..
فنزل أحدهم وكان ممتلئ البدن فيما أنا كنت نحيفا وضعيف البنية وأعاني من سوءٍ في التغذية.. ربما السكين تصنع تعادل في التفوق بيننا أو ترجح الأمر لصالحي.
قلت لهم ننزل نتبارز خلف تلة الرمل على بعد حوالي 200 متر حتى نأمن من أي تدخل يساعدني أو يساعده، وكان رفقائه واثقين أن الانتصار سيكون من نصيبه. وصعد رفقاءه رأس التلة ليرون مشهد العراك وكنت أخفي سكينا صغيرة ورفيعة تستخدم لتقطيع الروتي اشتريتها قبل بضعة أيام تحسبا دفاعياً لموقف طارئ أو محتمل..
وعندما وصلنا المكان الذي اخترناه للمبارزة هاجمته بغتة بالسكين وباشرته بطعنة بالبطن فهرب وهو يصرخ وكنت ألاحقه وأحاول طعنه في أكثر من مكان، وكنت أشعر أن أي تراخي أو تمهُّل عن ملاحقته قد يقلب حال معادلة العراك لصالحة، فلم اعطه تلك الفرصة فهرع مدرسان لنجدته وتخليصه ومسكا بي بقوة كما تمسك الشرطة بالمجرمين بعد أن انتزعا مني السكين، وعندما رمقت من اعتركت معه وكان يصرخ ويتوعد ويهدد بالقتل فاجئني رؤية كمية الدم وغزارته على قميصه..
كان الدم ينزف من بطنه بغزارة ملحوظة.. شعرت بالندم والحسرة والحزن عليه.. شعرت بالقلق من أن يصل الأمر إلى ما لا أتوقعه.. شعرت أنني كنت متهورا وأحمقا وإن المقامرة والتحدي الذي في غير محله ممكن أن تحوِّل الإنسان من شخص سوي إلى مجرم.. شعرت أنه كان بإمكاني الاكتفاء بإشهار السكين في وجهه للحيلولة دون أن يحدث ما حدث.
(12)
في السجن
أخذوني إلى السجن بينما أخذوه هو للمستشفى، ولسوء الحظ أن أمي كانت مريضة وترقد في نفس المستشفى وكان أخوه هو مدير المستشفى، ما ضاعف من وتيرة الخوف والقلق لدي.
هرع أحد أقرباء المصاب وأظنه ابن عمه ووجدني بينما العسكر يهمون بإدخالي الزنزانة وصرخ بوجهي وبوجه العسكر والحاضرين بغضب واستعلاء ناقم: " لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا"! نعم كان شكلي قزما منهك شحوب فيما كان قريبه المصاب مربربا وتبدو من ملامحه كأنه أجنبي.. شعره ووجنتيه وعيونه وجسمه الممتلئ باللحم والشحم..
تم التحقيق معي من قبل البحث الجنائي وتحريز السكين كأداة جريمة، وواجهوني بها وتم إثبات أقوالي في محضر والتوقيع والتبصيم عليها وكانت جريمتي مشهودة..
عرف أخي بالحادثة فحضر من القرية ومن حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة وأن أخي محط احترام وتقدير لدى المسؤولين في مركز المديرية وأنني ما فتئت حدثا، ولهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانته، وتم استدعائي وتوقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة وفي إحداها تم توقيفي أنا والمصاب معا بعد أن شفي من الاصابة وتم حل القضية وإغلاق ملفها.
إن ما حدث كان تهورا وطيشا وسوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، وكان شعوري بالغربة والاستفزاز المتكرر والشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنها عصابة دفعتني إلى فعل ندمت بسببه وتعلمت منه..
ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين وعبد الفتاح اسماعيل.. وبعد فترة صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا وذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية ومكانته أكبر عند المثقفين.
(13)
فاجعة مقتل أخي
في سنة ثالث اعدادي تم تعيين (علي الخفيف) مديراً عاما جديدا للمدرسة وهو من أبناء الجنوب بعد أن ذهب المدير السابق للعمل في الشمال.
كان المدير الجديد طيبا وودوداً، وحال ما كنت أعيش اجواء الامتحانات الوزارية ولازال متبقي امتحان ثلاث مقررات، نقل إليّ المدير الخبر الصادم ولكن بالتقسيط المريح.. حاول أن يبقي الأمل لديّ أن أخي لا زال يعيش حتى أنهي الامتحان بسلام ويهيئني في نفس الوقت لتقبل الفاجعة تدرجيا دون إنهيار مميت..
حاول المدير أن يقلل من تأثير الحادث على نفسيتي وحتى لا يؤثر على نتائج امتحاناتي وبنفس الوقت يهيئني للتصالح مع الحقيقة الصاعقة وربما تكون في فرط تعلقي به مميته..
كم كان هذا المدير أباً ومسؤولا وعظيم!
كان هذا الخبر هو مقتل أخي بالرصاص، والذي وافاه الأجل في طريق إسعافه إلى عدن، ووارى جثمانه في مقبرة العيدروس بكريتر.. ألم أقل أن نصف حزني في عدن ياعدن.. من هذا الذي يقتلعني منك وأحزاني مثل فرحي مثل حبي ضاربه الجذور إلى أعماق الأرض في عدن.
انتهت من امتحانات العام الإعدادي الأخير وتيقنت بعد حين صحة خبر مقتل أخي، ومع ذلك ظل الوهم سلطان يساير ما ترغبه النفس وتهواه وظل وهمي يرفض هذه الحقيقة الأكثر مرارة في حياتي..
لقد بذل المدير ما في وسعه ونجح في أن يجعلني أجتاز الامتحان بنجاج ونجح أن لا يجعل ارتطامي بالحقيقة مميتا وإن ظل وقعه صاعقا وصادما..
كم كانت الفجيعة طامة.. كيف لي أن أصدق الخبر.. من فرط التعلق لا نصدق الوقائع حتى وإن شهدناه بأم أعيننا.. إنه الحب والتعلق بمن نحب.
(14)
استذكار لقاء الوداع الأخير
كان آخر لقاء عابر في الطريق قبل أيام قليلة من مقتله.. كنت متجها إلى طور الباحة فيما كان هو آيبا إلى البيت..
كنت أراه على نحو مختلف.. كان جمال وجه ساطعا لم أر مثل هذا السطوع من قبل..
كنت أستمتع برؤيته وكأنني أراه للمرة الأولى.. كنت بحس فنان بديع يرقب القمر في قاع الماء وهو يتماوج أمام العيون..
كنت أراه بذوق رسام وهو يرى الماء نميراً ومتلاءلئاً تحت سطوع الشمس في رابعة النهار.. كان إحساس اللحظة كثيف.
كان ينبض وجهه بنور وبياض على غير المعتاد.. رأيت عيناه ناعسة مع ميل للرمادية أو الإزرقاق.. أول مرة أرى عيناه بهذا العمق وهذا السحر وهذا اللون وبهذه المسحة الآسرة.. ماذا أبقيت للعيون يا أخي لنحب أو نحتب؟!
رأيت قامته أكثر امتشاقا.. كانت عنايته بملابسه فيها ذوق فنان لونا واختيار.. وكانت عنايته في اختيار ما يلبسه في ذلك اليوم فائق الذوق والجمال وكأنه كان عريس ويوم زفاف..
إجمال ما شعرت به إن سر غامض يريد أن يبوح بمكنون..
كان أكثر إشراقا ونفادا وجمالا آخاذ فوق جمال..
أحسست أنني أحبه وأن مغنطيسا ما يمنعني من الانصراف عنه والمغادرة لولا خجل يجتاحني كالسيل..
يااااالله.. لم أكن أعلم أنه لقاء عابر لفراق طويل وسرمدي..
كنت أحس بشيء مختلف.. إحساس غامض وحيرة.. لم أكن أعلم أن نظراتنا لبعض كانت الأخيرة وفيها وداعا ومسك ختام..
أحسست من نظرات عينيه يريد أن يقول شيئاً.. شيئاً لم أفهمه.. احساس مكثف ومتبادل ولكن يكتنفه الغموض..
يا إلهي.. لقد فهمت أنه كان اللقاء الأخير والوداع الأخير والسلام الأخير.
(15)
اطلالة تعريج سريعة
قُتل أخي وكان يومها علي عبد الله صالح قائدا للواء تعز قبل أن يصير رئيسا.. كان يكن عداءً صارخاً لدولة الجنوب وكل من يتواصل معها أو له صلة بها..
اطلعت على رسالة في وقت لاحق من مقتله موجهه من أحدهم الى صالح الذي صار رئيسا للجمهورية وفيها نص مازلت أتذكره إلى اليوم "لقد قتلنا وكر العمالة".. وطلب منه في نهايتها ما يجود به كرمه من المال.
لقد أطلعني على هذه الرسالة عيانا قائد ما كان يعرف بقوات الشعب الثورية والذي كان مقره في المعلا قبل أن يتم نقله إلى التواهي، وهذا الشخص كان اسمه التنظيمي (صلاح) فيما عرفت لاحقا أن اسمه الحقيقي عبد الكافي وكان مقرباً من سلطان أحمد عمر.
وعرفت أنه تم الحصول على هذه الرسالة عبر اختراق أمني لمكتب الرئاسة في الشمال..
قتلوا أخي وزجوا في السجن كل من قدم مساعدة لإسعافه كان في صورة سيارة أو احضار بطانية أو المساعدة في حمله أو اسعافه والاستثناء نادر..
جاءت حملة أمنية من تعز خلال فترة وجيزة بعد مقتل أخي وقامت بتفتيش منزله، لم تعثر على شيء إلا قليلا من طحين، وحزن وفير؛ فقال الضابط متعاطفا لحظتها مع بؤس الحال (لم نجد ما يستحق حتى الطحين). مات أخي ولم يملك في بيته ذّرّة طحين تكفي ليوم ونصف أو بالكثير ليومين.. هذا ما حكته لي خالتي أم علي وما حكاه جارنا الوالد أحمد محمد الفقيه الذي ألزموه على مرافقتهم أثناء التفتيش.
كما تم تفتيش منزل أبي فيما أمي وأخوتي الصغار كانوا يبكون ويصرخون مرعوبين في الاصطبل..
تم لفترة طويلة ومتفاوتة منع ومضايقة تقديم أي مساعدة لأسرتنا حتى على مستوى شراء الحاجيات الأساسية للعيش بنقودنا وهو ما يثير في الحلق غصة من نار..
جارنا أحمد محمد مرشد الذي كان يخاطر ويجازف لمساعدة أسرتنا في الحصول على متطلبات العيش الأساسية، وكان في مقام الجار الفاضل والوكيل..
كان أخي معارضا للنظام في الشمال ومنتميا للحزب الديمقراطي الثوري الذي كان يرأسه عبد القادر سعيد.. أخي من أبطال مقاومة حصار السبعين يوما دفاعا عن الجمهورية، وكان زميلا لعبد الرقيب عبد الوهاب ورفاقه الميامين..
كنت أنا لا أحب النظام في الشمال.. كنت اسمع بقتل وتصفية المعارضين السياسيين وتعذيبهم بالسجون.. كنت أسمع بمحمد خميس الذي كان رئيسا لما يعرف بجهاز الأمن الوطني وما يرتكبه من فضائع بحق المعارضين السياسيين..
عرفت أم حمير الذي اعتقلت مع وزجها وروت لي قصص التعذيب في السجون وبشاعة الانتهاكات التي مُورست ضدها وزوجها وضد المعتقلين المناهضين لسلطة النظام في الشمال..
أم حمير التي ولدت ابنها حمير في السجن، وقاومت الجلاد والسجان والسجن .. تم تكٌسير أسنانها وأصيب عمودها الفقري جراء التعذيب.. كل ذلك كان له أثره الحقوقي البالغ في مراحل حياتي اللاحقة.
في مناطقنا كنت أرى التنافيذ التي تأتي على المواطنين وتتحكم بهم وتجبرهم على ما يكرهوه..
كنت اسمع عن الحملات والمداهمات من قبل النظام ضد معارضيه والمشتبه بانتمائهم للمعارضة.. وكان انتماء أخي للمعارضة قد جعلتني أعيش كثير من هذه المخاوف وما له صلة بها..
أعود بعد هذا التعريج السريع إلى السياق لأواصل ما كنت بصدده..
نجحت في ثالث إعدادي بتقدير جيد، وصار والدي ملاحقا ومطلوبا من سلطات الشمال فيما أنا مكثت عدة أسابيع بعد الامتحانات في منطقة (الغول) الجنوبية عند رجل فاضل اسمه (عبد الوهاب) كان شهماً وطيباً وكريما ومتواضعاً.. استضافني خلال العطلة المدرسية وخفف من معاناتي وعاملني مثل أحد أبنائه وبعدها انتقلت للدراسة في مدرسة (البروليتاريا) الواقعة في طريق عدن لحج فيما ظل والدي مشردا بين عدن ووادي شعب عند صديقه (الحاج محمود)
كان "الحاج محمود" وفياً وطيباً ومخلصا مع أبي ومحنته طول فترة بقائه ومكوثه عنده.
(16)
مدرسة البروليتاريا
مدرسة البروليتاريا كانت مدرسة لأبناء البدو الرحل، تأسست في عهد الرئيس سالمين والذي كان يبدي اهتماما ملحوظا بهذا النوع من المدارس التي تهتم بتعليم أبناء البدو الرحل، وقل هذا الاهتمام بعد رحيله.
درست الثانوية في مدرسة البروليتاريا.. وكان هذا الاسم عسيرا على اللسان في البداية ولكنه صار فيما بعد مميزا ومحل اعتزاز ولاسيما أن معناه كان مرتبط بالطبقة العاملة التي كان ينظر إليها في الثقافة الماركسية بأنها من أكثر طبقات المجتمع ثورية ومناط بها مهمة إسقاط النظام الرأسمالي.
عندما التحقت بهذه المدرسة في العام 1979كان أكثر من يقصدها طلاب من ريف محافظة لحج ولاسيما من ردفان والضالع وطور الباحة ويافع.
تقع مدرسة البروليتاريا في منطقة متوسطة بين محافظتي لحج وعدن، فيما كانت إداريا وتعليميا تابعة لمحافظة لحج، وكان ملحقا بهذه المدرسة قسم داخلي توفر الدولة فيه لجميع الطلاب السكن والغذاء مجاناً، ولكن كان الغذاء رديئا وقتها ويفتقد للتحسين بالإضافة إلى أنه كان قليلا ولا يشبع بطوننا، كان عدد الطلاب كثير، وبعضهم كان لا يلحق وجبته المقررة بسبب نفاذ كمية الغذاء المطبوخة..
كان طابور الحصول على الوجبة طويلا ويشهد أحيانا عراكا بين بعض الطلبة بسبب الزحام أو محاولة بعضهم التقدم بتجاوز مواقعهم في طوابير الغذاء.. وكنت في بعض الأحيان عندما لا ألحق وجبة العشاء أضطر للذهاب لأشجار (الديمن) المحيطة بالمدرسة لأسُّد رمقي من الجوع أنا وأحيانا كان معي صديقي محمد عبد الملك حسين..
كنت أحيانا أذهب إلى مزرعة مجاورة تابعة للدولة وذلك للمذاكرة تحت ظلال أشجارها الوارفة وننتزع خلسة بعض حبات الليم لنستخدمها على الفاصوليا وتعطينا شهية مضاعفة والأكل قليل ويصير بالليم لذيذ، نكمل الوجبة ولا تسد حتى نصف بطوننا.
كنا أحيانا وفي موسم زراعة أشجار الجلجل نجوع في الليل عندما تتطاول ساعاته علينا ويزيد جوعنا نذهب متسللين لنجني كمية من محصوله نسد به جوعنا.
(17)
احتجاجات الجوع
بسبب هذا الجوع وغياب التحسين في وجبات الغذاء أضرب عن الدراسة عدد كبير من الطلاب وكنت واحدا منهم..
امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء ونطالب بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات وهو عمل جريء في ذلك الوقت وشديد الحساسية عند السياسيين لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل كان يصنف باعتباره ثورة مضادة ويذهب السياسيين إلى تفسير الاحتمالات والأسباب فوق ما نطيق ونحتمل، ولكن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنا العواقب وحد من تفسير احتمالات وأبعاد الاحتجاج.
كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا من الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وأقل من الكثير هم الذين آثروا السلامة وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة إن لم يكن الغير مسبوق.
كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء.. كنت أسأل نفسي لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!
كنت معجب بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..
كان أبناء الضالع من الطلاب في المدرسة هم طليعة المحتجون.. كنت معجب بأولئك "المجانين" الذين ينازلون الجوع ويتحدون عواقبه.
كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم..
نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.
لم نهداء ونكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر والذي نجح في تهديتنا عندما قال:
تروحوا أسبوع وترجعوا على اكل حسين ونظيف، وأمر بتحضير "بوابير" لنقل الراغبين من المحتجين والمتذمرين كلاً الى مديريته..
العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية هو عمل جريء ومقدام.
أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية وتعمل من أجل إقامة دولة البروليتاريا عمل ربما يكشف هشاشة بعض ذلك الادعاء.
أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظ في التغذية والنظافة والتنظيم.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.
(18)
قراءة خارج المناهج الدراسية
في سنة ثانية بثانوية البروليتاريا تم تخصيص دينارا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة) شهريا وكنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، وكنت أصرفه في الغالب عندما أجوع بشراء البسكويت والشاي من محمد حيدرة الذي كان يبيع الشاي وبعض السلع في حانوت صغير في بوابة المدرسة.
كانت وجبة الشاي والبسكويت وجبة لذيذة وشهية لازلت إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان وأتذكر من خلالها أيام خلت وانقضت.
في مدرسة البروليتاريا كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا وكنت حريصا على سماع نشرة منتيكارلو الساعة الثامنة مساء ونشرة bbc من لندن الساعة التاسعة مساء..
كنت أتطلع للمعرفة وأقرأ الصحف عندما أجدها وكذا بعض الكُتب حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي ولكنني كنت أحاول.
اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني وثار في وجهي أحد الاساتذة لمجرد أنه شاهدني أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة) عند بوابة المدرسة، وعنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة وأن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي .. كان واضح أن هذا الاستاذ متخفف من الايدولوجيا واعتقد ان اصوله هندية أو باكستانية كما هو واضح من سحنته وملامحه.
هذا الزجر جعلني اقرأ أكثر من خارج المناهج أو المساقات المدرسية دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنت اعطيها القدر الأوفر من الوقت والاهتمام.
وإجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية بل والتفوق لاحقا في الدراسة ومغادرة دائرة الفشل المدرسي.
(19)
وعيي بأهمية الدراسة والمعرفة
كانت لدي طبيعة في مذاكرة دروسي وهي إن قراءتي تتم بصوت مسموع.. لا أدري عما إذا كان هذا الأمر قد جاء لي سليقة وفطرة أم هو أمر مكتسب..
كانت نسبة استيعابي وأنا أقراء بصوت مرتفع أكثر مما لو قرأت بصوت منخفض وقد تحول هذا الأمر في الجامعة والمعهد العالي للقضاء إلى مشكلة مؤرقة سأتحدث عنها بموضعها لاحقا.
كنت أخرج من القسم الداخلي إلى الصحراء وأذرعها طولا وعرضا وأنا أُذاكر دروسي بصوت عالي بل وأشير بالأيدي والأرجل دون أرادة وأسير بعض خطوات وأتوقف وأكرر العبارات حتى أفهمها وأحاول حفظها وما أن أنتهي من درس اكتب على كثبان الرمل (ربي زدني علما) وأحيانا أضيف (من المهد إلى اللحد) حتى أن من يراني عن بعد ويشاهد حركاتي يظن إن بي مس من الجن أو أنني مجنون .. كنت أقرأ بفمي ويداي وقدماي وكل جسمي.
ومع ذلك وجدت نفسي أفضل من أي وقت مضى اهتماما ومثابرة واجتهاد..
شعرت بأهمية التفوق وتعاطيت مع طموحي وما أروم بمسؤولية أكثر..
في مدرسة البروليتاريا صرت أقدر أهمية التعليم وأهمية الاطلاع والمعرفة.. وبدت الثقة بنفسي تزداد والمعرفة تطيب وتلذ.
(20)
تحوّل معرفي جديد
في الثانوية كنت أقرأ وأتأمل وأنا أجوب الصحراء في عصر كل يوم.. أوزع الاتجاهات على الأيام وأذرع كل يوم اتجاه.
أتأمل الصحراء وأوغل فيها أكثر رغم هجيرها وأسأل نفسي: هل كانت هذه الصحراء على هذا الحال منذ خلق الله البسيطة؟!
كنت أتوقف على قطع من الأحجار الصغيرة والمميزة في الصحراء أغلبها بحجم قبضة الكف أو أكبر قليلا ويبدو أنها قطع من نيازك وأسأل نفسي: هل هذه القطع كانت يوما ما أجرام سماوية تسبح بالفضاء؟! هل معقول هذه النيازك والشهب هي تلك التي يرمي بها الله الشياطين؟
كنت أسأل وأنا أشاهد القواقع المتنوعة في الصحراء؛ هل كان البحر يغطي كل هذه اليابسة؟! وهل كانت القواقع درجة في سلّم تطور هذه الحياة؟!
أعجبني استاذ الأحياء الفلسطيني وهو يشرح نظرية "داروين" في النشؤ والارتقاء.. كنت أتابعه باندهاش تام وأحدث نفسي بالقول: إنها معقولة ومنطقية إلى حد بعيد.
ما أسمعه من أستاذ الأحياء لم يسبق أن سمعت مثله من قبل.. كان كلام جدير بالاهتمام وهو يتحدث عن سُلم التطور والارتقاء..
أحسست بمنطقية النظرية واستمتعت بقوة حججها.. كانت زلزال ضرب قناعات كانت راسخة وضاربة الجذور في الوعي فضلا عن كونها تبحث للممكن عن آفاق عريضة..
كانت تطرح على عقلي كثير من الأسئلة التي تقود إلى معرفة جديدة ومشرقة..
تبدلت أشياء كثيرة في ذهني الصغير مما كنت أظن واعتقد..
أعجبتُ بمادة الفلسفة ومواد العلوم والاجتماعيات إجمالا وشعرت أنها تشكل وعي وتصنع فرقا في معارفي المدرسية والعامة.. كنت أشعر أنها تضيف لي شيئا جديدا لم أعهده ولم أعرفه من قبل.
وفي ثالث ثانوي بدأت المسافة بيني وبين ما كنت أعتقد تنزاح لصالح الشك.. استحضرت تلك الأسئلة التي كنت أطلقها وأنا صغير بتلقائية وعفوية وبراءة..
بدأت قناعات جديدة تتشكل وهي قناعات أكثر منطقية ومعقولية وبعضها مدعوم بالأدلة..
شعرت أن مفاهيم جديدة تتبلور وتتشكل في عقلي بعيدة عن العواطف والوجدان..
(21)
غصة وأسف
ما يؤسف له أن مدرسة البروليتاريا كان جميع طلابها من الذكور ولا توجد معنا طالبة واحدة .. كان أيضا الوضع مشابه في مدرسة النجمة الحمراء..
كان حلمنا أن نتعلم ونجد لقمة عيش تعيننا على الصمود في وجه الجوع، وعندما تحقق هذا الحلم صرنا نرى الاختلاط حلم واحتياج بعيد المنال.. تطلعات الإنسان لا تنتهي عند تحقيق حلم معين .. فالأحلام أيضا تتناسل كالضوء..
كنا نذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك إلى ثانوية عبود لوجود سكن لدى قريب له في حرم هذه الثانوية .. كنت أرى الحرية هناك تنبض بالنور والحب والتصالح فيما أنا أعتصر ألما وغربة وفقدان..
كنت أشعر بأسى جارف وأنا أتذكر مدرستنا "البروليتاريا" التي بدت لي بالمقارنة كصحراء مجدبة ورياح تذر الأتربة في العيون والوجوه على مدار العام، فيما مدرسة ثانوية الشهيد عبود في دار سعد كانت تبدو لي أكثر من حلم عصي على التحقيق.
لطالما تمنيت أن نقوم باحتجاج نطالب فيه على عنتر والقيادة بحق الاختلاط أسوة باحتجاج تحسين التغذية، و لكنني خجولا ولا أتجاسر على إعلان رغبة من هذا القبيل..
تخرجت من الثانوية بنسبة 82% ولم يكن الحصول على هذا المعدل يومها أمرا ميسورا وهي نسبة كانت تؤهلني لمنحة دراسية في الخارج ولكن كنت أيضا خجولا وقليل "المعرفة" و لا يوجد لي معينا أو سند.
**********************************
في السلك العسكري "1- 16″
(1)
الالتحاق بالكلية العسكرية
"لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية بعد أن أحرزت المركز الأول في الدفعة.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع"!
***
ما أن أتممت الثانوية العامة حتى كان عليّ أن أحسن اختيار جواب سؤال: ماذا بعد؟ كنت أشعر أن الجواب مهم وعليّ أن أجيد الاختيار لأن مستقبلي محكوم بالجواب على هذا السؤال.. كنت أشعر إن الإجابة تحتاج لبعض من التريث والاستغراق.. شعرت في أحايين كثيرة بالحيرة العميقة.. شعرت أنني على مفترق طريق وأنني سأدفع ثمن أي خطأ كلفة باهظة حتى آخر العمر.. داهمتني خيبات عديدة جعلتني أردد: " مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ".
تمنيت أن أحصل على منحة دراسية بعد الثانوية العامة في الخارج شأني شأن عدد غير قليل من أقراني ومن هم دون مستواي؛ حيث كانت محصلة نتيجتي في الثانوية العامة جيد جداً.. كنت أريد أن أحصل على منحة دراسة في الإعلام أو الآداب أو العلاقات الدولية أو العلوم السياسية أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو نحو ذلك.. لكنني على ما يبدو كنت عاثر الحظ وقليل الحيلة ولم أتلقِ فرصة من أي جهة أو مسئول مختص للوصول للمنافسة والفوز بمنحة دراسية..
اضطررت للاتجاه نحو خيار آخر وهو الالتحاق بالكلية العسكرية والحصول على مقعد من تلك المقاعد المخصصة لما كانت تُعرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية (جودي) التي تم تخصيص حوالي 12 مقعداً لها في تلك الدفعة، كانت هنالك مقاعد أخرى تمنح لما يعرف بحركة التحرر الوطني مخصصة لفلسطينيين وأكراد وشيوعيين عراقيين وعمانيين.
كان يتوجب الفحص الطبي للالتحاق في الكلية العسكرية، وكنت قبل المعاينة الطبية أشعر بالخجل من معاينة الطبيب لأعضائي الداخلية.. بل وشعرتُ عند المعاينة أن الخجل يبتلعني.. تذكرت "علوان" الرجل الحساس والخجول والقبيلي في القرية الذي آثر الموت على معاينة الطبيب للباسور والذي كان قد بلغ حد لا يحتمل من التضخم والألم، وأنتحر للحيلولة دون أن يرى الطبيب فتحت شرجه.. كم نحن قوم مثقلين بالحياء والحرج والخجل وإلى حد يفوق التصور في بعض الأحيان.
اجتزت امتحان اللياقة البدنية في الكلية العسكرية وكنت أخشى ألا أجتاز الفحص الطبي بسبب وجود دوالي خفيفة بالخصيتين، غير أن الأمر كان بسيطا جداً ولم يشكل لي أي مانع من الالتحاق بالكلية العسكرية.
(2)
الهروب من التجنيد إلى المضبطة
التحاقي بالكلية العسكرية كان يعني لي اختصار الطريق.. اختصار من عمر ينفذ وزمن يهدر ربما لا استفيد منه كما يجب..
كان هروبا من التجنيد الذي من المفترض أن أفقد فيه عامين دون أن يضيف شيئا إلى مستقبلي المنشود.. فترة السنتين التي سأقضيها في التجنيد سأقضيها في الكلية العسكرية لأتخرج منها ضابطا برتبة ملازم ويكون لدي معارف عسكرية قد احتاجها في نضالي القادم في الشمال..
كما أن أخي علي سيف حاشد كان هو الآخر خريجاً من الكلية الحربية في صنعاء وكان له دور نضالي في حماية الجمهورية وكسر حصار السبعين يوماً على صنعاء جنباً لجنب مع زملائه الأفذاذ عبد الرقيب عبد الوهاب والوحش وصالح سرحان وغيرهم..
لقد كنت بالفعل فخورا بما أنجزه أخي في الحياة العسكرية دفاعاً عن الثورة والنظام الجمهوري .. أردت أن أكون مثله أو أكثر منه إن استطعت رغم تغير الظروف وتبدل الأحوال ..
كان أخي شجاعا ومقداما ومحبوبا ويحمل صفات قيادية كثيرة ومتعددة.. كنت أريد أن أسلك مسلكاً يحاكي تجربته في الحياة أو على الأقل أختط خطاً مقارباً له.. كان عسكريا مشهوداً له بالشجاعة وكان يسارياً وثورياً ومتمرداً على النظام في الشمال ويرى في قضايا الناس والتقدم قضيته الأولى.
(3)
الإرغام على الالتحاق بالكلية العسكرية
في نهاية عام 1981 قبُلت في الدفعة العاشرة وبرقم (573/10)، كان مثل هذا الرقم والحاجز يشير إلى أن الملتحق بالدفعة منتمي لحركة التحرر الوطني، فيما كان الطلاب الذين ينتمون لليمن الديمقراطية بأرقام عسكرية مختلفة عن أرقامنا.. غير أن هذا التمايز بالأرقام لا يقابله أي شكل من أشكال التمييز بين صفوف الملتحقين بالكلية.
صار هذا الرقم (573) بالنسبة محط تفاؤل وخصوصا أن صاحبه أحرز المرتبة الأولى في دفعته، كنت استحضره عند إنشاء كلمات السر واختيار الأرقام القائمة على الحظ على أمل أن يجلب لي التوفيق والتفوق ..
كان هنالك حرص من قبل القائمين على الكلية العسكرية وعلى وزارة الدفاع على ضمان توفير الحد الأدنى من تمثيل المحافظات في صفوف الملتحقين بالكلية، وكان أبناء عدن تحديدا أكثر من يحجمون عن الالتحاق بالكلية العسكرية إلاّ في حدود أعداد ضئيلة وقليلة جداً ربما بسبب مزاجهم المدني الذي لا يؤثر العسكرة ولا يطمئن لها كمستقبل..
شاهدت وأنا استعد لحلاقة رأسي ثلاث مجموعات من الطلبة وهم يجتمعون على ثلاثة من أبناء عدن ليرغمونهم على حلاقة شعر الرأس (صفر) بما أنها من الشروط الأولية والبديهية للالتحاق بالكلية..
شاهدت هذا الإرغام وسمعت صراخ المرغمين واستنكرت في أعماق نفسي أن يتم حمل الناس على الالتحاق بالكلية العسكرية كارهين ومرغمين.. إنه أشبه بالإرغام على الزواج بمن لا تعشق ولا تحب، بل وبمن تعافه وتكرهه.
(4)
الاستجداد الفترة الأولى والأكثر صعوبة في الكلية
كانت فترة (الاستجداد) في الكلية بالنسبة لي فترة عصيبة ومرهقة جدا ومثقلة بالصرامة حيث لا يستطيع الطالب المستجد مغادرة أبواب الكلية..
التمارين والتدريبات العسكرية شاقة وتستغرق ساعات طوال.. ملابسنا العسكرية النظامية تبدو ثقيلة جداً وتضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل والشاق.. وبعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع ..
كنت أشعر وأنا أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسف بها طويلاً .. أشعر أنني خفيف الوزن كعصفور .. أشعر بلياقة ورشاقة وخفة وزن لم أكن أشعر بها من ذي قبل.. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر ومريح.. خروجي من الكلية إلى المدينة والناس جالبا لسعادة غامرة.
فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة وتستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط والجلَد..
فترة الاستجداد هي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع..
مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي واختبار مضن يتحول خلالها الطالب من المدنية إلى العسكرية بصرامتها وضوابطها.. مرحلة "الضبط والربط العسكري".
كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم وهي عبارة عن (فنله) بيضاء وسروال قصيرة أزرق .. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصيرة عورة ولا يليق ولكن مع مضي الأيام اعتدنا عليه وكنا نحبذه على الملابس الثقيلة التي كنا نلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.
كنت أنا بطبيعتي منزوٍ وخجول.. كانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك القترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، وأحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف.. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب وكل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا وكان هذا الحال يضايقني كثيرا وأشعر أنه يخدش حيائي ويسبب لي كثيراً من الخجل ولكن سرعان ما اعتدنا على مثل هكذا حال وصرنا نراه لاحقا أمرا عاديا..
شعرت أن المرء على بيئته ووسطه وما يعتاد عليه.. بإمكانه الانتقال والتكيف في الوسط البيئي الذي ينتقل إليه.
(5)
لا أستريح للحركة النظامية وأكره العقوبات
كانت الحركة النظامية في الكلية العسكرية يومية ويخصص لها أحيانا وقتاً أطول من الحصص الدراسية.. كنت لا أستريح لها وأقع أثنائها بأخطاء طفيفة تعرضني لإحراجات كبيرة أمام زملائي .. كنت استنكرها في أعماق نفسي وكلِّي تطلُّع لأن نتعلم كل ما من شأنه أن يجعلنا مقاتلين صناديد وقادة أفذاذ وليس بما يستحيلنا إلى كائنات استعراضية لا يستفاد منها شيء في ميادين الحرب والقتال.
كنت أكره العقوبات الجسدية في الكلية العسكرية لاسيما ما كان يعرف ب(السحك) وهو أن ينبطح الطالب ثم يزحف على بطنه بمساعدة يديه ورجليه.. كنت أحتقر هذه العقوبات ومن يتخذها.. كنت أشعر أنها تنطوي على إرغام وإذلال.. كنت أشعر أن الآمر بها لديه مركب نقص.. كنت أشعر بأن تلك الأوامر تصدر من شخصيات مريضة.. كنت لا أمانع أن تتم في إطار التدريب العسكري بيد أنني كنت أكره أن يمارسها الآمرون على المأمورين كعقوبة.. وشتان ما بين الاثنين!
كنت أكره أيضا عقوبة (الخسارة) التي تطال راتب الطالب وأحس إنها في كثير من الأحيان لا تطاله وحده فحسب وإنما تطال عائلته وأهله في مأكلهم ومشربهم!
كنت أكره العقوبات الجماعية التي يصدرها بعض الضباط الذين كان يخيل لي بأنهم مرضى بالسادية أكثر من كونهم قادة ينبغي جلهم واحترامهم وتقديرهم.. لقد كان القائد المحترم لدي هو ذاك الذي يفرض احترامه بسلوكه الجيد ويقدم شخصيته على نحو يصير معها أنموذجاً، مثالاً، قدوة، يحظى بحب طلابه واحترامهم.
كان إذا صدر خطأ أو صوت ينم عن احتجاج أو عدم رضا أو تململ ناقد أو صوت مشوش من أحد الطلاب في الطابور الصباحي ولا يستطيع الضابط المناوب معرفة مصدره ولا يرغب صاحب الصوت أو من يحيط به كشفه، لا يعمد الضابط إلى الإقناع أو محاولة إيجاد المنطق أو الطريقة التي تحمل هذا الطالب أو من يحيطون به على الاعتراف أو الشهادة عليه، بل يسارع بحمق منقطع النظير إلى عقوبة جماعية كمنتقم ثأري ويصدر أمره الجازم والحازم بعقاب كل الفصيلة أو حتى الدفعة كاملة في بعض الأحيان .. ما ذنب من لا يسمع مصدر الصوت لتناله العقوبة إذاً؟! إذا كانت الجريمة شخصية فما حدث دون ذلك، بل هو مجرد مخالفة بسيطة وشخصية لا يجب أن تطال من لم يعلم ومن لم يسمع الصوت الذي صدرت بسبه هذه العقوبة أو تلك، لطالما تساءلت...!
كنت أشعر إن العقوبات الجماعية انتقام وتدمير وإفساد للقيم والأخلاق.. تنكيل انتقامي ليس له علاقة بالمدنية أو الإدارة الرشيدة بل هي أسلوب نازي وثأري في الأساس وينم عن عُقد ومركب نقص وربما يتحول من يستلذ به إلى خطر مدمر ومستبد إذا ما أمتلك السلطة والقرار .. العقوبات الجماعية أكثر السياسات سوءا ووبالا..
(6)
نفذ ثم ناقش
كنت أشعر إن العسكرية تنطوي على قمع واستبداد وتراتبية صارمة.. كنت اكره بعض القواعد التي يكرسون تعليمها في العسكرية.. كنت أكره تلك القاعدة التي تقول : (نفذ ثم ناقش).. كنت أشعر أن هذه القاعدة تلغي عقولنا وتحولنا إلى مجرد أدوات منفذة بيد من يقودونا لتنفيذ ما يريدون ..
كنت أشعر من أنه يجري تحويلنا إلى أدوات منفذة غير واعية وغير عاقلة.. كنت أشعر أن إنفاذ أوامر عمياء قد تجلب ضرراً فادحاً لنا ولغيرنا .. كثير من الجرائم في دورات العنف التي كان يشهدها الجنوب ترجع إلى مثل تلك الفداحات وتلك الأوامر الخطيرة أحيانا..
كثير هم من أنفذوا أوامر جلبت لأصحابها وللناس الهلاك والضرر الكبير.. كثير من إنفاذ الأوامر غير المناسبة نتج عنها مآسٍ مؤلمة وفادحة كان بالإمكان تفاديها لو تم استحضار قليل من العقل قبل تنفيذها والتسبب بنتائجها المدمرة المريرة..
كنت اعتقد بسبب كل ذلك أن التحاقي بالسلك العسكري جاء بطريق الخطأ.. ولكن من أين للمرء أن يدرك عواقب وتفاصيل كل المسارات التي يحلم بها! لطالما يجد المرء واقعا يختلف عن ذلك الحلم المرسوم في الذهن ليكتشف أنه وقع في سوء تقدير كبير.
(7)
تغير في الطباع واكتساب صفات جديدة
كانت شخصيتي خجولة إلى درجة ذلك الذي يخجل من صوته، بيد أن الكلية العسكرية بعد مضي قليل من الوقت أزاحت عني بعيدا كثيرا من الخجل الباذخ .. تعودت على الصراخ والصوت القوي الناري.. تشكلت لدي شخصية مختلفة إلى حد ما عن تلك الشخصية المدنية التي اعتدت عليها.. كانت صرخة (أخي) التي يطلقها طالب الكلية العسكرية لأي تمام أو سلام عسكري تحمل في معناها رفض الشعور بالدونية وترفع مقام الطالب أو الجندي إلى مصاف أكبر قائد عسكري على خلاف تلك الصرخة المعتادة في شمال الوطن والتي كان الطالب أو الجندي ينادي بها رئيسه أو قائدة ب (فندم) وتعني بالتركية (سيدي).
تعلمت في الكلية أن أكون مجتهدا وصبورا ومنضبطا وحريصا على المواعيد .. تعلمت في الكلية النظام والجلد والصمود والخشونة.. تخصصت في المشاة لأن رجل المشاة هو القائد .. جميع القادة يخضعون لقائد المشاة .. قادة الدبابات والصواريخ والمدفعية وحتى الطيران يقودهم رجل المشاة .. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة والقادة الكبار في القوات المسلحة ينتمون لتخصص مشاة .. لعل هذا ما جعلني آثر تخصص المشاة على ما عداه من التخصصات الأخرى .. كنت أردد في نفسي مقولة لينين (الجندي الذي لا يحلم أن يكون جنرالا جندي خامل).
(8)
اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد
كانت فصيلتنا هي الأولى مشاة وهي واحدة من قوام ثلاث فصائل مشاة، وكان المشرف على الفصيلة عبد الرقيب ثابت وكان يدربنا مادة التكتيك وكان قد حاز على المرتبة الأولى في دفعته الثامنة وأردت أن أكون مثله الأول في دفعتي العاشرة .. كنت معجبا به لأنه كان يعتمد أو يميل للإقناع والإفهام بدلا من سلوك طرق القسوة المذلة التي تهتك المشاعر التي شهدتها تمارس من بعض أقرانه على حساب المنطق ورفع الوعي ..
تعلمت في الكلية العسكرية القيادة حيث كان على الطالب قيادة فصيلته لمدة 24 ساعة كلما أتى عليه الدور بالتناوب لكل عشرين يوم .. لقد بدا لي هذا الدور في البداية صعبا غير أنني ما أن كسرت هذا التهيب في المرة الأولى حتى صار الأمر عاديا إن لم يكن قد أستثار في أعماقي تحدي ذلك الرجل الخجول الذي يتحول إلى قائدا فذا وناجحاً..
من أكثر الذين أعجبت بهم في الكلية العسكرية هو قائد الكلية آنذاك أحمد صالح عليوه ..
كان قائد عسكريا وتربويا محنكاً.. كان يمتلك شخصية قوية وجذابة تخطف إعجابنا وحبنا الكبير .. دأب يغرس في أعماقنا الاعتزاز بالنفس والثقة والشجاعة وقوة الشخصية.. مازال صوته الجهوري حياً في مسمعي وهو يقول: "طالب اعتز بنفسك .. ارفع رأسك .. أنت قائد .. " .. كنت معجباً به وأشعر أنه ممتلئاً وأكثر من يستحق أن يكون قائداً لجيش بلد تستحقه.. كنت أشعر أن ذكائه وقدرته وثقافته وحيويته كبيرة وفائقة.. كان رجلاً يمتلك قدرة قيادية فذة ومؤثرة ويحظى باحترام وتقدير من يقودهم .. سمعت بعد سنوات أنهم أهملوا وحطموا ذلك القائد .. حطمه الفاشلون.. قالوا إنه أصيب بحالة نفسية ثم رحل ليترك عالماً من الفاشلين.. آه يا بلد.. رجالك المخلصين والقادرين ينتهون إلى الجنون أو الضياع أو الهلاك.
(9)
طعم النجاح لذيذا
طيلة وجودي طالبا في الكلية لم ارتكب مخالفات كبيرة.. كنت كثير الحرص على أن أكون ملتزماً ومنضبطاً.. لا أعرف سلوكا أو تصرفاً مخلاً باستثناء إحدى المرات؛ حيث ما أن كانت الفصيلة تركض في تدريبها، حاول أحد زملائي الأشقياء كثير المخالفة والشغب أن يعتدي بلسانه على زميلاً له من الطلاب المنتمين للحزب الشوعي العراقي، وكان بالنسبة لي أنموذجاً ومثالاً في السلوك والفهم والأخلاق والتواضع إلى الحد الذي كنت أرى فيه قبساً من نبوة، هذا التصرف دفعني لأن أهب نحو هذا الطالب المشاغب على نحو مجنون لأتشاجر معه بعنف ومن ثم تدخل طلاب لفض الاشتباك فيما بيننا وتم احتواء الأمر وحله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة.
كنت مجتهدا ومثابرا.. ما بذلته من صبر واجتهاد ومثابرة حصدته بالمرتبة الأولى على الدفعة.. "من جد وجد".. كأنني وجدت كنزاً في عمق نفق شققته بأظافري.. كم كان شعور النجاح غامرا وهم يذيعون اسمي وترتيبي الأول!
لقد كانت المرة الأولى في حياتي التي أستلذ فيها بنجاح على ذلك النحو.. لا يشعر بلذة النجاح إلا من تعب واجتهد حد طلوع الروح..
حضر حفل التخرج آنذاك الرئيس على ناصر محمد وسلمني جائزة أدهشتني كثيراً بالإضافة إلى أنني كُرمت زيارة للاتحاد السوفيتي لمدة عشر أيام بمعية التسعة الأوائل في الدفعة..
لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية.. لأول مرة أسافر إلى الخارج.. لأول مرة أركب طائرة.. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع!
لأول مرة أشاهد السِرك! لأول مرة أشاهد لينين مسجى في الكرملين وطابور طويل ينتظر فيه كل واحد دوره ليلقي على لينين نظرة يتمني صاحبها أن تطول وتطول! والأهم أنني أول مرة أشاهد بأم العين رجلاً يقبل حبيبته بالشارع..!
لأول مرة أشاهد عالماً كل شيء فيه جديداً ومثيراً للدهشة بذلك القدر الذي يستحق مني الاستغراق والذهول!
(10)
بعد التخرج
تخرجت من الكلية العسكرية .. ولكن إلى أين ؟! كانت رغبتي جامحة لأن التحق بالجامعة غير أن ظروفي المادية متعسرة و(راتبي) المتواضع الذي كنت أتقاضاه في الكلية العسكرية سينقطع، وأنا لم أدخر شيئا منه وكنت ما أحصل عليه أصرفه أول بأول .. أصرف بعضه وأساعد آخرين وأسلف البعض دون أن أنتظر عودة ما أُسلفه، بل وارفض استعادته في معظم الأحيان.. إنها عادة درجت عليها ولا أعرف عمّا إذا كانت مذمومة أو محمودة ولكن الأكيد إنها عادة أو طبع لا زال يرافقني إلى اليوم..
والأكيد أيضا أن انعدام المال يمكن أن يكون مشكلة أو معضلة تحول دون تحقيق بعض من أحلامنا، أو على الأقل يعمل على تأجيل تحقيقها.
بعد أن تخرجت من الكلية العسكرية في العام 1983 فضلت الالتحاق بلواء الوحدة المُعسكر في محافظة أبين وكان أغلب أفراده وضباطه من القادمين إلى الجنوب من الشمال، أما الالتحاق بغيره فإن التوزيع متروك للحظ الذي يمكن أن يقذف بي إلى أي جزيرة أو صحراء بعيدة أو في أي منأى بعيد ويكون التحاقي بالدراسة الجامعية أكثر صعوبة ويكون الموافقة على تفرغي للدراسة ربما حظ أقل وأضأل .
كان علي أن أعمل على الأقل عامين في السلك العسكري بعد التخرج من الكلية العسكرية لأتمكن من التفرغ للدراسة الجامعية وأحصل على راتب متفرغ يعينني على الدراسة الجامعية.
(11)
قائد فصيلة استطلاع في لواء الوحدة
كان معسكر اللواء يقع على مقربة من عاصمة المحافظة (زنجبار) وكان كثير من أفراده وضباطه من الشمال أغلبهم ممن هرب إلى الجنوب أيام عبد الله عبد العالم وكان قائده اللواء عبد الله منصور من نفس محافظة أبين وكان ذو وجه غضوب وأشعر بالانقباض كلما شاهدته ، فيما كان أركان اللواء عبد الواحد أحد القادمين من الشمال وكان أقدر على القيادة غير أنه كان يتجنب أن يكون قويا أمام القائد وربما كان سلبيا أغلب الأحيان .
وفي لواء الوحدة جاء توزيعي رئيسا لفصيلة في سرية استطلاع اللواء فيما كان الملازم أول محمد الحياني من خريجي الدفعة الثامنة (شمالي) رئيسا للفصيلة الثانية والملازم ثاني سند الرهوة وهو من أبين ومن خريجي الدفعة العاشرة قائدا للفصيلة الثالثة وكان عبده قائد الكهالي (شمالي) رئيسا لسرية الاستطلاع وأضيف للسرية ضابط جديد هو الملازم علوان (شمالي) من خريجي الدفعة الحادي عشر.. وكان صف الضباط في السرية جميعهم من الشمال ، وكان يسود بيننا كثير من الاحترام والانسجام..
(12)
عشق الصحافة
في لواء الوحدة كنت أشتري الصحف وأتابع الأخبار وأود أن أعمل في الصحافة ورغبتي في العمل فيها كانت جامحة، ولكن تخصصي كان يفهم بالتكتيك العسكري والتدريب الناري والعلوم العسكرية إجمالا بعيدا عن تخصص الصحافة والإعلام..
كنت أساير رغبتي وأحدث نفسي بأن كثير ممن برعوا واحترفوا الصحافة قد تركوا تخصصاتهم وعشقوا الإعلام وبرزوا فيه وصار كل واحد منهم نار على علم وأكثر، رغم أنهم جاءوا من خارج تخصص الإعلام والصحافة.. ولكن أنا لا أعلم من أين أبدأ.. سؤال تكرر ووجدت مع السعي الطويل والانتظار الأطول أثر قد تحقق، وما تبدد حلم ساعي..
بدأت أراسل صحيفة (الراية) التابعة لوزارة الدفاع في عدن ببعض الكتابات والمشاركات والمواضيع السياسية الدولية بالإضافة للمحاولات الشعرية ومحاولة في كتابة القصة القصيرة..
أذكر من المواضيع الأولى التي نشرتها في صحيفة الراية كانت ضد التدخلات الأمريكية في العالم ومنها الاحتلال الأمريكي لجزيرة "جرندا"..
كنت أتابع أخبار العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.. كانت كتاباتي السياسية تنشر في الصفحة الرئيسية المخصصة للشؤون الدولية ..
أما المحاولات الشعرية فكانت تنشر مقتطفات مما أرسل في صفحة بريد القراء باستثناء واحدة أو اثنتين وأحسست إن الشعر عصي عليّ وأنني لست موهوبا فيه بل ولا تتوفر لدي الموهبة حتى في حدودها الأدنى، واقتنعت أنه لا يمكن أن أكون يوما بشاعر رغم أنني كنت أطمح أن أكون شاعرا ولكن (ليس كل ما يطلبه المرء يدركه) فكفيت عن المحاولة رغم أنني ألقيت في أكثر من مناسبة شيئا من تلك القصائد وشعرت أنها تحظى ببعض القبول عند السامعين لها، ولكن كنت أشعر أن قيود الشعر كثيرة ومنها القافية والتفعيلة وأدركني اليأس لاحقا وأصابتني في الشعر خيبة ..
أما القصة القصيرة فقد نشرت لي محاولة واحدة في الصفحة الأدبية ولكن خطاء الطباع بتقديم صفحة على أخرى خلافا لترتيبي للصفحات أصابني أيضا بالخيبة، حيث بدأت القصة مشوهة وغير مفهومة الأمر الذي قلل من فرحي بالنشر، وأصابتني بعض الخيبة ولم أحاول كتابة غيرها.
كنت في كل عدد انتظر يوم صدور صحيفة الراية بفارغ الصبر ثم أفتش بصفحاتها بشغف كمن يبحث عن حلمه ومحل نهمه ويرى عنوان ما أرسله من مقالات أو مشاركات.. وعندما أجد مشاركاتي منشورة أعيد قرأت ما تم نشره مرات ومرات إن لم يكن عشرات المرات واكتشف فيها بعض ثغرات ما كتبت أو اكتشف أنه كان بإمكاني تحسين ما نُشر لو كانت تلك القراءة المتكررة قبل النشر لا بعده .. وعند النشر لي كنت أشتري عدة نسخ للأرشفة والاحتفاظ..
ظلت رغبة الصحافة تنازعني حتى صارت بعد سنوات حقيقة وصار لي صحيفة وموقع أشارك تحرير بعض موادهما، ولا زال حلمي يكبر رغم أن الحال والواقع يتكالبان ضدي ويريدان الإجهاز على ما تحقق من حُلم ورغبة.
(13)
صاعقة .. شكرا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
طلبت وزارة الدفاع من كل لواء إرسال ضابط أو اثنين إلى اللواء الخامس (مضلات) من أجل إعطاءهم دورة صاعقة وفي لواء الوحدة وقع الاختيار عليّ وعلى زميلي سند..
كانت فرحتي بهذا الاختيار كبير وغامر .. وكانت المصادفة إن مدرسة البيروليتاريا التي درست فيها الثانوية العامة والتي تقع على طريق عدن لحج وقضيت فيها ثلاث سنوات قد صارت مقرا لمعسكر اللواء الخامس وهو لواء مستحدث..
صارت المدرسة معسكرا مجهزا بقاعدة مادية جيدة ومميزه.. تم ترميم السكن بشكل كامل واستحدثت بنى تحتية شملت كل الوسائل اللازمة للتدريبات العسكرية للصاعقة والمضلات بما فيها الحواجز الهندسية والحلبات ومتطلبات التدريب الميدانية بالإضافة إلى توفير مدربين أكفاء.. وقد أنيط تدريب الدورة التي نحن فيها إلى مدربين من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتدريبنا صاعقة مدة أربعة أشهر.
شعرت أن هذه الدورة قد أضافت لمعارفي معارف جديدة وعلى قدر من الأهمية لطالما تمنيتها من سنوات وكان مدربينا من الجبهة الشعبية أكفاء ومحترفين ويحملون وعيا ونضجا ومعرفة فارقة جعلتنا نحترمهم ونقدرهم في نفوسنا ونبذل مجهودا كبيرا لنيل رضاهم من خلال مزيدا من بذل الجهد والتعلم والانضباط..
أحببت هؤلاء المدربين كما أحببت من خلالهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيسها جورج حبش الذي كانوا يسمونه ب (الحكيم)..
أحببت المدرب أبو علي الذي تعلمنا منه معارف عسكرية لم يكن يعرفها الجيش اليمني من قبل.. كانت مادته جديدة ومتميزة وداهشة.. كنت أكثر من الأسئلة المتكاثرة وهو يجيب ويعرِّج على أشياء فيها كثير من الدهشة تضيف لنا كل يوما فرقا في المعرفة العسكرية.. فيما هو كان يعتبرني تلميذا نجيب.
أحببت المدرب (أبو فراس) والذي كان يدربنا تدريبا ميدانيا عنيفا .. فيه الاشتباك والركض وتجاوز الحرائق واالحواجز الهندسية والمعوقات الطبيعية.. الخ ..
(14)
استماته من أجل الحياة
في دورة الصاعقة أذكر أنني كنت أركض في حلبة (الصاعقة) حتى أكاد أتقيء ولكنني كنت أصمد على نحو لم أكن أتوقعه.. وفي اقتحام الحواجز كان علينا تسلق جدار ارتفاعه أكثر من أثني عشر متر وأنت تحمل سلاحك وكل عدتك العسكرية الشخصية.. لا يساعدك في هذا الصعود غير حبل مربوط في رأس الجدار..
أذكر أنني في إحدى المرات كدت أن أسقط قبل أن أصل إلى سطح الجدار.. خارت قواي إلى درجة تصورت إن الأمر سيان بل أن السقوط مريح أكثر من إكمال ما بقي من ارتفاع الجدار وهو قليل..
داهمني فتور شديد .. قدماي لم تعد تقوى على الصعود ويداي تقاوم السقوط وبطن كفوفي تكاد تنفطر دما وهي قابضة على الحبل، ولكني أيضا كنت أعي إن السقوط إذا ما حدث أو تخاذلت يداي من الاستماتة بإمساك الحبل وإكمال الصعود إلى السطح سيكون مميتا وفي أفضل الحالات ربما يسبب لي عاهة مستديمة، هذا الوعي وغريزة البقاء التي انتفضت داخلي وإفراز الجسم لمادة (الأدرينالين) في مثل هذه اللحظة الخطرة جعلتني أغلب هذا التحدي..
استمت في الصعود وتجاوزت الخطر ووصلت إلى سطح الجدار حتى بدا لي الأمر وكأنني اجترحت معجزة.. خضت في ذلك الصعود تحدي حقيقي ومغالبة أحسست أنه بإمكاني انتزع الحياة من لحظة خطر محققة.. أحسست أن بين الموت والحياة لحظة وقرار..
تعلمت أن بين أن أنتصر أو أُهزم قليلا من الجلد والصبر في برهة زمن حاسمة.. بين أن أكون غالبا أو مغلوبا قليلا من التحدّي والصبر والاستماتة من أجل الحياة والأمل..
تذكرت هذا الدرس في نفس الدورة وأنا أعاصر أحدهم بالذراع والكف لنرى من الأقوى والأكثر جلدا وصبرا وغلبة.. من الذي باستطاعته أن يسقط يد الآخر ويغلبها.. كان هذا التحدي أشبه بالمبارزة وأمام شهود ومشهد من الناس، وكان بين انتصاري وهزيمتي برهة زمن ولحظة صبر..
(15)
تفوُّق مرة أخرى
تذكرت الجدار، فغالبت حتى أستسلم زميلي وأسقطت يده، ولو كان صبر برهة زمن ربما لأنتصر هو وكانت هزيمتي.. هذا ما قلته له عقب المبارزة.. ولذلك أجد نفسي في أحايين كثيرة أتذكر مغالبتي للجدار في كل محنة فيها صبر ومغالبة.. إن ما بين النصر والهزيمة تكون في أكثر الأحيان لحظة أو برهة زمن أو شعرة رفيعة فاصلة..
وعلى نفس النهج تعاطيت مع التفوق وما دونه.. اجتهدت وثابرت وبذلت جهد مغالب حتى أحرزت المرتبة الأولى في الدورة وتم تكريمي من قبل نائب رئيس هيئة الأركان العامة آنذاك عمر العطاس على احتلالي للمركز الأول في الدورة التي استغرقت أربعة أشهر..
في هذه الدورة العسكرية أمعنت في تعلم أهمية الجلد والصبر والمغالبة والانتصار..
كما تعلمنا أيضا في هذه الدورة كيف نصارع الموت خلف خطوط العدو..
تعلمنا كيف نشتبك مع جنود العدو بالسلاح الأبيض عندما تنفذ ذخيرتك..
كيف نشتبك مع العدو ونحن عزل .. كيف نأكل عندما لا نجد ما نأكله ..
تعلمنا كيف نفترس الأرانب والضفادع .. كيف نعظ ونأكل الثعابين .. كيف نعبر الوحول والمستنقعات عندما يكون العبور ضرورة أو لمصلحة لك ولأفرادك وقواتك..
كيف نكسر المستحيل ونحوله إلى ممكن وانتصار.. كيف نكون أوفياء للأرض التي نقف عليها .. كيف ننتصر لها عندما تحتاجنا وتستغيث بنا ولا نبخل عليها بدمنا وأرواحنا..
لازال صوت أبو فراس يرن بإذني ووجداني وهو يقول :" أوصل شريانك للأرض عندما تعطش هذه الأرض وتحتاج تضحيتك.. لا تتردد ولا تبخل أن تسقيها دمك" بعد عام أو أكثر علمت أنه أستشهد في لبنان في معركة مع المحتل الصهيوني.
بعد انتهاء دورة الصاعقة عدت للواء الوحدة .. بدأت أتابع من أجل الالتحاق بكلية الحقوق في جامعة عدن ولكن مرت السنة الأولى دون أن أتمكن من الالتحاق بالجامعة لأنه يتوجب مرور العامين بعد التخرج لمنح التفرغ وأن يكونا هذين العامين قد قضاها طالب التفرع بالخدمة الفعلية..
(16)
جار الله عمر
وفي العام التالي كان السؤال: من يساعدني؟ لا فرصة في الإعلام .. لابأس من الحقوق.. ذهبت إلى اللقاء بجار الله عمر في منزله..
سبق أن زرت جار الله في بيته قبل هذه المرة عدة مرات وفي كل مرة كان يشعرك بحرارة ودة وحفاوة استقباله حتى وإن كان عمرك خُمس عمره..
زرته في أحد المرات حال ما كان عمري دون ل 17 سنة.. شاهدت في بيته مكتبه كبيرة لا يساويها إلا تواضعه الجم.. كان استقباله لي حارا جدا وتعامل معي بندية وتقدير رفيع.. أهم انطباع خرجت به أنه لا يكذب ولا يخلف وعدا.
كنت أقارنه بالمسؤول الأول الذي بدأ لي الفرق بينهما مثل فرق الثراء من الثريا.. هذا المسؤول الذي كان صديق أخي في حياته وجدته متعاليا جدا وينظر للناس شزرا .. كان يتجاهلني إلى حد الاستفزاز والقرف.. إذا ذهبت إلى بيته كان يستقبلني بوجه عبوس مكفهر ومستفز للأدمية وإذا زرته إلى مكتبه صافحني بيد من ثلج.. كل مرة كان يسأل عن اسمي وكأنه مصاب بمرض الزهايمر، ثم أعرفه بنفسي وهو يعرفني جيدا ولكنه ثقيل الدم ولئيم الطباع.
جار الله عمر كان شيئا مختلفا.. كان ودودا وخلوقا وممتلئا ومتواضعا ومتميزا..
في اللقاء الذي قصدته في منزله بخور مكسر أبلغته أنني أرغب بالالتحاق بكلية الحقوق وأنه قد مر عام والعام الثاني على وشك أن يمر، وأن اشتراط مرور العامين بعد التخرج من الكلية العسكرية يكاد أن يتم ولا أريد أن يمر هذا العام لأقضي عام ثالث في الانتظار، وأنني قد رفعت طلب آخر للوزير أخشى أن يهمله أو يتجاهله وأن رغبتي للالتحاق بالكلية جامحة وأخبرته أني متفوقا في دراستي، وطلبت منه التواصل بوزير الدفاع صالح مصلح، فرفع السماعة وأتصل مباشرة للوزير وأخذ موافقته على الفور ووعدني بمتابعة الموضوع وأوفى بوعده وكان يبر بالوعود وجاءت الموافقة على طلبي لتبلغني قيادة اللواء بالخبر..
كدت أطير من الفرح وهم يبلغوني بالموافقة.. شعرت إن المستقبل يبتسم لي وإن الآمال تتحقق.. غير أن الأهم إن هذا التفرغ والدراسة أنقذاني من موت محقق وأكيد..
***********************************
أحداث 13 يناير "1 – 10″
(1)
"غربان يا نظيره"
في نصف العام الدراسي بكلية الحقوق كنّا على مقربة من موعد امتحان القانون الروماني.. ذهبت أنا وصديقي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في شواطئ صيرة وحُقّات.. كان التوتر السياسي حينها على أشده.. سمعنا من العابرين بلبلة وأخبار متضاربة.. سمعنا أولا أن الرصاص التي تُطلق في منطقة الفتح بالتواهي إنما تستهدف الغربان.. هكذا كان بداية مداره وتغطية ما يجري من حقيقه مؤسفة..
"غربان يا نظيره" مسرحية لعنوان بداية تختصر مستهل المشهد الدامي، ومحاولة للاستفادة من الوقت، وتغطية ما يحدث ليتم إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض.
ظلت الأخبار التي تتوارد وتصل من "فتح" التواهي إلى كريتر تتضارب حتى وصلنا إلى خلاصه أن الوضع بين الفريقين قد أنفجر..
(2)
موقعنا ووضعنا
ونحن مجفلين سمعنا انفجارات بعيدة.. شاهدنا أناس يتوافدون ويتسلحون من مبنى يقع خلف بريد عدن.. شاهدنا الطابور يزداد ويزدحم أمام المبنى .. أردنا أن نتسلح دون أن نعلم هذا التسليح يتبع أي جهة!! رأينا أنه لابأس أن نتسلح أولا لحماية أنفسنا، وبعدها سيكون لنا موقف وكلام.
وفي الطابور شاهدت جعفر المعيد في كلية الحقوق يستلم سلاحاً وذخيرة.. تصافحنا.. ثم شاهدت أحد أقاربي في الطابور المزدحم.. فهمت أن هذا المركز تبع أنصار فتاح وعنتر.. فيما كان معسكر عشرين المركز الرئيس للمليشيا الشعبية في نفس كريتر تابع الولاء لعلي ناصر ويبعد بحدود كيلو متر واحد من المركز الذي نستلم السلاح منه.
يا إلهي!! كريتر صارت مقسومة بين فريقين!! ثم عرفت أن "الباخشي" قائد المليشيا الشعبية في معسكر عشرين ولاؤه لفريق، فيما الأركان باسلوم ولاؤه للفريق الآخر..
يا إلهي !! ليست كريتر وحدها مقسومة قسمين ولكن أيضا القائد والأركان.
أستلمنا سلاح وذخيره واتجهنا إلى عزبه فيها أصدقاء قريبة من نفس المكان وبعد قليل صعقنا البيان من الاذاعة وخلاصته محاكمة وإعدام عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع بتهمة الخيانة.
أغاضنا هذا البيان وكانت الصدمة كبيره.. تسألت: متى كانت الخيانة؟! ومتى تمت المحاكمة؟! ومتى تم تنفيذ أحكام الاعدام؟!
وكان السؤال الأهم من بدأ بإشعال الحريق؟!
كنت أعرف أن هناك ما يشبه العهد بين الفريقين في المكتب السياسي، وفي العهد أن من يبدأ باستخدام السلاح في حسم الخلاف خائن، ولكن يمكن للمرء اللبيب أن يستخلص أن في الأمر خدعة، وأن البادئ من نفذ الإعدام والبادئ أظلم.
(3)
"آه يا عيالي"
كانت كريتر أقل المناطق صداما ومواجهة في أحداث 13 يناير1986مقارنة بغيرها حيث لم تشهد مصادمات واشتباكات عنيفة إلا على نحو محدود ومتقطع..
خلال هذه الأحداث لم أشترك في أي اشتباك أو قنص، ولم تخرج رصاصة واحدة من فوهة بندقيتي باستثناء مرة واحده للدفاع عن النفس في ليلة اليوم الثالث من الأحداث، حيث صرخ قريبي من السطح يخبرني أن هناك محاولة تسلل لاقتحام العمارة من الخلف، فيما كنت حينها في بوابة العمارة، وتحركت بسرعة إلى مدخل كان يؤدي مباشرة إلى خلف العمارة "الجلِّي" وبدأت أطلق دفعات الرصاص نحوه، فيما كان قريبي ومن معه في سطح العمارة يطلقون الرصاص إلى الأسفل من فوق الجدار المطل على خلف العمارة، وفي الصباح لم نجد أثرا لأحد، فبدا لنا الأمر أنه كان محاولة تسلل أو استطلاع أو مجرد جساً للنبض.
بعدها طُلب مني أن أتجه إلى منطقة متقدمة من خط التماس وتحديدا إلى شقة سالم معروف وهي قريبة من المصرف اليمني وسط كريتر على إثر مقتل شخص من فريقنا وهو من أبناء منطقة الجليلة الضالع وطُلب منّا رفع جثمانه إلى السيارة المعدة لنقله ومن ثم المرابطة بالشقة التي أنتقلنا إليها.
وجدنا المقتول ممدا وفي جزء منه منحنيا في بوابة العمارة ووجدنا جواره ذلك الجندي الردفاني الشجاع الذي كان قد سبق وتموضع رأس المنارة القريبة من مركز البريد.. كان الردفاني موجودا جوار هذا الرجل الذي تم قنصه من قبل الفريق الآخر.. قال لنا أنه سمع زميله المقتول وهو يتآوه قبل أن يفارق الحياة ويقول: " آه يا عيالي"
هذه الجملة الصغيرة أحسست أنها أشبه برصاصة أصابتني في مكان مكين..
أحسست أن فأسا ضرب في رأسي .. شعرت أن عمود خرساني قسم ظهري.. ساحت الدموع من عيوني غصبا عني.. من حق الدموع أن تتمرد علينا عندما نريد قمعها في حضرت مشهد دامي ومأساوي كهذا.
(4)
قذيفة مدفعية على بعد 50 مترا
كانت الاتصالات مقطوعة والماء أيضا.. شاهدت من نافذة الشقة الأطفال والنساء وهن يجلبن الماء ويتزاحمن على مورده في المكان المقابل.. شاهدنا السكان يتكيفون مع ظروف الحرب ويعتادوها.. رأيت الناس يحاولون أن يشقّون في زحام الحرب طريقا للبقاء والحياة..
كنت مرهقا حيث لم أنم الليلة السابقة، ولا نهار ذلك اليوم.. وضعت يدي على رأسي ووجدت نتف من شعر رأسي يتساقط على نحو سهل وكأنه ليس بعض مني.. حاولت أنزع نتفا أخرى لأتأكد ما الأمر فوجدته بيدي دون أن أشعر بأنه كان نابتا في فروة الرأس.. قررت أن أتركه ولا أحاول مرة أخرى حتى لا أجد نفسي فجأة أصلعا وقلقت من احتمالية أن لا يعود الشعر المتهالك من جديد.
في الليل دوى انفجار قوى ولكنه كان في منطقة بعيدة نسبياً وبعد نصف ساعة دوى انفجار عنيف آخر ظنناه أنه أصاب العمارة المتواجدين فيها، وعند اطللنا من النافذة على الشارع وجدنا أنه انفجار قذيفة مدفعية أصابت الجزء الأسفل من مبنى مصرف اليمن والذي لا يبعد عنا أكثر من مسافة خمسين مترا. أدركنا أن هناك تصحيح للإحداثيات، وتوقعنا أن تقع القذيفة الثالثة فوق رؤوسنا، ولكن رفق بنا القدر ولم يتم معاودة القصف تلك الليلة.
(5)
يوم اكتشاف نصف الحقيقة
يوم 18 يناير فريق ينتصر فيما الفريق الآخر يخسر المعركة.. الفريق المنتصر أطلق على المهزوم "زمره" فيما أطلق الفريق المهزوم على المنتصر مصطلح "طغمه" هكذا سمّى الرفاق بعضهم..
18 يناير كان يوما فارقاً.. من ألتحق بالفريق المنتصر يوم هذا التأريخ وبعده كان ينظر إليه أنه تحصيل حاصل لا يضيف شيئا لقائمة المنتصر، بل يرونه كمن ركب موكب الانتصار بدافع المصلحة، ولم يكن له أي دور في حسم المعركة أو تقرير مصيرها.. هكذا سمعت يومها المنتصرون يتحدثون.
تم نقلي إلى ساحة مكاتب خلف بريد عدن في تاريخ 18 يناير وكان هذا اليوم بالنسبة لي مختلف، حيث اكتشفت فيه نصف الحقيقة..
كان المنتصرون يعتقلون المهزومين والمشتبه بالانتماء لهم.. سمعت أصوات تستغيث وتطلب ماء من أحد الأماكن المغلقة الأبواب.. لم أكن أعلم أنه يوجد معتقلين خلفه.. لم أكن أعلم أن خلف الباب ناس يهددهم العطش بالموت..
فتح السجان الباب وكانت مفاجأتي بمشاهدتي الاكتظاظ.. من وقف لا يستطيع الجلوس مرة أخرى إلا بشق الأنفس بسبب الزحام الشديد وهذا الاكتظاظ المميت..
عندما تم فتح باب هذا المعتقل كنت كأنني أشاهد فتح علبة تونة أو علبة لحم مفروم.. يا إلهي ما هذا؟! شيء غير معقول.. شيء لا يصدق.. يا إلهي هل أنا في حلم أو علم.. الكل يستغيث يطلب ماء .. قطرات الماء هنا صارت كل الأمل لكل معتقل.. فتح بوابة السجن لبرهة ربما أيضا تنقذ البغض ممن يكاد يموت اختناقا.
ثارت انسانيتي داخلي.. إنه مشهد بالنسبة لي غير مألوف بل صادم وغير مسبوق وغير متوقع أنني يوما سأشهد مثله.. هرعت لأحضر لهم الماء.. كدت أعترك مع أحد السجانين الذين كان يمنعني أن أمكنّهم دبة الماء.. كان يحاول يمنعني بالقوة من أيصال الماء إليهم.. كان يقول لي : "هؤلاء أجبروا رفاقنا أن يشربوا من البلاليع"..
كنت نفسيا مهيّاً أن أفعل أي شيء من أجل أن أغيث هؤلاء بالماء.. كنت مهيا لكل الاحتمالات إن تم منعي بالقوة.. نعم كنت مهيأ نفسيا لأن أفعل أي شيء.. حتى من عارض إيصال الماء للمعتقلين كان يدرك مقدار انفعالي، ولذلك تمكنت من أيصال الماء إليهم.. نعم لقد نجحت وأوصلت الماء إلى المستغيثين.. أحسست أنني نجحت في رسالة تشبه رسالة نبي أغاث القوم دون أن يقتل أحد.. نجحت في إغاثة قوم محشورين في مساحة لا يزيد طولها وعرضها عن سبعة متر في سبعة..
كريتر صارت واحدة وبيد فريق واحد ولكن صار كل ما فيها ممزق.. جروح غائرة وموت وبكاء واعتقالات..
ثم شاهدت معتقلين جدد يأتون بهم إلى غرفة تحقيق تقع على مسافة قريبة.. سمعت وقائع محزنة عن كيفية الاعتقال من قبل من يقوم بالاعتقال.. كانوا يتفاخرون ببعضها.. كانت حملات التفتيش والمداهمات للبيوت على أوجها.. كنت أتفجر وأنا أسمع الحكايات.. هذا يداهمون بيته وينزعونه من مخبأه داخل دولاب في غرفة النوم، وهذا ينتزعوه من تحت سرير النوم.. وهذا من تحت الدرج أو من الحمام أو زاوية مهملة في البيت.. وكل هذا يتم وسط فجيعة الأهل وصراخ الأطفال..
تذكرت ذلك التفتيش الذي حصل يوم لبيتنا في القرية من قبل حمله أمنية بعد مقتل أخي وكان أخواني الصغار قد انزاحوا مجبرين إلى إصطبل البقرة والحمار ولكن ما أن انتهوا من تفتيش البيت حتى أتجهوا نحو أخواني الصغار في الاصطبل لتفتيشه وهو مستقل عن المنزل، فصرخوا أخواني بالبكاء الهلع والفجيعة.. صراخ جعل القائمين على الحملة يحجمون عن تفتيشه والاكتفاء بتفتيش منزل والدي ومنزل أخي المقتول.
أما التعذيب فسأفرد لمشاهداتي مكان يلي هذا مباشرة وهي بعض من نصف الحقيقة التي عرفتها فقط في يوم هذا التاريخ 18 يناير 1986.
(6)
تعذيب
في يوم 18 يناير 1986شاهدت معتقلين يجرونهم إلى غرفة التحقيق .. عرفت بعضهم من لهجتهم ولكنتهم وسحنتهم أنهم بدو من أبين وشبوه.. ثم كنت أسمع صراخهم ألما ووجعا.. شاهدت بعض المحققين يحملون "صمول" يضربون بها بعض المعتقلين بقسوة..
كانت مشاهد صادمة لم أتوقعها.. كانت مشاهد لا تخطر على بالي يوما أنني سوف أشاهدها جهارا نهارا عيانا.. وأين وضد من؟! أنها الأسئلة الأكثر وجاهة وإيلام..
كان المحققون يبحثون عن اعترافات سريعة يحتاجونها.. كان لوقع الضرب والعنف الذي مارسه المحققين مع بعض المعتقلين يعيد ذاكرتي إلى فلم وثائقي "جرائم المخابرات المركزية الأمريكية" شاهدته في سينما "دار سعد" حالما كنت أدرس الثانوية، وهو فلم يتحدث بالصوت والصورة على انتهاكات فضيعه لحقوق الإنسان لنشطاء وسياسيين ومقاومين لأنظمة دكتاتورية في أمريكا اللاتينية والوسطى والمغرب العربي وغيرها.. كنت وأنا أشاهد الفلم أشعر أن الموت بالنسبة للمعتقل المعذب أمنية بل وربما أمنية بعيدة المنال.. ها أنا اليوم أشاهد تعذيب حي وبأم عيناي.. أسمع صراخ التعذيب دون وسيط أو تصوير..
أحدهم عرض علي أن أشارك في التحقيق بعد أن عرف أنني أدرس في كلية الحقوق.. يا إلهي.. أيعقل هذا !! أنا أحلم أن أكون قاضيا أو محاميا وهذا يريد أن يحولني إلى جلاد.. يجب أن أغادر هذا المكان..
ذهبت لمقابلة القيادة بمعاونة صديق.. كانت القيادة تتمركز في مبنى البريد.. كان أحدهم يافعي يعمل مديرا لمؤسسة اقتصادية والأخر قيادي عسكري.. طلبت الأذن بالمغادرة وأردت تسليم سلاحي.. كان صديقي ينتظر الموافقة ليستلم سلاحي وذخيرتي وبالفعل حدث هذا وعدت إلى بيتي دون سلاح أو ذخيرة.. لم يفعلها أحد ولم أسمع بمنتصر سلم سلاحه وعاد إلى بيته.
نعم في هذا اليوم 18 يناير 1986عندما كان يتجه المزايدون والنفعيون والانتهازيون للانضمام للفريق المنتصر كنت أنا أسلمّ سلاحي وذخيرتي وأغادر ساحته إلى البيت.
(7)
تصفية حسن عبد الله الأعور
عدت إلى البيت.. تواصل بي حسن عبد الله الأعور، وطلب مني المجيء إلى منزله.. كنّا جميعا نسكن في حي الثورة "القلوعة" وكنت أزوره إلى منزله في معظم الأحيان.. كانت تربطني به علاقات صداقة واحترام وفضلا عن ذلك نحن من منطقة واحده في الشمال.
حسن عبد الله رجل مكافح واعتمد على نفسه في بناء نفسه.. تغلّب على عاهة فقدان النظر في أحدى عينيه.. حسن عبد الله مكافح وناجح بعين واحده.. وصل إلى رتبة رائد أو نقيب وشغل وظيفة النائب السياسي للمليشيا الشعبية في عدن معسكر20 حسن عبد الله رجل كادح ومعدم بناء نفسه من الصفر والعدم.. كان يتميز بتواضعه الجم وكان أكثر ما يميزه أنه خدوم جدا لكل الناس الذين يقصدونه، ولا يحمل حقدا أو غلا على من يختلف معه في الرأي السياسي..
كان يتعامل معي باحترام فائق وكنت أكنّ له كثيرا من الود والتقدير والاحترام.
حسن عبد الله كان لديه عدد كبير من الأبناء الصغار أكبرهم لم يتجاوز ال15 سنة فيما زوجته مصابه بمرض في القلب وتعيش على دواء دائم.. حالتها الصحية تزداد تدهورا..
كنت أشعر أنه في وضع صعب وأن نجاته من هذه الأحداث العاصفة ضئيل جدا..
كنت أشعر أن الانتقام الأعماء سيكون سيد الموقف بعيد عن أي عدالة أو قانون أو محاكمة حتى ولو كانت صورية.. تصوروا حتى المحاكم الصورية كانت مستحيلة وبعيدة المنال..
كان الموت باذخا واسترخاص دماء وحياة الخصوم حد الصفر من البخس.. كنت أشعر أن أبناؤه الكثر وجميعهم قاصرين سيكونون أيضا ضحايا جنون هذه الحرب التي عصفت بالرفاق.. كنت أشعر أن ثمة مأساة سيعشونها في قادم الأيام.
ذهبت إلى منزله.. حلّق بي الصغار كأنني سفينة نجاة وأنا أنشج في داخلي وأغالب حزني الكثيف وغصص مكتومة تذبح حنجرتي من الداخل.. شاهدت الأم مرعوبة من قدر سيأتي وهي تبكي مصاب فادح وجلل سيصيبها وعيالها، وهي تحمل جبل من الهم والأسئلة لزمن عبوس سيأتي، وترجو من الأيام الرفق بها من قادم ثقيل وأسود سواد هذه الأحداث الأشد من قاتمة والأكثر من قاتلة.
جو من الكآبة والحزن حاولت أن أغادره وزوجته تبلغني أنه في منزل لقريب في مكان قريب.. وجعلت من احد أبناءها دليلي لأصل إليه.
ألتقيت به.. أحسست بمأساته وكم من المآسي ستترك هذه الحرب.. عرضت عليه أن يأتي إلى بيتنا فربما هو أكثر أمانا، فيما المنزل الذي هو فيه ربما إن لم يكن بحكم الأكيد سيتعرض للتفتيش وسيتم اعتقاله ولا ندري ما بعد الاعتقال..
عرضت عليه أن يختبئ عندي إلى أن نجد مخرجا وما جرى له جرى علينا.. غير أنه أخبرني أنه تواصل بعبد الحافظ قائد وكان من الشخصيات التاريخية الهامة في الحركة الوطنية وفي موضع احترام وتقدير لدى القادة السياسيين في الحزب والدولة وهو من الرجال القلة الممتلئين وقال أنه عرض وضعه عليه فنصحه أن يسلِّم نفسه وهو سيتابع موضوعه.. هو أيضا فضَّل هذا الخيار على خيار استضافتي له في البيت.. ولكن كان للقتلة خيارهم وكان القتل منفلت الزمام، ولم يكن القتلة يعبئون بالعقل ولا بالاتزان فخاب تقدير حسن وتقدير حافظنا الطيب.
سلم حسن عبد الله نفسه للفريق المنتصر وتم إرساله لسجن "صبر" في محافظة لحج وبعد أسابيع أو شهور تم تصفيته مع كثير من المعتقلين.. وبقت قلوب وعيون أطفاله وزوجته معلقة تنتظر عودته سنوات طوال.. ظل أفراد أسرة حسن يترقبون كل يوم أن يطرق حسن الباب، وحسن كان قد غادر قسرا إلى اللا عودة واللا اياب.. عذاب يومي ثقيل ومؤلم ظلت أسرته تعيشه طيلة الليل والنهار ولسنوات طوال.
لم تقتصر مثل هذه التصفيات على طرف دون آخر بل كلا الطرفين تسابقا وأثخنا بالقتل إلى حد الجنون.. خيرة كوادر الحزب والدولة وكثير من الأبرياء كانوا ضحايا هذه الحرب اللعينة والمملوءة بالجنون.. كانت هذه الحرب بداية لهزيمة كبيرة لاحقه للحزب والجنوب والوطن في 1994.
في أحدث 13 يناير ارتكبت مجازر ومذابح مروّعة بعضها يشبه جرائم "داعش" اليوم . إننا قوم لا ندرك ما بلغناه من جنون القتل والدمار إلا بعد فوات الأون والندم.
(8)
خاله "خدوج"
ذهبت لزيارة خاله خدوج في المعلا.. ما أطيبها وما أطيب نساء عدن.. زوجها محمد قائد هاشم أو كما هو متداول محمد الحربي.. محمد هذا قريبي وتحديدا أبن عم أبي.. أخذه المنتصرون من بيته وغيبوه في محبس مغلق ومكتوم بالجدران، ربما يشبه ذلك المحبس الذي وقفت على بابه في كريتر، وكان المعتقلين محشروين فيه ككومة لحم، عطاشا حد الموت، ومخنوقين حد الكفر.
كان محمد يعاني مرض الربو.. مات اختناقا في محبسه.. ترك أطفالا صغارا وزوجه ثكلى معذبة بالفقدان والانتظار..
خاله خدوج تحمل من الحب لزوجها ما لا تحمله حاملة الأحمال في الأرض ولا تحمله سحابة غيث في سماء.. تزوجا عن قصة حب فيه كثير من العبور والتحِّدي.. لا أروع من قلب خاله خدوج ولا أطيب منه..
خاله خدوج مسكونة بطيبة وصبر أهل عدن.. ياااااه كم أهل عدن طيبين.. كم هم متسامحين.. كم هم لبعض عند الحاجة والشدة.. علاقاتهم سوية وغامرة بالبراءة.. متصالحين مع أنفسهم.. يحملون قلوب نقية كالكريستال.. صفحاتهم أبيض من ندف الثلج..
أهل عدن الصابرين على كل الشرور التي قذفتها الرياح في وجوههم أو صبتها الأقدار على رؤوسهم.. كم جنى المتوحشون على عدن وأبناءها الطيبين من الآحزان والآلام والمآسي العراض.
ما أشد وأقصى أن يأخذونك من بين أطفالك وأحضان زوجتك ثم يغيبونك عن جميع من يحبك ويقطعون كل أخبارك عنهم وعن عالمك الصغير .. يغيبونك للأبد دون أن يقطعون رجاء عودتك إلى أطفالك وزوجتك.. كم يتعذب من ينتظر رجاء من وهم أو أمل من سراب..
كم تتعذب الزوجة عندما يقذف القدر بحبيها للمجهول لمجرد رأي أو موقف يراه صاحبه إنه صواب ثم تظل تنتظره شهور وسنوات، وربما بقية العمر مصلوبة على جدار الانتظار.. إنه عذاب جحيمي طويل..
كثيرون هم الذين دفعوا أثمان أخطاء غيرهم.. كثيرون هم الضحايا.. كثيرون هم ضحايا الحروب والأطماع والتسلط والاستبداد.
(9)
وجه آخر من 13 يناير
لقد جاءت أحداث 13 يناير 1986 وأنا متفرغاً للدراسة سنة أولى كلية الحقوق، ولكن سأذكر هنا الشطر المتعلق بلواء الوحدة.
بعد أسبوعين من بداية الأحداث زرت اللواء ووجدت كل أصدقائي تقريبا قد تم تصفينهم ضباط وصف ضباط وجنود.. إلا ما كان في حكم النادر.. قتلوا البعض في وادي حسان وبعضهم في السجون والزنازين وبعض آخر في معسكر اللواء..
تم تصفية الكثير منهم لمجرد انتماؤهم الجغرافي للشمال أو للضالع أو ردفان أو يافع .. بعض من تم تصفيتهم كان لا يهتم ولا يكترث بالسياسة ولا تربطه رابط بها، ولكن حتى هذا لم يشفع لهم أو يخفف عنهم .. وتمت تصفيتهم دون تردد.
عند زيارتي للواء شعرت بالأسى والوحشة والحزن العميق .. شاهدت أثار الدماء على أرض الغرف والجدران .. بقايا شعر رؤوس آدمية هنا وهناك وبعضها لا زال ملتصق بجدران الغرف وآثار الرصاص لا زال شاخصا ..
ملابس عسكرية ومدنية عليها الدماء مرمية على الأرض .. رائحة الدم كانت لا تزال نفاثة .. الممرات تحكي إن الموت مر من هنا .. الموت صال وجال هنا وهناك .. الوحشة تسكن الأمكنة والزوايا .. والمجازر قابلتها مجازر من الطرف الآخر واكتظت الأرض بالضحايا..
الملازم علوان من أبناء محافظة إب كان في نفس سريتي وأيضا جاري في السكن بعدن وهو من خريجي الكلية العسكرية الدفعة الحادية عشر .. أصيب بطلقة في خاصرته عند محاولة الهرب من مصير أكيد وموت محقق لا يفصله عنه غير ساعة زمن أو أقل من ساعة.. نجا بأعجوبة ..
جاء في روايته إن لم تخنِّ الذاكرة:
أخذونا من السجن مليان بابور بعد أن ربطوا أيدينا إلى الخلف وجميعنا من أبنا الشمال ويافع والضالع وردفان .. كنت أشعر أنهم يريدون تصفيتنا، وكنت أحك الحبل الذي يقيد كفاي إلى نتوء في البابور .. وكان الوقت ليلا والظلام دامس ..
في الطريق تأكدت أنه سيتم تصفيتنا في وادي حسان.. وبعد جهد جهيد استطعت أن أمزق وثاقي بذلك النتوء الذي ظللت أحك وثاقي به .. كان بعض الزملاء بعد أن عرفوا وجهتهم وإن الموت صار قريب .. بعضهم يبكي وبعضهم يترجي ..
أحد الضباط اسمه نصر من أبناء ردفان وكان يغلب عليه حسن النية بعد أن أدرك أنه ذاهب إلى وادي حسان وإن هناك الموت ينتظر، طلب منهم التفاوض وهو يضطرب.. كان أشبه بغريق يحاول أن يمسك بقشة .. ولكنهم سخروا منه ومن طلبه .. الضابط نصر واحد من الطيبين والذين لا يعيرون بالا للسياسة ..
الكلام لا زال لعلوان: أنا الوحيد الذي استطعت تمزيق رباطي والقفز من فوق البابور فتداركوني بإطلاق النار وأصبت برصاصة في خاصرتي وثانية في يدي وكان الظلام كثيف واستمريت بالركض وأنا أنزف ولم يستطيعوا اللحاق بي وقد ساعدني الظلام على الهروب.. عصبت جرحي بقميصي وأمضيت ساعات طويلة في الركض وأنا أنزف في الصحراء حتى وصلت إلى منطقة العلم بين عدن وأبين وهناك أغمي عليّ حتى وجدتني قوات الاتجاه الآخر فتم إسعافي ونجاة حياتي..
هناك روايات فاجعة كثيرة .. زميلي الملازم أول الحياني كان ضمن آخرين محشورين في غرفة بلغ عددهم فيها أكثر من ثلاثين جندي وضابط .. تم إطلاق النار الكثيف عليهم وقد أصيب بالرصاص ولكن لم يمت .. فجاء أحدهم ورمى بقنبلة إلى الغرفة لتقضي على الناجين..
هناك قصص مروعة كثيرة أرتكبها طرفي الصراع وسوف أسلط بعض الضوء على بعض تلك الجرائم التي أقترفها الطرف الآخر في موضع آخر .
(10)
المناطقية .. خراب على خراب
كانت للتعبئة المناطقية والجهوية دورا مهما في النتائج الكارثية لأحداث 13يناير.. كنت أسأل نفسي كيف لفضاء الأممية أن يصغر ويضيق إلى هذا الحد؟! لماذا تلك النخب القيادية تعدم فضاء كان يمتد إلى أمريكا اللاتينية وتستبدله بديم عصبوية أصغر من قطر عقلة أصبع؟َ!
صعدت باصا للركاب من كريتر باتجاه خور مكسر وعلى طريق ساحل أبين صعد ثلاثة من طلبة الكلية العسكرية للباص الذي كان يقلّنا يبحثون عن بطائق الهوية، وعندما تموا التحقق من الهويات أعتذر أحدهم بالقول: "آسفين نحن نبحث عن أصحاب شبوة وأبين"..
لقد كان القتل والاعتقال يتم بحسب بطاقة الهوية.. لقد كانت الهوية وليس الجرم من يحدد حقك في الحياة من عدمه.. صار الاعتقال والموت يختاران ضحاياهم بحسب البطاقة والمحافظة.
تم تصفية كثير من رفاقي وزملائي في لواء الوحدة لمجرد انتماؤهم فقط إلى الشمال أو إلى مناطق الضالع وردفان ويافع وكان بعضها قد تم بطريقة مروعة.. وفي المقابل حدثت أفعال انتقامية من الطرف الآخر لا تقل مأساة وترويع عن ما أرتكبه الفريق الأول.
لماذا تم تصفية المساعد عبده علي والمساعد حسن ابراهيم والمساعد البرح من أبناء الشمال.. لماذا تم تصفية صديقي محمود سالم من يافع والملازم نصر من ردفان والملازم الحياني من إب والعفريت وزيد وعلوان الذبحاني من التربة والعشرات من أمثالهم؟!!
لماذا قتلوا الفنان عثمان.. الفنان عثمان أرق من نسمة.. الفنان عثمان الصوت الطالع من أعماق الروح لماذا قتلوه؟! هذا الذي غنّى للشاعر أيمن أبو الشعر بلحن وصوت شجي وعميق:
علمني بوح جدار السجن أن ارادة رجل حر أقوى من قفل السجان
علمني قبر فدائي أن ركوع شهيد فوق التربة أسمى آيات الايمان
وغنى أيضا :
لمن تمشطين شعرك الجميل يا يمن
ضفيرة صنعاء ضفيرة عدن
فكي شريط الشعر كي تصحو الخصل
لمن فرقت شعرك الرطيب يا يمن ؟
ضفيرة صنعاء
ضفيرة عدن
كلا الفريقين منتصر ومهزوم دفعا ثمناً باهضاً وفادحاً، وكانت خسارة الوطن أجل وأفدح، ولازلنا نعيش آثار هذه الأحداث إلى اليوم..
كل مساحيق التجميل التي جاءت باسم التسامح لم تنجح في ردم الشروخ العميقة التي تسببت بها هذه الأحداث.. ثم جاء الخصم أو العدو وأستفاد مما بقي في الوعي وما علق في النفوس من آثار وانقسامات وتناقضات وأعاد انتاجها، وأضاف إليها انقسامات وتراكمات جديدة وأعادت النخب القديمة انتاج نفسها لتأسس من جديد صراعات جهوية ومناطقية جديدة بل وعنصرية أيضا، وتم اضافت الافدح إلى ما هو فادح، وبني خراب على.
***********************************
الجامعة والعمل بعد التخرج "1 – 13″
في كلية الحقوق
(1)
لازال أمامي من السنوات أربع .. ها أنا أدلف باب مسار جديد في حياتي. نقطة تحول جديدة ربما تنتهي في أغلب الأحيان إلى مهنة المحاماة أو القضاء.
في كلا الحالين أروم العدالة ورفع المظالم عن الناس ما استطعت. لا زال ذلك الصوت الذي يقول: "يا ما في السجن مظاليم" يرن على مسامعي وصوت الظلم على المسامع لحوح وثقيل.
كنت كرغبة أميل للمحاماة أكثر من ميلي للادعاء. وكان ميلي للقضاء أكثر لأن تحقيق العدالة متعلقة به، القاضي أسرع بتا في الخصومات أو هذا ما يجب، القاضي هو المعني الأكثر في تقرير الحق وإنصاف المظلومين ورفع الظلم عن كواهلهم. سلطة القاضي يمكن أن تكون طريق إلى جنة الضمير وعلى نحو أسرع وأوجز.
ربما بدا لي الحال هكذا في البداية. ساجلت صديق وما لبثت أن رأيت إن في الأمر ترابط وتكامل. يجب ألا انتقص من مهنة لصالح أخرى فيما النتيجة الأفضل تقررها المهن الثلاث. فالقاضي والادعاء والمحامي جهود متكاملة تحقق في مجموعها العدالة المرتجاة، أو هذا ما يفترض أن يكون عليه الحال.
حدثت نفسي وقلت: إن المهم أن أجدُّ واجتهد، ولازال أمامي من السنوات أربع لاختار.. نعم لا زال الأمر بعيد إن كان للاختيار متسع.
(2)
أنا صاحب القراطيس
في أول يوم دخلت كلية الحقوق شعرت أن حياة جديدة تنتظرني. شعرت أنني أقبل على حياة أعيشها أول مرة. شعرت إن الاختلاط كان حلما بعيد المنال، وتمنيت أن يتم التظاهر من أجله في المرحلة الثانوية احتجاجا لغيابه في مدرسة البروليتاريا، وعندما ولجت السلك العسكري أدركني اليأس أن أجد يوما اختلاط مما حلمت به، ولكن ها أنا اليوم أقبل عليه لأول مرة. هنا سيتحقق الحلم وأفوز بقلب فتاة أحبها وتحبني.
كم هو سعيد أن يفوز المرء في الجامعة بفتاة يحبها وتحبه. كم هو رائع أن تجد ما يدفعك لأن تذاكر وتتفوق لتلتفت إليك عيون فتاة.. كم تشعر بالرضاء وأنت تثابر من أجل أن ترى كل يوم جمال ورقة وحياة تنبض بالنور والأمل.
ولكن خبرتي في الحب وأسر القلوب تقول أنني فاشل مع مرتبة الشرف. فبدلا من أن أشتري دفاتر أنيقة لتدوين الدروس والملاحظات اشتريت سجلات "دكاكين". تميزت بهم وفوق ذلك تميزت أنني كنت أضعها كل يوم في قرطاس "كاكي" جديد لأن القرطاس السابق يتلف من استخدام يوم واحد بسبب عدم الرفق به من قبلي ومن قبل السجلات التي تكتظ داخله..
كما كانت طريقة تعاملي مع السجلات وأكياس "الكاكي" تعامل عسكري يمارس الجلافة بعيدا عن الرقة والإتكيت. وكانت بعض الطالبات يسمينني في همساتهن الخاصة فيما بينهن ب"صاحب القراطيس". وأحيانا كنت أضع قرطاس بداخل قرطاس بعد أن ينبعج الأول في أحد أركانه أو يشتط بسبب جلافة إدخال السجلات إلى داخله.
كنتُ أحب أن أكون مميزا ومنفردا في أمور شتى، ولكن بهذه السجلات وهذه القراطيس كان تميزي أشبه بتميز فطوطة ببنطاله وقميصه..
لقد فكرتُ بالتحرر من هذا الوضع في هذه الجزئية بشراء حقيبة جلدية ولكن كان طول السجلات أطول من طول الحقيبة، كما أن الحقيبة ضيقة ولا يمكن أن تستوعب أربعه سجلات أو أكثر.
فكرت بحقيبة دبلوماسية ولكن كانت واقعة صديقنا محمد صالح "من يافع" والمنتدب من وزارة الداخلية للدراسة في كلية الحقوق تمنعنا من أن نكرر ما فعل.. في الأيام الأولى وقبل أن نتعرف على طاقم التدريس جاء محمد وكان عمره كبير نسبيا مقارنة بنا .. جاء في بدلة مهابة ونظارة بيضاء ويحمل حقيبة دبلوماسية وفيها كراريسه وما أن دخل القاعة دخلنا بعده نتزاحم ونظن أنه الأستاذ وإذ نجده يحجز كرسي في القاعة وعند سؤاله اكتشفنا إنه طالب وليس دكتور. ففقشنا الضحك..
(3)
الاعتزاز بالفقر
في كلية الحقوق كان أغلبنا قادم من الريف.. كنّا فقراء.. كانت الدولة توفر للمعوزين السكن والتغذية فيما الذين لديهم سكن في عدن كانت الدولة توفر لهم المواصلات، أما التعليم فمجاني للجميع ورسوم التسجيل السنوية رمزية جداً لا تستحق الذِّكر..
كانت قيم الاشتراكية العلمية تستحوذ على عقولنا.. كنّا نعتز بفقرنا إلى حد بعيد.. كنّا ننظر بازدراء لمن يملكون سيارات ويأتون بها إلى الكلية، وهم إجمالا لا يتعدون عدد أصابع اليدين، وعلى قلتها كنّا نحن من يتعالى عليهم بفقرنا لا هم .. كنّا نعتبرهم برجوازية صغيرة.. كنّا نعتبرهم خطراً محتملا على المستقبل وعلى الفكر الصحيح.
(4)
وعي ومعرفة
الدراسة في كلية الحقوق كانت مختلفة عمّا عهدناه من قبل.. الدكتور يلقي علينا محاضرته شفاهه، وكان علينا أن نلاحق تدوين ما يقول، وفي أكثر الأحيان لا يعيد ما قال.. كانت يدي ثقيلة تتصبب عرقا، وكانت هيئتي وأنا أهرع بعد كلماته أشبه براكض متعثر في سباق الضاحية.
كنت أغبط الطالبات لأنهن في هذا السباق جياد.. كانت بعض المفردات تفوتني أو تطير منّي فتضيع الجُمل وتشرد العبارات ولا ألحق تدوينها، ثم أحاول التجاوز بفراغ أحيانا يطول سطر أو أكثر، ثم أعمد عند وقت الفراغ إلى إعادة القراءة ووضع المقاربات، فإن أستحال الأمر أو أُشكل فزميلاتنا لمثل هذا الفراغ رسم ومراجع.
كان الدكتور يسجِّل لنا عقب كل محاضرة مجموعة من المراجع، وعلينا قراءة كل ما فيه صلة بالموضوع، ثم في موعد "السمنار" كل يستعرض مفهوميته.. وكانت تتبع الكلية مكتبة وفيرة بالمراجع والكتب.
كان كل موضوع أو درس يمر علينا يستمر معنا حتى تكتمل دورته حيث تبدأ بالمحاضرة، ثم قراءة المراجع ذات الصلة، ثم السمنار أو المناقشة، ثم الاختبار، ويتوج في الامتحان مسك الختام، وتكون النتيجة هي الخلاصة أو المحصِّلة.
كانت الجامعة في عدن بكلياتها المختلفة تصنع وعيا وابداعا وفكرا وثقافة..
(5)
معاناة..
ظلت ترافقني في الجامعة رغبة القراءة بصوت عالي حتى بلغت حد الاستحواذ.. صارت طبعا يتملكني ولا أستطيع الفكاك منه، ولا أكتفي بهذا بل احتاج أيضا لبني آدم يستمع لحديثي عند المذاكرة، وزائد على هذا وذاك أحتاج من يناقشني ويسألني..
كان زملائي محمد قاسم أسعد من ردفان وعبيد صالح وصالح القُمّلي من الشعيب وعبدالاله مشهور من يافع وقائد حسن حزام من المعلا ومحمد ربيع عميران من القلوعة آنس لهم وأستمتع بمجيئهم إلى البيت للمذاكرة، وأحيانا يملني أحدهم أو يتمرد فاستعيض عنه بآخر وعندما يقرفني الجميع أو يتمردون ألوذ بخالتي ..
كانت خالتي تستمع لي وأنا أشرح لها دروسي وأتحدث إليها وعمّا قاله ماركس ولينين وأنجلس وهي "الأمِّية " صبورة وطويلة البال.. كان النعاس يداهم عيون خالتي في كل حين وهي جالسة تستمع لي، ومن أجل أن اجعلها يقضه أطلب منها أن تردد ما أقول مرة ومرتين وثلاث لتشتد وتندمج معي ومع ما أقرأ.. كنت أشعر أنني أتنازعها مع النعاس والنوم وعلى نحو مرهق ومُلِح حتى صرت أجيد في فترة لاحقه إدارة الاشتباك مع النوم.. آه كم كانت خالتي هذه صبورة وطيبة وودودة..
(6)
نظرية الدولة والقانون
الأستاذ حامد كان يدرّسنا مادة نظرية الدولة والقانون.. كانت من أهم المواد الدراسية في سنة أولى كلية الحقوق.. كان الأستاذ حامد فاهما وحازما وجادا وبخيلا جداً في منح الدرجات..
كان أول اختبار حقيقي صادماً في نتائجه للجميع.. تم إعلان النتائج بالقاعة.. أكبر نتيجة تم حيازتها كان سبعة من عشرة.. حُزناها قلة قليلة لا نتعدى الأربعة أو الخمسة طلاب.. لا أذكر إن كانت بيننا طالبة أم لا.. من حاز على السبع علامات من عشر كان يشار له بالبنان..
كنّا نسمع الصفر في القاعة كثيرا، وكانت الدهشة والاستعجاب تعلو الوجوه مع كل إعلان نتيجة طالب.. كانت درجة الصفر أكثر ما تكرر سماعها ثم الواحد والاثنين والثلاثة.. كان من يحصل على خمسة علامات من عشرة يقول اللهما لك الحمد والشكر.. كانت نتائج الطالبات في أغلبها متدنية بسبب الحفظ من الكرّاس.. أعطت هذه النتائج ملمح للمتفوقين في الدفعة..
كانت رسالة الأستاذ حامد من هذه النتيجة هو أقرأوا من خارج الكُرّاس.. الدرس في الكراس مجرد عناوين.. لم تمنح السبع علامات إلا لمن قرأ المراجع وأجاد الجواب.. شعرنا أن الجامعة شيء مختلف.. شعرنا أن هذا الاختبار كان أول وأعظم اختبار عرفناه وعرفنا فيه قيمة الجامعة وماذا يعني التعليم الجامعي.
كانت لنا مع هذا الاستاذ القدير عدد من الطرائف ففي أحد "السيمنارات" النقاش.. كان صديقي وزميلي قائد حسن حزام إذا تم سؤاله من قبل الأستاذ يستطرد زميلي قائد في الجواب ويسهب.. لا يعجبه أن يقطف الجواب مباشرة بل يبدأ من وعادها نطفة ولا يصل للجواب إلا بعد الولادة..
سأل الأستاذ زميلنا في إحدى المرات عن المرحلة الشيوعية، فبدأ زميلنا بالجواب والتسلسل من المرحلة المشاعية وهذا يعني أن جوابه سيعبر العبودية والاقطاعية والرأسمالية والاشتراكية ولا يصل إلى الشيوعية إلا بعد حين طويل، وإن استعجل سيصل إلى الجواب المطلوب آخر النهار.. ففاجأنا الأستاذ حامد وأستأذن من الطلبة ليذهب إلى الشيخ عثمان، وأبلغنا أنه عندما يوصل زميلنا المرحلة الشيوعية نتصل به ليأتي يكمل السمنار ههههههههه لقد فقشنا من الضحك..
وكان عندما يسأل الأستاذ حامد زميلنا قائد سؤال نترقب الجواب ونحبس أنفاسنا حتى لا ننفجر ضحكا أو نتذكر السالفة السابقة حالما كاد الاستاذ يغادر القاعة حتى يكمل صديقنا جواب السؤال.
(7)
مادة الإنجليزي كانت هي الكساح
مادة الإنجليزي كانت هي خيبتي الكبيرة التي رافقتني طوال دراستي الاعدادية والثانوية ومرحلة مقررها في سنوات دراستي الجامعية.. كانت هي المادة الوحيدة التي أشعر بالقلق ينتابني في مواجهتها منذ الصباح الباكر، ويستغرقني الإحراج وأنا أحضر درسها.. المادة الوحيدة التي ليس لدي فيها ما أقوله.. كنت أشعر بالعك والاكتئاب لمجرد أن أتذكرها.. طيلة سنوات دراستها كنت عاثرا وكسيحاً فيها، وفي الجامعة شاركني هذا الكساح زميلي وصديقي عبيد صالح..
كنت أشتاق لكل المساقات الدراسية وأحرص أن أكون في الصف الأول دوما، ولكن إذا ما أتت مادة الإنجليزي كنت أنتقل إلى الصف الأخير في الفصل.. كنّا نلتقي دوما أنا وزميلي عبيد آخر الصف في مادة الإنجليزي.. كنا نحاول الاختباء من نظرة الأستاذ أو الأستاذة خلف رؤوس زملائنا الذين يجلسون قبلنا في الصفوف..
في إحدى المرات كان زميلي عبيد يحاول مثلي يخبئ رأسه خلف الرؤوس، فأدرك الأستاذ ما يفعله صديقي.. كان اذا مال رأس عبيد يسارا مال معه رأس الأستاذ ويقول له "نعم أنت" ويوجه له السؤال.. ولكنه بدلا من أن يجيب على سؤال الأستاذ يميل عبيد رأسه إلى اليمين فيميل الأستاذ إلى اليمين ويجعله تحت ناظريه، ويقول له مرة ثانية "نعم أنت.. أنت"، فلم يبقِ لزميلي عبيد إلا أن يحاول يطأطئ رأسه في الوسط والانحناء برأسه إلى الأسفل، فيقف الأستاذ على أطراف أصابعه ويحدده بيديه فيفقد زميلي كل حيلته ثم يقول للأستاذ: مش أنا يا أستاذ هذا صاحبي الذي بجانبي ويشير إليّ فقرح الطلاب بالقهقهة..
كان يلتبس على زميلي عبيد حروف "السي" و "الإس" فيسألني لأنجده عندما يسأله الاستاذ، ولكن بدلا من أن أساعده في التمييز بينهما أشيره بأنه "آر" فينفجر بالضحك منهم في الجوار من الزملاء..
كان بعض الطلاب في كل حصة إنجليزي ينتظرون ما يأتي منّا ليضحكوا.. كان كل منّا أحيانا أشبه بالممثل الإنجليزي "مستر بن" في أدواره الصامتة وما ننطقه كان كوميديا كاملة تضحك الجميع..
طلبت مني مدرِّسة الانجليزي أن أدخل كلمة سؤال على مفردة أختارها.. طارت الكلمات من رأسي تحت هلع مباغتتها لي بالسؤال.. وفجأة تذكرت كلمة "سليب" وحاولت أركّب سؤال ليصير: أين تنامين؟! فضحك الجميع وأولهم المعلِّمة..
أما زميلي عبيد فلم يريد أن يفجر مفاجأة أكبر فألتمس منها طلب عندما سألته وهو يحاول يطل من نافذة جانبه تطل على الميدان في الجوار وقال: يا أستاذة في الحصة حقك مستعد أن أحمل كيس ملح وأظل احمله وأجري حول الميدان حتى تكملي ساعة حصتك ولا تسأليني، فقرح الجميع بالضحك.. كنا في كل حصة ينتظرنا بعض الزملاء ماذا سنقول إن تم سؤالنا ليقهقهوا فيما كنا نحن طيلة الحصة نسأل الله السلامة.. السلامة فقط طول وقت الدرس ولا نسأل غيرها..
كنّا أوفيا أنا وزميلي عبيد لبعض حتى يوم امتحان هذه المادة.. كان جلوسنا يوم الامتحان مع بعض جنبا إلى جنب يثير فضول زملاءنا.. كان الأمر محل غرابة.. كنت أستخدم في الإجابة على أسئلة قطعة القراءة البحث على الكلمات في السؤال ثم أبحث عن الكلمات المشابهة لها في القطعة وأعرف أنه الجواب.. ثم أكتب الاجابة من النقطة إلى النقطة..
كنت اعتمد على المقارنة والحدس عند الإجابة.. وأحيانا أشعر وأنا أبحث عن إجابة أنني أشبه بالأعمى الذي يعتمد على عصاه في البحث عن الطريق.. وأحيانا كنت اعتمد على شجاعة صديقي عبيد فأنا لطالما خانتني شجاعتي وخجلي..
وعندما يمر الوقت المخصص للامتحان ويمنح المدرس أو المدرِّسة خمس دقائق اضافية أكتب أي شيء ولا أترك سؤال إلا وكتبت إجابه لا يفهمها لا عربي ولا إنجليزي ..
كان خطي في الإنجليزي جميلا وكنت اكتب حروف انجليزي وأرابط الحروف ولا يستطع أحد فهم معناها ولا أعرف معاناها حتى أنا، وأدرك مليّا أن الأستاذ أيضا لن يفهم معناها، ولكن كنت أعتقد أنه سيحدِّث نفسه أن هذا الطالب له شرف محاولة الإجابة.. المهم بالنسبة لي أن أحاول أن لا أرد سؤال دون أن أكتب له جواب أو أكتب أي شيء..
وفي المحصلة لا نسعى أنا وصديقي إلا أن نحصد نصف الدرجة وهي النجاح بالكاد.. أذكر أحد المرات كانت درجاتي في الإنجليزي 26 من 50 قلت في نفسي أن الدرجة الزائدة للإجابة التي اكتبها ولا أحد يفهم معناها ولا تعدو غير شرف المحاولة إن لم تكن طلاسم تجلب مقبول النجاح.
(8)
البحث المغامر يخذله المجتمع
كانت مادة مناهج البحث العلمي من أهم المواد التي كنت شغوف بها.. كنت أشعر أنها تضيف لي معارف محل احتياج واستخدام.. كنت أذهب إلى مكتبة الكلية ولا تقتصر قراءتي على المقرر والمراجع الذي يوصي بقراءتها أستاذ المادة، بل كنت أقرأ أيضا في مناهج البحث ما هو خارج عن هذا وذاك..
كنت أشعر أن مناهج البحث هي المقدمة الضرورية من أجل أن تكون باحثا محترما ومقتدرا ومفيدا للعلم والمجتمع ..
كانت درجاتي في هذا المساق نهاية العام لم تتعد أربعه من خمسة، ومع ذلك ليس من السهل أن تحصد أو بالأحرى تنتزع مثل هذه النتيجة عند أستاذ هذه المادة د. أحمد زين عيدروس.
ليس الأستاذ حامد وحده البخيل في اعطاء الدرجات بل أن جل الاساتذة حريصون على منح الدرجات لطلابهم بما يوازي ما يبذل من جد واجتهاد يبلغ أحيانا حد المشقة.. لا يمنحوا الدرجات إلا لمن يستحق وبعد جهد جهيد.
الدكتور أحمد زين عيدروس كان لديه فلسفة أن المؤلف هو من يتم منحه خمسة على خمسة أما الدكتور الذي يدرِّسها لطلابه فيستحق أربعة من خمسة، أمّا الطالب فلا يجب أن يمنح أكثر من ثلاثة، ولكن مع ذلك كان أستاذنا إذا ما وجد أن طالبه ملمَّا ومجتهدا وقارئا باستفاضة يعطيه أربع درجات أي جيد جدا وهي درجة نعتبرها وكذا الأستاذ أنها درجة بعيدة المنال ولا يبلغها الطالب إلا بطلوع الروح.
لا زلت أذكر كلام أستاذ مناهج البحث وهو يحثنا على أنه إذا ما أراد أحدنا البحث فيلزم الحياد والموضوعية والتجرد ووجوب رمي كل القناعات والتصورات المسبقة إلى الخلف ولا يستدير.
وإجمالا أفادني إلى حد بعيد ما قرأته في مناهج البحث في الجامعة لاحقا في بحثي في معهد القضاء العالي والذي كان عنوانه "اشتراط النسب القرشي في الولاية العامة" ثم طورته ليصير بعنوان "الصراع السياسي في صدر الإسلام واشتراط النسب القرشي في الولاية العامة"
في هذا البحث بذلت جهدا جهيدا وضافيا وأنجزته بمثابرة واجتهاد متواصل أستمر أكثر من عام، ورغم ذلك أراد أحد المناقشين المشبعين بثقافة الإخوان المسلمين أن يفشلني في هذا البحث وثارت ثائرته يوم مناقشته وكأن مسه شيء من جنون، ولكنني عبرت هذا المانع بوجود الدكتور صادق شائف والدكتور أحمد شرف الدين.
عرضت البحث في وقت لاحق على الدكتور أبو بكر السقاف وكان معجبا به وألمح إليه ثلاث مرات في كتاباته وحثني أكثر من مرة على نشره وقد أحجمت على نشره في واقع مجتمعي متخلف ونظام قانوني سائد أكثر تخلفاً.. ومع ذلك لا زال في الوقت بقية وربما أنشره في مدى منظور على نفس طريقة "من أرشيف الذاكرة" على صفحة الفيسبوك..
(9)
نجاح وتفوق
بقدر ما تعطي تحصد .. بقدر الجهد المبذول تكون الثمار .. بقدر اجتهادك ومثابرتك تكون النتيجة..
في السنة الدراسية الأولى بذلت جهد بحجم التحدّي أو هكذا أظن، وجاءت النتيجة إحرازي للمركز الأول في الدفعة بامتياز، كما أعطى البخل والتشدد في منح الدرجات ما جعل هذا التفوق ألذ وأمتع. فضلا أنه كان غير مسبوق في الدفع السابقة من عمر الكلية.
عندما تجد مجهودك يثمر ما يساويه من النجاح، من حقك أن تفرح، ومن حق الفرح أن يغمرك بنشوته، ولاسيما عندما تعبر محطات الفشل والإخفاق والمُحبطات وتتجاوز الصعاب والعقبات التي تعترض سير نجاحك أو تحول دون أن تحقيق مزيد من النجاح والتفوق.
و مع ذلك أستطيع أن اقول لست ذكيا بما يجعلني مفاخرا بهذه النتيجة إلى ذلك الحد، ولكن استطيع الزعم أنني كنت مجتهدا ومثابرا ومواظبا وعنيدا لتحقيق مثل هذه النتيجة..
و أظن أن من جملة أسباب تحقيق مثل تلك النتيجة هي أنني كنت أحاول اطلّع في جزئية أكثر مما كان الاستاذ مطّلع فيها، أو حتى يكون قد أطلع عليها ولكن كانت في زاوية من ذاكرته ثم يسمعها مني دون الآخرين .. وبهذا أجد نفسي لا أتميز عن أقراني ولكن أستطيع أن أضيف شيئا يجعل الدكتور مبهورا أو يشعر ببعض الإعجاب المعلن أو الكتوم بسبب ما أحاول أن أميز نفسي عن زملائي أو هكذا اعتقد.
و خلاصة ما تعلمته من هذا التفوق والنجاح أنه بإمكان الفاشل في محطات عديدة أن يعوض هذا الفشل في محطات أخرى تجلب له كثير من النجاح بل والتفوق أيضا..
تعلمت أن الظروف العابسة أو البائسة يمكنها أن تكون أيضا دافعا أو ملهما لكثير من النجاح..
تعلمت أن كل شخص فينا يمكنه أن يجد ما يميزه إن بحث عن هذا التميز أو اجتهد في الحصول عليه..
كل شخص فينا لديه ما لا يجده عند غيره، ومن يفشل في أمر فهذا الفشل ليس آخر العالم، بل لدى هذا الفاشل القدرة على التفوق في أمر آخر أن سعى إليه واجتهد .. المهم أن نكتشف أنفسنا ونعمل ونجتهد من أجل التفوق في هذا الأمر أو ذاك ولا نيأس ولا نستسلم للإخفاق أو الفشل .. والأهم من المهم هو النجاح والتفوق أن يقترن بشرف الوسيلة ونبل الهدف.
(10)
انحياز وحيرة وأسئلة
في الجامعة كانت تستهويني ما تسمى أيديولوجية الاشتراكية العلمية.. أشتاق لموادها الدراسية شوق المحب الغارق فيها من أخمس قدميه حتى مترا أعلى من شحمة أذنيه .. أشعر بذاتي وأنا أحضر دروسها مع زملائي.. معارف جديدة شيقة أكتسبها وأضيفها إلى معارفي، وأشعر بنهم لمعرفة المزيد، فيما المزيد يجعلك تستمرؤوا الغرق وتتطلع إلى الإكثار من المعرفة، وتشعر في الآن نفسه كم أنت أمام عالم المعرفة ضئيل ومعدوم .. معارف أحس بفائدتها وأستمتع بها، وأشعر برغبة تتوق إلى تحقيق المزيد، حتى بديت أحيانا أمام نفسي أشبه بتاجر جشع لا يرضى بالقليل، مقارنة مع فارق اختلاف صنف البضاعة.. كنت أقرأ ما هو مقرر وأقرأ خارجه، وأحرز في اختبارات موادها أعلى الدرجات والمراتب، وخسائري في درجات موادها محدودة جداً في معظم الأحيان.
كانت تعجبني معرفة قوانين الفلسفة الماركسية ومقولاتها، ويسعدني أن أقارن ما هو نطري بما يُعتمل في الواقع.. كنت أرقب تطبيقاتها على الطبيعة والمجتمع والوعي.. قانون وحدة وصراع الأضداد، وقانون تحول التراكمات الكمية إلى تغيرات نوعية، وقانون نفي النفي ومقولات العام والخاص والصدفة والضرورة وغيرها.. كنت أشعر أن تلك القوانين والمقولات تعمل عملها في كل شيء وبنفس القدر أشعر إن الفلسفة علم حكيم وعجيب وممتع.
كنت متعصبا إلى حد ما، وربما أدّعي أن أيدولوجية الاشتراكية العلمية هي الأيديولوجيا الصحيحة بين كل أيديولوجيات العالم، وأنها تملك الحقيقة وحدها، وأنها تجيب على كل الأسئلة، ولكن كنت أيضا أعتقد وبحسب الأيديولوجيا نفسها التي أعتنقها إن معيار الحقيقة هو الواقع، وكنت أشعر أن ثمة خلل في النظرية، وأن هناك ما هو نظري يتعسف الواقع ويتعارض مع الوقائع..
كنت وبدافع أيديولوجي أمارس القمع على بعض الشكوك التي تنتابني في بعض الأحيان، ولاسيما فيما له صلة بالجانب السياسي، وكان تكرار بعض الوقائع على نحو ما واستقراءها، ومقارنة وقائع سابقة بأخرى لاحقة، وإسقاط ما هو نطري عليها تجعلني أشعر بحجم التناقض والتنافر، وأحيانا أشعر وأنا أتعسف الواقع بالنظرية التي أريد أن يكون بمقاسها، أشعر أن هناك مطرقة كبيرة من حديد تضرب في رأسي وتهشم النظرية المستقرة فيه.
كنت أقرأ عن الصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا، والبرجوازية الصغيرة، واليسار الطفولي، ويراودني الشك وتأتي الوقائع لتنسف ما أعتقد.
كنت أسأل وأنا أرى الصراع السياسي المحتدم على أشده في الجنوب لا يسير على قوالب الصراع الطبقي الذي في النظرية.. كان الرفاق يقتلون بعض بتهمة اليمين الانتهازي وتارة بتهمة اليسار الانتهازي، واليسار الطفولي، واليمين الرجعي، والبرجوازية الصغيرة، فيما جلهم إن لم يكن كلّهم مناضلين وفقراء، وأغلبهم جاء من ريف لطالما شهد الفاقة والجوع والعوز..
كنت أشعر إن الصراع السياسي الذي يشهده الجنوب ليس له علاقة بدكتاتورية البروليتاريا ولا بالصراع بين الطبقات، وأن أي تيار يصف خصومه بالبرجوازية الصغيرة وبالطفولية والانتهازية والفوضوية وغيرها من تلك الوصفات الجاهزة في الكتب إنما هو غطاء سياسي لتصفية خصومه فحسب.
كنت أحب عبد الفتاح اسماعيل ولكن أتذكر أن سالمين أيضا فيه من المزايا ما يجعلني أحبه.. فهو رجل شعبي بسيط وكرازمي وحيوي ومنحاز للبسطاء ويعيش بساطتهم..
كنت أتذكر القاص محمد عبد الولي وأسأل لماذا قتلوه وعشرات من رفاقه المناضلين الأفذاذ في الطائرة التي تم تفجيرها في الجو.. كان الرفاق يقتلون بعضهم.
كنت أحزن وأنا أسمع قصة سجن قحطان وإعدام عبد اللطيف الشعبي.. وكثيرون غيرهم..
كنت أشعر إن الثورة تأكل عيالها كلما جاعت، وكانت شرهة ونهمة، وأن مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية كانت دامية وقاسية..
صرت اليوم أظن أنه من أجل يكون المرء حرا يلزمه ضمن ما يلزمه أن يتحرر أيضاً من الأيديولوجيا أو يتخفف من ثقلها وكوابحها وقوالبها الجامدة..
صرت اليوم أظن أن الأيديولوجيا تعيق أو تكبح أيضا المعرفة والعلم والتطور ولا سيما عندما تكف عن الحراك والتطور أو تستعيض عن حركتها وتطورها بالتصلب والجمود والرتابة..
وبين الأمس واليوم دم وندم .. صار اليوم أثقل من الأمس.. صار اليوم ثقيلاً ومثقلاً بالأيديولوجيا الدينية والإسلام السياسي ورجال الدين.. صار اليوم أكثر تعاسة من الأمس.. صار القتل لله وباسم الله باذخا وعبثيا ولا طائل منه..
(11)
قانون الأسرة في الجنوب
كنت ولا زلت معجبا بقانون الأسرة الذي كان نافذا في الجنوب.. كان طفرة اجتماعية حقيقية.. كان لا يضاهيه قانون في البلاد العربية غير قانون الأحوال الشخصية في تونس إبان عهد الرئيس بُرقيبة.. فيما اليوم صرنا نُحكم بقانون جاء من زمن غابر، أكل عليه الدهر وشرب.. لا يراعي زمان أو مكان، وبين الأمس واليوم صار الندم فادحا ووخيم.
كان قانون الأسرة في الجنوب والصادر في 1974 معجزة ومفخرة في واقع مثقل بالتخلف ومحاط بالنفط والبداوة والتآمر.. كان القانون وتعديلاته مشعل ثورة يشق محيط الظلام الكثيف.. كان صانعا لتحول حقيقي في الوعي والمجتمع.. كان الضوء والمشعل في الجزيرة والخليج.
كان هذا القانون لوحده أمل واعد ومستقبل منشود وثورة اجتماعية يشار لها بالبنان.. فيما صار ما يحدث للوطن والمجتمع اليوم فيه تناقض صادم لما كان، وحال مبدَّل ومقلوب، وعجب أعجب من محال.. صار سدنة القومية واليسار يبحثون عن المستقبل المضيء في معطف ليل آل سعود وآل نهيان.. أي نكسة وأي نكبة حلّت بنا يا الهي، وأي لعنة أصابت اليمن وفي مقدمته جنوبنا الذي أشقاه القتلة واللصوص والمدَّعون!!
كان هذا القانون وتعديلاته ثورة اجتماعية حقيقية لا ينكرها إلا مناكر مثقل بتعصبه الذكوري الظالم، أو أسيرا ماضي يعيش غربة العصر، ويرى في غربته مجدا وحقا لا يزول إلا بقيام الساعة.
كان الأصل هو الزواج من واحدة، والاستثناء محدود ومحصور، وعلى الزوج الوفاء مع زوجته إلى آخر العُمر دون منازع في علاقة الزوجية لا تستطيع امرأة أخرى أن تقاسمها زوجها وحقوقها.. أمّا اليوم فبعضهم يتزوج فوق الواحدة ثلاث، يقاسمن الزوجة الأولى الحياة والميراث والتفاصيل..
أعرف صديق لوالدي في عدن كان تاجرا للجلود تزوج على زوجته سرا من امرأة أخرى، وأنكشف أمرهما، وتمت محاكمته والحكم عليه بالسجن سنتين مع النفاذ.. اللعنة على من أضاع هذا القانون، والجحيم على من أنقلب عليه.
كان المهر محدداً في القانون بمائة دينار ليس فيه تجارة أو بيع، وبعد أربعين عام خلت وأكثر، صارت المرأة في اليمن سلعة أو شبه سلعة ومتاع يباع ويشترى.. وعلى المرأة تمكين زوجها وخدمته وتفقيس العيال كأرنبة، ومن حق الرجل أن يعبث ويتزوج في ليلة واحدة أربعا إن شاء، ويستطيع من هو في أرذل العمر أن يتزوج صبية أو قاصرة لا تجيد جواباً فضلا عن وضع السؤال..
كان الطلاق ليس في متناول اليد لاسيما إن كان للزوجين أبناء، وكانت اللجان الشعبية تبذل المستحيل للحيلولة دون وقوعه نزولا عند مصلحة الأبناء.. كان الطلاق أو التفريق لا يقع إلا في المحكمة، وتقف المحكمة أمام مصلحة الأطفال كثيرا لتقرر وتفصل في مترتبات التفريق أو الطلاق.. فيما اليوم بلفظة "طالق" من نزق في لحظة تعسة يتم الطلاق ورمي الزوجة على قارعة الطريق وإن كان عمرها في الستين عام وكان لها منه عشرة من البنين أو أكثر، ويعيش الأبناء جحيم الطلاق ومعاناته حتى الِكبَر..
لازلت أذكر وأنا طالب في كلية الحقوق أثناء التطبيق في محكمة صيرة والقاضي يحكم للمرأة وأولادها القُصَّر بمعظم منزل الزوج بعد التفريق، وحكم لها بالحضانة والنفقة وأشياء أخرى.. يا سلام على ماضي جميل كان.
كان الرجل لا يستبد على المرأة في زواج أو اختيار أو عمل أو طلاق أو حضانة أو نفقة.. كانت المرأة في الجنوب ملكة عندما نقارنها بما آلت إليها الأمور وما آل إليه الحال..
(12)
عندما يصل القبح قمة القضاء
كنت في سنة ثانية كلية حقوق أهتم بمادة قانون الأسرة، وكانت شيقة، وسلسة، وجاذبة وجالبة للاهتمام.. كنت واعيا لأهمية هذا القانون وما يحققه من طفرة في الوعي، وما يضطلع به من دور هام في تغيير بنية المجتمع والنهوض به نحو المستقبل الذي كنّا نريده وننشده. لم تكن اشكاليتي مع هذا القانون أو مواده أو المادة محل الدراسة، بل كانت مع الدكتور المتولَّي تدريسها.
كنت أشعر أن هذا الدكتور يبغضني إلى حد المغص، ولم أجد يوما أي كيمياء تفاهم بيننا رغم أنها كانت وفيرة ونشطة بيني وبين المادة المتولي تدريسها.. كنت أشعر أنه يريد أن يرضي شيء ما في نفسه أظنه تحيز مناطقي، أو عقدة جهوية، أو مرض من هذا القبيل.. لست وحدي من شعر بهذا ولكن أيضا بعض أصدقائي الأعزاء. لقد عانا بعضهم مما عانيت. اعتقد أنه يكرهني لشماليتي، بل ويكره أيضا من يراه ملازما لي من الأصدقاء الأعزاء.. كان صديقي عبده طه وهو طالب ذكي ولديه قدرة على الاستيعاب والتفوق أحد هؤلاء الذين ظلمهم هذا الدكتور.
كان هذا الدكتور يعلم أنني متفوق في دراستي وأنني أحرزت المرتبة الأولى امتياز في سنة أولى، ولكنني لم أغتر أو أدَّعي، بل كنت خجولا في كل شيء، فيما أراد هو تعديل هذه النتيجة في السنة الثانية، وقد أستطاع بعد أن أفشلني في مادته مستغلا سلطته التي يستبد بها، وجوره الذي يرضي غروره وصغارته ومركب نقصه.
كنت أشعر في حصص "السمنار" المناقشة في مواضيع مادته إنه لا يطيقني، ولا يطيق سماعي، بل ويتدخل لقطع حديثي قبل أن يبدأ، ويداهمني كسيل جرار يخلَف الخراب والعذاب.
كان إذا ما سألني لا يمهل نفسه نصف دقيقة ليصغي إلى ما أقول، بل يتدخل عسفا وفهلوة، ويقطع حديثي بساطور قصّاب، ويضع نهاية لحديثي على غير ما أريد؛ وكأنه يريد إبلاغ زملائي أنني لا أفقه شيئا. ثم يكعكع بلسان تملا فمه معربا عن انتصار توهّمه.. كان بعض أصدقائي يجيدون تمثيل فهلوته ويقلدون كعكعته التي تضحك الحجار، ولكنها كعكعة مملؤة باللؤم والهرج والقباحة.. كان وهو يفعل ذلك يشبه مهرج السرك أكثر من كونه أستاذ جامعي يستحق العرفان والتقدير..
كان يشعر أنني في أعماق وعيي أقاوم سلطته ومرضه.. وكنت أرى من تفاصيل وجهه أنه يتوعدني إلى يوم الحساب وهو يوم الامتحان الذي حولته صغارته إلى محطة انتقام ليرضى مرضه ومركب نقصه وتفاهة غروره..
كنت أشعر أن وجودي يستفزه كسترة مصارع ثيران، وهو يتوعدني ويكر بهيجان ثور أغلظ من جذع شجرة "الغريب"، وقد أستطاع ركضي وركلي لأني كنت في حال أشبه بمكتوف مصفد بالحديد، فيما كان هو معززا بسلطة الأستاذ الذي لا يُرد له قراراً أو قولا في جلسة امتحان شفهي كان فيها خصما لا أستاذ، وكان في نفس الوقت الحكم الذي لا يستأنف له قرار.
كان يظهر أثناء تدريسه للمادة أنه أممي بحجم نصف الكرة الأرضية، ويروج ويمتدح قوانين البلدان الاشتراكية، ولكنه في الواقع كان مجرد مزايدا ومهرجا لا يستطيع استيعاب شطرا من اليمن، أو حتى نصف من جنوبه.
هذا الدكتور نفسه وأنا طالب في المعهد العالي للقضاء بعد أن سحقت القوى الرجعية في الشمال كل ما حققه الجنوب في قوانينه وماضية، وجدته وهو يتغزل بالشريعة الإسلامية، وليس هذا فقط بل ويمتدحها ويهجوا القوانين الاشتراكية.. لقد خجلت أنا مما يقول ولم يخجل هو وهو يراني ممن يستمع إليه، لقد كنت كريما وتجنبت إحراجه وحدثت نفسي بالقول: كم بعض الوجوه تحمل من القباحة الباذخة، وتفتقر في الوقت ذاته لذرة من الحياء والخجل ، غير أن الأهم أن هذا الدكتور صار قاضيا في المحكمة العليا للجمهورية ورئيسا لأحد دوائرها، ثم صار رئيسا لمجلس القضاء الأعلى.
(13)
عندما القضاء يمارس الجريمة
تخرجت من كلية الحقوق في عام 1989وبحسب تخصصي أحالتني دائرة الكادر في وزارة الدفاع للعمل في دائرة القضاء العسكري بحسب التخصص.. كان يومها محسن حسين مديرا لدائرة القضاء العسكري، ورئيسا للمحكمة العسكرية.. كنت لا أرتاح له وأشعر بغلظته وتجهمه المستمر نحوي، بل كنت أشعر في بعض الأحيان أن العلاقة بيننا كما أتوهم أشبه بعلاقة مدعي بمتهم لا علاقة رئيس بمرؤوس، على الرغم أنه لم يسيء لي شخصيا، ولم يمارس ضدي ما يبرر هذا الشعور الذي اعتبره متجنياً.
لا أدري لماذا نفتقد الكيمياء والتفاعل مع البعض، وننسجم بالمقابل مع آخرين ونشعر الدفء بقربهم !! لعل هناك أسباب لما نعانيه ترجع لذواتنا، وربما تشاركها أسباب موضوعية أخرى؛ وأرجِع تقدير أو تخمين عدم الانسجام الذي أتحدث عنه إلى غلبة وحدِّية التعامل الرسمي من قبله نحوي، أو بعبارة أخرى لرسمية طاغية ورتيبة في تعامله ربما تدفعه إليه شعوره بالانتقاص من هيبته و وقاره باعتباره قاضي إن تعاطى أو تنازل قليلا عن الرسمية التي كانت تبدو لي باذخة، أو فيها بعض مبالغة، غير إن أكثر شعوري النافر منه وأظنه الأهم يرجع في بعض منه إلى الأحكام القاسية الذي كان يصدرها بحق المتهمين، وعدم شعوري بالرضى عن هذه الأحكام التي كنت أرى في بعضها أو جلها جوراً وقسوة بالغة.
كان من أكثر الأصدقاء قربا لي في العمل زميلي منصر الواحدي الضابط الإداري الخلوق والممتلئ والشهم، وزميلي ضابط التحقيق أشرف ولي محمد من عدن، وكان هذا الأخير ينحدر من أصول يبدو أنها باكستانية غير أن ما يميزه كانت طيبته العدنية وحميميته الصادقة، ويبدو إن التحولات السياسية كانت تلقي بضلالها على مستقبل كل واحد منهما، فأشرف ولي محمد هُضم بعد الوحدة حتى اختفى ذكره، ولا أعلم أين هو اليوم وهل لازال حيا أم أنه غادر إلى العالم الآخر، فيما صديقي منصر الواحدي الذي ترك صنعاء وعاد إلى عدن بعد حرب 1994 عاش معاناة الجنوب وأهله حتى تقاعد أو أحيل إلى التقاعد وهو الكادر المثالي الذي كنت أتوقع له مستقبل قيادي لافت أو إداري عالي ومشرق إن كانت هناك عدالة في الاستحقاق والفرص، ولكن كانت السياسة تخذل الكفاءات والأحرار والصادقين الذي لا سند لهم.
كان صديقي منصر مثال لي في الخلق والعفة والتسامح والاعتدال.. كان مخلصا لعمله ومهنته والانتماء للوطن الكبير.. كان ودودا وخدوما مع الناس، ولا يفسد الخلاف معه في الرأي للود قضية.. صديقي منصر الواحدي كان ولا زال انسان عظيم وحكيم وقريبا من الله البهي الغفور الرحيم المتسامح..
في القضاء العسكري قبل أن أمارس وظيفة ضابط تحقيق وجدت نفسي في غرفة الارشيف القضائي في الدائرة اطلِّع وأتعرّف على دور المحقق وكيفية التحقيق وإجراءات المحاكمة.. رغم الفترة القصيرة التي قضيتها في الأرشيف كانت الاستفادة منه كبيرة، وصنعت لدي أساس معرفي ليس فقط لوظيفة ضابط التحقيق ولكن احاطة بالقضاء العسكري إجمالا وتفاصيل.
كان أرشيف القضاء العسكري المسنود عهدته ل "شمروخ"، منظّم ومبوّب ومرتّب تستطيع أن تحصل على ما تريد في أقل وقت ممكن.. كان النظام الإداري الموروث من بريطانيا في جهاز الدولة في الجنوب ومن ضمنه دوائر وزارة الدفاع دقيقا وتستطيع من خلاله الحصول على المعلومة في وقت قياسي، فيما وجدنا عكس هذا في الإدارة العثمانية المورثة في الشمال.. بدا لي الفرق شاسعا شكلا ومضمونا..
في الارشيف أطلعت على قضية تم إدراجها وتصنيفها في جرائم خيانة الوطن، كان بطلها شباب دون العشرين عاما على الأرجح، وتدور أهم أحداث الواقعة بين المضاربة والوازعيه الحدوديتان أنداك، وأطرافها بين الشاب المقيم في الجنوب وأفراد من أسرته كانوا قد هربوا من الجنوب إلى الوازعية في الشمال، والجهة التي جندت الشاب ليقوم باغتيال قريبه.
هذا الشاب لم أعد أذكر الاسم الكامل له، ولكن أذكر أن في اسمه الثلاثي اسم "طارش" إن لم تحني الذاكرة.
أسندت جهة استخباراتية في الجنوب للشاب مهمة اغتيال قريبه أظنه كان خاله أو عمه.. اعطوه السم ليضعه له في الماء، ولكنه تردد وناور وحاول أن لا يفعل وأخترع الأعذار.. أصروا عليه أن يفعل بالترغيب والترهيب، ولكنه عاد إليهم وقال لهم أنه قام بوضع السم في الماء، ولكنه وجد الماء يتغير للون الرمادي، فأحجم عن الفعل، وعندما شكُّوا في أمره واقتنعوا أنه لن يفعل وربما افترضوا أنه سيهرب إلى حيث أقربائه، تم التحقيق معه في الاستخبارات وتعرض للتعذيب، وأحيل للمحاكمة بتهمة الخيانة، وتم الحكم عليه بعشر سنوات سجن.
هذه القضية بالنسبة لي كانت صادمه.. شككتني بحقيقة العدالة، وشعرت إن الظلم الفادح موجود في كل مكان، وأشعرتني أن العمل الأمني الاستخباراتي قبيح للغاية، وأن سدنته وصانعين القرار فيه هم أغلب مجرمين كانوا رجال أمن أو رجال سياسة.
****************************
حب الذي لم يكتمل "1 – 16″
(1)
"هيفاء"
"هيفاء" نسمة بحر.. "هيفاء" روح الله.. "هيفاء" أسرار جمال الأرض، "هيفاء" تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران لا ينضب..
"هيفاء" ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. وأنا قليل الحيلة في قاع بير جفت أندب حظي البائس.. كيف أقارن والفارق كالفرق بين مخلوق وخالقه.. الفارق أكبر كالفرق بين ذرّة رمل ومجرَّة.. هي بنت وزير عالٍ وأنا إنسان بسيط جدا ومسحوق حد العدم.. أنا إنسان لا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغا في عاطفتي بحجم الكون وأكبر.
قبل سنوات وأنا دون ال16عام سكنت على سطوح "مصباغة" في المعلا.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في الرابعة، ويلهطني شد الحر، من يرحمني من غضب الشمس؟! وحبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصاب فيه الحر مكمن أو مقتل..
كنت أذرع الشارع وأجوس، أتمنى أن أجد من يتبناني عام أو شهر.. فراغ عاطفي يهرس عظمي.. أبحث عن بيت تأويني وأسرة حانية تهتم لأمري.. كنت أرى من يملك في عدن بيتا من طوب أو بردين أو كوخا من قش أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الجنة على الأرض..
أما أنا يا الله لا مأوى لي ولا فرش.. وعندما ظفرت وكأن الدنيا غفرت، وجدت بيتا آوي إليها لم تكتمل بعد، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت في منزلة الله وجواره أو تحت ظلاله وإن دنا من وصفي الفحش أنزل درجة .. جوار سدرة المنتهى أو أرفع .. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين..
يا لفارق يقسم ظهري ويا لطلب يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر والأحجار لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق..
يا إلهي.. أنا ابن الدباغ، كيف يمكن أن أجمع شجاعتي وأفكر بطلب اليد ويدي مقطوعة بالحاجة.. أنني أشبه بمن يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة..
أي جنون هذا يمكنه أن يحمل فقيرا مهروس بالفقر ليتجرأ بطلب يد فتاة تعلوه الدرجة ضوء بألف سنة مما نعُد..
ماذا سأقول لها ولأهل العد إن سألوني هل لديك فلة أو بيت؟! سؤال يصعق جبلا ويقذف في وجهي خيبات الأرض جحيم جهنم..
هل أنا باغ يا رب لمجرد تفكير في طلب لا أملكه وبحب أبعد من عين الشمس.. عالق بالفرقد.. يبدو أن الله قد كتب لي في لوحه المحفوظ حظّي العاثر بالفقدان والمصلوب بشقاء البؤس وغياب يصل حد المعدوم.
(2)
الحب من طرف واحد
كم كنت كتوماً يا "هيفاء"، وسرِّي في الحب أخبي لاعجه من الريح في قاع البير.. مهما كان الحيل جبلاً أو صخراً صلداً، فالحب المكتوم يا "هيفاء" يهد الحيل.. لا يعلم سري مخلوقا، وكتماناً يتلظّى في أعماقي كالبركان..
سنتين يا "هيفاء" بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أداري عواصف أشواقي عن الأعين.. والشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوسا في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران.
تيَّمنا الحب الناقص غصبا عنّا، فكتمناه بالسر وبالتقية، واحطناه بأسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا "هيفاء" وما أشده على من حب.
في جحيم الحب الناقص صليت منفردا دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عني، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب يا لله بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.
"جازم" أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي طرق يوماً باب القلب المثقل بالحب وبالأعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال: لماذا لا تفكر بواحدة منهن؟! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!
لم أعترف لرفيقي بالأمر، وحاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح، وأنكر دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كل كياني، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس..
كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها وحالي أضيق من خرم الإبرة!!
كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوما أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أنسي هذا الحب اللاعج وهي تطل بوجهي كل صباح وتزورني في الحلم كنسمة بحر.
(3)
عندما تكتب للريح..
"هيفاء" كانت عيناها جميلة وناعسة وعميقة.. في عينيها أسرار خالقها وسحر الله في أرضه وملكوته.. هيفاء استحوذت على كل جمال حورياته.. جمال غير مفخخ بالموت وداعش..
وإن كنتُ ضحية لتجربة عاشها طرف دون آخر في حب أسموه بالحب الناقص فربما ليس ذنبنا، وربما بعضها أو جلها كانت من صنع مقادير أقدارنا.. ولكل مقادير ضحايا وخيبات..
خلق الله "هيفاء" حلم لي بعيد المنال، فيما خلقتي تعيس وخائب.. لا أجيد إبحارا ولا عوم.. حظي عاثر وعسير في معظم الأحيان.. أبحر في رحلة التيه دون ماء ولا زاد.. لا أملك في البحر العاصف إلا لوحا من خشب دون شراع، ومجدفاً واحداً ويتيم، وذراعا وحداة عسرا وأخرى مقطوعة من الكتف، وفي الحب خلق من الخيبات لي ما ليس له عدا ولا حصرا..
كتبت عن عينيها في نشرة حائطية.. كتبت عن عيناها بدم قلبي النازف والمثقل بالحب والتعب والأرق.. كتبت عن بحر عيناها العميق، وعن حبي الضارب في الخيبة، وخيبة بحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي يحاول عبوره، ولا يملك لعبوره إلا لوح ومجداف ويد واحدة..
شاهدتها تقرأ.. يا إلهي!! الآن أريد أن تقرع أجراس كنائس العالم.. الآن أريد أن أعلو كل المآذن وأصلي للرب ألف ركعة.. "هيفاء" تقرأ ما كتبتُ.. أردت أن أجعل من ذلك اليوم عيد قيامة للحب.. ولكن بحجم ما ظننت كانت خيبتي..
بعد خمس دقائق شاهدتها تغادر .. شعرت كأنني كتبت ما كتبت للريح العابرة دون صفير.. بدت لي بليدة الفهم ومتبلدة المشاعر، حيث لا تسمع ولا ترى ولا تحس ولا تجس، أو متغابية لا تريد أن تحس أو تفهم أو تكترث بضحية، وربما كنت أنا البليد والغبي مجتمعين حال كونني لا أفهم كيف أوصل إليها رسائلي، وما يعتلج من حب كثيف وعاصف في أغواري وأعماقي المشتعلة بالحب..
كنت أظنها ستقرأ ما كتبت وتعيد قراءته عشر مرات.. ولكن لا أدري إن كانت مرت على العنوان مرور الغبي أو أنها توقفت دون أن تقرأ أو تكترث، وكان وقوفها مجرد استطلاع عابر سبيل وغير معني بالبحث عن الضحية..
يومها غادرت الكلية ولم أكمل دوام اليوم، وشتمتها في نفسي وشتمت نفسي أكثر وأنا لا أجيد الشتم..
لعنتها ولعنت حظي ولعنت الغباء ولعنت أكثر خجلي العاصف والمتلاطم بالخيبة.
(4)
تردد وخوف..
كنت أعيش مشاعر متناقضة كموج بحر يلتطم ويعترك مع شاطي من صخر أو طقس مضطرب أو زوبعة تركض كحال رجل تلبسه الجن في نوبة غليان.. كنت أشعر بمشاعر تتقاذفني وحدي كأسير في زنزانة أضيق مساحة من مد اليد ، لا أجد فيها فسحة نفس واحد لأفكر أو أجمع شوارد تفكيري من أرجاء التيه..
تقاذفني الإقدام وتردد اكبر.. زحام من حزن وفرج يشق طريقه في الضيق، وحصار من هم يسد الطرقات.. وأمل في وجه جدار اليأس يحاول يحفر ثغرة بحثا عن نور.. وتضيق الجدران أحيانا حتى تلصق بي فأبدو كمصاب بالصرع.
كنت عندما أشاهدها أشعر بقلبي يقفز من بين ضلوعي كعصفور يخرج من قفص أو سجن.. يحتفل بمقدمها ويرقص على إيقاع خطوات الحلم الراقص، وتشتد لحظات إرباكي وتظهر جلية للسطح العاري فأقمعها كطاغية أو دكتاتور لكني أفشل..
عندما تتجاهلني أشعر بتشظي وتناثر أشلائي .. وبحزن يضرب في بالغ أعماقي والوعي، وأرى قلبي قد ذُبح كعصفور أو أنكسر كإبريق صار نثارا أو وقع من سطح عالي وأرتطم بالقاع الصلد..
كنت أريد أصارحها بحبي الجم، ورغبة تعصف بي وطلبي لعقد قران وزواج يدوم العمر.. ولكن كنت أتأنِّي لألتقط رد إشارة يساعدني على استجماع شجاعة من أطراف الدنيا لأكون جريئا بعد الآن.. وعندما لم أجد ردا أو بُدا أتردد خجلاً والخوف يقمعني من أن ترفضني، وهذا الرفض كنت أراه سحقا لي لن أتعافى منه بقيامة..
في إحدى المرات كانت تؤشر لزميلتها فيما كنت أظن أن تلك الإشارة هي لي.. كانت إشارة صارخة كبرق في ليل مسود.. كاد قلبي يقع أو يسقط دهشة.. يا هول مفاجأة أكبر من قدر قادم وبشارة نبوة وولادة.. هل يمكن يا الله أن يكون عبوري للضفة الأخرى بهذا اليسر .. بدت لي صارخة الاستدعاء!! حبيت أن أتأكد إن كنت المقصود بإشارتها، فتبين إنها ليست لي بل لزميلاتها الواقفة خلفي.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني مرات عشر .. تمنيت أن يخسف بي الرب وبالأرض التي تحت أقدامي إلى سابع أرض.
راوحت في منطقة الحيرة وترددت كثيرا .. ثم يداهمني الشك وظننت أن الرفض سيكون سيد موقفها أما لغياب الود أو لفوارق طبقية، فضلا عن مانع آخر فأنا أكبرها في العمر بعدد أصابع يد تخنقني بعد أن عاجلني الزمن ليضع الفرق خمسا أراها أكبر من عمر الشمس.. وأنا لا أستحمل رفضا يسحقني ويهزمني لآخر يوما في العمر.. لا أريد أن أتهور فتطويني كالرمة وترميني بكبر أو تكسرني كزجاج لا يعود لسابق عهده .. تحاشيت كسرا لا يجبر ضرره..
(5)
أنا وصديقي محمد قاسم
الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتنا يا صديقي هو حب بالغ العفة والصدق والإيثار.. تضحية بالغة من طرف واحد.. حب ناقص نصفه، ولكنه عظيما في جلالته وقدره عند المحب .. حب مدفوع بجسيم التضحية حتى بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم..
هذا الحب يا صديقي عشناه وغرقنا فيه حتى العمق وأبحرنا فيه إلى أقاصي التيه..
هذا الحب يا صديقي وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَر فينا إلى حد التماهي وعيا ووجدانا وذاكرة..
هذا الحب الذي كابدناه يا صديقي وواريناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كبراكين جهنم، عوَّضنا إرادة وإصرار على النجاح في ميادين أخرى، ولم نهدر العمر سُدا.. كتمنا آهاتنا ووجع العذاب، ولم نبح بسرنا وسر من نحب إلا لحظات انفلات عقاله في الحلم عند نومنا العميق.
كانت لصديقي محمد قصة حب مشابهة لقصتي.. كنت أشعر أن ما يملكه صديقي محمد من الحب يكفي أن يوزع على كل نساء الأرض ويزيد.. يا بخت من أحببت يا صديقي!! إنه حب عظيم، وبقدر عظمته يكون العذاب شديد..
كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربون يحتسون الحش، فقررت أن أكتم قصتي عن الجميع بما فيهم من احببت بعد أن تعذر افهامها بحبي وادركني اليأس.. ظللت أعيش قصتي والنزيف بكتمان شديد وربما كان يعني افتضاحي كمن يستدعي الحكم بإعدامي بطريقة "داعشية".
نعم يا صديقي محمد، الحب الصامت أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلا ومتأججا ونحن نداريه عن الأعين ونحاصره في الوعي واللاوعي والوجدان وتحت الضلوع..
إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البركين المتأججة والمضطرمة تحت قشرة الأرض تظل مشتعله وإن تراكمت على سطحها طبقات الثلج وجبال الجليد..
هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي كثير من العذاب إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت أنت دكتورا وأستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريق آخر، ولم نستسلم للموت، ولم نقضِ بقية العمر نبكي على اللبن المسكوب، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل والعبور إلى المستقبل رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف.. إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي غلب إعاقته وحقق من النجاح ما لم يحققه كثير ممن هم سليمين العقل والبدن.
(6)
خيبة أخرى
أختطبت "هيفاء" من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أعرف بواقعة الخطوبة ولكني لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها .. كان وقع المفاجأة أشبه بوقع الصاعقة.. شعرت أنها شقتني نصفين وبعثرت روحي كالزجاج الواقع عليه صخرة كبيرة من شاهق.. أحسست أن الدبلة تطوق عنقي وتخنقني وتكتم أنفاسي.. أحسست أنها مشنقة تعدم مستقبلي.. شعرت بأحباط يجتاحني كطوفان وندم يتعدى أطراف الكون.. أحسست بالفقدان والضياع الكبير..
تذكرت مَثَل كرره علينا الدكتور أحمد زين أكثر من مرّة في محاضراته، وكان يُضرب فيمن يستحي من إبنة عمه، وليس من المناسب هنا أن أذكر هذا المَثل أو أتذكره.. المهم أنه في النتيجة أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة المريرة التي كان يجب أن أفترضها وهي الأرجح حدوثا عقلا ومنطقا وهي الطبيعي في المحصِّلة.
صدمني الواقع بما لا أتوقع، وكان تقصيري أنني لم أفترض ولم أتوقع ما يجب افتراضه وتوقعه..
ظللت مراوحا في نفس المكان أنتظر دون قرار، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة وكان فشلي في الحب ذريع..
ظلّت عقدت انتماءها الارستقراطي أو ما يشبهه عالقاً في ذهني وتفكيري، وبدا التحدِّي صارخاً للبحث عمّن يعوضني عن "هيفاء" وأكثر.. بدأت أبحث عن ميزات لا أظنها تجتمع في فتاة.. إنها فتاة لن أجدها إلا في الخيال، أما في الواقع فلن أجدها لا في مجرتنا ولا في غيرها من المجرات..
صديقي عبيد صالح الشعيبي قال لي وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها.. كدت أطير من الفرح .. قالها لي كما قالها يوما أرخميدس "وجدتها .. وجدتها".. ذهبت معه إلى "كريتر" وفي أحد المعارض التجارية كان هناك عرض لملابس نسائية على دمية امرأة تقبع خلف الزجاج، فأشار إليها بالبنان، وقال: "هذه من تبحث عنها وتناسبك".. وبقدر شعوري بالنكبة قهقهنا حتى لفتنا انتباه العابرين في الشارع العام.
(7)
خيبات تتوالى
في غمار البحث عمن هي أجمل من هيفاء وبعد طلوع الروح وجدت في القرية فتاة أجمل من هيفاء، بمقياس التحدِّي وتتميز عنها وعن كثير من الفتيات أنها لا تملك قيمة حذاء، وهذا جذبني إليها أكثر، بل كنت أشترط لمن يساعدني في البحث من النساء وأقول: "أريد فتاة جميلة لا تملك قيمة حذاء" إلا أن "الحلو لا يكتمل" حيث كانت قليلة التعليم، والعقل أيضا، ومع ذلك حدّثت نفسي أنني من سيعلمها وأحاول تكبير عقلها ما استطعت..
الفقراء جميلون وكانت هي أكثر من جميلة.. أحببتها من النظرة الأولى وليس من الثانية أو الثالثة.. الفقيرات ناضحات بالجمال وأحيانا بالجمال الباذخ، ولديهن استعداد كما أعتقد أن يشاركن الشريك على عبور الجحيم إن لزم الحال..
كانت درة مكنونة وكأنني وجدتها في قاع المحيط.. جمال داهش ومبهر تملكني وأستحوذ على كياني من النظرة الأولى، فيما حب هيفاء أحتاج ليومين أو ثلاث أيام ليثملني ويسري في الوجدان والبدن.
خطبتها بطريقة غير تقليدية.. من أمها في النهار .. ثم من أبوها في لجة الليل.. كدت أقطف النجوم ليلتها أوسمة انتصار ونجاح وسعادة بدت لي أنها لن تنتهي..
وبعد أسابيع أنقلب الحال عندما أفسد بعض المحسوبين على الإخوان المسلمين موافقة الأب على الخطوبة إن لم يكن قد ضغطوا عليه.. وتراجع الأب عن موافقته بمبرر أنني شوعي وملحد.. فعدت أدراجي مكسور الظهر والخاطر والفؤاد.. عدت ألملم روحي المحطمة وأملي المنثور على الشوك .. عدتُ أبحث عن فتاة أخرى لعلي أجدها.
(8)
لقاء بعد انقطاع دام 21 عام
لست أنا فقط من أحب، وجالد حباً ناقصا امتنع من أن يكتمل.. لست الوحيد من غرق في الحب حتى قاع المحيط، ومن طرف دون آخر.. جرت معي تجربة معكوسة تقف على النقيض من قصتي الأخرى ، ولا أدري متى بدأها الآخر، ولكن فطنتها في السنة الرابعة قبل الرحيل.
الحب الناقص لم يكتمل، ومثل قصتي مع "هيفاء" كان للآخر قصته معي، وفي كل قصة يوجد إحدانا ضحية.
كان هناك مساراً للحب معاكس لما أتمنى وأشتهي.. عتبت على أقدارنا التي وضعت قلب كل منّا على مدار مختلف.. وقياس مع الفارق وكما حدث في قصتي مع "هيفاء" حدث لأخرى مثل قصتي أو على نحو مقارب.
فتاة أحبتني، ومن جهتي حاولت إصلاح مدار أقدارنا المتعاكسة فجاءت الأقدار على غير ما نريد.. حاولت أن أعطي فرصة لنفسي لعلِّ أحبها، فأدركني الفشل، فيما هي انسحبت كسيرة بعد أن ظلمها الحب وضاعف ظُلمها القدر.. كانت ذكية ومتفوقه، ولكن الكيمياء ليست في قبضة المحبين، وإنما هي في قبضة مشيئة أقدارنا التي تملكتنا ولم نملك فيها إصلاح مساراتنا الطائرة في التيه.
كم أنا أسف وكل الأسف إن كنت يوما قد كسرت قلبها.. لقد اكتشفت ثمة وجود خلل في مسارات الحب وكيمياء النفوس واختلاف الطباع، وفي بنية الكون أيضاً.
تخرجت من كلية الحقوق في عام 1989ولكن المستوى ما قبل حب هيفاء لم يكن كما بعده.. قبل أن تأتي هيفاء حزت على المرتبة الأولى في الدفعة ثم تراجعت حتى وصل تراجعي إلى المرتبة الخامسة في سنة رابعة.. ربما لم تكن "هيفاء" السبب الوحيد، ولكن ربما كانت سبب من جملة أسباب إن لم تكن هي السبب الأهم.
"هيفاء" تزوجت لليوم ثلاثة، فيما أنا تزوجت من فتاة واحدة، أحببتها من النظرة الأولى في غمار البحث عمِّن تشاركني السعادة والنكد وعبور الجحيم، ولم أفكر يوما بالزواج عليها بأخرى، بل أنني أعتبر الزواج من ثانية جريمة لا تغتفر، تؤذي الحياة والمشاعر، وتقتل فينا الضمير، وتشوِّه الحب والروح والجمال.. عمَّدنا حبَّنا بالعِشرة الطويلة والصمود الأكيد والتحدّي، وجذرته مصالح سبعة من البنين والبنات.. كان حبي لها، من أول نظرة، ودفعة واحدة، وعقدنا نافذ وأكيد إلى آخر العمر.
ألتقيت ب "هيفاء" في ساحة التغيير للمرة الأولى بعد أكثر من واحد وعشرين عام من الغياب والانقطاع.. وحدنا الظلم الواقع علينا وكل منّا له مع الظلم ألف قصة.. وحدنا الحلم الكبير، وثورة شعب سرقها اللصوص وخانوها بعد عهد قادة الأحزاب وضعاف النفوس..
ومثلما ألتقينا في ساحة التغيير 2011 على نهج وهدف، ألتبس الأمر على إحدانا وربما على الاثنين في 2016 وصرنا على طرفي نقيض..
هي حصدت بعض ما تمنت من السلطة، فيما أنا بقيت على حالي ثائرا ضد الجميع أو أكاد أو هكذا توهمت.. فرقتنا الحرب وتشظينا كقطع الزجاج ، وجعلت الحرب كل منّا يقف في الموقع النقيض..
ألتقينا في الخارج قبل الحرب وكنت أحكي لها عن قصتي معها، وأقهقه بصوت أشبه بطاحون، وفيما أنا أقهقه تذكرت أنني قرأت في يوما خلا أن كل مقهقه يخفي تحت قهقهته مخزون من الحزن الكثيف.
(9)
اعتراف وبوح
اعتراف وبوح ل "هيفاء"
كانت عيناك عميقة وساحرة.. فيها سر القيامة.. كتبت عنهما، ولكن يبدو أنك كنت مشركة بهما أو جاهلة لا تدركين.. كتبت عنهما بجرح غائر في الروح وفاه فاغر يبتلعني كل يوم مرتين.
كنت "يا هيفاء" احاول أن أوجه سهام عيناي إلى عينيك مراراً، وكانت عيناك عنِّي دوما شاردة.. ألف سهم رجعوا خائبين، ليصيبوا قلبي المفطور بحب التي لا تحبني.. كنتُ عاشق مثخنا بألف جرح وخيبة.
كنت أحاول أن أصدمك بنظرة تشبه صاعقة لتأخذي بالك مما يعتلج في صدري من جحيم واشتعال، ولكن خابت صواعقي وعادت تحمل إلى صدري الصبور ألف خيبة وصاعقة.
كنت وأنا أحاول أن أكتب عنك ما يليق أجمع أشتات ذهني وأشلائي المبعثرة وروحي المهشمة كالزجاج، ولكن ما أكتبه كان لا يصل صوته أو صداه إليك بسبب خيبتي أو كُثرة ما حولك من ضجيج..
كنت إذا مررتِ من جواري أشعر أن نسمة صباح مرت من جانبي .. وكنتِ تنامين تحت جفوني كل مساء وتصبحين..
لا زلت أذكر أنك كنتِ تفردي شعرك صرتين في اليمين والشمال.. لا زلت أتذكر كيف كنتِ تسيرين.. كنت تشبهين في نقلات أقدامك وممشاك سير الحمام.. كنتِ إذا ألقيتي عليّ السلام أو كلمة عابر سبيل تصير زادي ومائي أسابيعا وشهور.
كتبت فيك يوما قصيدة، وكنت طالبا في الشعر فاشل، ولكن كنتِ ملهمتي والقصيدة استهللتها بمطلع من نور: "من نور سناك يرتشف الفجر فتغار الشمس وينتحر البدر"..
كنت أحدث نفسي وأسأل: كم هذه الأقدار علينا قاسية، وهي ترفض نقل إحساسي إليك.. كان قلبي يخفق ويضطرب كإعصار أو عاصفة، فيما أنتِ كجلمود صخر لا تحسين ولا تشعرين..
كنت وأنا أحدثك أشعر إن أقداري لم تتقن صناعة جهازي العصبي، وأن فيه ألف خلل وأنا أعيش لحظة إرباك تعتريني وكأن على رأسي يقف ألف عفريت وطير..
دوما كنت أشعر أن خسائري المتكررة في الحب كان سببها خوفي وخجلي وترددي واضطرابي.. كان حبي الناقص أو المفقود طرفه الآخر بعض مني ومن تاريخي الذي أخبوه كتلميذ فاشل يداري عن والديه وأصدقائه والناس درجاته الفاشلة والتي في مجموعها تساوي صفراً بحجم الكون.
تعرفي أن أول "كفري المجازي" كان من ضمن أسبابه فتاة وكنتِ الثانية.. كنت أسخط على قدري بالتمرد و"الكفر".. حتى قصص حبي معك ومن قبلك كانت شبيهات بعض في خيباتها.. كان حب كهذا من طرف دون آخر لا يجلب إلا "الكفر" والتعاسة والعذاب.. كنت أحدث نفسي وأقول: كان على القدر أن يوصل لك صوت وجعي العميق أو على الاقل يقول لك هناك شاب بحبك يحتضر.
تعرفي أن حبي الأول والتي مكثت فيه أكثر من ثلاث سنين ولا أعرف بالتحديد اسم من أحببت؛ هل هي ليندا أم رندة؟! جاءتني بنتين فأسميت وحداة منهن ليندا والأخرى رندا تحوطا لأي خطاء في الاسم.. كم أنا مجنون في الحب.. هل قد سمعتِ في حياتك بشاب أحب فتاه أكثر من ثلاثِ سنوات وهام بها حد التيه والغرق، ومن طرف واحد، ولا تعرف هي بحبه وهو لا يعرف حتى اسمها!! كم أنا "خائن" يا زوجتي ويا عمر مكلل بالخيانة رغم ما بيننا من وفاء.. كم أنا بشر يا زوجتي ويا كل العزيزات.
أما اسمك يا "هيفاء" فكنت أستخدمه متخفيا في معرفاتي "الكُفرية"، وقد وجدت فيه اسم هيفاء مقاربا لاسمك الحقيقي، ووجدتك في اسم هيفاء تنبضين.. أنه اسم صنعته من اسمك واشتعال دمي.. إنه جميل جدا ولكنه يشبه العدم .. حب لم أدركه.. الحب الذي لا نطول جناه ولا ندركه يبقى إلى الرحيل تعاسة وعذاب.. عذاب إلى آخر العمر.. ولذلك قررت ولأسباب أخرى متضافرة أن أخوض به وباسم ليندا معركتي مع "السماء".
(10)
اعتراف وبوح ثاني
في عدن حالما كنت طالبا في الجامعة كنت أيضا مسؤولا حزبيا في "حوشي" عن خلية حزبية مكونه من طالبتين جامعيتين، وطالب، والرفيقة زعفران وهي مناضلة يشار لها بالبنان.. مناضلة مارس التعذيب شهيته عليها في سجون الشمال إبان عهد سيء الذكر محمد خميس.. زعفران لم تُذل لسلطة أو تستسلم لإرادة جلاد.. ولدت في السجن وقاومت جدرانه وجالدته بصلابة الفولاذ.. لم تنحنِ ولم تنكسر رغم أن الجلادين أطاحوا بأسنانها، وألحقوا بها ضررا بالغا في عمودها الفقري.. تحملَّت من التعذيب ما لا يقوى على تحمله أكثر الرجال ثباتاً وصلابة.. من قال إن المرأة دون الرجل؟! زعفران التي عذبوها بصنوف التعذيب لم تخضع لمشيئة القائمين على التعذيب، ولم تخار قواها أو تلين، ولم تستكين أو تعترف بأسماء رفاقها حتى عندما أتوا بزوجها إلى أمامها دامياً ومثقلاً بالتعذيب ومثخناً بالجراح.
كانت يا هيفاء أختك الجميلة والمخطوبة لقريب لكم ضمن قوام تلك الخلية.. لم أكن أعرف أن لها أخت بجمالك وروعتك.. كنت أعامل أختك بمثالية قديس.. كنّا كبار يا هيفاء كبر تلك المبادي السامية التي تعلمتها من مسؤولي الحزبي جازم العريقي مدير مكتب أحمد علي السلامي عضو المكتب السياسي..
جازم مسؤولي الحزبي النبيل الذي سأظل أفاخر فيه ما بقي من أيام حياتي.. جازم رجل قدوة ومثال ولا يخلوا من الاستثنائية والعظمة.. أكثر من تأثرت بنبله واخلاقه وسلوكه ورهافة حسه هو جازم العريقي.. ترك كثير من بصماته حية ولا زالت حاضرة في حياتي إلى اليوم تنبض بالنور، وستظل كذلك حتى آخر يوم أغادر فيه هذا الوجود..
جازم رجل عظيم.. العظماء كثيرون، ولكن أكثرهم يبدو أنهم محكوم عليهم أن يظلوا مجهولين إلى آخر الزمان.. الظروف هي من تبرز البعض وترفع شأنهم إلى العنان، فيما تترك أغلبهم في القاع دون عون أو مساعدة يعيشون سوء الحظ وعاثرة ومعاكسته وخيبته؛ ولكن بقاءهم في القاع هو في الحقيقة لا ينتقص من عظمتهم وجلالة قدرهم، بل هم أكثر عظمة ممن أخذت الظروف بأيديهم وبلغت بهم مشارف الشهرة والرواج..
قبل أن تلتحقين بالكلية يا هيفاء كنت أتوقع أن ثمة حلم جميل سيأتي ويزاملني في الدراسة.. كنت أشعر أن بذرة حب سأزرعها تحت مفرق رأسك أو في تلافيف الوعي وثنايا الوجدان ومعاطف الروح وأعماق الذاكرة..
أول ما شاهدتك في باحة الكلية لم أتريث ولم يمهلني الحب أسبوعا.. تسلل إلى دمي والوعي كخمرة أثملتني خلال ثلاث أيام واستحوذت على كل كياني.. حبك تضاعف سريعا حتى ابتلعني من ساسي إلى رأسي وفي حبائله ماتت حيلتي وأنقطع النفس.
قطعاً كنتِ تلاحظين وجلي وخجلي وارتباك تفاصيل وجهي والجسد إن تقابلنا أو تحدثنا في لقاء عابر.. ألم تسألين نفسك يوما ما سر هذا الارتباك الذي كانت تحس به الحجر والشجر والتراب الذي أقف عليه؟!.. هل كان غباك فاحش إلى ذلك الحد الذي لا يرى اضطرابي الذي كان يشبه حال شجرة في وجه إعصار أو عاصفة!!
كنت أبحث عن حدوث صدفة كونية في أعماق وجداننا تلتطم أو تصطدم عواطفنا على نحو يشبه الانفجار الكوني العظيم ولّاد هذه المجرات والأكوان والخلائق والحياة.
كنت أحلم بك يا هيفاء مرارا .. أستحضر روحك كل ليلة كمن يستحضر أرواح من غيبهم الموت عنا، لأبلغك رسائل وجدي واشتعالاتي وما أخبوه من سر يشبه سر هذا الكون العظيم..
حاولت أستخدم حواسي السادسة والسابعة والعاشرة لأبلغك بعض ما يجيش لك من حب لا يحتمل يشب في صدري كالبراكين، ولكن في غمار المحاولة اكتشفت أنني معطوب أنا وكل حواسي.. شككت في قدراتي وحواسي الخمس، ومحاولة كشف ما عداها وجدته عبث كالباحث عن ماء في سراب الصحراء المجدبة التي يفترسها القيظ والموت غير المنقطع..
خانتني الحواس يا هيفاء، واستعمرني الخجل والخوف من رفضك البادي إن صارحتك بحبي الذي لا يحتمل.. سيسحقني رفضك المعلن كقرطاس تحت دكاكة الإسفلت، أو كزجاج ليس بمقدور إلا التطاير نثارا أمام غضب الطبيعة وعنفها القاهر؛ فآثرت أن أنتظر وأعيش وهمي وآثرت السلامة والانتظار وأنا المغامر، وغرقت بالتمني بدلا من المحاولة، وكانت العاقبة خيبة كونية وفشل ذريع..
(11)
اعتراف وبوح ثالث
الفقر يسحقنا كل يوم يا هيفاء.. لم تعد للطبقة الوسطى وجودها الوازن .. صار المجتمع منقسم بين أغنياء فاحشين الثراء شرهين على التملك والكسب السريع والغير مشروع .. وبين معدمين وفقراء مسحوقين، وموظفين بدون رواتب، ومجاعة تأكل الصغار والكبار، موت يتربص بنا كمجنون منتقم، يحلِّق فوق رؤوسنا كل يوم، ويستلذ بأشلاء أطفالنا، ويستمتع بما يلحقنا من دمار وخراب وتجريف للأخلاق والقيم والمعايير.. إنه عنوان لمرحلة غارقة بالدم والبارود، والمآسي العراض.. لا سبيل لهروبنا من وحشية هذه الحرب يا هيفاء إلا أن نحب، أو نلوذ فيما يمكن أن نتذكره من ذكريات الحب في زمن بدا لنا مقارنة بهذه الحرب أهون إن لم يكن على سوؤه هو الزمن الجميل..
شبح الموت يخيم على وطن منكوب بنخبه وساسته، ونهايات سوداء تقتحم حياتنا إجمالاً وتفاصيل.. هروبنا يا عزيزتي من الحرب إلى ذكريات الماضي ما هو إلا هروب أعزل في مشهد دامي ومحكوم بالبنادق والرصاص والقذائف والطائرات..
نخب حاقدة ومريضة ياهيفاء، وأطماع أنانية مفرطة تعتاش على الكراهية والأحقاد والحرب، وتِحوِّل المجتمع الواحد إلى شظايا قنبلة..
لم يعد يا هيفاء من أمل يستدعي الانتظار لفرح.. هروبنا يا عزيزتي للماضي مقاومة للموت وحيلة لا نملك منها إلا القليل، ومحاولة للاحتجاج في وجه الموت الداهم كالوباء.. إنه شرف المحاولة بعثا لحياة أراد أوغاد السياسة وأدها حية تحت الركام الكثيف والأنقاض الثقيلة.. إنه هروب مقاوم للموت والحرب والخراب والكراهية.
نقاوم الموت بذكريات الحب وقد تعديت الخمسين بأربع، وكنتِ في زحام الذكريات حضور كثيف يشبه استحضارها لحظة نزول وحي على نبي.. نزف العمر يا عزيزتي ولم يبق لنا إلا نتف منه أو بعض من قليل.
وطن أثقله الساسة المعرصين والأوغاد والمنتقمين من بعضهم ومن الوطن، والارتماء بدون بصر إلى أشد المستنقعات وحلاً وقذارةً، والإيغال في الخيانة التي نكبت وطن، وألحقت بحاضرنا والمستقبل أكثر مما هو كارثي وفادح.. وطرف تضخم حتى بدا له التاريخ والجغرافيا والمجتمع في قبضة يده.. أشتهى وأنقلب على كل شيء بما فيها على ما كان يدَّعي، وأدخلنا مع غيره عالم من الدم والدمار والمجهول، وأراد أن يعيد التأريخ إلى أوله.
أنا الأعزل يا عزيزتي في زمن الموت والحرب والخراب، لذت منكوبا إلى ذكرياتي بحلوها ومُرّها ولم أجنِ على أحد حتى بات حالي مثل حال ابو العلاء المعرِّي الذي أوصى أن يكتبوا على قبره: " هذا ماجناه أبى علىَّ.. وما جنيت على أحد ".
(12)
بوح واعتراف رابع
كنت يا "هيفاء" أغير عليك دون أن تعلمين أو يعلم أحد.. كنت أغلي في مرجل واكتم صوت غلياني في أعماقي حتى لا يسمعه أحد.. كنت أعيش وحدتي وأتظاهر بسكينتي التي كانت تزيد من وقع العذاب.. كانت وحدتي تعيش صراع محتدم داخلي كأرض تحت قشرتها غليان بركان.
لقد أحسست يا "هيفاء" أنني صرت جلاد وسجّان وأنا أحبس جماح حبي المتأجج في مدفني العميق، وأقمع مشاعر غيرتي بقسوة جلاد، وأصفد شياطيني بقيود من نار وحديد..
صحيح أنني كنت أنانيا إلى حد ما، ولكن كنت أشعر أني الأكبر والأوسع تضحية وأنا أكبل غيرتي وألجم جنوني المحتدم.. ولم تبلغ غيرتي وعُقدي يوماً حد التفكير في فرض الحجاب عليك، وضرب البُرقع على وجه الشمس أو أسدل سواد الموت على وجه القمر.
كنت يا "هيفاء" إذا غبتِ يوما، ولم أشاهدك فيها أشعر بانفلاتي إلى قاع الجحيم.. أشعر أنني أخسر عام من حياتي.. هدرت العمر في محرابك معذّب بالحب ومصلوب وخائب، وكنتِ أنتِ عمري المفقود وذاكرتي الممهورة بالفقدان والأسى العميق.
كنت اراك بكوكب زحل وما بعده، فيما أرى نفسي غارق تحت قاع المحيط، وبيننا من موانع الاجتماع أكثر من ألف مستحيل.. كنت أشعر أن رفضك لي سيكون قاتلاً بلا شك، ولهذا كنت صامت وكتوم وغارق في الوهم والتمنِّي.
عمري مثقل بالتعب يا هيفاء.. أكل الحزن منه والغياب ما أشتهى، وضاع مني الحلم الجميل، ورغم ذلك لازلت أنبض بالحنين والذكريات، وأحاول أن أستعيد بعض من عمر هرب منِّي ولم أدركه لأبوح له بأشجان لها طعم النبيذ المعتق بالسنين الطوال..
إن كان من غبي فهو أنا المملوء بالخيبة.. الحب قدر ليس في قبضة أيدينا ولا نملك أمر عليه ولا سلطان.. نعمة النسيان عندي، ولديّ من النسيان ما يكفي أن أغفر لقاتلي، فكيف لا أغفر لمن أحببت ومن كانت معذبتي، ولدي من الغفران ما يتسع لجميع أهل الحب في الأرض المثقلة بخيبة المحبين.
(13)
بوح هيفاء
* بعد ربع قرن من العمر باحت هيفاء بما لا تبوح ..
لم أكن أعرف بإحساسك ناحيتي.. لم أكن اعرف بمشاعرك نحوي.. أنا انسانه بسيطة جداً، وكنت انظر اليك باعتبارك قدوة في الجانب العلمي.. حاجه كبيرة جدا.. لم يخطر ببالي انك معجباً بي.. كنت اسمع عنك الكثير واهابك واقدرك.. كنت اشعر أنك تحترمني ولي منزله عندك بسبب مكانة والدي وعائلتي لديك.. اكثر ما لفت نظري لك تفوقك وخجلك.. اشتغلنا مع بعض بأسبوع الطالب الجامعي.. كنت احس بشخص مرتبك ومتردد وخجول.. كنت أعتقد أن هذا طبعك في التعامل وبالذات مع النساء.
اخبرتني اختي إن كنت أحتاج شيئاً أو إجابة عن سؤال متعلقا بدراستي أطلبه منك، وكنت أتردد وأحجم عن الطلب تجنبا لذلك الخجل والارتباك الذي أراه عليك.. كنت أعتقد أنني أثقل عليك.. وكنت أرجع خجلك وارتباكك لطبيعتك فحسب..
اتذكر يوم وقوفي اقرا المجلة الحائطية في الكلية.. لفتت نظري قصيدتك وقرأتها لكن لم يخطر ببالي اني كنت ملهمتك..
سألت عنك وقيل لي بانك متزوج ولديك اسرة واطفال، ولم أكن أعرف أنك عازبا، وهذا أيضا جعلني لا أفهم سر ارتباكك غير إرجاعه إلى طبعك في التعامل مع النساء وأفكر أنك لا تكن لي أكثر من مشاعر الاحترام.
اظن انك لو بحت لي بما كنت تشعر به كانت حياتي ستتغير كثيرا.. لقد ظللت ابحث عن حب يروي عطش روحي ولم اجده.. ربما لو قرأت قصيدتك وعرفت أنني موضوعها أو اهديتني اياها كانت تغيرت الاحداث كلها.. لم أكن ادرك انك تحبني.. كثير ممن كانوا حولي كانوا يتقربوا مني وبعد خطوبتي ابتعدوا.
انت من كنت تملك اللسان يا صديقي؛ فالقدر اصم وابكم ويمكن هو اختار لك ما هو أفضل..
كانت زميلتي "هدى" تقول لي عنك: هذا الشاب يهيم بك.. وكنت اقول لها مستحيل، هو رجل متزوج وخجول ولا يحمل لي سوى الاحترام والمودة التي جاءت نتيجة لمعرفته بأهلي وتاريخ والدي النضالي.
لم اكن منتبهة لجمال عيناي، لذا لم اشعر بالغزل لهما، ولم ألاحظ لنظراتي السحر الذي كتبت، ولم اكن اعلم ان لخطواتي الإيقاع الذي تحدثت عنه، احلى حاجة فيك انك صرت تتكلم بصيغة الماضي عن حبك لي، وهذا دليل انك تغلبت عليه.
أتذكر عندما كنت أمرُّ من امامك انت وزملائك.. كنت أزداد تحفظاً.. كنت أتحاشا زملاءك الذين أظن أن لهم رأي ووجهة نظر لا تروق عن المرأة.
ظللت اقرأ واتابع ما تنشر.. عانيت كثيراً يا صديقي.. تألمت على خالتك كثير.. اسلوبك رائع لدرجة اني ابكي وانا اقرا.. تشبيهاتك حلوة.. ومع ذلك حاولت أن افتش عن ذاتي بين سطور ما كتبته ولم أجدها على نحو ما ذكرت، لعل أمر يتكرر بشكل آخر فأنا لم ألاحظ عليك ذلك الحب الذي تحدثت عنه وتدعيه في زمن غادر ولن يعود..
لم اكن تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحدثت عنها.. كنت فتاة اكثر من عاديه أكان بالنسبة لجمالي أو لوضعي الاجتماعي.. لا أمتلك تلك الصفات التي وردت فيما نشرت.
لا أحب ان يكون لهذا الحنين انين لروحك يا صديقي.. انت شخص حساس وبسيط وصادق جدا.. لذا فالتسامح والنسيان طبعك.. بجد هذا الالم سيؤثر عليك وما نعيشه من الآلام والمرارات تكفي وتزيد.
على غير طبيعتك حلمت في أحدى المرات بك بعد انتخابك عضواً في مجلس النواب.. حلمت انك أتيت إلى بيتي ومعك حرس وشديتني من يدي بعنف وقوة وعيونك تقدح شرراً وغضباً وتقول لي: الآن اقدر اخذك لي.. كنت مستغربة من كمية الغضب في عيونك وقسوتك الشديدة.. ظللت فترة مستغربة من هذا الحلم.
أما أنا فحلمت وخشيت أن يكون حلمها بيت خراب..
(14)
حبي الأول في عدن
خلال دراستي في ثانوية البروليتاريا أحببت فتاة من عدن وكانت جميلة ورقيقة وجاذبة كالمغناطيس .. كانت حبي الأول والجميل، ولكنه كان عذاب فادح، ومرد ذلك أنه كان من طرف واحد مقتولا ومصلوبا بالخجل..
كنت أبن الريف الخجول والمملوء بالحياء.. هذا الخجل كان مكلفا ومثقلا بالعذاب، وظل خجلي ملازم لي سنوات طوال..
كنت أخرج يوما في الأسبوع وأقطع عشرات الكيلومترات لأراها فقط ومن النافذة، فإن رأيتها كان قلبي يكاد يقع مني وإرباك كوني يصيب أوصالي..
هذا الحب لا ينسى مهما تقادم بي العمر .. الحب الذي لا تطاله يظل إلى آخر العمر متعلق فيه..
أنه يشبه حبي للجنوب في ظل عشق الجنوب للانفصال .. إنه حب خائب ومع ذلك نظل نخلص له إلى آخر العمر ونتذكره وهو لا يعلم أين نحن.
ظل هذا الحال ثلاث سنين ولا أدري أين اختفت ولم أجرؤ حينه على البحث والسؤال .. كم هو مكلف الحب الصامت والخجول يا صديقي محمد قاسم .. كلانا عاش هذا الجحيم وتعذب بصمت حد الوحشة والكتمان المميت.
حلمت أنني من أجل عينها كفرت وعلى لوح نافذة السكن الداخلي كتبت عبارة "من اليوم أنا ألحدت".. كانت الجملة أشبه بعبارة أرخمديس "لقد وجدتها" مقارنة مع الفارق.
حلمت أنني أقول هذا ليس كل السبب بل وما تعلمته أيضا من مواد الفلسفة والأحياء وغيرها من مواد العلوم والاجتماعيات وما قرأته من خارج المقرر المدرسي.
(15)
"أمل"
في العزبة التي لذت إليها عندما تفجرت أحداث 13 يناير كان قلبي قد تعلق منذ مدة بفتاة بالجوار.. إنها صدفة أن تجد نفسك في الحرب جوار من تحب..
فتاة لازلت زهرة دون ال 18 عام بقليل.. كانت مراهقة وكنت ولوع برؤيتها كلما أمكن..
أذكر أنني كنت في زمن السلام أقف بعيدا وعندما تتسلق جدار حائطهم أندفع من بعيد نحوها لأرها وتراني فيما أحاول أن أداري شوقي ولهفتي أمام أصدقائي حتى لا يقطع الخجل مجيئي..
كنت أخترع عذرا لأصدقائي في العزبه في كل مرة أزورهم فيها، غير أن الهدف الحقيقي من مجيئي في كل زيارة هو أن أراها وتراني..
كانت فتاة جميلة.. كنت عندما آتي إلى عزبة الأصدقاء أحاول أن أرمقها إن مرت أمام النافذة.. وكانت زياراتي في بعض الأيام تحمل خيبة كاملة.. انتظرها فلا تطل ولا تمر..
كنت أتي إلى العزبة من بعيد من أجل أن أراها وأنا غارق بالشوق ولهفتي تسبق أنفاسي وخطواتي تتمرد على موانع وإيقاعات الضبط .. كتبت لها واستضفتها لاحقا وكان لنا قصة ولكنها لم تتم.
كان جمالها يافعي وسمرتها تحمل من الجاذبية سر وسحر وفتنة.. جميلة الروح وآسرة الطلعة.. وجهها ينضح بالوسامة الأخاذة في تفاصيله وإجماله..
كانت ممشوقة القوام وبهية وتنفذ للقلب كغيمة يملاها المطر.. إنها آية ليست مثلها آية..
كنت سعيد أن أجد نفسي في مكان قريب منها.. صارت تهمني أكثر من الحرب..
الحب في زمن الحرب قبس من نبوة سلام وحياة.. غير أن المسؤول على المنطقة المتمركزين فيها طلب منَا أنا وآخرين ترك المكان الذي نحن فيه والتوجه إلى سطح إحدى العمارات على الشارع الذي يمتد أمام البريد.. فيما جندي من أبناء ردفان أمره أن ينتقل إلى رأس المنارة التاريخية القريبة ليكون نقطة رصد ومراقبة.. كان جنديا شجاعا وكان الموت يتهدد حياته بالقنص.
(16)
"نور" اللحجية الجميلة
في سنة أولى من كلية الحقوق كانت "نور" الأكثر جمالا ودهشة.. نور تنتمي لمحافظة لحج .. لم أكن أعلم أن في لحج كل هذا الجمال المكنوز.. كنت أختلس النظر إليها كلص خائف من كل العيون.. كثير هي تلك العيون التي كانت تلاحقها وكنت أشعر أن أكثر العيون تراقب كل شيء..
كنت أجلس بقاعة المحاضرات الرئيسية في أول الصف، فيما كانت هي أغلب الأحيان تجلس آخر الصف أو في مؤخرة القاعة في الاتجاه الآخر.. كنت أحرج أن أجلس آخر الصف وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر. كان كبريائي وخجلي يحولان أن لا أبدو أمام الآخرين طائشا أو مراهقاً يشبه الصبية الغر في التصرفات المتهورة أو الغير محسوبة.
كان الأستاذ إذا سأل الطالب سؤال أو أجاب الطالب على سؤال الأستاذ وكان موقع الطالب أو الطالبة في الوسط أو المؤخرة أقتنص الفرصة وأوهم العيون أنني أهتم للسؤال أو الجواب فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه "نور" كنت أنحني برأسي كالحلزون لأرمقها وأسرق نظرة على حين غفلة من الزمن والعيون..
كنت شديد الحذر من أن ترمقني أحد الأعين وأنا أصوب سهامي نحو نور فيما هي مشغولة في دائرة أضيق من الجوار..
كنت شديد الحذر وأنا أتحاشا العيون لأصل إلى عين نور.. كان حذري يشبه حذر جندي الهندسة الذي يسير وسط حقول الألغام.. ولكن هم يفعلون ذلك من أجل نزع الألغام أو فتح ثغرة فيها، فيما أنا أهدف إلى اختلاس نظره من جمال الله وابداعه في نور.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم.
نور اختفت فجاءة ولا أدري أين ذهبت!! نور لم تعد تأتي إلى الكلية كل صباح.. يبدو أن نور غادرت الكلية للأبد، ولكن لا أدري إلى أين!!
نور كانت الجمال والدهشة .. نور كانت نور على نار..
*******************************
متفرقات "1 – 8″
(1)
كم أحبك يا أبي
كم أحبك يا أبي .. عندما كنت أكتب عنك شاهدتك في الحلم غاضب ووحيد.. ربما اعتدت أن أراك غاضبا، ولكن ما آلمني أن أراك وحيدا..
لم أقصد هجوك يا أبي وأنا أسرد قصة حياتي، ولم أقصد تسجيل بطولة، وأي بطولة يمكن يسجلها ابن على والده.. لست عاقا يا ابي ولست من يسجل عليك بطولة، إنما ابلغ الآباء قصة فيها عبرة وعضة..
كم مزقني مشهد أن اراك وحيدا.. شعرت أنني أحاكمك في غيابك محاكمة غير عادلة.. محاكمة تشبه محاكمة متهم في غيابه.. شعرت أنني أصادر حق حضورك.. ولكن كيف يكون حضورك وكيف استحضر روحك؟!!
حاولت أن أطبق بعض أفكار قرأتها في كتاب عن تحضير الأرواح .. كتاب ممتع ولكن لا أعرف مدى مصداقية وصحة ما ورد فيه من قصص وحكايات وأخبار.. لم أعد أذكر عنوان الكتاب، ولكن أذكر إن مؤلفه كاتب أجنبي.. أذكر أنني قرأته حالما كنت نزيلا في المستشفى العسكري بصنعاء..
حاولت في ليل شديد السواد أن أستحضر روحك يا أبي.. شعرت ما يشبه موجات أثيرية تداهمني وتسري في جسدي "قشعريرة".. تكررت مرات ومرات.. كانت الموجات الأخيرة أقوى من التي قبلها.. بدأت تتحشرج في حنجرتي تريد أن تقول شيئا.. بدأ الصوت ثقيلا وساحبا كصوت مسجل نفذت صلاحية البطارية التي عليها.. شعرت أنك تتقمصني أو أنا الذي أتقمصك.. شعرت بأحدنا يتلبس بالآخر.. شعرت باندماج ما أو بتماهي نادر.. شعرت بقلبي يكاد يقفز من فمي بعد أن بلغ الحنجرة.. لم أحتمل التجربة .. قمت فزعا ومخضوض، وربما بوجه شاحب وممتقع.. أو هكذا خلت نفسي..
أحبك يا أبي.. أحبك يا أمي.. إنني امتداد لكما ولحزن ذاك الزمان وهذه البلاد..
لقد شعرت يا أبي بوخزة ضمير في أعماقي.. شعرت أن هكذا عقوق لا يليق بي.. أنني أفهم يا أبي قد سلطت كثير من الضوء على قسوتك وجاوزت أن احكي كم كنت انسان..
لا زلت أذكر ذلك اليوم ..يوم صدفة تفاجأت وأنت تشهق بكاء وتنشج كطفل.. ياااااااه .. أبي يشهق بالبكاء، ينتحب وبحرقة وألم.. لم أصدق ما أراه.. كيف لأبي القاسي أن يبكي بهذا القدر من الوجع البالغ.. لم أر ولم أتصور أن الرجال الكبار يبكون، لكن أن أشاهد أبي الذي اعتقدت أنه مسكون بقسوة العالم يبكي بهذا القدر من المرارة والوجع، كان أمراً لا يصدق.. لم أدرِ ما السبب وظل الأمر غامضا؛ ولم تخبرني أمي أي قهر قد أصابه.. ولكن اليوم عرفت.. كان يتذكر ويبكي رحيل ابنه علي رغم أنه مضى على هذا الرحيل سنوات.. أحسست أن أبي مثلنا يحزن ويبكي ويتألم..
قبل أيام خرجت من البيت ولعجل من أمر كدت اضرب ابني فادي أمام زملاءه في الشارع أمام البيت.. كان المنظر كئيبا وغير سوي.. تذكرتك يا أبي.. شعرت لحظتها أن طيفك يداهمني ويقول لي أن بيننا وبين الخطأ مدت يد أو أقل.. استعدت تلك الجملة التي كتبتها في قصتي وأنت تضربني أمام الأطفال وأنا أشعر أن عيونهم تأكلني.. جميعنا يا أبي نحن أبناء هذه البيئة القاسية..
شعرت أن روحك كانت لحظتها حاضرة فوق رأسي وهي تقول: اغفر فكلنا خطاؤون.. شعرت أنك تذكرني بما لا أريد تذكره.. شعرت لحظتها بغصة في حلقي كسكين.. أحسست أنك تعاقبني وتقول كل يقع في الخطأ.. شعرت بمرارة من تكرار الخطأ وهو أن يعيد الابن خطأ والده في التربية.. بعد ساعات من معركتي مع ضميري وجدت نفسي أقبل رأس ابني فيما هو كان يقول بخجل: سامحتك.. سامحتك..
(2)
يوم أهداني أبي ساعة
كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوما استثنائيا فريدا لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت..
كانت فرحتي كبيرة وكثيرة .. أكبر وأكثر من فرحة راهب ظفر بالجنة يوم القيامة، والتي لطالما حلم بها، وعمل من أجلها طيلة حياته، وعاش في دنياه ضنك الحال، وشظف العيش، وضيق اليد، وأنكر حقه في الاستمتاع والرفاه..
يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من "إنجلترا" ساعة اسمها "أورنت".. كان وقع الهدية في النفس وقع الدهشة، وأثرها في الذاكرة يظل حيا لا يزول..
بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي طفره تكنلوجية.. ساعتي تعمل يدويا بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوما وليلة، فيما ساعة أبي تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: "تمشي على الدم" وهو أمر لطالما كان يحيرني ويثير تساؤلاتي!!
يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والوهم وخواء التمني.. أنا الطفل الذي تمنى يوما ساعة ميته من الورق والبلاستيك، ولم يطال ما تمنى.. تمنى كذبة تقارب واقعه، فحصد من واقعة مرارة وحسرة.. فعوض تمنيه برسم ساعة على معصمه، واكتفاء ليصنع سعادته من وهم وزيف..
يا إلهي.. وجدت ما هو أكثر من الحلم والتمني.. كانت ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، ليس حلم بعيد المنال، بل هي من أحلام المستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر مرة في الألف.. شيء لا يصدق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحول قلبي إلى صرة فرح يطير.. إلى منطاد ملون يحلِّق في البعيد.. يصعد للسماء بزهو أخاذ وانتشاء منقطع النظير..
أنقصتُ من طول سلسها الفضي أكثر من نصفه لتمسك جيدا على معصمي المنهك والنحيل.. كنت أرى الكون كله معلقا في يدي.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي..
ليلتها لم أنام.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق وأخرى كعريس.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم.. كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة وتأسر العيون.. كانت جاذبة وأخاذه.. كانت تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى تخوم الكون وما بين النجوم..
كان صوتها يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. كان صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس منتصر على جيش عرمرم.. كان صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. كقيثارة فنان غجري يستعرض ابداعه أمام من يحب.. كنت مثل عاشق بلغ فيه العشق ذروته.. كنت اسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبها والمبهور بها حد الدهشة والذهول..
كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها في الكون معزوفة أو وجود..
تقلبني الفرحة على فراشي يمنا ويسرى، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقي حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. اتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته في ضفاف النهر.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه.. اجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فنية وأخرى عما بلغه الليل من مدى نحو الصباح الجلي.. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ مني فرحتي إلا غفوة قرب الصباح.. وكانت غفوة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة نبي على أرجوحة سماوية بين الأكوان..
وفي الصباح استعجلت النهوض.. كنت أشبه الصباح والضياء، وأنا أرى العجب العجاب يحيط بمعصمي.. كنت أشعر أنني قد صرت مركز الكون وأن الكون كله يزف فرحتي..
تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل الفرح الكبير..
وفيما أنا اليوم أتخيل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدا لي جهاز "إيباد" أو "لابتوب" أو تلفون مطور؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقا في فرحتي دون ملل أو انقطاع أو فكاك..
(3)
أمي الحكواتي
كانت أمي تحكي لنا أنا وأخوتي الحكايات الآسرة .. كنّا وهي تحكي نتابع سردها كلمة بكلمة، منقادين بعد حديثها كمسحورين .. مشدودين إليها بدون وثاق .. وفي كل حبكة ومنعطف في الحكاية يتطلع شغفنا لمعرفة المزيد، حتى تصل في سرد الحكاية إلى محطتها الأخيرة، ونهايتها المرجوة..
كان تعلُّقنا لا ينفك من حديثها قبل أن تضع الحكاية نهايتها السعيدة، والذي ينتصر فيها الحق على الباطل، والعدل على الظلم، ويغلب الخير الشر في انتصار بهيج ومفرح، بعد كر وفر ومغالبة تستحق المتابعة..
كان وجداننا مرهفا، وعقولنا طرية، ومُستقبلات وعينا حساسة ولاقطة، وكانت تلك الحكايات تجعل الخير زاهاي وأخاذ، فتنميه في وجداننا، وتدعونا للانحياز له، وتحثنا على فعله، ومن جانب آخر تنمّي كراهيتنا ضد الظلم والباطل والشر، وتحثنا على مقاومته .. كانت تهذّب أخلافنا وترعيها .. تنمّي عواطفنا وسويتنا .. كانت تؤنسنّا و تنمي مشاعرنا الجميلة وأحاسيسنا المرهفة.
ما تحكيه كان جاذبا لنا، ومؤثرا في وجداننا، ووقعه بالغا في النفوس .. كانت تنبش حكاياتها من التراث المتداول و الوعي الشعبي المنقول و المتناقل شفاهة..
من الحكايات التي روتها لنا قبل ما يقارب الخمسين عام، في مساءاتنا وليالينا الدامسات والمقمرات: الحميد بن منصور و عبد الرحيم و حمامة المراميد و العجوز الكاهنة و "الجرجوف" و الذئبة و أبو نواس و السبعة الإخوان و جد النويحة..
كنّا ننصت ونتسمر أمامها وهي تحكي، وكأنها بوذا ونحن تلاميذه .. كنت غالبا أعيش المشهد الذي تحكيه، أتقمص في نفسي شخصية أحد أبطاله .. أعيش دورا في المشهد بكل انفعالاته .. كنت أتابعها كما يتابع الجدول مجراه .. أتوق للنهاية لترتاح نفسي، وابتهج، وأنام بعدها بهدوء وسكينة..
كانت تتسلل الدموع من عيوني، وتسيح بصمت على خدودي، ويَعلق بعضها في شفتي، أشعر بسخونتها واطعم ملوحتها، وكان لليل فضيلته؛ لأنه يسترها ويواريها عن أمي وأخوتي، كما كان لأسلوب أمي السردي الجاذب فضله الآخر، حيث كان يشد انتباه أخوتي بحيث تمنع تطفلهم على عيوني ودموعي وانفعالاتي المكبوحة..
تفاجأت بعدها في شبابي أن معظمها مدون في كتاب حكايات وأساطير يمانية للكاتب علي محمد عبده، وعند المقارنة وجدت في حكاية أمي بعض الزيادات والإضافات، لربما أضافها بعض من خيالها، أو أضافها خيال من تلقت عنه قبلها..
كما كانت تحدثنا عن الله ومحمد وعلي والملائكة، وكلما تلقته من أبوها الزاهد، الذي كان مولعا بقراءة القرآن .. كان يحدثها عن قصص القرآن وبعض تعاليمه وتفسيراته .. كانت تستهويني قصة مريم العذراء وابنها عيسى، ومعجزات هذا النبي الذي علقت سيرته وقصته في ذهني مؤثرة إلى اليوم..
وكانت تحذرنا كثيرا من شرب الخمر، وتشن عليه وعلى شاربه وحامله وبايعه حملة غاضبة أكثر من غضب الرب..
كانت تحدثنا أن الرب يرانا أينما كنّا، وأن لكل منا ملكين في اليمين والشمال، أحداهما في اليسار يكتب السيئات، والآخر في اليمين يكتب الحسنات .. كنت أكثر ما أذكر هذا في خلوتي بالحمام، وظل هذا الأمر عالقا في ذهني، شديد الحضور في خلواتي استمر لسنوات، حتى بعد البلوغ..
تذكرت هذا وأنا أقرأ رواية الخلود ل"ميلان كونديرا" و فيها أن الأم المؤمنة كانت تحث ابنتها على قلع بعض العادات التي التصقت بها حيث كانت الأم تقول لابنتها: "الرب يراك" آملة بذلك أن تنتزع منها عادة الكذب، وعادة قضم الأظافر، وإدخال أصابعها في خياشيمها، فيما حدث العكس، وهو الذي كان يحصل. لم تكن تتخيل الرب تحديدا، إلا في هذه اللحظات التي كانت تمارس فيها عادتها السيئة، أو في لحظات خزيها..
(4)
فرح ومخاوف
كانت الوحدة اليمنية حلماً كبيراً، بل كانت حلم بطول وعرض اليمن الطبيعية.. كان حلم يبدو عصياً على التحقيق، ولكن كان اصرارانا بالتعلق به قويا ومتيناً.. كانت الوحدة خيارا لا نحيد عنه.. كانت شعاراً جاذباً لا نملُّه ولا نتراخى في الدفاع عنه.. تربينا وتنشأنا عليه..
كانت الوحدة هاجسنا وحلمنا وشعارنا.. كان شعار "لندافع عن الثورة اليمنية وتنفيذ الخطة الخمسية وتحقيق الوحدة اليمنية." هو الشعار الذي لطالما رفعناه وردّدناه وردده أبناء الجنوب في كل مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي والكلية العسكرية وغيرها.. كما كان هذا الشعار يكتب في ترويسة أو رأس صفحة كل المراسلات الرسمية والحزبية مثل ما تكتب وتتصدر البسملة سور القرآن.. ، كانت الرسالة التي بلا شعار تبدو مبتورة بدونه، شأنها شأن البسملة في سور "القرآن الكريم".
كنت أشعر أن الوحدة اليمنية لازالت حلماً باكراً وأن تحوله إلى واقع ربما يحتاج إلى فترة غير قصيرة، ويلزمها تغيير أحد النظامين.. وعندما تحققت فرحت بها فرحا بالغا غير أني كنت متوجسا وخائفا من المجهول؛ لأن علي سالم البيض صار الرجل الثاني وليس الأول في نظام ما بعد الوحدة، ولأن العملة صارت الريال لا الدينار، ولأن العاصمة صارت صنعاء لا عدن، وأن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع .. شعرت أن تنازلات الوحدة من الجنوب كانت جمة وكبيرة وكان بعضها فادحاً، وأحسست أن المستقبل غير واضح إن لم يكن مجهول ومخيف.
لازلت أذكر أنني ألقيت محاضرة في معسكر عشرين التابع للمليشيا الشعبية بكرتير قبل الوحدة أشرت فيها إلى سلبيات وإيجابيات دستور الوحدة، وأشرت إلى المخاوف والمحاذير.. وانتقدت المادة 3 من دستور الوحدة والتي شعرت أنها تهدد ما تم إنجازه وما يفترض أن يُنجز في المستقبل.
لا زلت أذكر كيف جُرفنا إلى صنعاء، وسقط كثير من القادة الجنوبين أمام المغريات، وتخلّوا عن المبادئ وذهبوا يتابعون الحصول على الأراضي والامتيازات والمواد الغذائية، ووجدنا أنفسنا (نحن الصغار ذوي الرتب الصغيرة) نعاني ونكابد، وبدأت المماطلات وتأخير نيل حقوقنا واستحقاقاتنا حتى انتهى الأمر بتقليصها أو تعطيلها عنّا ومصادرتها، وبدينا أمام أنفسنا كمتسولين عند السلطات من أجل هذه الحقوق والمستحقات.
ليس القادة الشمالين فقط من كان ينهب حقوقنا بل أذكر أن بعض القادة الجنوبيين كانوا يقلِّصون بعض من حقوقنا أو ينهوها عنّا ليعيدوها وفرا ويحصلون على نسبة منها من رب النعمة.
أذكر أن بعض القادة الجنوبيين الذين كنّا نقصدهم من أجل حقنا في إيجار السكن وغيره لم نعد نتمكن من الوصول إليهم أو اللقاء بهم .. أذكر أحدهم وكان قائما على الإمداد والتموين العسكري ردفاني، من أبناء الجنوب، جلسنا منتظرين له ساعات في غرفة حراسته لنقابله ولم نتمكن، فيما كان هو في مقيل مع قادة الشمال يجاملون بعض ويمزحون ويتبادلون ود المقيل، بينما كنا نحن في بوابته نقتلي ونغتلي.. لازلت أذكر وأنا أقول لمن حولي في غرفة الحراسة بما معناه سيأتي لهم يوما يخرجون من بيوتهم مذعورين أو كبّا على الأنوف.. هؤلاء الذين يتنكرون لنا ويتعالون علينا ولم نعد نستطيع أن نصل لهم بشكوى أو مظلمة..
(5)
الكفر عندما لا تجد قيمة قبر
خالتي سعيدة كانت سعادتها قليلة في واقع ثقيل لمن هو قليل الحيلة.. كانت خالتي ملاذا لي في القرية، حال ما أهرب من الضيق والجحيم.. كانت صبورة وعندما يكظمها الغيض "تتزمل" وكان الزامل تنفيسا عن المعاناة وإشغال للذات عن النكد حال ما يحاصرها فتجد في الزامل عبورا إلى عالم مختلف تحاصر هي فيه النكد بدلا من أن يحاصرها..
خالتي بعد فقدت ابنها وعائلها وضعت نفسي في خدمتها وأصطحبتها مع أولاد أخي إلى عدن وعشنا مع بعض وعندما ذهبت إلى صنعاء اصطحبتها معي.. عشنا الحالي والمر معا.. شبعنا وجوعنا معا.. أكلنا الروتي والبصل بل وأحيانا الروتي والبسباس..
جاري منصر الواحدي هو من كان يعلم فقط ببعض ظروفي الخاصة.. سماني "أحمد بصله" بسبب اعتمادي على البصل كوجبة رئيسيه تمنحنا البقاء والحياة..
أختي سامية أيضا مريضة عندي وتحتاج إلى علاج مستمر ومتابعه عند الطبيب..
كنت أعيش أنا وخالتي وبنى أخي واثنتين أو ثلاث من أخواتي وأخي وزوجتي وابني فادي وابنتي سناء.. كنت أشدد عليهم بأن لا أريد صوت حاجة يخرج من فتحت مفتاح الباب وإن متنا طوى.. كنت الصمت المكابر في زمن الفاقة والجوع..
كنت لا أملك ما أسعف به ابني فادي الذي كان يعاني من الربو.. كنت أستدين من جاري منصر أو جاري الآخر علي فضل وأسابق الموت عندما أسعفه إلى المستشفى.. كنت لا أستطيع توفير قيمة الحليب.. بعت "دبلة" الزواج وفيها الحرف الأول لاسمي واسم زوجتي لتوفير الحليب لأبني البكر..
مرضت خالتي حتى اصيبت بقرحة الفراش.. تكالب عليها المرض.. لا أملك ثمن العلاج، طلبت من زميلي عبد الملك العرشي يحضر لمعاينتها وكان قد عمل مساعد طبيب في المستشفى العسكري..
طلب شراء قربة لتركيبها.. تصرفت واشتريت "قربة".. تفاجأت أن خالتي لم تحرك يدها وهو يغرز الإبرة في يدها ليركب لها "الدريب" شاهدت دمعتين تنساح من عيون خالتي.. يا إلهي .. إنها دموع الفراق الأبدي .. أخبرني صديقي أنها خالصة والأمل ضعيف.. دقائق قليلة وفاضت روحها بصمت موحش..
لم أتوقع أن تغادرنا بهذا الهدوء.. أنسلت إلى العالم الآخر بخفة وكأنها لا تريد إزعاجنا.. خرس شل لساني ودموعي تنساب بصمت يقتلني.. يا إلهي لا أملك قيمة قبر ولا كفن..
نعم .. عندما ماتت خالتي في صنعاء لم أكن أملك قيمة قبر ثلاثة آلاف ريال ولا قيمة كفن.. أذكر أن جاري منصر الواحدي جنوبي هو من كان يعلم بظروفي وهو من ساعدني في تكفينها وقبرها.. عندما لا تجد قبرا أو كفن يكون الكُفر ملاذ.
قبرناها في صنعاء جوار عتيقه.. لا أدري من هي عتيقه.. فقط اسمها مكتوب على قبرها.. تأملت في اسم عتيقه كثيرا لعل يوما أبحث عن قبر خالتي ولم أجده .. لعل اسم عتيقه هو من سيكون دليلي وخصوصا أن خالتي لا اسم فوق قبرها ولا علامة..
عتيقه جارة خالتي في الأرض السفلى ودليلي إليها فوق الأرض طالما لا زلت حياً لعل يوما أبحث عن قبرها لأهديها بقايا دموع لم تجف بعد..
رحلت عن قبرها وتمنيت لها طيب الاقامة والجوار في مجاهيل صنعاء وقبورها..
عدت إلى البيت وجاء بعض الجيران يريدون "مجابرتي" .. أذكر أنني ثرت في داخلي وكظمت غيضي وبديت كأنني شجرة في وجه عاصفة من الغضب.. لا أريد غير أن أعود إلى أدراجي بصمت.. لا أريد أن أتحدث لأي أحد .. أبلغت جاري منصر الواحدي ليبلغهم أنني لا أريد مجابرة.. يتصرف هو معهم.. وفي العشاء سندبر قيمة "نعنع" نوزعها عقب صلاة العشاء لروحها الطاهر..
(6)
هذا هو أنا
أنا متمرد نعم فلا طعم للحياة يا صديقي بدون التمرد.. التمرد يشعرني بذاتي ولكن ليس إلى حد أن أكون أنانيا أو رفيقا لباطل .. أنا لا أتمرد إلا إذا رأيت أن لدي حق أو بعض حق فيما أرى وأظن أو أعتقد.. والأهم أنني لا أغادر ضميري ولا أصنع مع ضميري جفوة.. وأكثر ما أتمرد عليه هو الظلم ولا أتصالح معه وإن اضطررت أحيانا إلى الانحاء للعاصفة فما أن تمر أعود دون أن أنام أو أستكين.
أعتز بنفسي نعم ، ولكن ليس إلى حد الغرور والنرجسية.. بل أمقت التعالي وأبصق عليه وأحتقر المتعالين على البشر.. كنت أبحث عن المجانين والمتشردين والمهمشين والمظلومين لأكتب عنهم وأغوص في معاناتهم ولطالما تمنيت أن بيدي عصاء من سحر ترفع عن كواهلهم الظلم والبؤس وقسوة المعاناة.
تكويني حقوقي وأتعاطى مع السياسة بحذر ولا أتنازل عن اخلاق أراه، وأحاول أن أكون سياسي عندما تحاصرني المخاطر فأعيد ترتيبها والتعاطي معها بحسب الأولوية وتقديم الخطر الأشد وأحاول بكل جهدي الحيلولة دون وقوع الكارثة.. ولابأس أن استفيد من التناقضات القائمة لخدمة الناس ومن أجل مستقبل أفضل.
أكثر اصدقائي المقربين يا صديقي أختلف معهم وأحب أن يحيطني التنوع لأنه يساعدني على اتخاذ القرار الصحيح أو المقارب، دون أن أهمل الرأي المختلف أو أهجره، بل أظل أعيد النظر بين فترة وأخرى بقراري وأحاكي الواقع لأتحقق إن كنت على صواب أو خطأ، وفي حياتي كثير من الصواب وكثير من الخطأ وصواب الخطأ المعدّل.
أما المغريات يا صديقي فلم تخطفني يوما وقد اختبرني الزمن مرتين وثلاث وعشر.. وإن ركبت يوما ظهر مغامرة فليس لمغرية ولكن لما أرى فيها من صواب وحق، فإذا اكتشفت الخطأ أرجع وأعتذر، وإن خُدعت أنقلب على من خدعني وأثور عليه.
أما الابتزاز فأقاومه حد الانتحار.. ولا أكترث بالعواقب وأنا أقاومه وأستطيع أن أفهمه من لمح البصر..
أنا صاحب رأي وأحب أن أكون دوما كذلك ولا أميل للايدلوجيا والمسلمات.. وأشعر براحة ضمير وأنا أمارس حقي في الحرية والرأي والتعبير والوجود
(7)
لست مثالا
لست مثالا، ولكنني أحاول أن أكون مثالا، أو أتوق لأن أكون كذلك..
وأعتقد أنني لست سيئا، بل أحاول أن أدفع عن نفسي كل سيئ، وأنجح في أغلب الأحيان، وأتوق أن أكون أفضل..
أقاوم أنانيتي وأجالدها، وأعيش صراعات جمه معها، حتى ينتصر ضميري، أو أشعر بالرضى وراحة الضمير.
عندما أعي أنني على حق أمسك به دون فكاك، وتشتد عزيمتي وتقوى إرادتي، وعندما يكون اليأس مطبقا كالسماء أو قابضا على الحق كالقدر، آخذ استراحة محارب حتى أعود، وأحاول من جديد نصرته أو الانتصار به.
أعي أهمية المال في النجاح عندما أتعاطي السياسة، وأعي أهميته في صنع بعض المستحيلات الغير ممكنه بدونه، وأعي أنه أحد مقومات الوصول لأشياء كثيرة، أو تسهيل الوصول إليها، ولكنني بنفس القدر بل أكثر، أعي أنه يمكن أن يكون المال دافعا أو سببا للسقوط الساحق، والمدوي، والكبير..
عندما أجد ما يغريني من المال، وأنا في أشد حاجته، أقاوم حاجتي وأضع لها من الحديد لجام، وإن استدنت أكون شديد الحرص وأبذل ما في الوسع حتى أعيد ما استدنت.. وإجمالا اتعاطى مع المال بحذر بالغ وحساسية عالية..
وإن كان المال هبة على حساب كرامتي، أضع المال تحت حذائي وأمضي في الانتصار لها دون ندم أو شعور بخسارة.. وغالبا أحب أن أتصرف في مواضيع المال على نحو يختلف عما يألفه الناس، ويعتادون عليه، وربما على نحو استثنائي في بعض الأحيان، وبذلك أصنع ما أعتز به..
وإن أخذت مالا ذات يوم، يكون لدي فيه ما أقوله، وربما دفعت فيه أكثر مما أخذت، غير أن الأهم أن لا يكون ما أخذته على حساب الوطن أو الضمير أو ما أعتقد من مبادئ..
(8)
أنا إنسان
أنا لست ابن السماء .. أنا ابن الدباغ الذي يثور على واقعه كل يوم دون أن يكل أو يمل أو يستسلم لغلبة..
أنا ابن الدباغ الذي لا يستسلم لأقداره، ولا ينوخ، وإن كانت البلايا بثقل الجبال الثقال .. ابن الدباغ المجالد الذي يعترك مع ما يبتليه، ويقاوم حتى النزع الأخير..
ابن الدباغ الذي يتمرد على مجتمع لازال يقدس مستبديه .. ابن الدباغ الذي يقاوم نظام لا يستحي عندما يدّعي .. نظام يدعي العدل، وهو يتعالى على الوطن الكبير .. يخصخص المواطنة، ويغيب المساواة، وينشر الفقر كالظلام الكثيف، ويحبس الحرية في محبس من حديد..
أنا الحر الذي يجرّم القتل ولا يستسهله، ولا يشرب الدم ولا يسفكه، ولكنه متهما بشرب الكحول..
***
أنا ابن لأب لا يبيع الموت ولا يهديه ولا يجعله مقاسا للرجولة أو معبرا للبطولة..
أنا ابن صانع الحلوى والبائع لها، يأكل من كده وعرق الجبين .. أنا ابن أب يصنع الحلوى ويهديها للأصدقاء والفقراء المعدمين..
أنا ابن صانع الحلوى .. ابن الحياة .. أرفض الحرب والمآسي العراض، ولن أكون يوما من صّناعها أو تجّارها، ولم أعش يوما عليها، ولم ابنِ مجدا على جماجمها الكثيرة، ولم أحتفِ يوما باتساع المقابر أو بطوابير النعوش الطويلة، ولم أطرب لركام الضحايا الكبير، ولم أضخ الكراهية وغلائل الحقد التي لا تنتهي.
***
أنا الحالم ابن كل هؤلاء الأحبة .. أنتمي للحلم الكبير كبر المجرة، بل كبر هذا الكون الفسيح الذي يكسر محبسه ويسافر للبعيد دون حدود أو منتهى.
أنا ذلك الجندي النشط، الذي يحلم أن يكون جنرالا يعشق المستقبل ويغير وجه الحياة .. لا ذلك الجندي المملوء خمولا وسكينه .. يرتضي البؤس والعيش الرديء، ويعتاد تنفيذ الأوامر، ويعيش بيدقا في رقعة الشطرنج، أو كائنا مثقل بالسكينة والرتابة المكينة..
***
أنا من تسكنه روح قائد ثورة العبيد "سبارتاكوس" الذي ثار ضد الاسترقاق في عهد العبودية الثقيل، له المجد والخلود ولمن قتلوا وصلبوا وأعدموا معه..
أنا من تسكنه تحدي ذلك الإسكافي العظيم (ماسح الأحذية) الذي صار رئيسا لأكثر من مائتين مليون نسمة في البرازيل خامس أكبر دولة في العالم، سواء من حيث المساحة الجغرافية أو عدد السكان.
***
أنا من يجد إلهامه في غاندي ذلك العظيم الذي أسس مدرسة عظيمة في النضال السلمي، وجعل من الهند متعددة الأعراق والقوميات والأديان والطوائف والثقافات بلاد متعايشة ومتنوعة .. الهند أمة المليار نسمة الثانية في العالم من حيث عدد السكان والسابعة من حيث المساحة والاقتصاد.
***
أنا من جبلت على التسامح، ووجدت في ذلك العظيم نلسون منديلا المناضل الأفريقي الأسود قدوة ومثالا وملهما .. مانديلا الذي ناهض سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ومكث في سجون نظامه أكثر من 27 عاما وخرج منها غير حاقد أو منتقم..
منديلا الذي منح عفوا فرديا لكل من يدلي بشهادته حول الجرائم التي ارتكبت وبجلسات سماع استمرت عامين حول عمليات الاغتصاب والتعذيب والتفجيرات والاغتيالات، وهو ما ساعد خروج جنوب أفريقيا من ماضيها الثقيل، والابتعاد عنه والتركيز على الحاضر والمستقبل.
أنا من أجد نفسي في كل إنسان..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.