عبدالوهاب قطران خرجتُ اليوم الى البلاد همدان لتعزية أنسابنا الأعزاء، آل عبية، في رحيل الفذ المنسي، والعبقري الصامت، حمود علي محمد عبية، تغمّده الله بواسع رحمته ومغفرته. رحل حمود، وترك خلفه فراغًا يئن من صمته، وألمًا لا يبوح به إلا من عرفوه على حقيقته؛ على ذلك النور الذي خَبَا في زوايا حياته المظلمة. لقد كان، رحمه الله، شخصية فريدة تمشي على الأرض. عبقرية مدهشة تؤكّد لك أن بين الجنون والعبقرية خيطًا رفيعًا لا يرى، لكنه كان يعيشه، يتأرجح عليه كبهلوانٍ يرفض أن يسقط، رغم تعرجات الجراح. كان يرسم بيدٍ عارية، وبأدواتٍ بدائية بسيطة، لوحاتٍ تخطف الأبصار وتُدهش الأرواح، فتؤمن أن الفن لا يحتاج إلى مرسمٍ فاخر، بل إلى روحٍ متقدة، متوهّجة، متمرّدة على القبح. ينتمي حمود إلى جيلٍ سبقنا بعقد، جيل منتصف الستينيات. كان الأوّل على دفعته في مدرستنا، لكنْ لأنّ مدرستنا لم تكن تدرّس القسم العلمي، ارتحل إلى بني الحارث، كلّ يوم على دراجته النارية، ليكمل تعليمه. اشتراها من راتب الجندية التي انخرط فيها باكرًا، أظنه كان حينها يتعسكر في "النادرة" بالمناطق الوسطى. وتحكي ذاكرة الطفولة أنه، وهو لا يزال في الابتدائية، كان يرسم عملة الريال والخمسة ريالات الحمراء، فياخذ دفاتره زملائه بالمدرسة فيقتلعوا الرسمة من وسط الدفتر ويذهبون بها إلى دكان "أم ناجي" في قريتنا، ويشترون بها البسكويت والعصائر، فلا تشكّ المرأة الطيبة لحظة أنها ليست أوراقًا نقدية حقيقية! لم أعرف حمود إلا وقد اختار الانزواء والعزلة، كما لو أنه نذر روحه لصمتٍ كصمت "كافكا"، أو جرحٍ يشبه جرح "فان غوخ". كانت عزلته احتجاجًا صامتًا على قبح هذا العالم، وبحثًا أبديًا عن نور لم يجده في عيون الناس. قبل أكثر من عشرين عاما، بنى دُشمة من اللبن والطين على مرتفعٍ مُلهمٍ بجوار منزلهم، تُطل على الجهات الأربع. من نوافذها، كان يرى غروب الشمس صافياً، ومطار صنعاء متلألئًا، والعاصمة تتوهج كعقد لؤلؤ، وجبل نقم شامخًا كأنه تحته لا أمامه. وكانت تلك الدشمة قريبة من جرب قاتنا. وكنت، يومها، فتىً يافعًا أقطف أغصان القات لأبيعه له كل يوم بعشرين ريالًا علاقية قطل. كان يمضغه وحيدًا بعد الظهر، ثم يغرق في التأمّل، والرسم، والكتابة. أتذكر، منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، تسلّلت إلى دُشمته ذات صباح بدافع فضولٍ لا يُقاوم، قلّبت دفاتره الملقاة جوار المدكَى، فوجدت فيها أشعارًا ملغزة، ورسوماتٍ مذهلة لحيوانات وكواكب ومجرات، وقصور وحدائق، ووجوه رجال ونساء، بريشةٍ أنيقةٍ لا تشبه سوى روح صاحبها. عزف عن الزواج، واعتزل ضجيج الحياة، وكان إذا تكلّم نطق بحكمٍ تدهشك أكثر مما تفهمك. شاحب الوجه، نحيل الجسد، أنيق الهيئة، يزيّن دراجته النارية بالمرايا من كل الاتجاهات، فإذا غضب حطّمها كما لو كان يحطم هذا العالم الظالم الذي لم ينصفه. كتب، ورسم، ودوّن على درزينة دفاتر، ثم في لحظة احتراق داخلي قبل عشرين عامًا، ثار على كل شيء، أضرم النار في دفاتره، هدم دُشمته بيديه، كمن يدفن ذاكرته وروحه تحت الركام. لو وُلد حمود في غير هذا البلد المنسي، لكان فنانًا عالميًا، يُشار إليه بالبنان، وتُزيّن لوحاته المتاحف، وتُترجم قصائده إلى لغات الأرض. لكنّ القدر رماه في جاهلية همدان، فدُفنت معه كل مواهبه، واغتيلت عبقريته بصمتٍ رهيب. تذكّرت، وأنا أكتب هذه الشذرات، مقولة دوستويفسكي في إحدى رواياته – ربما كانت "الإخوة كارامازوف" – عندما لمح ملامح العبقرية على وجه نادلٍ في مطعم، وقال: "لو لم تسحقه الحياة، لكان فيلسوفًا كأفلاطون، أو شاعرًا لا يقل عن دانتي…" لكن المصادفة شاءت أن يُطمر في هامش الحياة، لا يذكره أحد. قبل أيام، داهمته جلطة أقعدته، أثّرت على قدمه، فنُقل إلى صنعاء. قرر الأطباء بترها، فارتجل أبياتًا شعرية، كأنما يكتب وصيته الأخيرة أو يتنبأ برحيله. دهش الطبيب من بلاغته، وتراجع عن قراره. عاد إلى البيت يتوجّع في صمت، ويموت ببطء، حتى صعدت روحه المعذبة مساء الأمس إلى بارئها، بعد حياةٍ قاسيةٍ أوجعته، ولم تنصفه. لروحه السكينة والسلام، والمغفرة والرضوان. وخالص العزاء لنسبي العزيز علي بن علي عبية، ولأخيه منصور، ولكل آل عبية الكرام. الخلود للمبدعين المنسيين… والبقاء لله.