موقف السلطة المحلية "غائب" وانتقالي شبوة يرفض لجان البرلمان!    ممرات السلاح والتهريب.. من يحكم مضيق باب المندب؟    - لماذا تدعو الغرفة التجارية بصنعا المصانع المحلية لرفع تقرير لها ؟    حكومة التغيير والبناء .. توطيد الاستقرار الخدمي وترسيخ الأمن الداخلي    مصر تكثف اتصالاتها للتوصل الى هدنة في غزة    ضابط صهيوني كبير ..المقاومة بغزة تزداد احترافية ومفاجآتها الميدانية مستمرة    السقاف يزور الدكتور عبدالرحيم اليافعي ويشيد بتفوقه العلمي    - رصيف الهموم يُشعل مواقع التواصل: فواز التعكري يجسد معاناة اليمنيين برؤية فنية موجعة    "العدوان والإخوان" ينفذون عقاب جماعي بحرمان أبناء تعز من المياه    في مشهد منافي للقيم.. مليشيا الحوثي تعتدي على مواطن وزوجته في إب    ساحات للفعاليات النسائية بالمحافظات لإحياء عاشوراء    المركز الأمريكي: الاختطافات الحوثية في إب تصعيد خطير يرقى لجرائم ضد الإنسانية    المنازل في عدن تتحول الى افران نتيجة انعدام الكهرباء    من المنتصر؟ تحليل متعمق للحرب الأمريكية الإسرائيلية على إيران    في ظل انسداد الأفق: هل آن الأوان لحكومتين مؤقتتين في الجنوب واليمن؟    مصر تمتلك واحدة من أقوى الدفاعات الجوية في الشرق الأوسط (صور)    الجبالية يشبهون الملاريا في تخفيهم من عدسات المجهر    تصدير النفط مقابل تشغيل مطار صنعاء    عدن تستحق أن تُعرف... وأن يُعرّف بها!    فوز برازيلي ثامن يوقف قطار الهلال السعودي    النيران الصديقة تمنح تشيلسي بطاقة نصف النهائي    كيز الخامسة.. المصنفات الأوليات يتساقطن في    حين يتحوّل السكن إلى أزمة .. مغالاة الإيجارات في إب وغياب آليات الضبط الرسمية    ساير الوضع    ساير الوضع    صحيفة تتحدث عن وساطة أممية لابرام صفقة تتضمن اعادة تصدير النفط وتشغيل مطار صنعاء    مراسلون بلا حدود: تراجع اليمن في مؤشر حرية الصحافة وسط حملة اعتقالات وخطف للصحفيين    فان غوخ همدان: حين تخذل البلاد عبقريًا    الكشف عن مسودة اتفاق لوقف اطلاق النار في غزة    وكالة الطاقة الذرية تسحب مفتشيها من إيران مع احتدام الأزمة    لمواهب اندية تعز. تواصل الإعداد لبطولة الفقيد محمد علي سنان    انهيار شبه كلي لخدمة الكهرباء في عدن وسط موجة حر غير مسبوقة    الوكالة البريطانية للأمن الصحي: انتشار متحور كوفيد الجديد "ستراتوس"    تنفيذي الشعيب بالضالع يقف أمام التحديات التي تواجه العمل الإداري والخدمي    ترتيبات لإنشاء مكتبة رقمية للبردوني بذمار    الجنوب العربي أصل البشرية    اختيار ذمار ضمن 5عواصم محافظات فيها معاهد مهنية تخصصية    اختتام فعاليات 4 مخيمات طبية بذمار    انتقالي زنجبار ينفذ نزولًا ميدانيًا إلى مستشفى المديرية للاطلاع على الخدمات الطبية    أسطورة وقائد الزمالك يعلن اعتزاله كرة القدم ويحدد وجهته القادمة    استقرار أسعار الذهب مستفيدة من قرار خفض الضرائب في الكونغرس    ريال مدريد يتفق على ضم مهاجم مغربي    الخليفة الأموي سليمان بن عبدالملك "أحيا الصلاة" بعد إماتتها وقمع الطاغية الحجاج بن يوسف    لوجه الله.. استشعروا المسؤولية ودعوا الأنانية والحساسيات جانبا    وفاة اللاعب الفلسطيني مهند الليلي في قصف إسرائيلي    اكتشاف مذهل في الأهرامات.. نقوش هيروغليفية تُغيّر تاريخ مصر القديمة    وفاة أسترالي نتيجة الإصابة بفيروس خفافيش نادر وغير قابل للعلاج    تغاريد حرة .. حقبة ملعونة بالغباء والجهل    صرخة في الفضاء الفارغ    الأمم المتحدة تعلن عن اتفاق طرفي الصراع في تعز لإدارة منظومات إمدادات المياه    مصافي عدن تكشف عن اعمال صيانة واعادة تشغيل وحدات حيوية ورفع القدرة التخزينية    الضالع: وفد من منظمة "سيفيك" الدوليةيزور النقاط الأمنية المؤمّنة لطريق الضالع–صنعاء في منطقة مريس    حكيم العرب "أكثم بن صيفي" يصف رسول الله وهو الرابعة عشر من عمره الشريف    إن لم يُنصَف الأكاديمي والمعلم اليوم، فأي جنوب سنبنيه غداً؟    "النمر" يكشف خطأ شائعًا: خفض الكوليسترول لا يقي من الجلطات والوفيات إلا باتباع طرق مثبتة طبيًا    الجوبة وماهلية ورحبة في مأرب تحيي ذكرى الهجرة النبوية    الكثيري يشيد بجهود وزارة الاوقاف والإرشاد في تنظيم موسم الحج ويؤكد أهمية ترشيد الخطاب الدعوي الديني    شركة النفط والغاز تنظم فالية بذكرى الهجرة النبوية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فان غوخ همدان: حين تخذل البلاد عبقريًا
نشر في يمنات يوم 05 - 07 - 2025


عبدالوهاب قطران
خرجتُ اليوم الى البلاد همدان لتعزية أنسابنا الأعزاء، آل عبية، في رحيل الفذ المنسي، والعبقري الصامت، حمود علي محمد عبية، تغمّده الله بواسع رحمته ومغفرته.
رحل حمود، وترك خلفه فراغًا يئن من صمته، وألمًا لا يبوح به إلا من عرفوه على حقيقته؛ على ذلك النور الذي خَبَا في زوايا حياته المظلمة.
لقد كان، رحمه الله، شخصية فريدة تمشي على الأرض.
عبقرية مدهشة تؤكّد لك أن بين الجنون والعبقرية خيطًا رفيعًا لا يرى، لكنه كان يعيشه، يتأرجح عليه كبهلوانٍ يرفض أن يسقط، رغم تعرجات الجراح.
كان يرسم بيدٍ عارية، وبأدواتٍ بدائية بسيطة، لوحاتٍ تخطف الأبصار وتُدهش الأرواح، فتؤمن أن الفن لا يحتاج إلى مرسمٍ فاخر، بل إلى روحٍ متقدة، متوهّجة، متمرّدة على القبح.
ينتمي حمود إلى جيلٍ سبقنا بعقد، جيل منتصف الستينيات. كان الأوّل على دفعته في مدرستنا، لكنْ لأنّ مدرستنا لم تكن تدرّس القسم العلمي، ارتحل إلى بني الحارث، كلّ يوم على دراجته النارية، ليكمل تعليمه. اشتراها من راتب الجندية التي انخرط فيها باكرًا، أظنه كان حينها يتعسكر في "النادرة" بالمناطق الوسطى.
وتحكي ذاكرة الطفولة أنه، وهو لا يزال في الابتدائية، كان يرسم عملة الريال والخمسة ريالات الحمراء، فياخذ دفاتره زملائه بالمدرسة فيقتلعوا الرسمة من وسط الدفتر ويذهبون بها إلى دكان "أم ناجي" في قريتنا، ويشترون بها البسكويت والعصائر، فلا تشكّ المرأة الطيبة لحظة أنها ليست أوراقًا نقدية حقيقية!
لم أعرف حمود إلا وقد اختار الانزواء والعزلة، كما لو أنه نذر روحه لصمتٍ كصمت "كافكا"، أو جرحٍ يشبه جرح "فان غوخ". كانت عزلته احتجاجًا صامتًا على قبح هذا العالم، وبحثًا أبديًا عن نور لم يجده في عيون الناس.
قبل أكثر من عشرين عاما، بنى دُشمة من اللبن والطين على مرتفعٍ مُلهمٍ بجوار منزلهم، تُطل على الجهات الأربع. من نوافذها، كان يرى غروب الشمس صافياً، ومطار صنعاء متلألئًا، والعاصمة تتوهج كعقد لؤلؤ، وجبل نقم شامخًا كأنه تحته لا أمامه.
وكانت تلك الدشمة قريبة من جرب قاتنا. وكنت، يومها، فتىً يافعًا أقطف أغصان القات لأبيعه له كل يوم بعشرين ريالًا علاقية قطل. كان يمضغه وحيدًا بعد الظهر، ثم يغرق في التأمّل، والرسم، والكتابة.
أتذكر، منذ خمسةٍ وعشرين عامًا، تسلّلت إلى دُشمته ذات صباح بدافع فضولٍ لا يُقاوم، قلّبت دفاتره الملقاة جوار المدكَى، فوجدت فيها أشعارًا ملغزة، ورسوماتٍ مذهلة لحيوانات وكواكب ومجرات، وقصور وحدائق، ووجوه رجال ونساء، بريشةٍ أنيقةٍ لا تشبه سوى روح صاحبها.
عزف عن الزواج، واعتزل ضجيج الحياة، وكان إذا تكلّم نطق بحكمٍ تدهشك أكثر مما تفهمك.
شاحب الوجه، نحيل الجسد، أنيق الهيئة، يزيّن دراجته النارية بالمرايا من كل الاتجاهات، فإذا غضب حطّمها كما لو كان يحطم هذا العالم الظالم الذي لم ينصفه.
كتب، ورسم، ودوّن على درزينة دفاتر، ثم في لحظة احتراق داخلي قبل عشرين عامًا، ثار على كل شيء، أضرم النار في دفاتره، هدم دُشمته بيديه، كمن يدفن ذاكرته وروحه تحت الركام.
لو وُلد حمود في غير هذا البلد المنسي، لكان فنانًا عالميًا، يُشار إليه بالبنان، وتُزيّن لوحاته المتاحف، وتُترجم قصائده إلى لغات الأرض.
لكنّ القدر رماه في جاهلية همدان، فدُفنت معه كل مواهبه، واغتيلت عبقريته بصمتٍ رهيب.
تذكّرت، وأنا أكتب هذه الشذرات، مقولة دوستويفسكي في إحدى رواياته – ربما كانت "الإخوة كارامازوف" – عندما لمح ملامح العبقرية على وجه نادلٍ في مطعم، وقال:
"لو لم تسحقه الحياة، لكان فيلسوفًا كأفلاطون، أو شاعرًا لا يقل عن دانتي…"
لكن المصادفة شاءت أن يُطمر في هامش الحياة، لا يذكره أحد.
قبل أيام، داهمته جلطة أقعدته، أثّرت على قدمه، فنُقل إلى صنعاء. قرر الأطباء بترها، فارتجل أبياتًا شعرية، كأنما يكتب وصيته الأخيرة أو يتنبأ برحيله. دهش الطبيب من بلاغته، وتراجع عن قراره.
عاد إلى البيت يتوجّع في صمت، ويموت ببطء، حتى صعدت روحه المعذبة مساء الأمس إلى بارئها، بعد حياةٍ قاسيةٍ أوجعته، ولم تنصفه.
لروحه السكينة والسلام، والمغفرة والرضوان.
وخالص العزاء لنسبي العزيز علي بن علي عبية، ولأخيه منصور، ولكل آل عبية الكرام.
الخلود للمبدعين المنسيين… والبقاء لله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.