تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتابات على اجنحة النوارس بقلم سالم دمدوم
نشر في الجنوب ميديا يوم 18 - 12 - 2013


مجموعة كتابات على أجنحة النوارس
بقلم سالم دمدوم
النص عدد1
كتابات على أجنحة النوارس
... الآن وبعد كل هذه السنوات أكتشف أني لم أشف من حبك ، وإن كل الذي فعلت منذ أن افترقنا كان عبثا ومكابرة لا غير !
مازلت تعمرين كل فضاءات الذاكرة ، وكل زوايا الوجدان . تلتهب ذكراك كنيزك يولد وراء المجرات ، ثم ينفجر في كياني محدثا قدرا هائلا من الخراب والفوضى !
وهج الحنين إليك يلفحني دائما ،حتى بين كلمات الشعر وفقرات القصص وفصول الروايات ، في انسكاب المطر ، واعتكار الغيوم ، في سطوع البرق وهزيم الرعد ، دائما أراك وألقاك وأهفو إليك !
من خلال ألحان الغناء ، وشهقات الموسيقى ، في بوح الريشة والأصباغ في كل لوحة ناضجة ،أرى طيفك ، أسمع حفيف ثوبك ، وأشم رائحة عطرك ، وأحس حتى دفء أنفاسك ، قريبة بعيدة ، حاضرة غائبة ، متعددة ومتفردة ، لا فكاك لي منك ولا شفاء ...
تحضرني فكرة طريفة ، في إحدى مسرحيات شكسبير ، تقول البطلة لحبيبها :
إن عينيك قسمتاني إلى شطرين ك شطر لك ...والشطر الآخر ...لك !
فهل أنت كل النساء أم إن كل النساء أنت لدي ؟... ما أشقاني بك وما أسعدني حين تسع الدنيا كل هذا الزخم من الأشياء تحرضني على استحضارك ، وتنكأ جراحي وتزيدني بك تعلقا ووجعا ...
عاودني حبك حينئذ ،انتكست وعاد الجرح ينزف من جديد ، انكدرت المسرات وصار الفرح الوحيد طيفك ، صوتك ، موسيقى خطواتك تصدح على الرصيف وفي جنبات القلب ...فهل الحب لا مواسم له ؟ أيجيء في اللحظة التي لا نتوقعه فيها ؟ أيجيء ليختزل الأيام والسنين ، ويعيدن إلى الفرح الذي زال ، والحلم الذي اختفى ، وجها لوجه ، فإذا نحن مبللون بالحيرة والاكتئاب ؟ هل هو مرض يصرع النساء والرجال في كل الأعمار يأتي على حين غرة مستيقظا دون سابق إنذار ؟
ها قد أصبحت مستعدا لكل مغامرة حمقاء معك ، مهيأ تماما لأن ارتكب كل الطيش الذي يتسع له خيال مراهق ، يشعل حرا يقه حب شابة ما زال على شفتها العليا زغب الطفولة وبين أسنانها يركض صفاء الحليب ، ذكية وحارة ، لم تنضج بعد ، كذلك الخبز الذي نختطفه من أيدي أمهاتنا قبل النضج بقليل ، فج ولكنه لذيذ ومغر إغراء لا مثيل له .
هل قدري أن يعاودني المرض بك ، فتطلين من الذاكرة ، وليس لك من العمر غير حرائق المراهقة وبراعم الأنوثة بدء الشباب ؟
هل حبك وجع يلازمني دون الآخرين ، أم الحب يطال الجميع ، والكل يحمله صامتا يلملم شظايا انكساراته في اكتناف للذات أليم ،
هل يختبئ بين مخدات كل امرأة وأشيائها الحميمة ،طيف رجل آخر أحبته يوما ، وهل تندس بين دفاتر كل رجل ، رسائل حب قديم ، عشش في جنبات فؤاده ، وغفا ليضرم في لياليه لهيب الحيرة والحنين ،!
لست متأكدا ولا املك الرغبة في المناقشة والمقارنة ، بين ما اعتراني ، وبين ما يمكن أن يكون الآخرون قد شفوا منه أو مازالوا منه يتألمون ، لأني على قناعة تامة بأن كل إنسان ، كل رجل ، كل امرأة ، هو عالم فريد . ليس ثمة قوانين مشتركة تحكم سلوك الجميع . ميل رجل إلى امرأة حد الانجذاب ، أو عشق امرأة لرجل حد الاشتعال ، يبقى دائما حالة خاصة ، شطحة عشقية غير مفهومة !
فهل ما أعانيه من حب فيه عنفوان المراهقة وحماقة الجنون الأول بالمرأة ، لا يشرح كل ذلك ولا يقوم عليه دليلا ،
قد يكون حبنا الأول مجرد وهم أو من طرف واحد أو صدفة عمياء ، أو عبثا طفو ليا لا مقصد له ، ولكنه يغفو فننساه ، حتى إذا كنت يوما سائرا في دروب الحياة بصورة عادية مقبلا على واقعك ، قابلا له كمعظم الناس ، وفجأة في مساء خريف ، أو ذات غروب على ساحل بحر ، يستيقظ العفريت الكامن في أعماقك ، فإذا أنت النشاز في سانفونية الواقع من حولك ، تفتقر إل الانسجام والتوافق مع الآخرين ومع الذات ن تقف موقف الرفض والمجابهة حيال كثير من الأشياء والناس !الناس تلك الأغلبية التي تفكر بلا عقل وباندفاع القطيع الغريزي نحو هدف ما ، ولا تقف يوما لتسأل : لماذا ؟ وكيف ؟ وحتام ؟ فتنعت بالهوس والخبال والمرض النفسي وينصحك الأصدقاء بزيارة المصحات ، وجلسات التنويم ، وزيارة العرافات والدجالين . هكذا وعلى حين غفلة وعلى غير انتظار نسقط مرضى بالحب القديم !
فكيف إذا كان حبك الأول واقعا حيا ، تجربة حقيقية حافلة بكثير من الفرح والخيبة والعذاب ، يمسح من العمر أخصب فضاءاته ؟
- " ستشفى مني . "
هكذا قلت لي بطريقة مهذبة وأليفة وغامضة المقاصد . ثم أضفت بسمة صغيرة زلزلت كياني , وزرعتني على أطلال زمن غابر , مضمخا بالفرح والأحزان معا يجللني التذكار حتى الذهول .
فاجأني خرس فضيع ، وعجز شامل عن الكلام ، لم أستطع معه أن أقول أو أفعل شيئا . مشاعر كثيرة ، وأفكار بقيت بيننا مكتوبة بلغة الصمت . ماتت على الشفاه ، وبقيت تعتمل كبركان مكبوت .
أنا من ناحيتي كنت أتمزق ، أتعذب ، أتساءل :
هل تذكرت ؟ هل كانت كلماتها المختصرة تضغطها المشاعر والأحاسيس التي تمزقني ؟ هل تعاني وجعا ما ؟ هل توهج الجمر الغافي تحت الرماد ؟ هل استيقظ الحب القديم فيها أيضا ؟ أم فهمت خطأ أنني مريض حقا ، وإنها تحاول أن تشعل بعض شموع صغيرة ، بدافع إنساني ومهني ، حتى لا أسقط بين يديها في ظلام اليأس ؟
لا. بالتأكيد . هي أذكى من دلك ،أنا اعرفها . إن في عينيها استجابة من نوع أعرفه أنا وحدي وأقرأ فيه أروع القصائد .
عندما جاءت نحوي بثوبها الأبيض الأنيق ، وقوامها الناهض كسنديانة جبلية ، وذاك الشعر ، ذاك اللهيب المصفر المتمرد ، ها هو يشعل الحرائق في دمي ، مخيفا محرضا كليل الغابات الجبلية . أعادتني طلعتها ، إلى مباهج الزمن الذي راح ، موسم الحب والجراحات ، زمن الفرح الهارب الذي أطمح إلى أن يعود .
لا لم تتصورني مريضا لا علاقة لها به . شيء ما في قسماتها يؤكد لي ذلك . لمحت في نظراتها بقايا لوم عميق ، جعلته الأيام والسنين يبرد ويتحول لهيبه المحرق إلى نوع من العتاب الخجول ...
صافحتني بحرارة أول الأمر . خلت أنها ستحتضنني ، لكنها تماسكت في آخر لحظة ضاغطة على يدي بشدة وكأنها تدفعني إلى الخلف ، لأتوقف بعيدا عنها . عندما أجلستني في مكتبها ، فعلت ذلك بإشارة خفيفة ، استجبت لها سريعا . وبعد أن أسدلت ستارا على نافذة كانت تضخ ضوءا من شمس دافئة تتهيأ للرحيل ، طلبت مني أن أقترب منها ، وأشارت إلى المقعد الموالي للمكتب مباشرة ، ولكن يبدو أني لم أسمعها... فقط شممت عطرها ورحلت بعيدا :
هذه الطفلة بنت السابعة عشر ربيعا ، الراكضة نحوي اختلفت معها يوما ، ووقفت تتحداني دون الأخريات . كانت وقفتها المتصدية لي بشراسة ، وقفة يندر مثلها بين الفتيات كنمرة غاضبة ، مصدر إغراء لي من نوع جديد . تلك الوقفة المتحدية في تهور ، ذلك الاندفاع الطفو لي الحر في طبعها ، هو الذي زاد إعجابي بها وانجذابي إليها . أذكر أني كدت أهجم عليها ، لا لأضربها ، ولكن لأضمها إلي بعنف وأعصر نارا في شفتيها المشاكستين الملتهبتين ...هاهي اليوم تجلس قبالتي ، قريبة مني ساطعة الحضور ، طبيبة !
إنها هي بالتأكيد ، وكيف يمكن أن تكون امرأة مثلها ، وذلك الحول الخفيف في عينها اليسرى ، الحول الجذاب خفي إلى درجة لا يلمحه غير من أدمنه ... غير من اكتوى به حد الاشتعال ...يجعلها نسخة فريدة بين النساء ، لا يمكن أن تتكرر أبدا .
سنوات بعد تصديها لي ، ومشاكستي عندما ذكرت لها ما فكرت فيه يومها قالت :
لو ارتميت علي ، وشرعت في تعنيفي ، لأخذت شفتيك بعنف واعتصرتهما حتى الإغماء ، ولنازلتك بشكل آخر . أجعل يدي تتسلل إلى صدرك ، تمسح أبعاده وتحتله جزءا جزءا ، ثم أختار أين أضع رأسي وأغرسه هناك كراية نصر ، وعندها ستهزم ، وتهدأ وتلقي جميع أسلحتك ، وتستسلم كل قلاعك ،ويصبح فؤادك نفسه أروع غنائم الحرب .
" ستشفى مني ... "
الآن تقولين ...ستشفى مني ! هذه الكلمة التي قالتها لي وأضافت إليها بسمتها المحببة ، هي أعز ما سمعته منها ، وأقسى ما قالت في نفس الوقت هذا اليوم ! كم هي الكلمات مجرمة ومتواطئة ! هل صحيح قلت ذلك ؟ أعيديها مرة أخرى ودعيني أجن أكثر ...
ستشفى مني ... كم هي رائعة هذه العبارة ، وكم هي مؤلمة وحادة كالنصل . ومع ذلك فأنا مفتون بها ! غنها عنوان العلاقة الحميمة التي كانت بيننا ...
مني ... أنت يا سيدتي مني وإلي في وفوقي ، وتحتي ، وورائي، وأمامي ! تحتويني تماما كما يحتوي البحر أمواجه ، وزبده ، وحيتانه ، ورخوياته ، وأقرا شه ز لا تطلبي مني شفاء منك أريد أن تصبي زيوتا لتزيد نيران عشقي تأججا واضطراما . شفائي منك هو ما أخافه حد الهوس .!
تسألني ضمن حديثها : ماذا أكره وماذا أحب ؟
اكره الأدوية والحقن ، ومجسات النبض ، وآلات التصوير . أكره القطن واللون الأبيض ، ورائحة المصحات ، والأسرة البيضاء . ثوبك الأبيض هذا أكرهه ، فقط أحتمله ما دمت أنت فيه ، لأنه مطرز بألوانك ، معطر بأنفاسك .
وماذا تحب ؟
أصمت .
قلت لك ماذا تحب . لقد أجبت عن نصف السؤال فقط ، نصفه الثاني : ماذا تحب . أجبني ..
أصمت ...
أرجوك أجبني ... تحدث معي ... لا تتحرج من شيء .تصرف بعفوية .
" لا تتحرج من شيء ، تصرف بعفوية ! " هل صحيح أنها قالت ذلك ؟
ماذا أقول لها وكيف أتصرف ؟ هل أقول لها من جديد إني مازلت أحبك ؟ مفتون بك وأنك أنت هوسي وحيرتي؟ هل آخذ رأسها الصغير الجميل وأقبلها بعفوية ؟ هاهي قريبة مني يستثيرني عطرها ، ويحتويني حضورها ، لكن كيف ؟ ألا يكون ذلك ضربا من الحماقة ؟
صرفت الممرض ، وكلفت الممرضة بالهاتف ، ثم قالت بعد أن أصبحنا وحدنا :
تكلم ، مالي أراك صامتا ؟ أقررت الإضراب عن الكلام ، كما كان تفعل تلميذاتك المشاغبات أحيانا ؟
" تلميذاتي ، صديقاتي ، أحبائي ، أنت من يختزلهن جميعا ! أنت الشغب والفوضى ، أنت الموجة التي ما زالت تدفع مركبي إلى بحار لا شواطئ لها ، الزوبعة التي نبتت في عمري كله ، وأبت أن تهدأ أو تلتزم بنظام ... جرح لا يندمل ، ووجع يسافر معي بإصرار ، يترصد ني في كل المحطات والموانئ والمطارات "
ما زلت أنتظرك ، ألا تريد أن تتكلم ؟ هل ترفض أن نبني بيننا جسورا للتواصل والثقة ؟ ألا ترتاح إلي ؟ ألا تثق بي ؟ ما ذا عسايا أن أفعل إذا كنت لا تثق بي ، وغير مستعد بمصارحتي بما تتحدث به صامتا ؟ أنا أعرف أنك تتعمد الصمت ، وأنك خلال صمتك تتحدث إلى نفسك وتثير مشاكل كثير شائكة ، ربما تخجل ، أو تستنكف من طرحها علي . قلت لك لا تتحرج من شيء ، فأنت رجل عادي جدا ، وأستاذ ناجح . وأناأشعر برغبة حقيقية في الحديث معك ، لا تستغرب إذا قلت لك ، إني أصبحت متعلقة بحوار معك ،ربما نستطيع به عن طريق ترميم بعض الخرائب ، توفير فضاء جديد نؤثثه بالمحبة . فقد ذكرتني أشياء بعيدة ، ذكريات منسية ، ملفات راقدة على رفوف الأيام ، بدأت نسمة خفيفة تنفض عنها غبار النسيان ... أرجوك أخرج عن صمتك , ودعنا نتحاور ، ما ذا يجدي حوار الصمت هذا ،غير أن يوقعنا - ربما – في سوء تفاهم أخشاه كثيرا ، لأني اكتويت بناره في ما مضى ؟ لا تتصور نفسك نشازا في هذا الكون ، عصرنا كثير المتاعب ، ولا بد لنا من الحلم أو الجنون ، وأحيانا تختلط الأمور ، وتنعدم الحدود بين الأشياء ، فلا تكن جبانا . شيء من الجرأة أرجوك .
" ليس مرضي ما تتصورين ، ولست جبانا . الجبناء لا تحصل لهم هذه الانكسارات الفظيعة في الغالب ، لا تحشريني بينهم أرجوك ... "
ثم قلت لها بعد أن تحدثنا مدة من الزمن :
لقد تغيرت ، كدت لا أعرفك .
أنا من الوهلة الأولى عرفتك ، ولكني وقعت في الخطأ ، كنت أحسبك مريضا حقا فعمدت الاحتياط . بحكم مهنتي استقبل أحيانا حالات غريبة ... ثمة حرفاء إذا أنت تواضعت معهم ، ومنحتهم فسحة حنان ، وفتحت لهم قلبك بصدق ، يرتكبون حماقات غريبة تنافي الحياء أحيانا وتتجاوز حدود المباح !
نظرت إلي باسمة ، ثم قالت :
تصور أحدهم ، هجم علي فجأة ، يريد أن يغتصب قبلة ...
تدخل الممرضة مستعجلة لتقول :
سيدتي ، يطلبونك في المصحة ، لحالة استثنائية عاجلة . ..
آسفة جدا .
قالت ذلك ، ثم تناولت ظرفا ، ووضعت فيه أشياء ، على عجل ثم مدته إلي قائلة :
إلى اللقاء الآن ...في هذا الظرف ، تجد موعدا وعنوانا لا بد أن تزورني .
في الشارع ن كان الصيف يعزف سانفونية الوداع . بدأ يتوارى ويستعد للرحيل بلهيبه وبذخه ، والخريف ينشر طلائعه على الأشجار والطرقات ، وفي الجو ، يذرذر كآبة خرساء غامضة على كل شيء ، تعبث رياحه بالأغصان الصغيرة ،والأوراق اليابسة وفساتين النساء ويتحرش أحيانا بالشعور الطويلة في نزق ورعونة .
ثمة أشياء غريبة تحدث لي في الخريف ! قابلية عجيبة للانزعاج والاكتئاب ... تصبح الذكريات والأحداث القديمة ، التي عفا عليها الزمان ، طرية كأنها انبعثت للتو ،من الأماكن والأشياء يخلع عليها صوت فيروز وشاحا من الألق والحنين
(... وقو الأصفر ... شهر أيلول تحت الشبابيك ...)
فهل الخريف موسم الحزن والجراحات ؟ تنتابني فيه أشياء غامضة تستيقظ في كياني ، فيها الفرح وفيها الكآبة ، فيها اللذة وفيها الألم ، فيها صهد الشوق ولهيب الحنين واشتهاء الرحيل ،إلى مدن بعيدة ، حيث نؤمل اللقاء بأحباب اتشحوا بالغياب ، ولم نعد نراهم من سنين ، لا ندري ، هل طالهم الموت ، أم الاغتراب أم ضاعوا منا وسط الضباب في معترك الحياة بما فيه من شراسة وعنف ؟
لا أعرف لحظتها كيف وجدتني أعيش مع طيف أمي ... يعصرني الحنين إليها حتى البكاء . أمي التي رحلت ذات خريف ، ومضى على رحيلها أكثر من عشرين عاما . ووجدتني أردد كلاما كالشعر لست أدري ما قصته :
" أحبابنا عما قريب نفترق ، عما قريب ننتزع من صدور الأمهات ، من دفئها المجدول من حنان ، وتشرق أفواهنا الصغيرة بآخر جرعة لبن ... بمر الدمع ممزوجة ... حفنة بر زادنا في جوعنا الطويل ... "
وصلت إلى سيارتي مأزوما مضطربا ، وعدت إلى التفكير فيك وفي الظرف الذي أحمله منك . فكرت في فتحه ، ثم تراجعت . أجلت ذلك حتى وصولي إلى البيت . لست أدري لماذا ؟
أخيرا قررت الذهاب إلى مطعم صغير ، في الضواحي الشمالية – واحة البحارة – هذا هو اسم المطعم . سنوات طويلة لم أزر هذا المطعم ، وأخذت أتذكر.
كانت آخر زيارة لي لهذا المكان في فصل الخريف . أذكر ذلك جيدا ، وكنت معي ... كنت يومها في غاية التجلي ، تذر ذرين فرحا يانعا ، يلمع المقاعد والأشياء بالبهجة . ثم هاجمك إحساس بالكآبة ، لا أعلم حتى هذه الساعة ، كيف داهمك بغتة فجعلنا نغادر المكان على عجل . وشاءت الصدف أن يكون ذلك آخر لقاء . حدث فراق ورحيل . لعل ذلك أحد أسباب عقدتي مع الخريف ، دائما يكون على يديه اغتيال فرحي ، يشعل الحريق في مزارعي ويختفي !
حين وصلت الضاحية لم أجد "واحة البحارة " وجدت مكانه بناية شاهقة ، تشغلها مجموعة شركات تجارية . فزادني ذلك اكتئابا وألما ، وقفلت راجعا ، لا ألوي ، كأنما فقدت جزءا آخر مني ...
في البيت فتحت الظرف ، فإذا فيه موعد وكتاب : رواية أنيقة الطباعة مضى على صدورها أقل من شهر . عنوانها: "كتابات على أجنحة النوارس " تهديها صاحبتها هكذا :
"إلى رجل اختطف مني براعم الحب ، وعلمني كيف أزرع الفرح على شفا الجرح ... ثم اختفى ... "
على قفا الكتاب كانت صورتها ، وكانت دهشتي لا حدود لها ، وكانت فرحتي أعظم من دهشتي ...
قرأت عنها أخيرا أنها تقيم معرضا ناجحا لرسوماتها ، ولم أكن أعرف أنها مبدعة تكتب الروايات أيضا . كم هي رائعة هذه المرأة و متعددة المواهب . وكم هي غادرة أحيانا هذه الحياة ، إذ تأخذ منا كنوزا ، لا نعرف قيمتها ، إلا حين يكون منغير الممكن التصرف في تلك الكنوز ، فلا يبقى لنا إلا رصيدا من الحسرة ! ووجدتني سعيدا إلى أبعد الحدود . زال تأزمي وحزني ، وذكرت قولة للكاتب الجزائر محمد ديب يقول فيها :
" لولا المرأة والبحر لاختنقنا من الجفاف "
هكذا وجدتني مبللا بالفرح ، وبعيدا عن الاكتئاب ، حين كنت معي .
وتناولت الرواية بين يدي . روايتها بين يدي ... ها هي أخيرا معي ، في بيتي . سأقرأ ها بكل جوارحي ، بكل العشق ، بكل الرغبة بكل الوهم والاشتهاء ، متسرعا ومتلهفا على قراءتها كنت ، وددت لو أتمها في لحظة . ثم تراجعت ، قلت يكون أجمل ، أن تعاشرني طويلا ، تقاسمني ليلي وفراشي أسابيع ... كلماتها دررها ، وهي تشع على الورق ، مشاعرها آهاتها ينزفها قلمها بين السطور ، تشعل بكارة الصفحات بوهج الاشتهاء والرغبة ، بسمتها ، فرحتها وآمالها ، أحلامها تخصب جدب الكلمات ، وتنشئ الاخضرار والسنابل في مزارعي . كم هو رائع بوح الأنثى للورق ، في عفوية وحرية ، بعيدا عن الناس والقيود . كم أهواه وأعشقه ، فما أكبر فرحتي ... إنها الآن معي ... هاهي تمنحني الأروع من عمرها ...
وبدأت القراءة :
مدخل أول :" كتابات على أجنحة النوارس "
" لكن هل أن النوارس قادرة أن تحمل هذه الرسائل مني إليك ؟ هل تستطيع ذلك دون أن يحترق ريشها وتلتهب ؟
لا أدري ، ولكني جازفت الآن ، وأخذت أكتب أولى كلماتي ، واعتبارا لما في كياني من صقيع يحدثه غيابك ، فضلت الكتابة على أجنحة النوارس ، قريبا من قلوبها الصغيرة ، طمعا في شيء من الدفء ، افتقدته بعيدا عنك ، ولها الله والبحر إذا شب في أجنحتها الحريق ، ليكن قدرها ذلك هي أيضا ."
بهذا المدخل الشعري الرائع تفتتح روايتها . بهذه الشاعرية المرهفة ، تصافح القراء ، ثم تقودهم إلى عالمها ، بتحريض أنثى تحترف الكتابة المشتعلة ...وها هي تنجح معي أنا على الأقل ...
" البرد شديد من حولي ، والعتمة تزحف ، مستبطنة كياني ، فما أحوج قلبي إلى نارك وشموعك ، لأنارة العتمة، وإشاعة الدفء ، وتوفير قدر ولو صغير من الطمأنينة والفرح . الفرح الذي نثرته على كل درب من دروبك ذات يوم ولكنك تجاهلته ، تركته واختفيت ، فكانت أفدح انكساراتي وتمزقي ، وخسرت الأجمل ، وكتبت بلغة الصمت الحزين أول فصل من رواية عمري ، الفصل الذي نذرته للفرح والبهجة .
آه كم حلمت به ، كم أحببته ، كم تغنيت به ، كم ناغيته كوليد ، كم صليت ليكبر ويكبر ...
كم تمنيت ... ثم ، كم بكيت ، كم تألمت ..."
بمنتهى الإعجاب ، والدهشة ، استجبت شخصيا لهذا المقطع من روايتها ، وقتا طويلا بقيت حياله صامتا ، حاضرا وغائبا وهذا الموج الهادر في روايتها يطويني وينشرني . هي فعلا تزرع الفرح على شفا الجرح ، وتحفر أبعادا شديدة العمق في كل وجدان . فهل كانت تحترف الانتقام بهذه المواجهة الحادة مع القارئ ؟!
بهذا الأسلوب المتبرج ، بهذا الصدق الحاد ، بهذا الخيال المشتعل ، بهذه الروعة المضمخة بكبرياء الأنثى ، بهذا العتاب المضمر بين الكلمات ، تعرض جراحها ، حسرتها ، خيبتها المرة في تجربتها العاطفية الأولى ... ووجدتني سريعا انحاز إليها ، ربحت معركتها معي من الجولة الأولى . رائع هو النص الذي يكسبك إلى جانبه من الفقرة الأولى وجدير بالتقدير .
صدقتها وأصبحت أتحامل بقسوة على هذا الذي لم يأت ، لم يقطف زهور الفرح المبثوثة له بسخاء ، لم يمشي على دروب الحب المفروشة بمشاعر أنثى وأحاسيسها ، أشعل الحرائق ومضى ... لا يدري أن حرائق الحب ، عندما نشعلها ونختفي ، يصعب إخمادها حتى بعد عشرات السنين .
وأواصل القراءة مسكونا بالفرح والرغبة :
" يستيقظ الماضي بشراشة البراكين هذه الليلة من شهر سبتمبر ويستحيل شلالات هادرة ، ترج فؤادي ، وتجرفني بعنف ، وتلقي بي إلى منحدرات عميقة ، غير مأمونة النتائج ، وأنا وحيدة حيال كل هذا الألم ، كل هذه الحمم ، تحاصرني من كل مكان ، ولا عزاء لي ، فهل أن الخريف لا يتحامل محتدا علي كما قال " شيساتو "
كم أنا محتاجة إليك ، حضورك الدائم في الذاكرة لا يكفيني ، لا يحل مشكلتي ! أنا محتاجة إليك أنت لحما ودما . بكل حماقاتك ، بكل رجولتك ، حتى يصير لأنوثتي معنى ، ويهدأ في قلبي عنفوان هذا اللهيب ...
من شرارة صغيرة تنشأ الحرائق التي تلتهم الغابات الشاسعة ن ومن انفجار صاعق صغير ينطلق صاروخا يمكن أن يدمر مدنا بكاملها ، وهذا ما يحدث لي هذه الليلة . من كلمات صغيرة ، كتبتها لي ذات يوم ، تنشأ كل هذه الحرائق وإلا نفجارات التي تهزني هذه اللحظة بلا رحمة ..."
وهكذا وجدتني أسهر إلى ساعة متأخرة من الليل مع روايتها ، كنت في الفصول الأولى مأخوذا بصدقها وعفويتها ، بأسلوبها الناصع الذي يمرح فيه ذكاء أنثوي جميل ، ذكاء امرأة تكتب وجعا وتشعل في كل حرف حريقا ، وتنشئ لغة أخرى للاشتباك جديدة . وكان ذلك مصدر متعة حقيقية لي . غير أني كلكما تقدمت في القراءة ، صرت ألمح طيفا شديد الشبه بي ، تعنيه بروايتها ، فهي مثلا في معرض الحديث عن لوحاتها ، تقول :
"...اكتشفت أخيرا ، إن أغلب اللوحات الناجحة ، والتي حازت إقبالا واهتماما من طرف الجمهور ، هي تلك اللوحات التي رسمتها بحميمية ووجد ، أثناء تلك اللحظات التي تكون ذكراك مشعلة في فؤادي ، تحتويني تماما حين يتوقف الزمن ، وتتكثف أحداثه في شريط صغير يتناول الفترة من أول اهتمامي بك وحتى حادثة المطعم الصغير ، ذات يوم ذات خريف ... وأن كل واحدة منها ، تحمل في جانب ما ، معنى الفجيعة والانكسار ويبدو غيابك فيها شديد الحضور ! ثمة خيط دقيق من الحسرة ينتظمها جميعا هي حسرتي بعدك بالتأكيد .
أحد هذه الأعمال ، يمثل امرأة شابة ، وحيدة واقفة خلال غسق خريفي ، بما فيه من وهج مصفر وكآبة شرسة ، على صخور متآكلة ، في شاطئ مقفر ، تتطلع إلى بقايا طيف ابيض بعيدا في البحر ، لعله نورس أوغل في اليم ، أو فلقة ضوء موهوم ، أو جزء من شراع ابيض لزورق يغرق ، أو هو آخر ما تبقى من مذنب توهج حينا ثم التهمته المجرة فانعكس خياله على الأمواج ... وفي قسمات الشابة الواقفة ، قدر غير قليل من الحسرة والاكتئاب .
قال أحدهم عنها يوما : هذه " كيلوباترا " تنتظر شراعا لاتينيا يحمل إليها حبيبا يزرعها عشقه موجة على كل بحر ، وقال آخرون : لعلها "عليسة " وقد عاودها الحنين إلى حبيب تركته على سفوح " صنين " في جبال لبنان ، في حين أشار بعضهم إلى عاشقات أخريات شهيرات... كلهم ركزوا على المرأة الواقفة غي اللوحة ، وكلهم حام حول الموضوع ، ولكن لا أحد كان يشرق ، وهو يمضغ دخان الحرائق المتصاعدة منها ، والتي لا يراها أحد غيري !
لا أنكر إن كل العاشقات اللاتي ذكرهن التاريخ وأشار إليهن الهواة ، فيهن جزءا مني ، في حياتهن جانب يشبهني ، ولكن ليست أي منهن أنا . في الحب ليس ثمة امرأة تتوافق مع امرأة أخرى ، كالبصمات تتشابه ولا تتوافق . ولكن لا أنكر أني انتظرك طويلا بلهفة ربما تفوق لهفة كل بطلات التاريخ العاشقات .
فهل كان ذلك حقيقة ؟ هل كان وهْما ؟ هل كان لحظة حلم قصيرة ؟ لا أدري . فأنا من زمان أصبح الشك وحده صديقي ... "
ها هي تتلاعب بمشاعري ، متعمدة أحيانا إخفاء علاقتها بي ، تراوح في سردها بين الإيهام والشك ، مستعملة جملا استفهامية غامضة ... ووجدتني شيئا فشيئا ، أحس أن مرارة فضيعة بدأت تخالط الإعجاب الذي كان يخترقني إلى حد الانتشاء . بل إن كثيرا من الفقرات تعتبر تقريعا شديدا لهذا الذي تتخذه بطلا لروايتها والذي هو أنا فيما أحسب .
أصبحت متهما ، أرمى بالغدر والخيانة ، وأحيانا بالقسوة والسادية . أصبح الأمر أكثر وضوحا ‘ فها هي تذكر وقائع وأماكن ليست غريبة عني ، كنت طرفا فيها . ولكن هل كنت حقا إزاءها غادرا ساديا ،ألتذ بتعذيبها ؟ هل توفرت لي يوم ذاك فرصة ولو صغيرة لتوديعها . هل كنت قادرا على فعل أي شيء أو تنظيم أي لقاء ؟
كان يومها في الفضاء حبال طائرة تبحث عن أعناق تلتف حولها . وكنت مطلوبا بشدة لهذه الحبال ! أتراها لا تعرف ذلك ؟
ثم ها هي بطريقة ظالمة ، بدأت تمارس نوعا من التنكيل بي :
"لقد زرت معه ، كل الأماكن التي زرناها معا ( أنا وأنت ). ودخلنا نفس المطعم الذي كنت ارتاده معك ، وأكلنا التفاح معا ، - وبالمناسبة – كانت طريقته الشاعرية في أكل التفاح ، تتفوق كثيرا على طريقتك البدائية الفجة . ثم تمشينا مرات عديدة ، على نفس الشاطئ ، وحيدين في غلس الغروب ، نتساقى خمرا سحرية ، تهب الارتواء والعطش في آن . وهكذا كنت أجدتني معه في ظمأ لا يرتوي ، وجوع لا يشبع . كنت أقوده متعمدة ، إلى كل مكان ارتدنه معك ، وأتعمد ممارسة طل الأفعال التي مارستها معك ، أريد أن أجعل من ذلك ممحاة خشنة تمسح كل أثر لك في قلبي ، أريد تغييبك من تاريخي ونسيانك تماما ‘ أريد أن أكشط كل سطور الحب التي كتبتها معك ... أريد أن أضرم النار في ذاكرتي وذكرياتي كما تقول " أديت بياف " المغنية الفرنسية القديمة . حتى إذا عدت يوما ، وأعتقد أنك ستعود ، لم تجد أي أثر لماضينا معا . هكذا قضيت ، وهكذا اتخذت قراري ...وكما اتخذت أنت قرارك بمفردك ذات يوم وقضيت ، ها هي فرصتي تجيء أنا أيضا .
لكن هل أراني قادرة على ذلك بالرغم من اشتهائي الأكيد للنسيان ؟ ها أني أتمنى أن تعود وألا تعود في نفس الوقت ، أخاف عودتك كما أخاف غيابك !
لقد كان غيابك عني عملية قيصرية ، أعقبها كثر من الألم والنزيف ز أعترف بذلك متجاوزة كبريائي . ومجيئك من جديد سوف يكون أكثر فجيعة وألما ! فإذا كان من السهل أن نخرج جنينا بعملية قيصرية ، فليس من الممكن أن تنجح عملية ثانية في إرجاعه إلى رحم أمه بعد كل التمزق والعذاب . لكن بالمقابل ، هل يمكن لنهر ما التخلي عن مجراه ، وتغيير اتجاهه بسهولة ؟ ألا تتمرد الأنهار على ما أقيم لها من سدود وحواجز ، فتدكها هادرة إبان الفيضان ؟ هل إن هذا العنفوان ، وهذا الفيض لا يعتريانني أنا أيضا ،بين الحين والحين ؟
أنت لا تعرف إن ما تثيره ذكراك في فؤادي ليس دون ذلك عنفا . كنت الحب الأول ... أول غيث شق أديم تربتي البكر ، فإذا المزارع والسنابل تتدفق في عنفوان تمرد بعد كبت وانفلت بعد إذعان ...
أعترف إني ارتكبت اكبر أخطائي ، يوم رفضت كل أبجديات الدنيا التي لا تقرئني حبك . وشطبت كل العادات إلا تلك التي تجعلك هوسي وعبادتي . ورفضت كل الدروب غير تلك التي تؤدي إليك. توهمتك الخصب والنور خلال الجدب والعتمة ، أخيرا انتبهت إلى إن ذلك كان وهما ...
وأنت ؟ أنت أيضا هل تملك إلا أن تعود ولو في آخر الخريف ؟ كل الطيور المهاجرة لا بد أن تعود يوما إلى أوكارها ولو قبل هبوب العاصفة أو بعدها ، وعادة ما يكون ذلك بعد الخريف...الوكر الأول كالحب الأول يظل أثيرا في القلب حتى الموت ...
يتحدثون عن طيور وأسماك ، تقطع آلاف الأميال لتعود إلى موطنها الأول حيث تتوالد وتموت . وفاء أصيل للموطن والأحباب كنت أنت خلوا منه حتى هذه اللحظة ! فهل إن الجحود والنكران هما الوسام الذي تحصل عليه كل امرأة أحبت بصدق وعشقت حتى الاشتعال والفجيعة ؟
في فترة من عمري كنت أتمنى أن أكون أستاذة كعائدة ، تلك التي أراها في الغالب قريبة منك تحاول دائما أن تتحدث إليك متوددة ز حلمت لحظتها وتمنيت أن أكون مكانها ، قريبة منك ، ندا لك أو لها . لا أدري أيكما كان حلمي أو على الأصح مركز اهتمامي . فأنت وإياها من دون الآخرين ، كنتما دائما تحت مراقبتي ، عيناي دائمتا البحث عنكما ، لست أدري لماذا ؟ ولا أخفي عنك أني كنت أحس براحة أكثر ‘ندما أراك وحدك من دونها . وبالمقابل أشتعل غيضا إذا رأيتكما في حديث ثنائي حميم بعيدا عنا لآخرين .
بعد غيابك كنت أركز عليها وحدها ، أترصدها لا شعوريا ، ظهورها أول الأمر كان يمنحني فسحة حلم بأنك ستكون قريبا منها وستظهر إثرها بعد لحظات . ولكن لم تظهر منذ أن اختفيت وحدها كانت تلتحف طيفك .
لاحظت تغيرا في سلوكها ، أصبحت تميل إلى التفرد ، دائمة الصمت ، تشرد أحيانا أثناء الدرس تترك السبورة فجأة وتتهالك على الكرسي منهكة حزينة . كلنا لاحظنا ذلك ، أنا وحدي ربما عرفت أنها عاشقة ملتاعة . لست ادري يوم ذاك ، هل كنت راثية لها أم متشفية منها ؟ شيء واحد تأكدت منه ، هو حبها لك ، وحقدت عليك وعليها .
ما استغربه اليوم ، هو كيف أصبحت أنا صديقة لعائدة . هل تقود مشاعر الكره أحيانا إلى الحب؟ لم يكن خافيا أن اهتمامي الأول بها كان منشؤه الغيرة منها ، فكيف أصبحنا صديقتين ؟!
هل كان ذلك من جملة الاختلالات التي أحدثها غيابك فينا ؟ أم أن ما تركته من حزن وأسى كان يكفي امرأتين تعلقتا بك ؟... "
في نهاية هذا الفصل توقفت عن القراءة ، ليس عن تعب كان توقفي . لكن لاهتزاز قناعاتي التي كونتها أثناء الفصول الأولى ، والتي جعلتني إني أنا هو بطل روايتها .
فمن هي عائدة التي كنت على علاقة بها ؟ أو على الأصح ، كانت هي على علاقة بي كما تذكر صاحبة الرواية ،هذه التي تلازمني دائما وتبادلني الحديث ، إلى الحد الذي أشعل نيران الغيرة في وجدان الكاتبة ؟ لا أذكر أن في حياتي امرأة تحمل اسم عائدة ؟ أستاذة ودرست معي ، متى كان ذلك وأين ؟
هل استطاعت أن تجعلني أعيش في وهم طوال هذه الصفحات ، على امتداد ساعتين كاملتين ، لتقذف بي النهاية بعيدا عن دفء مشاعرها وتسلمني إلى الشك والحيرة ، متشحا بنوع من غباء بعض القراء ، ذاك الذي يجلهم يعمرون فضاءات ذهنية ، بشخوص وأشياء من أوهامهم وتصوراتهم ، يعيشون حلما ويعمرون مدنا خيالية ، يتسكعون في شوارعها ، مع أصدقائهم ، وأحبابهم ، يدخلون مقاهيها ومطاعمها ، ويركبون حافلاتها وقطاراتها ، ويشمون عطور نسائها ، ورائحة تبغ رجالها ، ويحتسي بعضهم خمور حاناتها ، ثم ينتهي الحلم فيستيقظون وليس لهم من عوالمهم غير العرق والإرهاق
وهكذا وجدتني متعبا إلى حد الإرهاق ، فريسة للشك والحيرة . وبعد تفكير قررت رغبة في تمزيق شكوكي ، والتأكد من دلالات بعض المواقف في الرواية ، زيارة معرضها غدا ، والعيش في أجواء رسوماتها .
كانت الساعة السادسة وثلاثين دقيقة ، عندما دخلت قاعة العرض التي تعرض فيها لوحاتها . كان بصحبتي صديق وجدته صدفة وسعدت به كثيرا ، لأني لم أره منذ مدة طويلة ، ولذلك اتفقنا أن نزور المعرض معا ، ثم نتناول العشاء في مطعم صغير حددناه مسبقا .
شدتني لوحة تفردت عن بقية اللوحات ، بما فيها من عنف مركز وفظاعة مرة . هل هي مأساة الثورة الفلسطينية ؟ أم الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان ، أم مجازر صبرا وشاتيلا ؟ كثيرة هي الهموم العربية على امتداد نصف قرن .
اللوحة زاخرة بالرموز والإيحاءات : جثث متناثرة لأطفال صغار وشيوخ وعجائز ، مزقها الرصاص تمزيقا فضيعا .
كم هو أليم يا إلاهي ، منظر هذه الطفلة التي لا تناهز السادسة ، والتي مزقها الرصاص ، وتلطخت ثيابها وشعرها بالدم ، وبجانبها لعبة مهشمة ، محترقة .
بعيدا بين الأنقاض والخرائب المحترقة ، تظهر عجوز خائفة ، مرعوبة ، تطل برأسها كأنها تستطلع المكان على حذر ، في قسماتها الحزينة أحلك ألوان المأساة ...وعندما تتأمل جيدا خلال الغبار ، تلحظ أن وراءها امرأة أخرى ، تحمل وليدا صغيرا في أحضانها ، ها هي تقدم له نهدها ليرضع ، وإنك لتتساءل : هل كانت العجوز تساعد المرأة على الولادة ؟ هل جاء المرأة المخاض ، عندما كانت الصواعق ننصب على المكان ؟ ماذا تريد الرسامة أن تقول ؟ هل كان ذلك رمزا للخصب ؟ هل و روح م العائد أبدا كل باح ؟ أم ن لرسامة تريد أ تقول : إن الأطفال الذين ماتوا هنا سيعوضون ، وسيأتي أطفال آ خرون ، سيكبرون ،ويصيرون رجالا ويقاتلون حتى الموت ! لا أدري . فاللوحة رهيبة في حزنها مأساوية في عذابها ، إلى درجة تجعلك حائرا في استجلاء المفاهيم . ولعل أشد ضربات الريشة رشاقة وجرأة ،وجود ذلك الكلب في اللوحة ... غريب وجود الكلب وسط هذا المار المروع ! عن أي شيء تراه يبحث ؟ هل كان ينهش جثث الأطفال ؟ لا أعتقد ذلك ،فالكلب خلال تاريخه مع الإنسان كان للوفاء حقيقة قبا أن يستحيل رمزا ، فلا يمكن أن ينجر وراء جنون الإنسان ، فيمارس جريمة تمزيق أجساد الأطفال.
لعل ما في طبعه من وفاء وأمانة هو الذي دفعه إلى المجيء هنا إلى مسرح الفاجعة ، ولعل من بين هؤلاء الأطفال من كانت له معه علاقة ود وهراش فهو باحث ، مستغرب مما يرى متعجب من سادية الإنسان وجنونه .
مهما يكن فإن الحركة التي يقوم بها الكلب قد تخصب بعض رموز . ها أننا نراه يمارس عادة الكلاب جميعا ، فيرفع ساقه ويبول على بقايا لافتة محطمة . وعندما نتأمل جيدا ، نرى كأن علما ما ، كان مرسوما عليها ، هل هو شارة من شارات القوات الدولية ؟ أم علم الأمم المتحدة؟ أم الجامعة العربية ؟ أم رمز آخر ؟
لست متأكدا فيبدو أن اللوحة تعرضت للمسة ما ، قبل أن تجف الأصباغ إثر الإنجاز مباشرة ، فأصبح من العسير تفحص بعض التفاصيل ....
حين كنت مأخوذا بما في هذه اللوحة من إثارة ، اقترب مني صديقي قائلا : تعال أنظر هذه اللوحة ، لن تجد ولن تقرأ يوما ، قصيدة فخر أروع منها . تأملت اللوحة فإذا هي فعلا " قصيدة فخر ووسام مجد " هكذا جعلنا أنا وصديقي عنوانا لها .
لقد سمعنا في الأنباء ، أثناء اجتياح إسرائيل لجنوب لبنان للقضاء على الثورة الفلسطينية ، بأن موقعا فلسطينيا ظل يقاوم المعتدين بضراوة الذئاب وصلابة الصوان أياما طويلة ، بالرغم من سيل النيران الذي صبته القوات الإسرائيلية عليه . وأخيرا لما استسلم الموقع ، اكتشف المهاجمون ، أنهم أمام مجموعة من الأشبال أعمارهم جميعا دون السادسة عشر واكتشفوا أخيرا إن الموقع استسلم لما نفذت منه الذخيرة تماما ...
على تلة جبل كانت خضراء قبل الكارثة ، يقوم الموقع في اللوحة ، ولكن أصبح اللون القاتم ، والأحمر القاني ، والأزرق الدخاني ، هي الألوان الغالبة على المشهد كله . وإذ تمتزج هذه الألوان ببراعة ، فإنها تكاد تنشئ في نفس المشاهد ، إحساسا بأن القنابل ما زالت تنفجر ،وبأن فعل الموت لم يتوقف ، وبأن رائحة البارود ، والغازات ما زالت تشم !
ثمة بنادق مرمية ، وحاويات خراطيش متناثرة أيضا ، مفتوحة فارغة تماما ، إلى جانب جثث ، وأشجار محروقة ما زال يتصاعد منها الدخان ، والأطفال المستسلمون تشرق وجوههم رغم الغبار ، والتعب والإجهاد بألق عجيب . من حق هذه الوجوه أن تضيء ، وأن تتألق وأن تحتضن وأن تقبل أيضا . فهم لم يستسلموا إلا بعد نفاد الذخيرة . ثمة جثث لقتلى ما قي ذلك شك ، فالرصاص يجندل كل شيء حتى أجساد الأطفال ، ولكنه لا يقهر التحدي في النفوس . جثة هذه الصبية ذات الشعر السود الطويل ، تقول ذلك : مزقها الرصاص وتلوت وهي تصارع سكرات الموت ، . تبعثر الشعر الطويل وتخضب بحناء الدم المتخثر ، ولف أجزاء من جسمها ، ولكنها ما زالت تمسك البندقية بإصرار ...
جميعهم سيقاتل حتى الموت لو توفرت لهم الذخيرة !
بعيدا في اللوحة في صفوف المهاجمين ترى جثثا وسيارات إسعاف وحوا مات تنقل الجرحى ، لقد كان رصاص المدافعين ، ذا فاعلية مهلكة على ما يبدو، وبنادق " الكلاشينكوف " القصيرة ناسبت قامات الأطفال ...حين كنت أتملى هذه اللوحة مستغرقا غافلا ، سمعت غير بعيدا عني طفلا مصاحبا لأمه يقول :
- " الثور في الشارع ...الثور ، إنه يخيفني يا أمي . "
تطلعت إلى الشارع من خلال الزجاج بعفوية ، ولما لم أر شيئا ، التفت إلى الطفل ، فإذا هو بجانب أمه ، وهي تتطلع إلى لوحة كبيرة في القاعة ، فأردت أن أرى هذه اللوحة التي يتحدث عنها الطفل وأرعبته فوق ذلك . هل فهمها ؟ لا يستغرب ذلك فعفوية الأطفال أكثر استجابة للرسوم من سواهم أحيانا . فقد كان أول من اكتشف تلك اللوحة الرائعة على جدران كهف " التاميرا " والتي رسمها إنسان "كرومنيون "في سحيق الزمان الطفلة " ماريا دي سوتولا "الصغيرة التي كانت تلهو بجانب أبيها
مشيت وئيدا إلى حيث وقفت المرأة مع ابنها ، فإذا هذا الابن تلتصق بفخذ أمه ، تضمه بيدها في حنان ، وهو يكاد يدخل بين فخذيها من الخوف ، وهي مستغرقة في التأمل .
كان الطفل صادقا . فالشارع الحالم الغافل ، داهمه فعلا ثور عظيم هائج يحطم كل شيء :
يقلب صناديق الغلال ، وباقات الأزهار وطاولات المقاهي وكراسيها ، وأكشاك الصحف ، التي تعرض الصحف والمجلات ، يهشم الأبواب وبلور الواجهات ، وحتى علامات المرور التي استطاع الوصول إليها . ويحدث في الشارع رعبا ، لا مثيل له ، فثمة من رفسهم بأظلافه الفولاذية ، أطفال وعجائز وشيوخ ، هناك من كان دمه يسيل ، ونهم من بقرت بطنه ، ومنهم من ظل في سبات لعل ه الموت أو الإغماء . والهاربون من أهل الشارع الآمن فبل حين ، منهم من كان يدخن النرجيلة ، وفيهم من كان يلعب الورق وما زالت بعض الأوراق بيده ، وثمة من كان يلعب الكرة فتركها وهرب ، ومن كان يستمع إلى الأغاني ، من اسطوانة قديمة نراها في الصورة مهشمة مقلوبة ، وفيهم من فر من ملهى مع حبيبته أو عشيقته ، وفي عيونهم جميعا رعب لا يوصف . كل من في اللوحة ينظر مرعوبا إلى الثور ، ويلتفت إليه خائفا من أن يدركه، والثور في عنفوان نشاطه وجنونه !...وحين تتأمل المشهد جيدا ، ترى ثورا آخر كان يصارع الثور الهائج قبل حين ، ولكنه لسبب ما تخلى عن الصراع ، ووقف في ركن ، ملازما مكانه ، في شبه إعياء ، يهش بذيله ، وأذنيه ذبابات تقلق راحته ، وتزيد في تنغيصه .
أثارت اللوحة في نفسي شيء من الاشمئزاز وبقيت حائرا متسائلا : ترى ماذا تقصد الرسامة بهذا العمل الذي يبدو وكأنه إرضاء لرغبة سادية لا غير ؟!
اتجهت إلى صديقي نريد الخروج ، غير أن لوحة قريبة من الباب جلبت انتباهنا ، فوقفنا عندها قليلا .
قال لي : ألا تذكرك هذه ب " الغرنيكا " لبيكاسو .؟
تلك اللوحة التي ما زالت حتى اليوم تحتج بصرامة على ضرب تلك القرية العزلاء بقنابل الطائرات من الجو ...
لم أكن شاهدت هذه اللوحة التي ذكرها الصديق ، ولكن العمل الذي كان أمامي يحمل كثيرا من الرعب والاحتجاج ، بما تحشده الرسامة فيه من أنقاض ولهب وضحايا ، في غبش الفجر ،حيث تستقر تلك المباني قريبا من البحر ، غافلة حالمة مسالمة ، وإذا بالصواعق تنصب عليها كانفجار بركان مخلفة في لحظات ، دمارا وضحايا ...
بعد أن ودعت صديقي عدت إلى البيت ، ووجدتني أتناول روايتها من جديد ، لقد تركتها البارحة وأنا فريسة لشك يمزقني . وحين تعمدت هذا المساء زيارة معرضها ، كان يدفعني أمل وجودها هناك ، وأن أجد بعض تلك اللوحات التي ذكرتها في روايتها ، وقالت عنها إنها مشبعة بالتذكار . كنت أريد أن أتملى قسمات الشابة الواقفة على صخور شاطئ مقفر ، تتطلع إلى البحر ز هل كانت هي ؟ كيف كانت واقفة ؟ كيف تنظر ؟ ماذا في قسماتها ؟ كنت أريد أن أرى كيف تتولى ريشة شفها الوجد ، تحويل الأحاسيس والمشاعر والخلجات ، إلى رعشات ضوء وظل خلال توهج الألوان وانطفائها ... غير أن شيئا من ذلك لم يحدث . وجدت امرأة أخرى تختلف اختلافا كليا عن صاحبة الرواية . فاللوحات التي شاهدتها ، جادة إلى حد التعصب ، وبعيدة جدا عن هموم امرأة عاشقة ، إلا أن يكون لها مفهوما آخر للعشق جديد . هي مسكونة بزمن صعب ، لا يزهر العشق بين أشواكه ، ولا مجال فيه لعواطف إنسانية وجدت امرأة أخرى ، تقف في خنادق يغشيها الدم والبارود ، والانفجارات والحرائق . ترجم زمنها وتحاكمه بشراسة المقاتلين تمزقها هموم كثيرة ، تتجاوز أبعادها حدود قارة بكاملها ، هموم امرأة لا يسكنها حب رجل واحد ...
عجيبة هي هذه المرأة ! بقدر ما كانت في روايتها أنثي رقيقة المشاعر ، دافقة الحنان ، مهموسة العتاب ، تذوب عشقا ورقة . فإنها في لوحاتها كانت جادة حد الشراسة مشاكسة حد الاشتباك والتهور. فجرت في لوحاتها لهبا ، وقذفت أقذع الشتائم في وجه زمن عقيم ، تختل ثوابته يوما بعد يوم ، ويعيدنا إلى زمن القياصرة ...لقد كانت لوحاتها احتجاجا أكثر منها أي شيء آخر .
قيل إن الفنان العظيم يضفي الوقار على أتفه أحداث زمانه . فخل كانت هذه المرأة فنانة عظيمة؟ بأي مقياس نقيس لوحاتها ، إذا تأملنا زمنها بحياد بعيدا عن التحامل ؟
أنا من ناحيتي ، وإن كنت أحترم موقفها ، فلا أعتقد أني لا أشاركها فهمها . ولكن مع ذلك لا أخفي أن أعمالها تلك أضافت إلى شخصيتها أبعادا أخرى عندي ، وتأكد لي أني حيال امرأة إير تلك التي كنت أتصورها وأنا أقرأ روايتها ، لم أكن قد فهمتها على ما يبدو . انسقت وراء تلك النرجسية ، وذلك الغرور الضارب في وجدان كل رجل ، فاتجهت إلى جانب وأهملت بقية الجوانب . كنت أبحث أو أتخيل امرأة لا تعرف غير تأثيث فضاءات الحريم بكل ما يرضي غرور الرجل ، وها أنا أكتشف أن ذلك الفهم للمرأة ، غادر وعي الإنسان المتحضر منذ عقود كثيرة ، واستقر في أساطير ألف ليلة وليلة ، وفي ذاكرة قلة قليلة من الرجال !
وهكذا وجدتني مدفوعا بشغف جديد إلى مواصلة قراءة روايتها لعلي أستطيع العثور على النقطة التي تلتقي فيها الأديبة بالرسامة ، أو تختلفان عندها . بل لا أخفي عنك أنني أشك في كون صاحبة الرواية هي صاحبة هذه اللوحات !
وأبدأ حيث توقفت البارحة :
" ربما كان ما خلفه غيابك من الأسى لا يكفي امرأتين فحسب ، بل لعله قادر أن يجلل كل النساء بالأسى والفجيعة ...لقد كنت لي يومها وثنا معبودا حملتك من الرموز وصفات الكمال فوق ما أنت في الواقع . ورحت شيئا فشيئا تكتسب أبعادا جديدة في وهمي ، كنت أملا أحيا به ، وحلما يدغدغ خيالي ، فيوفر لي فسحة فرح مضيئة في زمن يطبق ظلامه على كل شيْ ...
كل منا يخلق مثالا لإرواء عطش ما في نفسه ويضفي عليه من وجدانه كل صفات الخلود . ثمة من خلده في قصيدة عصماء ، ومنهم من صبه لهيب وجد في لوحة رائعة ، وثمة من أقامه هرما في داخله عمر به فراغات قلبه ووجدانه . ويوم أن يفقد أي منا مثاله ، وثنه الذي أقامه قي كيانه ، تبدأ الانكسارات والفواجع ، إلى أن يحدث الفراغ الهائل ويكون الدمار المريع ...
هكذا كنت لي أنا الشابة المتأججة الخيال ، المتفجرة العنفوان يومها . وحين سقطت وتهشمت ، حين هربت وتخليت عني ، اختلت معادلات كثيرة في نفسي ، وارتجت ثوابت كنت مقتنعة بها حد التعصب . وذلك ما جعلني أشطبك من قوائم تكفيري . ورحت أبني لنفسي عالما آخر ، رحت أحوك حياتي بمفردي خيطا إلى جانب خيط ، وأصنع نسيجا من ذاتي أحاول أن أتفادى به انكسارات زماني ...رحت أبحث عن بديل في زمن عزت فيه البدائل !..."
أعترف أني أصبحت عاجزا عن فهم مقاصدها . كفى تقريعا وتأنيبا سيدتي ! يكفي تجنيا .
ولكن مع ذلك وبعد استراحة قصيرة ، عدت إلى القراءة بإصرار شديدة ، كأنما كنت أبحث عن أشياء هامة تخصني أنا وحدي ولها القدرة على التأثير في مجريات حياتي ومستقبلي . وأخيرا ، وفي ساعة متأخرة من الليل ، أجد نفسي أجد نفسي أمام هذه النهاية التي لم أكن أتوقعها ، فهاهي تقول :
"...إلى هنا تنتهي وقائع هذه المذكرات التي سلمتها لي عائدة ذات يوم ، والتي قالت إنها وجدتها صدفة في درج مهجور ، في إحدى غرف بيت تسوغته ذات صيف ، على ساحل البحر ، وأقامت فيه شهورا ، هكذا قالت عائدة ... ولست أدري ما إذا كان ذلك حقيقة ، أو أن هذه المذكرات هي لعائدة نفسها . فقد لاحظت أنها توليها اهتماما خاصا ، وهي التي أصرت على نشرها . وهكذا تعاونت معها على بنائها بناء جديدا ، يبعدها عن شكل المذكرات العادية والتي ربما تكون بعيدة عن اللياقة . ثم حاولنا أن نخفف بعض ما كانت مثقلة به من حزن عميق ، قد يجعلها ثقيلة الوقع على قارئ هذا الزمان الذي يتصف بالتسرع وعدم المبالاة وقلة الصبر والميل إلى الأجواء المرحة الراقصة والصاخبة .
والواقع أن هذه المذكرات كانت عميقة الحزن حقا ، حتى أن كاتبتها الأصلية نفسها أحست بذلك إذ تستهلها هكذا : " أنا امرأة يائسة محطمة حزينة ..." ثم تقول إثر ذلك مباشرة : " أنا آسفة إذ أصافحك بهذا القتام الأليم ، يعز علي ذلك . ولكن الفاجعة أكبر مما تتصور . "
ثم تقول في مكان آخر : " ... الليلة بدأت احتفالات عيد الميلاد . الناس في شوارع المدينة ، في غاية الفرح والابتهاج ، يشترون الهدايا واللعب والشموع لإنارة لياليهم الجميلة ، يتصايحون ويضحكون ، تغمرهم فرحة عارمة ، أحالت الشارع إلى مهرجان . أزواج وزوجات ، أصدقاء وصديقات ، محبون وحبيبات ، عشاق وعشيقات ، أبناء وآباء وأمهات . الكل لاعب في غمرة من السعادة . أنا وحدي هادئة متفردة حزينة مكسورة الأحلام !..."
ثم تقول : ها أنا عائدة إلى البيت وحيدة وخائفة ، صدقني ، خائفة لست أدري لماذا ، ومن أي شيء . لاحظت أن خوفا غير مبرر ، بدأ يلازمني كلما كنت وحيدة ، ما زلت حتى هذه اللحظة حائرة كيف ركبني ، ومن أي زاوية من زوايا نفسي ، تسلل إلى كياني ...
آه ... كم يبدو عبء الحياة مخيفا لمن هو وحيد!
كنت اهرب من هذا الخوف إليك ، وبقربك أطمئن ويذهب خوفي وتوتري وقلقي فأطرب وأغني وأنتشي ، وأحس أن الحياة حلوة شهية ، بالغة الروعة تستحق جميع عذاباتنا وكفاحنا طول النهار . أما هذه الليلة فأنا وحيدة مع الجدران الباردة ، في هذا الشتاء البارد الحزين ، مضافا إليه ذلك الخوف الغامض في كياني ..."
وهكذا اتفقنا أن نعيد صياغتها بأسلوب جديد ، ونحاول أن نخفف قليلا من أساها العميق ، بدرجة تجعلها خفيفة بعض الشيء على القارئ ، مع المحافظة ما أمكن ، على ما تتصف به من حميمية وصدق ...ربما حذفنا بعض أجزاء صغيرة منها ، ولكن لم يكن بإمكاننا بأي حال من الأحوال أن نختلق أحداثا . وحين تم تبييض المسودة الأصلية ، ووصلنا بها إلى المرحلة التي تبدو فيها متماسكة ومقبولة في نظرنا على الأقل ، وقعنا في إشكال آخر صغير : هل نقف بها عند هذا الحد ، حيث توقفت بها صاحبتها الأصلية ، أم نحاول إضافة نهاية لها قد تزيل عنها بعض الغموض الذي ربما كنت أنا وعائدة متسببتين فيه ، حين عمدنا إلى صياغة أحداثها بأسلوب مختلف .
كنت من جانبي أفضل أ ن نضيف لها فصلا آخر ، يمنحها بعض الإشراق ، يخفف شيئا من هذا القتام الأليم الذي ما زال يجللها ، ويجعل القارئ يحلم ببعض الأمل ، ولكن عائدة أصرت على أن تبقى هكذا .
قالت : هكذا هي حياتنا ، كلنا أبطال قصص غير معروفة النهاية ، وغير مقنعة في بداياتها أحيانا !. ربما قانون الصدفة وحده ، هو الذي ينظم أحداثها ، أقدار لا سيطرة لنا عليها . فلم أجد بدا من احترام رغبتها ، والتي ربما تكون رغبة صاحبتها الأصلية أيضا . فمعذرة أيها القارئ العزيز، إن كانت هذه الرواية مبتورة وغير كاملة ... وكم أكون سعيدة لو حاولت أن تكسبها روعة ما ، بطريقة ما ...انتهت . "
وهكذا وجدتني أصدم بشكل لا يخلو من الحدة ، بهذه الكلمة " انتهت ". كنت كمن كان يمضي بسيارة في طريق شيق ، مسور بالأشجار الكثيفة هادئ جميل ، ليكتشف في النهاية أن الطريق يؤدي إلى بحر هادر عميق ، ذي ساحل صخري شاهق لا تتفرع عنه سبل للرجوع ، ولا بد من العود القهقرى لكي يتجنب الوقوع في البحر .
ألقيت الكتاب جانبا وأشعلت آخر سيجارة عندي ، وبقيت ساكتا محبطا ، أتطلع إلى الدخان وهو يتشكل على هواه وينعكس الضوء على التواءاته الغريبة ... تمزقني الحيرة والشك معا . ثم أخذت أستعرض أحداث الكتاب ، فصلا فصلا ، مشهدا مشهدا ، لأكتشف في النهاية ، إني استغفلت نفسي إلى حد الغباء والبلاهة ، ربما كان ذلك بسبب طريقتها في الحكي ، أو لضمير المتكلم هذا الذي تستعمله في السرد ، أو لاستعدادي أنا المسبق لهذا الاستغفال . وأخذت أحاجج نفسي ، وأصب على ذاتي كثيرا من اللوم والتقريع ، حين تبينت أن كل ما في روايتها لا ينطبق علي وحدي بالضرورة ، فحيات غلب الناس تتشابه في كثير من أحداثها : كلنا نزور أماكن بعينها ، ونمارس أفعالا تكاد تكون واحدة ، ونتعرض لنفس الانفعالات والأحاسيس والمنغصات .فكيف صور لي وهمي إن بطلة الرواية هي حبيبتي القديمة وإن الشخص القصصي هو أنا ؟
هل نظل أطفالا كلما رجعنا إلى الماضي واقتربنا من الحب والذكريات ؟ هل يعيدنا الحب إلى براءتنا الأولى ، كما قالت هي ؟ نغدو أطفالا ، نصدق كل شيء ، وتنطلي علينا حتى الحيل الساذجة .
عندما زرتها في مكتبها قالت لي : ستشفى مني ، ثم أضافت بسمة ماكرة ، فما معنى ذلك ؟ وقولها ثمة نوع من الحر فاء إذا أنت منحتهم فرصة حنان وفتحت لهم قلبك ، يرتكبون أفعالا غريبة ،تتجاوز حدود المباح . فما معنى ذلك ؟ هل تجاوزت أنا حدود المباح ؟ ثم لماذا سدت على يدي لتوقفني بعيدا عنها ، عندما صافحتها بحرارة ؟ كنت أطمح إلى احتضان دافئ منها ، ولكنها أبت ذلك فما معنى هذا ؟ ما معنى قولها : أحدهم هاجمني يريد اغتصاب قبلة مستحيلة ؟
آسف مرة أخرى ، أنا مازلت أعيش في وهمي الأول . مازلت لم أقتنع بأن المرأة التي جعلتها الكاتبة بطلة لروايتها ، هي غير المرأة الطبيبة الرسامة ، وإنما هي امرأة أخرى تتشابه أحداث علاقتها بحبيبها بأحداث علاقتي أنا بتلك المرأة ...
ولكن من قال إن الكاتبة لا تتلاعب بمشاعري ، وإن كل هذه التعرجات متعمدة ، غايتها التهرب من ماض لم تعد قادرة على إحيائه بالرغم من اشتهائها له ، وعدم قدرتها على نسيانه ؟ لماذا أعطتني هذه الرواية ؟ هل ثمة طبيب يهدي إليك رواية ؟ هل هي موجهة لي وحدي : غايتها الأولى أن تحدث في رجة هائلة عن طريق إحياء ماضيها معي ، وتشويش أحداثة بطريقة تجعله مضطربا متداخلا باعثا على الحيرة والشك والاضطراب ؟ هل إن ضربها على أوتار الغيرة، فعل متعمد وإثارة مدروسة ، غايتها تفجير ما في أعماقي من حمم وبراكين ؟ هل تريد خلخلة قناعاتي التي ترسبت في نفسي حتى تستطيع من خلال هذه الخلخلة وهذا التمفصل العثور على نقطة ما ترى أن من واجبها الوصول إليها حتى تتمكن من معرفة المرض الذي اعتقدت على ما يبدو أني مصاب به ؟ وإنها بذلك تبدأ أولى حلقات العلاج ؟ هل سقطت هي أيضا في الوهم وسوء الفهم الذي لاحظت أنها كانت قريبة منه أثنا حديثي معها ؟ ما هي دواعيها أو دوافعها من وراء ذلك ؟
هل كان ذلك بدافع معني فقط أم بدوافع أخرى ؟ ما معنى قولها لا تستغرب إذا قلت لك إني أصبحت متعلقة بحوار معك ، ربما نستطيع بواسطته ترميم بعض الانكسارات وتوفير فضاء ، ولو صغير نؤثثه بالمحبة من جديد ؟
" فضاء صغير نؤثثه بالمحبة من جديد . "
ألا تكون هذه الكلمات غادرة مخادعة هي أيضا ...؟!
بعد غد يحل موعدي معها ، وسوف أرى ثم أتخذ موقفا . بن قردان في 08 �6 2000
ا
ألنص عدد2
البحث في ملفات رجل مفقود
لقد رأت النزعة العلمية للقرن التاسع عشر أن العلم يقودنا حتما إلى ساعة الظهيرة من ظفر الإنسانية ،
في حين أنما نراه ينبسط أمامنا اليوم ليس سوى هاوية الظلام .!
جاك مونو. الصدفة والضرورة ...
كيف اختفى الدكتور عارف ؟!هل اختطف ؟ هل أغتيل ؟ هل غادر الوطن عبر مسالك غير عادية ، كأن يتجنب المطارات والموانئ والبوابات الرسمية على الحدود ؟ ما هي دواعي ذلك ؟ هل عمد إلى ما تعمد إليه بعض الكفاءات المعتبرة في بعض بلدان العالم الثالث ، فقرر الهروب والاستقرار في بلاد أخرى ربما تكون قد وفرت له منا لإغراءات ما يجعله يهجر الوطن ؟ هل وقع التغرير به ؟ !
قبل أن أتسلم الإذن بفتح القضية للبحث في مسكنه وملفاته ، والوصول إلى سبب اختفائه ، كان ثمة افتراضات كثيرة في خيالي .
ولما لم تؤد البحوث الأولية والتحريات التي وقعت إلى أية نتيجة ، ولم ترشح أيا من الافتراضات ، فقد كنت أتوقع أن أجد في وثائقه وما كان يمسكه من ملفات أو ما كان يتسلمه من رسائل ، ويقيمه من علاقات مع الآخرين ، أي خيط يهديني إلى إزالة الغموض .
- " هي ولا شك خسارة كبيرة ، ولغز محير ، اختفاء رجل بوزن الدكتور عارف . "
هذا قال أحد جيرانه ، ثم أضاف :
- " منذ ثلاثة أسابيع ، التقيت به ونحن ندخل المسرح ومعه تلك المرأة الجميلة الرائعة . " فقلت له :
- "خسارة كبيرة حقا أن يفقد بيننا مثل هذا الرجل .
- وتساءلت في سري أي امرأة يعني ؟ فالمعروف أن الدكتور عارف غير متزوج . مطلق أو هو لم يتزوج بالمرة . هل تكون هذه المرأة هي سبب اختفائه ؟ حتى إذا لم تكن هي السبب ، فلا بد أنها تملك معلومات مهمة عنه . من يدري خلال تجربتي ، تعودت أن أضع أحيانا افتراضات تكاد تكون مستحيلة أول وهلة ، ثم أتركها معلقة تنتظر ، وفي كثير من الحالات تكون أقرب إلى الحقيقة .
- فقد حدث مرة أن كنا نجري بحثا ميدانيا لاستجلاء حقيقة حادثة قتل ، وقعت في الريف في أحد الجبال بين أشجار الفلين والصنوبر والعرعار والطرفاء الجبلية والهالك راع في الخمسين من العمر تقريبا . وكان أحد الرعاة صغيرا مضطربا حسبته أول الأمر معتوها ، فقد كان ينتحب باستمرار كلما اقتربنا منه . وتصورته حتى عن قتل أرنب أو عصفور ، فأسقطته من حسابي تماما . وأخيرا وبعد أن كدنا نعجز عن الوصول إلى الجاني ، جاءنا هذا الراعي الصغير واعترف بجرمه ودلنا على كل الحلقات المفقودة التي كنا نبحث عنها ! ومنذ ذلك اليوم صرت أجازف أحيانا بافتراضات تبدو بعيدة عن الموضوع . غير أنه لا مقارنة بين تلك الحادثة وما نحن بصدده اليوم .
كانت تلك في الريف ، في بيئة ضيقة صغيرة ، والهالك رجل محدود العلاقات والمعارف . لم يفارق مسقط رأسه طول حياته . أما هذه الحادثة فهي شائكة المسالك ، متعددة العناصر. فالرجل متنوع العلاقات ، كثير الأصدقاء والصديقات ، وهو معروف في وسطه ، وليس من الذين نستطيع تحديد علاقاتهم بسهولة . لذلك علي ألا أترك أي افتراض يرد إلى الذهن ، مهما بدا بعيد الاحتمال ، وشبه مستحيل .
كان آخر ما وجدنا في فاكس الفقيد ، هذه الجملة المختصرة :
" إذا لم يكف الفأر عن تجريح أذن الفيل ، فسوف يضطر الفيل إلى إلقاء جسمه كله في البحر . "
ماذا تعني هذه العبارة المقتضبة ؟
ذكرتني شخصيا بأسطورة مصدرها الهنود الحمر من قبائل " سو " كانت القصة تقول : إن فيلا تحدى فأرا وهجم عليه ليدق عظامه ، ولكن الفأر قفز بخفة ودخل في أذن الفيل ، وظل ينهش ويجرح بأسنانه ومخالبه ، حتى كاد الفيل يجن ، جرى في كل اتجاه ، رقص من الألم ، ارتمى على الأرض رفع هامته إلى أعلى ، حاول إدخال خرطومه في أذنه ، ضرب رأسه على الأرض ، والأشجار آلاف المرات ، وبكن الفأر لم يخرج من الأذن ولم ينقطع عن النهش والعض حتى كاد الفيل ينهار ، ويقر بعجزه نهائيا وهزيمته !
هكذا تنتهي هذه الحكاية البسيطة . غير أن مسألة الفيل والفأر ،جعلتني أستنتج أشياء قد تكون مهمة جدا في موضوعي .
أول الاستنتاجات من هذه الرسالة : أن ثمة قوة جبارة عاتية ، يمثلها الفيل ، وإن قوة صغيرة لا قيمة لها ، ولكنها قادرة على الإزعاج وحتى القهر إذا استمرت في عملها ، يمثلها المفقود . والقوتان في صراع بينهما ، كل واحدة تريد إخضاع الأخرى لإرادتها . فما معنى ذلك ؟ هل الرسالة تهديد مبطن ، أم هي كلام مشفر ، جري بين الدكتور عارف وآخرين ؟ وإذا كان ذلك صحيحا ، فما هي دواعي استعمال الرموز والشفرات ؟ أليس معنى ذلك أن هذه العلاقة بين الرجلين خارجة عن نطاق المباح ، وأنها تتناول أشياء تجعل أصحابها تحت طائلة القوانين إذا مورست في وضح النهار ؟ ثم ما معنى أن يلقي الفيل بجسمه كله في البحر ؟ ليس ما أريده ، المعنى الذي تبوح به الكلمات ظاهريا ... لا أبدا ... إذا ألقى الفيل بنفسه في البحر ما ذا يحدث ؟ يموت أو يقتل ؟
" علي وعلى أعدائي " كما قال نيرون وهو يحرق روما . هذا ما يبدو الآن .
قد تكون هذه الإفادة الواردة بالفاكس ، أحد أهم الخيوط التي يمكن أن توصلنا إلى الحقيقة . قصة الفيل والفأر شدتني إليها بعنف ، حيرتني واستنهضت خيالي ، فإذا كان الفأر واضحا ومعروفا وهو في اعتقادي الذي لا أطمئن إليه كثيرا الآن ، رمز للدكتور عارف ، فإن الفيل يحيل على افتراضات وتفاسير مختلفة كأن يكون جمعية ، أو مؤسسة أو منظمة أو عصابة . لكن هل أن الدكتور هو المقصود بهذا التهديد ؟ ومن قال إن الرسالة تهديد أصلا ؟ ألا تكون استشارة ، كأن يكون باعث الرسالة يقترح حلا لمشكل ما ؟
ربما ما زال الوقت مبكرا لاستجلاء الرموز تماما ، ولكن من الآن علي أن أجري وراء هذا الافتراض وأمسك إذا استطعت ، بكل خيوطه في يدي . فالمعروف عن الدكتور أنه عالم بحاثة ، كثيرا ما عمد إلى تطوير أجهزة مختلفة ، وله إسهامات محترمة في كثير من الميادين ، ومن المتحمسين إلى إن العلم والتكنولوجيا ينبغي أن يكونا كالشمس والهواء ، حقا مشاعا بين كل الشعوب، ولقد شن حملات حادة على سياسات البنك الدولي وممارساته ، وخاصة عندما حاول الترويج للمتاجرة في المياه . وهو من المناهضين الأشداء لفكرة العولمة ، ويرى فيها استعمارا جديدا ، وهدرا لحقوق الضعفاء . وقد يجعله ذلك في صدام مع بعض الجهات ...
الخادمة العجوز لم تدلنا إفادتها على شيء بل لعلها زادت الحادثة غموضا :
" ...قبل اختفائه بيومين ، حملت إليه عشاءه في التاسعة ليلا ، ثم تركته فوق المائدة كما أمرني ، وكان هو في مكتبه الواسع الكبير الذي يحرص دائما على أن يبقى مغلقا ، ولا يسمح لي بتنظيفه وتهويته مطلقا ! لست أدري ما إذا كان ينظفه بنفسه ، أم إن تلك المرأة الغامضة هي التي تباشر ذلك ؟ هكذا تركت العشاء على المائدة ، وأغلقت الباب كالعادة ، ومضيت إلى غرفتي كما تعودت أن أفعل منذ سنوات . كان ذلك مساء السبت ، أي بداية راحتي الأسبوعية . أما تلك المرأة الغامضة ،فإني لا استطيع أن أصفها لكم ! فهي كالحرباء ، كل مرة يعطي مظهرها انطباعا مخالفا للمرات الأخرى ... حتى قامتها يخيل إلي أنها تتغير ، فأحيانا تبدو طويلة ، وأحيانا متوسطة القامة ، وأحيانا أخرى أقرب إلى البدانة والقصر . الشيء الوحيد الذي لا يتغير فيها ، هو نظاراتها السوداء ، ذات الإطار الفضي ، ومعطفها الأسود الطويل ، وتعاليها علي ، وامتناعها عن محادثتي ، وجمالها الواضح الذي جعلها تتصرف بكبرياء وغرور معي على الأقل . وقليلة هي المرات التي اتقيت بها طوال خدمتي هنا ، غير أن بعض الجيران أخبروني أنهم كثيرا ما رأوها تدخل العمارة في أيام راحتي الأسبوعية ، أو بعد التاسعة ليلا وتبقى أوقاتا طويلة هنا معه . وبالرغم من محاولتي معرفة أسرارها ، أو طبيعة علاقتها به ، لم أستطع الوصول إلى شيء . فقد كانت لا تحدثني إطلاقا ، والدكتور بطبيعته ميال إلى الصمت ، حريص جدا على الصمت والسكينة، يكره الضجيج ولا يطيقه إطلاقا . حتى مفاتيح البيت والأقفال والمزاليج ، مصممة من ذلك النوع الذي لا يحدث أي صوت لدى تشغيله . إذا تكلم فبعبارات مقتضبة تكاد تكون همسا ، كلها أوامر أو على الأصح رجاء والتماسا . فقد كان لطيفا معي إلى حد كبير ، لم تصدر عنه ولا مرة إساءة لي طوال خدمتي معه . حتى مرتبي لم أطالبه به يوما . في الموعد بالضبط ، أجده على المنضدة أو كان يسلمه لي مباشرة عندما أدخل إليه القهوة أو البريد ، في ظرف مختوم . وعندما أفتحه أجد مرتبي غير منقوص ، وكثيرا ما أجد به تنفيلا هاما في المواسم والأعياد .
حتى زواره قليلون ... بما أني أنام كما تعودت في حدود التاسعة ، فإنني لم أعرف أغلب الذين يتصلون به ، فقد كانوا يأتون عندما أكون نائمة على ما يبدو ..."
غموض آخر واستفهامات أخرى ...فمن هم زوار الليل ؟ ومتى تنتهي زياراتهم ؟ وتلك المرأة ، هل هي امرأة واحدة أم نساء كثيرات تشابهن في بعض الصفات ؟ ما معنى إصرارهن جميعا على استعمال نظارات سوداء ؟ ثم لماذا لا يدع الخادمة تنظف مكتبه وتعيد ترتيبه ؟
عندما فتحت المكتب أول مرة وجدته نظيفا مرتبا ، ولم أجد هواء متعفنا مما يدل على أن أحدا كان يحرص على تهويته وتنظيفه باستمرار . هو أو هي ... تلك المرأة الغامضة . الأدراج كلها مغلقة ، وزجاج المكتب نظيف لماع ، واليومية مفتوحة على اليوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر ، وعبارة وحيدة مكتوبة بخط أنيق نقول : غدا عيد الميلاد الأخير ؟!
على جانب المكتب ثمة صحف يومية ، أجنبية ومحلية يبدو من طريقة طيها أن أحدا اطلع عليها اطلاعا سريعا ، مر على عناوينها بسرعة ثم أعاد طيها . على المقعد لفت انتباهي وجود شعرة طويلة لامرأة شقراء الشعر .
شعرة شقراء ... ولكن الخادمة لم تشر إلى أنها رأت امرأة شقراء الشعر تدخل إلى هنا . ولو كان ذلك لأشارت إلى الأمر ، إذ يبدو الشعر الأشقر مع الملابس الداكنة ، والنظارات السوداء ، نشازا لا يمكن أن تخطئه العين مهما كانت محايدة .
غامض آخر ينضاف إلى بقية الغوا مض التي تتوالد باستمرار ، مما يجعل المهمة في غاية الصعوبة .
تناولت إحدى الصحف ، ولكن لم أجد بها ما يسترعي انتباهي فتركتها هناك . في الجهة الأخرى من المكتب ، وجدت مجلة علمية صادرة في إحدى العواصم الأجنبية منذ ما يقرب من ثلاثة أسا بيع . فتحت المجلة فوجدت بها بطاقة دعوة قديمة موضوعة على عنوان كبير :
" الجينات طريق لمعرفة بداية الحياة على ظهر كوكبنا "
هذا إذا أجدت الترجمة ، هو العنوان . ولما تصفحته تصفحا سريعا وجدت أنه قد حظي باهتمام خاص من الدكتور عارف ، فثمة بعض الجمل والأفكار والمعادلات ، وقع التأشير عليها بالقلم الأحمر ، كما أنه عمد في بعض الصفحات ، إلى إضافة ملحوظات بخط دقيق مليء بالرموز والمعادلات ، مما يجعله عصي الفهم على غير المختصين . ولما واصلت تقليب المجلة ، وتصفح الفهرس ، لأتعرف على أسماء الكتاب الذين شاركوا في تحرير هذا العدد ، وجدت بينهم اسم الدكتور عارف نفسه .
عدت إلى هذا المقال معللا النفس باستجلاء بعض الحقائق والاتجاهات التي يمكن أن تزرع بصيص ضوء ولو خافت في هذا الموضوع الغامض ، فينير بعض جوانبه ، ويساعد على استجلاء دوافع اختفائه الغريب . حتى وإن كانت المجلة علمية وكل المقالات متخصصة ، بعيدة عن المشاعر الشخصية ، إلا أنه يمكن ، مثلا ، معرفة الحقول العلمية التي يعمل بها ،ومن ثمة يمكن استخلاص بعض المعلومات عن اهتماماته وعلاقاته بمعاهد ، أو أشخاص أو مؤسسات . هكذا كنت أعلل النفس ، لذلك تناولت المقال بشيء من الحماس أول الأمر .
كان مقالا طويلا مليء بالإحالات على مصادر أغلبها أجنبية ، وبلغات مختلفة مما يدل على أن الرجل كان يجيد أكثر من لغة . واسع الاطلاع ،ثري المراجع ، غزير العلم ...غير أن أسلوبه العلمي الذي يكتب به ، لا يخلو من تعقيد وصعوبة في المتابعة . فكانت استفادتي منه متواضعة جدا .
كان الموضوع بعنوان : " الصوت والصدى " غاية ما استطعت فهمه منه ،زيادة عن المعلومات البسيطة ، والتي يعرفها كل الناس ، والتي لم يركز عليها الكاتب كثيرا . فكرة واحدة وهي : هل بالإمكان – في يوم من الأيام – إعادة بعض الأصوات التي أطلقها الإنسان منذ أن وجد على سطح الأرض وتسجيله من جديد وإدخالها إلى المخابر لمعرفة الماضي معرفة دقيقة؟ وبعد أن يضع هذا الافتراض ، وحين يبدأ في التمهيد للبرهنة على إمكانية تحققه ، يغرب في الغموض بدرجة لم استطع أن أفهم منه شيئا .
فتر حماسي قليلا وتناولت بطاقة الدعوة التي كانت موضوعة في المجلة لأرجعها إلى مكانها بالضبط ، لأني أريد أن اترك كل الأشياء بعد الإطلاع عليها كما وجدتها تماما حتى أتمكن من تصحيح ما أبديه من فروض وما أصل إليه من استنتاجات ، وتسهل علي المراجعة والتثبت عندما أحتاج إلى ذلك .
فجأة لمحت على أحد الصفحات صورة لإنسان آلي ، يبدو غريب التقاطيع ، ولكنه شديد الشبه بالبشر العادي . ولما قرأت الخبر وجدته يتحدث عن طبيب جراح استطاع أن يبني إنسانا من عظام اصطناعية من معدن صلب وألبسه غشاء شبيها بجلد الإنسان ، حتى أصبح هذا الهيكل نسخة متميزة ولكنها شديدة الشبه بالإنسان . وقد جعله يمارس نشاطه ، ويتحرك عن طريق محرك داخلي صغير .استطاع هذا المخلوق العجيب أن يؤدي خدمات جليلة للدكتور الذي صنعه. فهو يجيب عن الهاتف ، ويسجل المكالمات الهامة ، ويتصل بسيده على المحمول حين يكون خارج المنزل ، عندما يتطلب الأمر ذلك ، ويتولى تشغيل جهاز التكييف ، وإنارة الغرف وتنظيفها ، وترتيب المكتبة حسب أنظمة رقمية أعطاها إياه الطبيب ، كما أنه قادر على تشغيل الحاسوب ، والاستفادة منه في كثير من المجالات . كما تقول المعلومات القليلة المصاحبة للصورة !
أشعلت سيجارة وجعلت الولاعة بجانب المنفضة حيث كانت السيجارة تشتعل ، ثم استدرت بالكرسي ،حيث أصبح ظهري باتجاه المكتب ، أتطلع إلى المكتبة التي تحتل أكبر مسافة في المكان . مكتبة كبيرة مليئة بالكتب . وتساءلت : ألا يمكن أن يكون بين صفحات هذه الكتب أثر أو وثيقة ما توضح بما لا يدع مجالا للشك ، دواعي اختفاء الدكتور عارف ؟ ثم قلت : لو عمد أي إنسان إلى تصفح كل هذه الكتب حتى بدون قراءتها لاستلزم ذلك سنين عديدة . كم هو جبار الرجل الذي استطاع أن يستوعب كل هذه المؤلفات . ورأيت أن مهمتي تزداد صعوبة إذا أنا سرت في هذا الاتجاه ، أعني محاولة استنطاق هذه الكتب ، والبحث عن الحقيقة بين أوراقها .
هذه كتب تحوي حقائق أخرى محايدة لا تتعلق بخصوصيات أحد ، وليست هي مجال اهتمامي . شيء واحد إذا كان موجودا وعثرت عليه ، يمكن أن يكون مفيدا لي : المذكرات الشخصية الخاصة بالدكتور . لمعت هذه الفكرة وتوهجت في ذهني ، وتحمست لها سريعا ، كما لو كانت الطريق الوحيد نحو الخلاص والتمكن من هتك أسرار هذا الغموض . تركت الكرسي الدوار وأخذت أتمشى بجانب رفوف المكتبة أتطلع إليها بإعجاب ويأس : الإعجاب بالعقل الذي استوعبها ، واليأس من استطاعتي استنطاقها جميعا كما ينبغي . آلاف الكتب ، بعضها مجلد أنيق وبعضها مغلف بغلف ورقية مرصوفة رصفا جيدا ، وكأنها حجارة في بنيان ، كل كتاب يحمل رقما ، وكذلك كل الرفوف مرقمة هي أيضا ، إلى جانب علب كرتونية مرقمة ومنظمة في رفوفها .
استرعى انتباهي فراغ صغير بين كتابين كبيرين في الرف العلوي فاستعملت مقعدا قريبا وصعدت عليه . لاحظت بين الكتابين شيئا صغيرا أبيض ، كأنه رسالة أو ورقة مطوية . احتلت وأخرجته بلطف ، فإذا هو ظرف أبيض عادي . رسالة معطرة ! هكذا قلت وأنا أفتح الظرف لما داعبت أنفي رائحة العطر المعتق في الرسالة . كانت فرحتي كبيرة وقلت :
- "مادامت هذه الرسالة معطرة فهي من امرأة ولا شك ، وهي ستبوح ببعض الأسرار إن لم يكن كلها ... قلوب الرجال أقفال حصينة لا تبوح بمكنوناتها إلا للمرأة ... والدكتور عارف رجل وإنسان مهما كان عالما ومهما كان وقورا ... " رجعت إلى المكتب وتصفحت الرسالة سريعا .
للأسف لم تكن الفرحة كاملة ... رسالة حب ما في ذلك شك ، جياشة بالعواطف ، لا ريب في ذلك . لكنها من امرأة عاشقة مضى على عشقها زمن ليس بالقصير .
" صوفية " هكذا توقع رسالتها ، بدون أن تختمها بقبلة وداع ، أو بصورة قلب رماه " كيوبيد " بسهم ، كما تفعل المراهقات العاشقات ...
من هي صوفية ؟ ... لو أمكن التعرف عليها لكان ذلك كشفا لفترة من حياة هذا الرجل ولا شك.فمن تكون صوفية هذه ؟
خيط مهم من الخيوط التي يمكن أن توصلنا إلى اللفة الأصلية التي تنطلق منها وتلتقي عندها جميع الخيوط وتتقاطع كل فرضيات القضية . لكن كيف يمكن التعرف على صوفية هذه ؟ أين توجد ؟ ماذا تشتغل الآن ؟ من أي بلد هي ؟
الاسم من الأسماء النادرة ... وإذا كانت امرأة مرموقة المكانة في المجتمع ، فثمة أمل ولو ضئيل في التعرف عليها .
عدت إلى الرسالة أقرأها من جديد بتمعن وانتباه شديدين ، أحاول أن استشف الكلمات وأكشطها وأتشممها : كل حرف كل كلمة ، كل همسة ، كل صرخة . لعلي أعثر على أي شيء يمكن أن يهديني إلى الاقتراب منها ومعرفة هويتها .
- "... كم أنا محتاجة إليك يا عارف ، في هذه الوحدة القاتلة ،في هذا الشتاء البارد الطويل."
هكذا تبدأ صوفية رسالتها . هي حسب تجربتي بداية غريبة في رسائل العاشقات . كما أن صاحبتها تبدو متمرسة بفنون الكتابة ، متمكنة من أساليب الخطاب . كما تظهر أن العلاقة بينها وبين حبيبها علاقة وطيدة وطويلة ، قطعت مراحل كثيرة من الحب ، حتى أصبحت غير محتاجة إلى تأكيد حبها وغرامها كما تفعل المبتدئات . كما أفهم أنها امرأة ناضجة ومجربة . لم تقل يا حبيبي ، أو أيها الغالي ، أو أي شيء من دلك . قالت : يا عارف . وذلك يوحي بعلاقة طويلة وبانسجام حميم ...
لكن هذه كلها معلومات ضبابية لا تلقي على ما أريد ضوءا
" محتاجة إليه ، في وحدة قاتلة ، شتاء بارد طويل ..."
إنشاء لا يتوفر على حقائق .
_ "... يشتد البرد في الغرفة ، وأعمد إلى الأغطية أكدسها فوقي ، وأستحضرك فأتوهم الدفء ، وأتذكر أيامنا حين كنا هناك في بلد الصقيع ، نحك جسمينا ببعضهما حتى لا نتجمد في الفراش ، ثم نفعل أشياء تحمر منها خجلا وجنات النجوم !.."
نبرة الصدق غي هذا المقطع ناصعة الوضوح ، تهز المشاعر وتشيع دفئا في صبارة الصقيع عجزت أن توفره الأغطية .
رائعة هي صوفية ، مالكة لأرقى أساليب الكتابة ، وأكثرها شفافية كما قلت لكم . هاهي في هذا المقطع تلقي ضوء ولو شحيحا ، على لمة الليل التي أحاول إن أجليها بصدق عجيب ، لا يدع مجالا للشك . فهي والدكتور عارف ، عاشا معا في بلدان الجليد والثلوج ، في أحد دول أوروبا على ما يبدو ،حيث ترعرعت علاقتهما ونما حبهما . ربما درسا هناك معا أو ذهبا في إحدى دورات التكوين أو عاشا هناك زمنا لسبب من الأسباب ، هذا أكيد .
يخيل إلي أنني أستطيع أن أتحقق من ذلك عن دراسة الملف الشخصي للدكتور : أين درس؟ في أية بعثة ؟ متى تخرج ؟ أين سكن ؟ من هم رفاقه ؟ هل كان بينهم طالبة تحمل اسم صوفية ؟
من جديد تختلط علي الأمور وتتداخل الأحداث . كنت أريد البحث عن هوية صوفية لأتعرف من خلالها على أسباب اختفاء الدكتور ، فإذا بي أقرر البحث في حياة الدكتور عارف لأتعرف على هوية صوفية !
تختلط وتتشابك علاقات الناس ، وتتقاطع منحنيات حياتهم ومصالحهم في اندماج عجيب .
بقيت حائرا مضطربا ، تشعبت المسالك أمامي وتداخلت وأصبحت كمن وضع فجأة في مفترق طرق في مدينة لا يعرفها ...وفجأة تذكرت الشعرة الشقراء التي وجدتها على المقعد قبل قليل ، ولست أدري لماذا اقترنت في ذهني بصاحبة الرسالة . ولكن بعد طول تأمل وتفكير ، فتر حماسي من جديد ، ووجدت نفسي بعيدا على المنطق . فمن قال إن صوفية شقراء الشعر ؟ وحتى لو كان ذلك صحيحا فليست هي الشقراء الوحيدة في هذا البلد ...
داهمني إحساس بالتعب ، فقررت التوقف عن العمل ، خاصة وإن الساعة أصبحت تشير إلى الثامنة إلا ربعا . أخذت أحوصل ما توصلت إليه هذا اليوم لكي أعد تقريري اليومي الذي سوف يساعدني أثناء إعداد التقرير العام ، ثم لكي تكون أهم الفرضيات معي دائما ويمكن الرجوع إليها حتى وأنا في فراش النوم . فكانت الخلاصة كما يلي :
* حكاية الفيل والفأر
* صوفية وغرامها بالدكتور
* المرأة الشقراء ، من تكون وما علاقتها بالدكتور
* زوار الليل ...لماذا لا يأتون في وضح النهار ؟
* الخادمة ، هل كانت صادقة وهل قالت كل الذي تعرفه ؟
* من هي المرأة التي كانت معه في المسرح ذات مساء ؟
حين انتهيت من تسجيل هذه النقاط ، تناولت السيجارة التي وضعتها في المنفضة قبل حين ، فوجدتها منطفئة ، فأردت إشعالها من جديد . بحثت عن الولاعة ،وكنت قد وضعتها إلى جانب المنفضة ولكن لم أجدها حيث وضعتها ، في حين إني كنت متأكد تماما من وضعها هناك ، وركزت عليها جيَدا ، ومع ذلك داخلني شك ، فبحثت عنها في كل جيوبي ، ولم أعثر عليها ، قلت لعلي تركتها على أحد رفوف المكتبة لما كنت أتطلع إلى الكتب ؟
لما وقفت متجها نحو المكتبة ، سمعت ورائي تماما وفوق المكتب بالضبط ، حركة غريبة كاصطفاف جناحي طائر ، ثم في لحظة التفاتي سمعت صوت وقوع الولاعة على زجاج المكتب ، تناولتها حائرا ولما مسستها ، وجدتها حامية كأنما كانت تستعمل !... استغربت الأمر ، وأحسست برعشة خفيفة ، وشيء من الخوف . أشعلت السيجارة وبقيت برهة مستغربا ، ثم خرجت بعد أن أطفأت الضوء وأحكمت إغلاق الباب وأمرت الحارس بالانتباه الشديد في حراسة المكان .
لما كنت نازلا مع المدرج ، وقبل الوصول إلى مخرج العمارة بقليل ، انطفأ النور فجأة ثم اشتعل من جديد ، وفي نفس اللحظة التي انطفأ فيها النور ، أحسست بضربة على جمجمتي كادت تصرعني ! ولما اشتعل الضوء من جديد بعد جزء من الثانية في تقديري ، لم أجد أي إنسان معي ، وحتى الجدران على الجانبين ليس بها نوافذ ولا أبواب ، وحدي ملقى على "درابزين" المدرج !
اشتدت حيرة وبقيت واقفا وحيدا أتسمع جيدا ، علي أسمع حركة أو صوتا ، متأملا حولي ، لعل شيئا ما سقط صدفة على رأسي ، ولكن لم أسمع أي صوت ...
_ عجيب . ما هذا . هكذا قلت .
بعد لأي خرجت إلى الشارع ،كان البرد شديدا والرياح عاتية ، والمطر ينزل بين الحين والحين ، بعد البرق والرعد فيحيل الشارع إلى سواق وبرك وأوحال . قصدت سيارتي ولما أردت فتح الباب وجدته مفتوحا تماما يكاد يكون ظاهرا للعيان من بعيد ، لم يكن بالسيارة شيء ، تفقدت الراديو كاسات فوجدته في مكانه ، فأشعلت المحرك وانطلقت بعد لحظات .
بعد مسير ربع ساعة تقريبا وقفت أنتظر الضوء الأخضر ، وبينما كنت صامتا أنتظر بنفاذ صبر قلقا مضطربا ، انتبهت إلى أن المذياع مفتوحا .لما زدت الصوت سمعت موسيقى هامسة ، ثم فجأة سمعت ما يلي :
_ "يشتد البرد في الغرفة ، وأعمد إلى الأغطية أكدسها فوقي فأتوهم الدفء وأتذكر أيامنا حين كنا في بلد الصقيع ، نحك جسمينا ببعضهما في الفراش حتى لا نتجمد من البرد ، ثم نفعل أشياء تحمر منها خجلا وجنات النجوم ..."
أسمع هذا بصوت نسوي رقيق وبإلقاء فصيح بليغ . ثم تعود الموسيقى الهادئة إلى الانسياب ، ويتخافت الصوت شيئا فشيئا حتى يضيع تماما .
شعرت من جديد بالخوف والحيرة معا . زمرت السيارات خلفي وانتبهت إلى أن الضوء الأخضر قد اشتعل منذ لحظة فانطلقت ، ولما تجاوزت تقاطع الطرقات ، ملت إلى اليمين وأوقفت السيارة ، وبقيت مرتبكا حائرا ،وقتا ليس بالقصير ، أفكر في هذا الذي سمعت .هذا مقطع من رسالة صوفية التي وجدتها في مكتبة الدكتور عارف فكيف جاء إلى المذياع؟!
ومن أذاعه ؟ مستحيل أن يقع ذلك . أشعلت ضوء السيارة الداخلي ، وتأملت المذياع جيدا ، فوجدته مرتبا على موجة (fm ). وزادت حيرتي : نادرا جدا ما أستعمل هذه الموجة في التقاط الأنباء أو سماع الأغاني، [ل إني لا أتذكر أني استعملتها يوما .
يبدو أن أعصابي هي التي تعبت من جراء تركيزي طوال أربع ساعات ، في هذا الموضوع الشائك . لكن هذه حاجة شاذة بالنسبة لي ، فقد قضيت أكثر من ثماني ساعات، أعالج مواضيع شائكة مرات عديدة ولم أتعرض لمثل هذا الذي تعرضت له هذه المرة ! فهل إن تقدمي النسبي في السن هو السبب ؟ لا أعتقد ذلك ، فخمسون عاما لا تعتبر تقدما في السن ، ولا تحدث مثل هذه الأعراض ، خاصة وأنا رجل موفور العافية ، لم أشكو يوما مرضا ما أراقب صحتي باستمرار وقبل أسبوع فقط قال لي طبيبي :
_ "أنت ما زلت شابا بأتم معنى الكلمة. كل شيء في جسمك يشتغل كما لو كنت ابن عشرين. "فما سبب هذه اللخبطة ؟
قررت أن أنسى ما وقع وأن أنطلق إلى منزلي في الضواحي الشمالية ، ولكن بعد مسير دقائق وجدت نفسي مضطرب الأفكار ، مشوش الحركات . فقررت الدخول إلى مقهى قريب ، حتى تهدأ أفكاري وتخف الحركة في الطريق خشية أن اصطدم ببعض السيارات أو المترجلين ؟
كان المقهى صغيرا مكتظا ، طلبت قهوة وبقيت واقفا أبحث في زوايا القاعة علني أجد مقعدا أجلس فيه . أخيرا شغر مقعدان كان يجلس عليهما شاب وشابة ، يبدو من هيئتهما أنهما طالبان مهذبان . فقد لمحت في وجهيهما طيف ابتسامة مهداة إلي بالتأكيد .
سعيت إلى أحد المقعدين ، وجلست أترشف القهوة الدافئة ، وما زلت شارد اللب ، مضطرب الأفكار في منتهى الحيرة . هل صحيح ما سمعت في مذياع السيارة ؟ هل إن إعجابي بهذا المقطع من رسالة صوفية هو الذي جعلني أتصور أني أسمعه من المذياع وأنا وحيد في سيارتي ؟ ... لنفترض أن ما سمعت كان وهما ، ولكن ما تفسير ما حدث قبله في المدرج ؟ فما زالت جمجمتي تؤلمني قليلا . ربما زلقت قدمي حين انقطع النور ، فوقعت على "الدرابزين " أيكون انطفاء النور واشتعاله صدفة لا غير؟ وباب السيارة من فتحه ؟ لم أغفل ولا مرة فأتركه مفتوحا طوال عشرين عاما ، تعودت على ذلك فأصبحت أقوم به بصفة آلية وعفوية ...
ربما كان سارق هو الذي فتح الباب ثم رأى أحدا مقبلا ظنه صاحب السيارة ففر ثبل أن يسرق الراديو كاسات .
كنت غارقا في هذه الافتراضات بين الشك واليقين ، ولكن خوفا حقيقيا بدأ يسكنني . أصبحت على قناعة تكاد تكون تامة أنني في حالة غير عادية
أتذكر أني قرأت شيئا عن علم الظواهر الخارقة ، ولكن لا أعتقد خلخل في نفسي اعتقادي القديم بأن حدوثها أمر غير مقبول نفسيا ومثير للخوف والاستغراب .
إذا كانت هذه الأشياء حدثت فعلا فهي خوارق غير مقبولة ، تدفع إلى الحيرة والخوف ، وإن لم يقع منها شيء وغاية ما هنالك تصورات لا وجود لها ، فمعنى ذلك إني أصبحت أتصور وجود أشياء غير موجودة ، وذلك مدعاة إلى خوف أكبر ، فقد تكون أعراضا أولية لكثير من الأمراض ، ليس الجنون بعيدا عنها ...
أخيرا صرفت نفسي عن هذه الشكوك ، وأخذت أترشف قهوتي الدافئة متلذذا ، محاولا نسيان كل شيء ، وشعرت بشيء من الدفء يتمشى في جسمي ، فجعلت بدني يسترخى على المقعد وغفوت قليلا :
" ... كنت أسير في طريق جبلي ، والقمر يلقي آخر أشعته على الأشجار والمغاور والوهاد على جانبي الطريق ، حين لفت نظري رجل نائم على القارعة غير بعيد من كومة أحجار . لما تقدمت منه وألقيت عليه السلام لم يرد ، وكان وجهه مغطى بطرف ثوبه ، فعمدت إلى نزع الغطاء عن وجهه ، فإذا هو رجل مذبوح من الوريد إلى الوريد وما زال الدم ينز من عروقه دافئا !
صرخت كالمجنون ، وانطلقت أعدو بكل ما في عزمي من اندفاع ، وخلت أني أسمع وقع أقدام تعدو خلفي ، وتصورت المجرم الذي فتك بالرجل يريد الفتك بي أنا أيضا . واندفعت عدوا وقتا طويلا حتى كدت أسقط من الإعياء ، فتوقفت أتسمع جيدا مدة من الزمن حابسا أنفاسي ...
لا شيء يسمع على الإطلاق غير أصوات الصراصير ونقيق الضفادع في مستنقع الوادي . خف خوفي وهدأ رعبي قليلا ، وواصلت طريقي حتى من الله علي برفيق كأنه نزل من السماء ، بعثته القدرة الإلهية ليؤنس وحشتي في هذا الطريق المقفر .
أنست به وبدأنا نتبادل الأحاديث والطرائف والأخبار ، ثم خطر ببالي أن أسأله _ وهو الذي كان يسير أمامي في هذا الطريق على ما يبدو _ : هل رأى ذلك الرجل المسكين المذبوح على قارعة الطريق ؟ فقلت له :
_" هل رأيت شيئا غريبا في الطريق قرب أكوام الحجارة في منعطف الوادي ؟ "
_ " لا ... لم أر شيئا غير عادي . هل رأيت أنت شيئا ؟"
فقلت له :
_ رأيت شيئا عجيبا مروعا فضيعا !
" ما هو ؟ "
" هكذا قال رفيقي ، مواصلا سيره بلا مبالاة حسب ما بدا لي . فقلت له :
رأيت رجلا مذبوحا من الوريد إلى الوريد ملأني رعبا . "
فجأة استدار الرجل نحوي قائلا :
ألا يشبه هذا ؟
وأشار إلى رقبته !
ولما نظرت إليه ، وجدته هو أيضا مذبوحا ذبحا فضيعا ، والدم يشحب منه حارا ، بل كان هو نفسه ذلك الرجل بعباءته الرمادية ، وعمامته البرتقالية فكاد يسقط قلبي ..."
أفقت من حلمي ووجدتني أنطلق من المقهى عدوا " وعند السيارة انتبهت إلى أني نسيت المفاتيح في مكاني ... عدت سريعا فوجدت الوضع كما تركته : مكاني شاغر وبجانبه ذلك المقعد ما زال لم يجلس عليه أحد . رأيت المفاتيح فوق ظرف مختوم ، فأخذتها مع الظرف ، وتذكرت أني نسيت أن أدفع ثمن ما شربته ، فتوقفت أمام القابض ، وعندها فقط انتبهت إلى أن القاعة أصبحت شبه فارغة ، قد غادرها أغلب روادها ، وإذا بالطالب وصديقته يخرجان من الباب ، ويفتحان مطرية نسائية ويحتميان بها وينطلقان إلى سيارة صغيرة ، كانت رابضة وراء سيارتي .
انطلقت مسرعا ضاما طرفي معطفي فوق صدري اتقاء للريح الباردة والأمطار ، وقصدت سيارتي .
لاحظت أن حركة المرور تضاءلت كثيرا ، سيارات قليلة متباعدة تمر في طريقي والطرق التي تتقاطع معها ، تطلعت إلى ساعة السيارة فوجدتها تشير إلى التاسعة وعشرين دقيقة . عجيب . هل نمت في المقهى ؟ هل كان الرجل المذبوح الذي قابلني مرتين وملأني رعبا حلما ؟
من المؤكد أني مريض ... لا شك في ذلك ...
أوقفت السيارة أمام منزلي ، وحمدت الله أني وصلت سالما ، وأسرعت باستدعاء الطبيب ، طلبته صوفية زوجتي ، وجاء سريعا .
- " ليس ثمة ما يدعو إلى الخوف ، غاية ما هنالك ، حمى حادة أدت إلى نوع من الاحتقان والضغط عن طريق الارتفاع الحاد في للحرارة ."
- هكذا قال الدكتور عماد .
- في الواقع لم أذكر له تفاصيل ما وقع لي بالضبط ، استنكفت من ذلك لست أدري لماذا ؟ غاية ما قلت له ، إني أشعر بأني لست على ما يرام ، ينتابني أحيانا شعور بالخوف ، وأتصور أشياء لا وجود لها .
- " استعمل هذه الأدوية الليلة ، وستصبح بحول الله عاديا جدا ، لكن تجنب السياقة لمدة طويلة ، لأن أحد هذه الأدوية مهدئ ، ويمكن أن يتسبب في النعاس عند التعب . "
- حين خرج الطبيب دعوت صوفية ، وفجأة أصبح لاسمها معنى جديدا ، كأني اكتشفت هذه اللحظة فقط أن اسمها صوفية ! صحيح أنني أدعوها دائما صفاء ، منذ خمس سنوات ، وهكذا يناديها جيرانها ، ولكن اسمها الأصلي " صوفية " ووجدتني أعود إلى صوفية ، عشيقة أو حبيبة الدكتور عارف .
- لست أدري بقدرة أي شيطان مارد صرت أضعها في مكانها ! وأحاول أن ألبسها المواصفات القليلة التي كونتها عن صاحبة الرسالة ، وأصبحت أتساءل ك متى ذهبت زوجتي إلى المسرح آخر مرة ؟ وأين كانت قبل زواجي بها منذ خمس سنوات ؟ وأين درست ؟ وتذكرت أنها تكتب الشعر أحيانا وهي دكتورة مبرزة .
- باختصار أصبحت كأنني أتهمها ...يا للفظاعة ...يا للجنون .
- قررت بيني وبين نفسي ، الصمت والخلود إلى الرقاد إ ن أمكن. ناولتني صفاء الدواء ، ثم غطتني ووضعت فوقي أغطية كثيرة كما طلبت منها ، وتذكرت مقطع الرسالة الذي سمعته في المذياع ثم أخذني النعاس ...
- " ...كنت يومها أيسر في " شارع النجمة " الساعة السابعة مساء عندما أصبح المطر يتهاطل بغزارة والريح تعصف بجنون ، دخلت بهو عمارة أتقي الريح والأمطار . كان البهو مظلما ، تنعكس عليه أحيانا أضواء السيارات وأنوار" النيون " عندما تتحرك الأشجار الكثيفة القائمة على جانبي الطريق فتنيره إنارة ضعيفة.
- لاحظت قريبا مني في بهو العمارة بابا جانبيا بلون عاتم يدخل إليه بين الحين والحين بعض رجال ونساء ، وكنت أنا في زاوية مظلمة ، ومعطفي أسود ومطريتي سوداء يصعب الانتباه إلى وجودي أو لم يهتم أحد بي . فركزت على هؤلاء الذين يدخلون إليه . كنت أرى كل واحد قبل أن يدخل ، يضع عينيه على ثقب المفتاح ، ويذكر أرقاما بعينها . وأنا أتابع ما يجري ، حتى جاءت امرأة خلت أنها صفاء ، نفس الحذاء نفس المعطف نفس القامة ،هكذا بدت لي تلك المرأة ، ففعلت ما فعل الآخرون ودخلت وانغلق الباب وراءها .
- تقدمت من الباب ، ووضعت عيني على ثقب المفتاح أحاول معرفة ما يجري هناك ، ووجدتني أذكر الأرقام التي كنت أسمع الداخلين إلى هنا يرددونها فانفتح الباب ودخلت ...
- تقدم مني شبح بملابس سوداء ، وألبسني ثوبا أسود طويلا كثوبه تماما ، ألقيت عليه تحية المساء فلم يرد ، ثم أضيء مدرج حلزوني فدخلت .
- بعد لحظات وجدتني في قاعة بها مقاعد يتصدرها مكتب كأنها معدة لاحتضان جلسة أو محاضرة وعلى المقاعد أشباح جالسون فجلست على أحد المقاعد مثلهم . مضى وقت حتى أصبحنا ثلاثة عشر شبحا . حاولت أن أتعرف على صفاء ، فلم أتكن من ذلك . كان الجميع يرتدون نفس الثوب الذي أرتديه ، لا يظهر من ملامحهم شيء ! غاية ما هنالك ، ثقبان صغيران على العينين وثقوب صغيرة جدا على الأنف و الفم ، فبقيت حائرا مستغربا .
- فجأة تنطفئ الأضواء الشحيحة تماما ، وتشع كتابة فوق لوحة سوداء تقول : "اختراق ... اختراق ..."بلون أحمر ساطع يثير الأعصاب . ثم سمعت صوتا يقول : " ترفع الجلسة . وتعاد في التاريخ الموالي ، والمكان المعروف ، ثم خرجنا الواحد بعد الآخر . يخرج أحدنا ، ثم يغلق الباب ، وبعد خمس دقائق يفتح الباب من جديد فيخرج شبح آخر ، وهكذا دواليك .
- " يجتمعون ويتفرقون ولا أحد يعرف أحدا " هكذا قلت في نفسي مستغربا . جاء دوري فخرجت . وفي آخر المدرج ، وجدت ذلك الرجل الذي سلمني الثوب الأسود ، فأخذه مني ، ودفعني إلى الخارج دفعة قوية كادت تحطم عمودي الفقري، وسمعته يقول : " إذا عدت هنا مرة أخرى فقدت حياتك ! لما دفعني الرجل وقعت أمام الباب من شدة الدفعة .ووجدتني أحاول الوقوف متألما
- ناديت صوفية فلم أجدها ، لست أدري أين ذهبت ؟ فتناولت الماء وشربت كوبا كثيرا ، ثم عدت إلى النوم شبه مخدر ...
- استيقظت الساعة السابعة صباحا ، ووجدتني أقل توترا ، وأقرب إلى النشاط ، فقررت العودة إلى تلك العمارة العتيقة بعد الزوال حيث يوجد مسكن الدكتور عارف واستئناف أبحاثي .
- دخلت المكتب الساعة الثالثة ، وناديت الخادمة وطابت منها إعداد قهوة ، وإمرتها بأن لا تترك أحدا يتصل بي ولو كانت هي إلا إذا نادينها .
- - " حاضر سيدي . لك ما تريد . غير أني أريد أن أتحدث معك قليلا قبل الخروج ."
- هكذا قالت وأغلقت الباب وراءها في صمت . أشعلت المدفأة، ثم نزعت معطفي ، و أخذت أبحث في ملفات الدكتور ،أريد العثور على يومياته الخاصة أو يومياته إذا كانت موجودة .
- وضعت كأس القهوة أمامي وترشفت منه رشفة ، ثم عن لي أن أشعل سيجارة ، فأدخلت يدي في جيب معطفي ، وإذا بظرف صغير موجود به ...
- تذكرت ... هذا الظرف أخذته البارحة من المقهى عندما نسيت مفاتيح السيارة فوق الطاولة. هناك كانت المفاتيح فوقه وأخذته مسرعا ووضعته في جيبي . لكن ما قصته ؟ من وضعه هناك وضع المفاتيح فوقه ؟
- فضضت الظرف ، فإذا فيه خصلة شعر لسيدة شقراء ، ناعمة كالحرير ومعطرة ، وقصاصة وردية اللون ،كتب عليها ما يلي :
- " لا ترحل عني يا عارف
لا تتركني شهقة عذراء في فم الحيرة والترقب
وفي يم الضياع تمزقا واغترابا
مفتونة أنا بك ، كاصطخاب الموج ؛بي !
وكغضب العواصف والأمطار ، تحتدم في كثيف الغيوم .
كوجع النيازك ينقض من وراء المجرات لا يحتويه سديم . والتهاب الشموس
كذا حبك وكذا الوجع ، وانتحاب الشراع ، وحنيني إليك ، واحتياجي الأكيد ..."
ثم توقع ، كالعادة . " صوفية "
اشتدت حيرتي وزاد استغرابي . أصبح الأمر محيرا حقا . صرت أنا مراقبا ، بل موضوعا للعبة سمجة لست أدري ما غايتها ، ومن هو ، أو هم الذين يلعبونها معي ؟ فكرت طويلا ووجدتني أعود إلى قصة الفأر والفيل ، والافتراضات والتأويلات التي فكرت فيها يومئذ . لكن ما و مكنب في اللعبة؟ هل أنا الفأر أم الفيل ؟
بعد تفكير طويل، قررت الاستمرار في أبحاثي ،بمنتهى الدقة والحماس ، فلا بد أن وراء اختفاء هذا الرجل أمورا هامة جدا ، ولو كان اختفاء عاديا وبمحض الصدفة ، لما بدأت تحصل هذه الأشياء الغريبة .
مهما يكن من أمر ، فقد قررت أن أواصل عملي بدقة وثبات وببرودة أعصاب وسعة بال متعمدة وكثير من الصبر ورباطة الجأش
قررت البدء في البحث من حيث توقفت أمس . في آخر المكتبة لفت نظري لوحة زيتية كبيرة : شابة طويلة ، قوية البنية ، رشيقة القوام ، عيناها شديدتا الزرقة والصفاء ، شعرها اصفر طويل ينسدل على ظهرها ، ويختلط بالسنابل التي يتفجر بها ، في بذخ صيفي ، تحتضن حزمة من سنابل القمح ، بيدها اليسرى ، تدعمها بصدرها وباليمنى ترفع بعض زهرات من النرجس البري ، كأنما هي تلوح بها لحبيب وراء الأفق .
شيئان يميزان اللوحة ويكسبانها روعة حسب نظري : التآلف الراعش بين صفرة الحقول في الصيف ، وبين شعر الغادة الشقراء ، يبدو الحقل شاسعا ، يمتد بعيدا على مدى البصر . وشعر الشابة ، طويل غزير يتهدل على كتفيها وعجيزتها ، حتى يلامس أهداب السنابل ، ويختلط بها في فوضى رائعة . الصفرة الحالمة الألق ، والصفاء الناصع ، هما الخيط الذي يربط أجزاء اللوحة جميعا .
فستان الشابة أزرق ن أو على الأصح أغلبه أزرق ، تلك الزرقة الخفيفة الآسرة للنفس ،التي نجدها أحيانا في بعض الزهور إبان الربيع ، وعيناها زرقاوان عميقتان ، كبحيرتين تحت سماء صافية ، شديدة الشبه بصوفية زوجي ، غير أن عينيها ، أقل اتساعا وأكثر زرقة . على الزاوية اليمنى، في أسفل اللوحة ، لاحظت كتابة على مستطيل صغير أبيض ، ظننته تعريفا باللوحة ، وصاحبها وتاريخ إنجازها ومكانه . انحنيت أتأمل الكتابة لعلي أضيف معلومة جديدة تساعدني . " إلى الرفيق عارف وزوجته ، تذكار صيف في أكرانيا . ( تشير نندر وف ) " هذه هي المعلومات الموجودة على المستطيل الأبيض الصغير . وجدتني أقول في نفسي : الآن اتضحت بلاد الصقيع التي عاش فيها الدكتور عارف وحبيبته ، كما جاء في رسالة صوفية . وقررت الاتصال مجددا بذلك الجار الذي أفاد بأنه قبل ثلاثة أسابيع ، دخل المسرح مع الدكتور عارف ، وأطلب منه أن يحاول وصف تلك المرأة الجميلة التي كانت ترافقه ، وما إذا كان يملك معلومات أخرى عنها .
حين انحنيت لأقرأ المعلومات عن الصورة ، سقطت ولاعتي من جيب سترتي ودخلت وراء اللوحة . ولما انحنيت لأخذها أكثر لأخذها ،ظهر وراء هذه اللوحة باب مغلق . أزلت الصورة جانبا ،وفتحته ودخلت .
قاعة مستطيلة فسيحة ، بجانب منها أجهزة متنوعة : حواسيب مختلفة الأحجام ، وأجهزة تصوير ، وتحليل للأشعة ، وقوارير ، وأنابيب اختبار ، وموازين وأجهزة تحليل كيميائي وآلات مختلفة الأشكال ، كأنما هي أحد مخابر تحضير الأدوية ، أو مركز بحوث صناعية . وعلى الجدران رسوم تخطيطية بالكمبيوتر مختلفة عصية على الفهم .
وتساءلت :
هل كان الدكتور عارف يملك مخبرا خاصا به ، يجري فيه تجاربه في سرية مطلقة وهذا ما دعاه إلى منع الخادمة من دخول هذا الجناح ؟!
في الجهة الأخرى ستار كثيف ، لما أزلته وجدت نفسي في قاعة جلوس صغيرة أنيقة ، بها ثلاث أرائك بينها طاولة صغيرة من معدن صقيل لماع . في القاعة الصغيرة توزعت تحف وتماثيل غاية في الروعة ، بينها تمثال صغير ل" عشتروت " من المرمر الأبيض المشرب بحمرة خفيفة صقيل ناعم أملس ، يعطيك انطباع أن ما تراه هو عشتروت الحقيقية وليس مرمرا جامدا ، شكله فنان عاشق تخرمه الزمان .كان التمثال موضوعا فوق قاعدة طويلة بعض الشيء ، من خشب صلب أملس ، بني اللون . اقتربت من التمثال مأخوذا بجماله ، أتأمل كل أجزائه فرأيت زرا صغيرا في قاعدته بين القدمين الجميلتين ،لمسته بلطف أولا ،ثم ضغطت عليه، وفجأة حدثت العجيبة :
تحركت قاعدة التمثال فكشفت عن باب صغير . أشعلت النور فرأيت منظرا مرعبا عجيبا : إنسانا آلبا غريب التركيب هو بالغوريلا أشبه له جسم فولاذي موحش، منحني إلى الأمام قليلا ، وبين فكيه الكبيرين رجل يمسكه بأسنانه الفولاذية ، من وسطه تحت صدره بقليل تتأرجح ساقاه من جهة ومن الجهة الأخرى ، يتدلى رأسه وقد خرج لسانه وانطفأت عيناه يقطر منه دم حيث انغرزت الأنياب الفولاذية للوحش .! وما هي إلا لحظة حتى حدثت حركة غريبة ، فسقطت الجثة على الأرض ، وامتدت نحوي اليدان الفولاذيتان الرهيبتان العملاقتان بأصابعهما ذات السلاميات الطويلة الغليظة وكادتا تمسكان بي ، فاندفعت خارجا وانصفق الباب ورائي ، وعادت قاعدة التمثال إلى مكانها ، فخرجت إلى حجرة المكتب وتناولت معطفي مرعوبا ، وأخذت مسدسي ، وتأكدت من امتلاء خزانه بالذخيرة ، وجعلته جاهزا لإطلاق النار .
عدت إلى تلك الحجرة متحفزا ، وضغطت على الزر في أسفل التمثال ، ثم ابتعدت قليلا ، متخذا وضع إطلاق النار بمجرد ظهور الهدف ، لكن التمثال لم يتحرك . اقتربت منه مرة أخرى وضغطت ، ولكن لم يحدث شيء ! استغربت ذلك وحاولت دفعه مع قاعدته فلم استطع .
عدت أضغط على الزر من جديد بكل قوتي فلم يحدث شيء
فجأة سمعت صرخة عالية في بيت الخادمة . خرجت أعدو نحوها ، ولما فتحت بيتها وجدتها ملقاة على أرض الحجرة تسبح في بركة من الدم .
أصبح الأمر في غاية الخطورة . هكذا قلت وأنا أعود إلى المكتب أحاول استعمال الهاتف وطلب النجدة ، ولكن وجدته عاطلا ، وحين كنت أحاول والسماعة على أذني ، التفت حولي فإذا ذلك الوحش الآلي يزيل اللوحة ويخل حجرة المكتب ويتجه نحوي مترنحا بجسمه الفولاذي الرهيب.
انتهت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.