تأتي هذه القراءات التحليلية المتعددة لنص «البحث عن مكان أنام فيه» للحقوقي والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" بوصفها محاولة مركّبة استثمرت ذكاءً تحليلياً مُعزَّزاً بالأدوات الحديثة للذكاء الصناعي، لإضاءة النص من زوايا سوسيولوجية وسياسية وسيكولوجية ونفسية – عائلية. لقد سعت هذه المقاربات إلى تفكيك البُنى العميقة التي يحفرها النص تحت سطح السرد الطفولي، وقراءة التجربة بوصفها مرآة لبنية اجتماعية ريفية، ونظام سياسي قهري، ونفس تتشكّل بين الخوف والتمرّد، وأسرة تُعيد إنتاج السلطة داخل علاقاتها. قراءة سوسيولوجية للنص تركز القراءة السوسيولوجية لنص "البحث عن مكان أنام فيه" للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، على البنية الاجتماعية والثقافية التي تشكّل خلفية التجربة الشخصية، وعلى علاقة الفرد بالمجتمع والسلطة والبيئة القروية. بين العنف الأسري وبنية السلطة الأبوية يكشف النص بوضوح عن بنية اجتماعية راسخة تقوم على السلطة الأبوية الصارمة، حيث يمارس الأب دور "المالك الوحيد" للجسد والقرار. العقاب الجسدي القاسي الذي يدفع الطفل إلى الهرب ليس حدثاً فردياً، بل انعكاساً لثقافة اجتماعية ترى التأديب واجباً أخلاقياً. هروب الطفل ليس فقط خوفاً من الألم، بل تمرّدًا غريزياً ضد منظومة تنتج الخضوع والطاعة بوصفها سلوكاً معيارياً. هذه التجربة تلامس إشكالية اجتماعية أوسع: الفرد في المجتمعات الريفية التقليدية ليس "ذاتاً مستقلة"، بل امتدادٌ للعائلة، وتجاوزه للحدود يراه المجتمع خروجاً على النظام الكلي. منتج اجتماعي الطقوس الشعبية عن عذاب القبر، ومشاهد منكر ونكير، وحكايات "الطاهش" والضباع، ليست مجرد خيالات طفل، بل منتج ثقافي جماعي تتوارثه القرى. هذه القصص تعمل اجتماعياً كآليات للضبط الأخلاقي، وأدوات لترسيخ الامتثال الديني، ووسائل لتشكيل الضمير الجمعي وتحديد حدود "المسموح والممنوع". والخوف في النص ليس نفسياً فقط، بل جزء من "بنية رمزية" تنتج الأوهام كأدوات للردع. والمقبرة هنا ليست مكاناً مهجوراً فحسب، بل مساحة مقدّسة محمّلة بمخزون هائل من الأساطير المحلية التي تصنع رهبة أكبر من رهبة الواقع. فاصل بين الحياة والموت يمثّل لجوء الطفل إلى المقبرة محاولة لا واعية للبحث عن مأوى خارج المجال الاجتماعي. لكن المقبرة نفسها في المخيال الشعبي ليست "خارج المجتمع"، بل فضاء مُراقَب من المعتقدات. لذلك يشعر الطفل بأنه غريب "عن الأحياء والأموات معاً". وهذا الشعور يعكس حالة الإقصاء الاجتماعي الناتجة عن العنف الأسري: الفرد لا يجد مكاناً آمناً داخل المجتمع، فينسحب إلى مكان لا ينتمي إليه أصلاً. تجسيد لثقافة التخويف التربوي الوصف الطويل لمنكر ونكير ليس مجرد خوف ديني، بل انعكاس لتنشئة رافقت جيلاً كاملاً: تربية قائمة على التهديد بالعقاب الأخروي بدل الحوار والتفهّم. وفي المجتمعات التقليدية، تؤدي هذه الصور دوراً مركزياً في: تشكيل أخلاق الأطفال، وضبط سلوكهم دون حاجة لرقابة مادية، وتجذير الطاعة العمياء للسلطة (الأسرة، المجتمع، الدين)، وبذلك تصبح الخيالات الدينية أداة اجتماعية للضبط. نموذج "ثابت صالح" شخصية ثابت صالح تمثّل قيمة اجتماعية مهمة: "الفقراء الأخلاقيون" في المجتمعات الريفية، الذين لا يملكون شيئاً لكنهم يشكّلون شبكات أمان اجتماعية. استضافته للطفل ليست مجرد طيبة، بل ممارسة لتقاليد الريف: حماية الأطفال، الاستجابة للأصوات المشبوهة ليلاً، التضامن الفطري بين الناس. وهذا السلوك يقوم مقام مؤسسات الحماية الحديثة الغائبة (شرطة، إسعاف، دعم اجتماعي). إنه تجسيد لنظام التكافل الأهلي الذي يملأ فراغ الدولة. القرية كنسق اجتماعي حيّ في النص تظهر القرية مثل كائن واحد: أصوات الخطوات تُسمع، كل حدث ينتشر، البيوت مفتوحة للغريب، العلاقات محكومة بالتداخل العائلي. وهذا ينسجم مع نظريات علم الاجتماع عن المجتمعات المتجانسة: مجتمع يقوم على القرابة، القيم المشتركة، والعلاقات المباشرة. التسلق في الليل لا يمر دون أن يسمعه أحد، ما يعكس شبكة رقابة اجتماعية طبيعية، تختلف عن رقابة الدولة، لكنها أشد حضوراً. الحنان البديل النص يقدم "أسرة بديلة" لدى خالة الطفل وزوجها: الأم الطيبة، السراج، الدموع، الرحمة. هذه التجربة توضح مفهوم الإحلال الأسري في السوسيولوجيا: حين يفشل النظام الأسري الأساسي (الأب)، يقوم النظام القرابي الموسّع بدور التعويض. وهذا النمط شائع في المجتمعات اليمنية الريفية حيث الأسرة الممتدة تؤدي أدواراً: تربوية، نفسية، اقتصادية، لتغطية ضعف الأسرة النووية. التوتر بين الأجيال حادثة إطلاق النار تعبّر سوسيولوجياً عن انفجار التوتر الكامن بين جيلين: جيل الأب الحامل لقيم القرية الصارمة، وجيل الابن الذي يسعى للانفلات من هذه القيم. والرصاصة هنا رمز مزدوج: احتجاج على السلطة الأبوية، إعلان عن بداية تشكّل شخصية متمردة (وهو ما يظهر لاحقاً في شخصية أحمد سيف حاشد الحقوقية والسياسية). خلاصة سوسيولوجية النص يُظهر أن تجربة الطفل ليست فردية، بل هي مرآة لمجتمع ريفي تقليدي تحكمه: السلطة الأبوية، والثقافة الدينية القائمة على التخويف، الفقر والحرمان، والتضامن الشعبي البديل لمؤسسات الدولة، الخرافات كأدوات ضبط اجتماعي، شبكة اجتماعية محكمة تحركها القرابة والسمعة. إنه نص عن مجتمع يصنع الخوف، ويُنتج الحماية، ويعيد تشكيل الفرد من خلال آلياته الطبيعية: العائلة، القرية، الذاكرة الشعبية، والتجربة القاسية. مقاربة سياسية المقاربة السياسية لنص "البحث عن مكان أنام فيه" تركّز على ما يكشفه النص عن طبيعة السلطة، العلاقة بين الفرد والمنظومة القمعية، وبنية المجتمع السياسي في اليمن. السلطة السياسية الأولى العلاقة بين الطفل وأبيه ليست مجرد علاقة أسرية، بل تُقدَّم رمزياً كعلاقة بين الفرد والسلطة الغاشمة. فالأب يمارس سلطته بالعنف، دون مساءلة، ودون توازن في القوة، وهو ما يحاكي بنية الأنظمة السياسية التقليدية: سلطة مطلقة، عقاب غير مُبرَّر، غياب الحوار، استناد إلى "حق القوة" لا "قوة الحق" وبهذا يصبح الأب مجازاً عن الدولة الاستبدادية التي لا تسمح للفرد بالهرب إلا إلى "الهامش" أو "القبور". انسداد المجال السياسي هرب الطفل إلى المقبرة لا يعبّر عن خوف فقط، بل عن غياب فضاء آمن داخل البنية السياسية والاجتماعية. في الدول التي تعاني من القمع، يهرب الناس إلى: الهامش، الظل، العزلة، الأماكن التي لا يتواجد فيها رجال السلطة. المقبرة هنا تشبه "المنافي الداخلية": مكان خارج أعين السلطة، لكنه أيضاً غير قابل للحياة. وهذا الهروب هو صورة لانسداد الأفق السياسي: لا بيت ولا دولة تحمي الفرد، ولا مكان يمكنه أن يعيش فيه بسلام. الأساطير كأداة ضبط وصف منكر ونكير وعذاب القبر ليس دينياً فقط، بل يعكس كيف تُستخدم المرويات الدينية في المجتمعات الاستبدادية لتشديد الطاعة والخضوع. والسياسة هنا تعمل عبر أدوات "غير سياسية": الوعظ، الخوف، العقاب الأخروي. وهذا يتقاطع مع فكرة أن السلطة تستخدم الدين لترسيخ السيطرة، وتدجين الخيال الشعبي بحيث يخاف الفرد من مساءلة السلطة كما يخاف من حساب الموت. وبهذا يُفهم النص كإشارة إلى أن ثقافة الخوف التي تُنتجها الأنظمة تشبه ثقافة عذاب القبر: خوف متواصل، غير مرئي، لا مهرب منه. دور ثابت صالح يمثّل السياسي "العضوي" بحسب تعبير غرامشي، أي ذلك الإنسان البسيط الذي لا سلطة لديه لكنه يؤدي وظيفة اجتماعية وسياسية مهمة: حماية الضعفاء، إيواء الهاربين، ممارسة التضامن خارج مؤسسات الدولة. وفي مجتمع تغيب فيه دولة العدالة، يلعب الأفراد مثل ثابت دور "الدولة البديلة" التي توفر الأمان الحقيقي. وهذا يعكس فشل السلطة الرسمية، ونجاح "سياسة الناس" مقابل "سياسة الدولة". امتداد للقمع السياسي العنف الذي يمارسه الأب هو نسخة مصغرة مما تمارسه الدولة. الطفل في القاع تحت ضرب الأب، يشبه المواطن في "القاع السياسي" تحت ضرب الأجهزة الأمنية. وبهذا يُفهم النص كأنه يقول: نحن نتربى على الطاعة قبل أن نحكم بها، ونتلقى القمع في البيت قبل أن نستسلم له في المجتمع. أول لحظة تمرد سياسي حين يطلق الطفل الرصاص على جدران الديوان، فهذا يُقرأ سياسياً كفعل رمزي ضد: سلطة الأب، النظام العائلي المغلق، كل ما يمثّله "الديوان" من حكم وتقاليد وشرعية اجتماعية. حاشد في النص يعيد قراءة طفولته ليرى فيها بذرة التمرّد الذي قاده لاحقاً إلى: الدفاع عن الحقوق، مواجهة سلطة الدولة، تحدي المنظومات التقليدية. الحدث إذا ليس مجرد انفعال طفولي، بل "انفجار سياسي صغير". نسق شبه سياسي القرية في النص تُمارس نوعاً من السياسة الجماعية: مراقبة أصوات الليل، التدخل في الطوارئ، تداول الأخبار، احتواء الصغار، ممارسة العدالة الأهلية. وبهذا تتجلى السياسة البديلة التي تعمل حين تفشل الدولة: سياسة مبنية على التضامن، المواطنة غير الرسمية، وحماية المهمشين. مجاز للوطن اليمني لو وسّعنا مستوى القراءة، سنجد أن النص كله يمكن قراءته كمجاز لوضع اليمن: بيت عنيف يساوي السلطة، وطفل هارب يساوي الشعب، والمقبرة تساوي الحرب والموت. وثابت صالح يساوي اليمني البسيط الذي ينقذ ما يمكن إنقاذه. أما إطلاق الرصاص يساوي الانفجار السياسي والحروب، والعودة المشروطة للبيت يساوي التسويات القسرية، والحنان البديل عند الخالة يساوي رغبة الناس في دولة رحيمة. والنص في جوهره سردية سياسية عن وطن يعاقب أبناءه، وعن شعب يبحث ليلًا عن مكان آمن ينام فيه. خلاصة سياسية نص "البحث عن مكان أنام فيه" ليس سيرة طفولة فقط، بل نقد سياسي عميق لنظام اجتماعي وسياسي يقوم على: القمع، الخوف، السلطة الأبوية، غياب الدولة العادلة، حضور "الناس" مقابل غياب "المؤسسات" وهو في النهاية دعوة إلى بناء دولة تحمي، لا دولة تُرهب، وإلى استبدال "منكر ونكير السياسيين" بنظام قائم على الكرامة. قراءة سيكولوجية استنباطية هذه القراءة تستنبط شخصية أحمد سيف حاشد من خلال نصّه «البحث عن مكان أنام فيه». معتمدة على تحليل البنية الرمزية، وأنماط الخوف، والعلاقات الأولية، وآليات الدفاع، وشخصية الكاتب كما تتبدّى من السرد. حساسية شديدة النص يكشف عن حساسيّة مفرطة تجاه: الألم، الظلم، الخوف، أصوات الليل، نظرات الآخرين، غضب الأب، العذاب الماورائي. وهذه الحساسية ليست ضعفاً، بل تكوّن لاحقاً الوعي الأخلاقي الحاد الذي يميز حاشد سياسياً. الطفل الذي يشعر بكل شيء، ويتأثر بكل شيء، يصبح لاحقاً: شاهداً على الألم الجمعي، رافضاً للقسوة، حساساً تجاه معاناة الفقراء والسجناء والضحايا. والحساسية هنا أصل من أصول شخصيته السياسية. الخوف الوجودي المبكر الصور التي يختارها حاشظ في النص ليست صور خوف عادية، بل خوف وجودي من: الموت، العذاب، الظلام، الجحيم، فقدان الحماية، المجهول. وهذه ليست مخاوف طفل فقط؛ إنها مخاوف إنسان يبحث عن معنى في عالم مليء بالعنف. والخوف الوجودي المبكر ينتج لاحقاً شخصاً: يقاوم السلطة لأنها تهدّد وجوده، يرفض الظلم لأنه عاشه على مستوى جوهري، يبحث عن الأمان في المعنى لا في القوة. إنه طفل كوّن فلسفته من الخوف، ثم حوّل الخوف إلى تمرّد. صناعة شخصية رافضة للهيمنة الأب في النص سلطة قاسية: يعاقب، يضرب، يرعب، يطارد الطفل، لا يوفر الأمان. التجربة مع الأب تصنع نمطاً سيكولوجياً واضحاً: رفض السلطة القهرية في كل صورها. زهذا يشرح لاحقاً: مواجهات حاشد السياسية، نبرته الاحتجاجية، نصوصه المليئة بنقد السلطة، ومواقفه المستقلة داخل البرلمان، وصدامه مع الأنظمة المتعاقبة (صالح – القوى الانتقالية – الحوثيين). من يُظلم صغيراً يصبح أكثر حساسية تجاه الظلم كبيراً. الخيال كآلية دفاع النص مليء بصور متخيلة: منكر ونكير، تحليق من السماء، سياط من النار، وجوه مخيفة، مقبرة تنبض بالأشباح، الضباع والطاهش. هذا النوع من الخيال ليس مجرّد سرد، بل آلية دفاع نفسية تُعرف ب"الخيال الكارثي"، الذي يستخدمه الإنسان ليفرّ من الألم، لكن أيضاً ليفهمه. وهذه القدرة التخيلية القوية هي التي جعلت حاشد لاحقاً: كاتباً سردياً مميزاً، سياسياً يستشعر الخطر قبل وقوعه، محللاً يقرأ "ما وراء الأحداث"، ناقداً يمتلك بُعداً فلسفياً والخيال هنا ليس هروباً، بل وسيلة لبناء وعي عميق. الحاجة العميقة للأمان كل النص هو بحث عن: حضن، مكان، شخص، ضوء، بيت، دفء. وهذه الحاجة النفسية القديمة تتحول لاحقاً إلى: التزام بالدفاع عن المهمشين، رفض للخذلان، حساسية تجاه الضحايا، ورفض للأنظمة التي لا توفر الأمان. والطفل الذي لم يجد أماناً في البيت يبحث عن الأمان في العدالة. من الضحية إلى المناضل النص يجعل الطفل ضحية: الأب يضرب، الخوف يطارد، الليل يفترس، المقبرة ترعب، والسلطة الدينية تخيف. لكن النهاية تكشف عن تحول: الطفل يواجه، لا يستسلم، يقرر، يختار طريقه، يتخذ خطوات جريئة (الهروب – اللجوء – الاعتراف – العودة). وهذا التحول يشرح شخصية حاشد السياسية: يبدأ ضحية نظام، يتحوّل إلى خصم لهذا النظام، يكسر الصمت، ينشئ خطاب مقاومة، يواجه سلطة تلو الأخرى دون خوف. وهنا صار حاشد الطفل المقهور صار سياسياً مقاوماً وهي رجل. الذات المتولّد من الألم حاشد في النص طفل "مكسور" لكنه يرفض الانكسار. زهذا النموذج معروف في علم النفس ب"النمو بعد الصدمة"، إذ يتحول الألم إلى: طاقة، قوة أخلاقية، إرادة، ورغبة في التغيير، إيمان بالكرامة. ولهذا نجد في شخصية حاشد: صلابة نادرة، عناد إيجابي، نزعة للحقّ مهما كان الثمن، شعور عالي بالضمير. شخصية ثنائية النص يكشف عن معادلة سيكولوجية مهمة: داخلياً: كثير الخوف، خارجياً: كثير المواجهة. هذا التناقض ليس ضعفاً، بل آلية تعويض نفسي تسمّى: "التعويض المفرط". فالخائف يصبح مقاوماً ليعالج خوفه بالجرأة. وهذا ما نجده في حاشد السياسي: يكسر التابوهات، يكشف الفساد، يواجه المسلحين، يقود احتجاجات، يكتب بجرأة استثنائية، والشجاعة هنا ليست نقيض الخوف، بل ابنته. شبكة العلاقات الحضور الدافئ لزوجة ثابت صالح يكشف: تعلقاً إيجابياً بالبدائل الأمومية، حاجة للحنان، ميل إلى الأشخاص الحنونين، نزعة للاحتماء بالضعفاء لا بالأقوياء. وهذا ينعكس على شخصية حاشد السياسية: يقف مع البسطاء، يتعاطف مع العمال والجرحى، ويثق بالناس لا بالسلطة، ينحاز للهامش. خلاصة سيكولوجية من خلال النص، يمكن استنباط أن أحمد سيف حاشد يمتلك شخصية تتكون من عدة أبعاد: حساسية عالية تجاه الألم والمعاناة، أصل في تكوينه السياسي والحقوقي، خوف وجودي مبكر، تحوّل إلى وعي ونقد ومواجهة، ورفض داخلي للسلطة القهرية، ناتج عن تجربة أبوية قاسية، وخيال قوي واستثنائي، يُستخدم لفهم الواقع لا للهروب منه. حاجة عميقة للأمان، تحولت إلى مشروع سياسي للدفاع عن الضعفاء. نمو بعد الصدمة، من طفل ضحية إلى رجل مقاوم. شجاعة مبنية على تحويل الخوف إلى قوة، وهذا واضح في مسيرته. انحياز وجداني للفقراء والطيبين، نتيجة خبرته المبكرة بالحنان البديل. قراءة سيكولوجية لدور الأخ تحليل نفسي – اجتماعي معمّق لدور الأخ في النص، تركز على وظيفته في البنية العائلية، وطريقة تعامله مع الحدث، ودلالاته على شخصية الأخ وصورة العائلة في وعي الكاتب مُستَلِم للاتهام الأبوي عندما يعود حاشد الطفل إلى لبيت، الأب يبدأ حديثه مع علي ب: "شوف أخوك أيش اشتغل!!" وهنا الأخ لا يظهر كحامٍ ولا كطرف محايد، بل كجزء من بنية السلطة العائلية: الأب يحمّله مسؤولية "تقييم" سلوك أخيه الأصغر، ويعامله ك"رجل البيت الثاني"، ويسلّمه دوراً رقابياً/تأديبياً ليقوم به لاحقاً. هذه الديناميكية تكشف أنّ علي ليس فقط أخاً، بل وكيل للسلطة الأبوية. انتقال السلطة حين يري الأب ثقوب الرصاص ل"علي"، هو يفعل ذلك لسببين: تحميله شعور "العار العائلي"، إطلاق الرصاص في البيت يراه الأب: تجاوزاً، خروجاً عن السيطرة، فضيحة أو عيباً، فيرسّخ في علي: "شوف أخوك... هذا ضرر على البيت" أي: أنت مسؤول عن إعادة الانضباط المفقود اتخاذ إجراء الأب لا يكتفي بالشكوى؛ إنه يحرك علي للقيام بفعل مباشر. وهذا يظهر في الفعل اللاحق: علي يأخذ الطفل إلى بيته. البديل الأبوي بعد الشكوى، علي يفعل شيئاً حاسماً: أخذني أخي إلى بيته. هذا الفعل له معنيان نفسيان: احتواء السلوك الخطير أي: تحييد الطفل عن غضب الأب الذي قد ينفجر مجدداً. وعلي هنا، يمتص توتر الأب، ويمنع العنف من التصاعد، يقوم بالدور الذي لم يعد الأب قادراً على القيام به بدون قسوة، إنه حاجز واقٍ جزئياً. محاولة فرض نظام بديل: أخذ الطفل إلى بيته يعني: "سأعيد تربيته بطريقتي" و "أنا المسؤول عنه الآن" و"هذا الخلل سأعالجه أنا". وهذا ينسجم مع شخصية الأخ الأكبر الذي يشعر أن عليه: حراسة سمعة البيت، تأديب الأصغر، السيطرة على الفوضى. جسر بين العنف والحماية النتيجة الأهم أن علي لا يحمي الطفل بنفسه، بل ينقله إلى بيت خالته أم علي، وهي امرأة حنونة، أمومية، بديلة "أغرقتني بحنانها وطيبتها الغامرة" وهذا يكشف أن النظام العائلي: الأب يقابل القسوة، الأخ يعادل الضبط الوسيط، الخالة تساوي الحنان. والأخ هنا لم يوفر الحنان بنفسه، لكنه قدم: قراراً يعيد الطفل إلى بيئة عاطفية، وحل عملي يخفف معاناته، وخروج سلس من دائرة العنف. إنه يقوم بفعل إيجابي سلوكيًا لكنه ليس عاطفياً. دور الأخ علي يمثّل "السلطة القابلة للإصلاح"، الأخ ليس مثل الأب. الأب سلطة عقابية قاسية، والأخ سلطة تنظيمية، أقل حدّة. وهذه ثنائية مهمة: الأب يُشعر الطفل بالخوف، والأخ يُشعر الطفل بالضبط، اما الخالة تُشعر الطفل بالأمان. وهذا يخلق طبقات من السلطة داخل الأسرة. شخصية عملية علي يتصرف بدون غضب، وبدون استجواب الطفل، وبدون احتضان، بل يتصرّف عبر خطوة عملية: أخذه إلى بيت آخر مناسب، وهذه طريقة تفكير "حل المشكلات". الحماية غير المباشرة هو لا يحتضن الطفل، لكن: يبعده عن مصدر الخطر، ينقله إلى محيط آمن، يتدخل بطريقة متوازنة. وهذا يدل على ان الأخ علي شخصية واقعية، اجتماعية، توازن بين الخوف من الأب والمسؤولية تجاه الأخ الأصغر. إعادة الاستقرار الأخ علي أعاد الطفل إلى النظام العائلي لكن بوساطة حنونة، ودور الأخ هنا يمثل: "استعادة النظام بدون إعادة القسوة". وهذا مهم في تشكيل رؤية حاشد لاحقاً للسلطة السياسية، هناك سلطة قاسية، وسلطة يمكنها إعادة الأمور بدون إيذاء. الخلاصة دور الأخ علي في النص يعبّر عن ثلاث وظائف نفسية واجتماعية: 1. وكيل للسلطة الأبوية يتلقّى غضب الأب ويدير تنفيذه بطريقة أقل قسوة. 2. حامٍ غير مباشر لا يواسي الطفل، لكنه ينقذه من مزيد من العنف عبر نقله لبيئة آمنة. 3. موزّع الأدوار العائلية يستعيد توازن العائلة بإبعاد التوتر عن البيت وتحويل الطفل إلى الخالة. نص" البحث عن مكان أنام فيه" أحمد سيف حاشد قفزتُ من فوق الدار ولذتُ بالفرار إلى مكان غير بعيد.. تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض جبل في "إجت الجفيف".. شعرتُ بالوحشة والقلق والخوف.. من المستحيل أن أنام هنا ومازال الفجر بعيداً.. مكان غير مأمون من مفاجآت ربما تختبئ أو تقبع قيد الانتظار. كنتُ أتوجّس أن يخرج الأموات من قبورهم.. لا أعرف واحداً منهم، وهم أيضاً لا يعرفونني إذا وجدوني فوق قبورهم أو قريباً منها، بل أشعر أن بيننا غربة وبرزخ يمنعاننا من أي تقارب أو تفاهم. ثم إنني لا أريد أن أسمع عذاب الموتى وهم يتألمون.. لا أحتمل سماع ملائكة العذاب وهم يسألون الموتى بما يعجمهم، أو يعجزهم عن الجواب، وما يأتي بعدها من شدّة وعقاب. كنت أتخيّل منكراً ونكيراً على نحو مرعب وبشع إلى حد بعيد.. يخلعان القلوب حتّى وإن كانت قطع من حديد.. جزع وهلع يتفجر ويزلزل الدواخل.. مخيالي ينبعج ويتمزّق بما أتخيّله من كاسر ومهول.. صدري يتكوّم داخلي، ثم يعج بالرعب المزلزل.. صور مُرعبة مُتخيّلة لا أراها إلا في بعض الكوابيس الثقيلة التي تصل بي إلى حواف الموت، وشهقة الفراق إلى الأبد.. ما أشبهها بعهد نعيشه اليوم، إن لم يكن عهد اليوم أثقل وأبشع وأرعب من منكر ونكير بألف ضعف، ومعهما عزرائيل قبّاض الأرواح. كنتُ أتخيّلهما بشعرِ أشعثٍ وغبرةٍ مُخيفة.. وجهان متجهمان ومتورمان بالغضب والغلاظة التي تكاد أن تنفجر شروراً وحرائق واسعة تأكل أخضراً ويابسا.. في وجوههما قسمات وأخاديد عميقة ومريعة تتحفّزُ للوثوب علينا.. تستعجلان موتنا شهيّة في العذاب الذي لن يستطيعا أن يعيشا بدونه. حواجب غلاظ كالمكانس، وشوارب مشعثه كالعفاريت.. آذان شعرها نابت فيها كالحطب، وشحماتها متدلية كالمشانق.. لحيتان كثتان كغابة أدركها اليباس.. هول وضخامة في الجسد.. شحم ولحم مكنوز في العوارض والمناكب والأرداف.. لا إحساس لهما ولا مشاعر ولا وجدان.. لا رحمة لديهما ولا رأفة ولا قلب.. بالغين في القساوة وساديين في العذاب.. يستمتعان بالألم وسماع الأنين والولولة.. يسألان الأموات في قبورهم، ويجلدانهم بسياط من نار حامية، حمراء تلتهب. توقعتُ نزولهما من السماء بعد منتصف الليل ليتوليا الحساب والعقاب، وبقدر رعبي منهما، يرعبني أكثر أن أرى رجلاً أو امرأة يُجبران على الصلاة فوق صخرة من جهنم.. لا أتحمّل رؤيتهما على أي نحو كان، ولا أحتمل سماع أصوات الأموات بالألم والعذاب. لقد سمعتُ حكايات كثيرة عن حياة الأموات في القبور، ولا أملك إلا تصديقها لأنني لم أسمع من يكذبّها، أو يشكك فيها.. هكذا نحن نتعاطى مع معظم المسلمات، وكثيراً غيرها..!! نتقبّل ما يروى ويتناقل دون تمحيص أو شك أو سؤال. * * * انتابني إحساس جارف بضرورة مغادرة هذا المكان الذي بدا لي مخيفاً ومرعباً.. عليّ أن أغادره في اسرع وقت دون تأخير.. رأيتُ من الضروري أن أنام في مكان أقل رعباً وخوفاً من المكان الذي أنا فيه.. أريد أيضاً أن يكون المكان الذي أبحث عنه أكثر أماناً من الضباع والسباع و"طواهش" الليل. يجب أن لا أبعد كثيراً عن بيوت الناس.. إذا ما داهمني "طاهش" أو ناهش أو مفترس أجد من يسارع لنجدتي، أو أنا أسارع مستغيثاً إلى بيت قريب.. لقد سمعتُ كثيراً عن رجال كبار أكلهم "الطاهش" أو افترستهم الضباع، ولم يبقَ منهم في الصباح غير بقايا من عظام وأطراف.. هكذا كنتُ أحدّث نفسي، ويزداد روعي، وتتكالب عليَّ مخاوفي. لجأتُ إلى مكان قريب من منزل شخص طيب يطحنه الفقر، اسمه ثابت صالح.. وجهه الشاحب يميل إلى السمرة.. رأسه ووجه صغير، ولكنه يفيض تسامحاً وطيبةً وسكينة.. كان يكدح كثيراً بإيجار زهيد.. يحرثُ الأرض للناس في المواسم المطيرة وليس لديه أرض.. يحمل الأحجار الثقال لبناء منازل للناس، فيما بيته متواضع وحزين، ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك، وأخلاقه عظيمةً، أعظم من أصحاب كل القصور. سمع ثابت صالح خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له آذان.. سمع حصوات وأحجاراً تتساقط بسب تسلُّقي بعض الجدران ونتوءات الجبل.. أيقن أن هناك أمراً ما.. وجه ضوء كشّافه نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث.. أزداد يقيناً بوجود شيء يستدعي الاهتمام. بدا لي شجاعاً حيث لم يكتفِ بمناداتي، بل صعد إلى المكان الذي كنتُ فيه ليستطلع ويكشف الأمر.. ربما كان قد سمع صراخي حال ما كان أبي يضرب رأسي في القاع، وأفترض أنني الطفل الهارب من قسوة والده في لجة الليل البهيم.. ربما ضوء الكشاف الذي سلّطه على مكاني جعله يرى ملامح طفل، فأراد التأكد أو استكشاف الأمر أكثر.. الحقيقة لا أدري غير أنه وجدني وعرفني، وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته. نزلتُ برفقته.. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمّي.. لم تصدّق أنني من وجده زوجها في الجبل في تلك الساعة من غلس الليل. * * * رحبت بي زوجته ترحيب الأم المحبة.. صوتها الدافئ والرخيم كان يمنحني كثيراً من الألفة والود والشعور بالأمان.. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أماً ثانية وأباً حنوناً هو زوجها.. سألتني عمّا حدث، ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا؟! حكيتُ لها ما حدث.. اغرورقت عيناها بالدموع وسالت على وجنتيها البارزة كجداول.. ذبالة السراج الوالعة بيننا, كشفت دموعها التي كانت تسيح بصمت غريب. شعرتُ بعاطفة جارفة عندهم، وحب كبير أبحث عنه.. ما أجملكم أيها البسطاء الطيبون.. قلوبكم بيضاء نقية عامرة بالحب، وماطرة بالحنان والجمال والمعروف. وفي الصباح نقلت زوجة ثابت صالح الخبر بسر وكتمان لأمي المريضة بسبب ما حدث لها منّي ومن أبي، وطمأنتها بيقين، وبعد يومين عدتُ لدارنا بعد مفاوضات تتعلق بسلامتي تمت على خير. عدتُ إلى دارنا وكان أبي يشكو لأخي "علي" الذي كان مسافراً عندّما حدث إطلاقي للرصاص من البندقية في ديوان دارنا.. سمعت أبي وهو يقول له: "شوف أخوك أيش اشتغل!!.. كان يريه جدران الديوان المثقوبة بالرصاص، وما لحق بها من ضرر.. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في نفس القرية عند خالتي أم علي زوجة أبي الثانية التي أغرقتني بحنانها وطيبتها الغامرة. * * *