دائرة التوجيه المعنوي تكرم أسر شهدائها وتنظم زيارات لأضرحة الشهداء    حذرت كل الأطراف الدولية والإقليمية من اتخاذ القرار ذريعة للإضرار بمصالح الجمهورية اليمنية..    الرئيس المشاط يُعزي الرئيس العراقي في وفاة شقيقه    نوهت بالإنجازات النوعية للأجهزة الأمنية... رئاسة مجلس الشورى تناقش المواضيع ذات الصلة بنشاط اللجان الدائمة    الماجستير للباحث النعماني من كلية التجارة بجامعة المستقبل    الدكتور بشير بادة ل " 26 سبتمبر ": الاستخدام الخاطئ للمضاد الحيوي يُضعف المناعة ويسبب مقاومة بكتيرية    مدير المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه ل " 26 سبتمبر " : التداعيات التي فرضها العدوان أثرت بشكل مباشر على خدمات المركز    هزتان أرضيتان جنوب وغرب محافظة تعز    قراءة تحليلية لنص "محاولة انتحار" ل"أحمد سيف حاشد"    التأمل.. قراءة اللامرئي واقتراب من المعنى    الكاتب والباحث والصحفي القدير الأستاذ علي سالم اليزيدي    ايران: لا يوجد تخصيب لليورانيوم في الوقت الحالي    المؤامرات السعودية ووعي اليمنيين    بعد فشل المواجهات العسكرية أمام صمود اليمنيين.. الأجهزة الأمنية تطيح بأخطر المخططات التجسسية الأمريكية الإسرائيلية السعودية    النرويج تتأهل إلى المونديال    مدير فرع هيئة المواصفات وضبط الجودة في محافظة ذمار ل 26 سبتمبر : نخوض معركة حقيقية ضد السلع المهربة والبضائع المقلدة والمغشوشة    "الصراري" شموخ تنهشه الذئاب..!    خلال وقفات شعبية وجماهيرية .. أبناء اليمن يؤكدون: مساعي العدوان للنيل من الجبهة الداخلية باتت مكشوفة ومصيرها الفشل    مرض الفشل الكلوي (28)    أمن مأرب يعرض اعترافات خلايا حوثية ويكشف عملية نوعية جلبت مطلوبًا من قلب صنعاء    صلاح ينافس حكيمي وأوسيمين على جائزة الأفضل في افريقيا    قطرات ندية في جوهرية مدارس الكوثر القرآنية    البحسني يهدد باتخاذ قرارات أحادية لتطبيع الأوضاع في حضرموت ويتهم العليمي باستهداف المحافظة    طائرة البرق بتريم تتجاوز تاربة ينعش آماله في المنافسة في البطولة التنشيطية لكرة الطائرة بوادي حضرموت    الشعيب وحالمين تطلقان حملة مجتمعية لتمويل طريق الشهيد الأنعمي    حكومة بريك تسجل 140 مشاركًا في مؤتمر البرازيل بينما الموظفون بلا رواتب    تنامي التحذيرات من محاولات الإخوان جر حضرموت إلى دائرة التوتر    البرتغال إلى نهائيات «المونديال» للمرة السابعة توالياً باكتساحها أرمينيا    ضبط شحنة أدوية مهربة في نقطة مصنع الحديد غرب العاصمة عدن    بلا رونالدو.. البرتغال "مبهرة" تنتصر 9-1 وتصل للمونديال    رئيس لجنة المسابقات: لائحة جديدة ودوري بنظام الذهاب والإياب    سياسيون يحذرون مجلس الأمن من تداعيات تجاوز قضية شعب الجنوب ويطلقون وسم #السلام_والاستقرار_بعوده_الجنوب    رئيس تنفيذية انتقالي لحج يطلع على جهود مكتب الزراعة والري بالمحافظة    افتتاح معرض صور الآثار والمعالم التاريخية اليمنية في إب    حضرموت.. حكم قضائي يمنح المعلمين زيادة في الحوافز ويحميهم من الفصل التعسفي    نجوم الإرهاب في زمن الإعلام الرمادي    بعثة المنتخب الوطني تصل الكويت لمواجهة بوتان    رئاسة مجلس الشورى تناقش المواضيع ذات الصلة بنشاط اللجان الدائمة    الجوف.. تسيير قافلة من البرتقال دعماً للمرابطين في الجبهات    ولد علي يعلن قائمة المنتخب اليمني النهائية لتحدي آسيا وكأس العرب في نوفمبر الناري    "العسل المجنون" في تركيا..هل لديه القدرة فعلًا على إسقاط جيش كامل؟    رئيس النمسا المحترم وسفهاء سلطة اليمن في مؤتمر المناخ    الأمير الذي يقود بصمت... ويقاتل بعظمة    "وثيقة".. الرئاسي يعتمد قرارات الزبيدي ويوجه الحكومة بتنفيذها    بدء صرف راتب أغسطس لموظفي التربية والتعليم بتعز عبر بنك الكريمي    تسجيل 22 وفاة و380 إصابة بالدفتيريا منذ بداية العام 2025    أفاعي الجمهورية    سفيرٌ يمنيٌّ وطنه الحقيقي بطاقة حزبه.. تحويل السفارة من ممثل للدولة إلى مكتبٍ حزبي    مريم وفطوم.. تسيطران على الطريق البحري في عدن (صور)    قراءة تحليلية لنص "في المرقص" ل"أحمد سيف حاشد"    في رحلة البحث عن المياه.. وفاة طفل غرقا في إب    بوادر تمرد في حضرموت على قرار الرئاسي بإغلاق ميناء الشحر    انتشال أكبر سفينة غارقة في حوض ميناء الإصطياد السمكي بعدن    وزارة الأوقاف تعلن عن تفعيل المنصة الالكترونية لخدمة الحجاج    معهد أسترالي: بسبب الحرب على اليمن.. جيل كامل لا يستطيع القراءة والكتابة    المقالح: من يحكم باسم الله لا يولي الشعب أي اعتبار    الإمام الشيخ محمد الغزالي: "الإسلام دين نظيف في أمه وسخة"    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة تحليلية لنص "محاولة انتحار" ل"أحمد سيف حاشد"
نشر في يمنات يوم 17 - 11 - 2025

تأتي هذه القراءة التحليلية لنص "محاولة انتحار" ل"أحمد سيف حاشد" والمنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" بصياغة مكثّفة اعتمدت على أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تفكيك البنى السوسيولوجية والنفسية والرمزية للنص، واستقراء أثر التجربة على تكوين شخصية الكاتب.
ومن خلال هذا التوظيف الذكي للتقنية، تُضيء القراءةُ الطبقات العميقة للنص، وتستكشف تموّجات الألم والسلطة والحرية التي تنبثق من طفولةٍ مُثخنة بالقمع والبحث عن معنى.
إنها مقاربة تدمج بين حساسية التحليل الإنساني ودقة المعالجة التقنية، لتقدم رؤية مركّزة لرحلة الطفل بين القهر والاحتجاج، وبين الانكسار ونشأة الوعي.
قراءة سوسيولوجية
يقدّم نص "محاولة انتحار" للحقوقي والبرلماني أحمد سيف حاشد شهادة سردية ذاتية، لكنها — من منظور سوسيولوجي — ليست مجرد تجربة فردية، بل مرآة لبنية اجتماعية راسخة تحكم علاقة الأب بالابن، والمقدّس بالدنيوي، والسلطة الفردية بالسلطة الجمعية، ورغبات الذات بقوانين المجتمع الريفي التقليدي في اليمن.
السلطة الأبوية
يحضر الأب في النص ليس كفرد، بل كمؤسسة اجتماعية تمثل سلطة النظام الأبوي الممتد في المجتمعات القبلية والريفية.
والعقاب ليس سلوكاً شخصياً، بل آلية تأديب اجتماعية تماثل ما يسميه فوكو "تقنيات إنتاج الطاعة"؛ فربط الطفل في الدكان علناً يمارس وظيفة مزدوجة:
إذلال الفرد للسيطرة على عناده، وإشهار العقوبة أمام المجتمع لردع الآخرين.
وعبارة "الابن ملك أبيه" تختصر المبدأ الأساس في النسق الأبوي اليمني: الملكية لا تُفهم هنا بمعناها المادي فقط، بل بوصفها احتكاراً للقرار على الجسد والمصير.
الأم في البنية التقليدية
تقف الأم على الضفة الأخرى من السلطة، لا كمتمرّدة عليها، بل كحاضنة للشفقة وموازنة اجتماعية للعنف.
والأم تمثل "الاقتصاد العاطفي" للأسرة التقليدية:(العطف، الرعاية، البكاء، الانحناء أمام الألم).
بينما يمثل الأب "الاقتصاد السلطوي": العقاب، الضبط، القوة.
ورغم مكانة الأم العاطفية، تبقى مجرّدة من القدرة على صنع القرار. بكاؤها وحنانها لا يلغيان سلطة الأب، بل يكشفان حدود حضور المرأة داخل النسق الاجتماعي.
الجسد المعاقَب
ربط الطفل إلى عمود الدكان لا يعاقب الفعل فقط، بل يعاقب الجسد. هذا الجسد يصبح "نصاً اجتماعياً" يقرأه الناس: "نظرات التعاطف، العجز الاجتماعي عن التدخل، الشرعية الممنوحة لحق الأب في التصرف بابنه".
وهكذا يتحول الجسد إلى مساحة صراع بين السلطة والرغبة، وتنتقل الرغبة لاحقاً من حضور المولد إلى فعل أكثر خطورة: الانتحار بوصفه احتجاجاً أخيراً على القمع.
الانتحار كخطاب احتجاجي
لا يظهر الانتحار هنا كحالة مرضية أو انهيار نفسي، بل كخطاب احتجاج اجتماعي أمام قوة سلطوية مطلقة.
يريد الطفل أن: يستعيد ملكيته لجسده.، ويعاقب الأب بألم الندم، ويكسر منطق "أنا مِلك أبي".
والانتحار في النص ليس موتاً، بل محاولة لتغيير قواعد السلطة.
البقرة
تمثل حضور الطبيعة بوصفها بديلاً للحنان الإنساني، واختيار الكاتب للبقرة ككائن يثنيه عن الانتحار له بعد سوسيولوجي بالغ.
في المجتمع الريفي، الحيوان جزء من "الأسرة الاقتصادية". وتوجد علاقة وجدانية خاصة بين الأطفال والماشية، باعتبارها أقرب الكائنات إليهم.
وحين تخذل الطفل البنية الاجتماعية (الأب/الرجال/السلطة)، يجد الحنان في كائن خارج النظام الاجتماعي بالكامل.
والبقرة هنا تؤدي وظيفة عاطفية بديلة تعجز عنها البنية الإنسانية الذكورية.
القدسية الشعبية
المولد والحرز والأحجبة. وقد أشبع حاشد النص برموز الثقافة الشعبية الريفية.
المولد طقس جمعي يحقق الاندماج بالمجتمع.
الحرز رمز الحماية الروحية من الشر.
رأس شرار مكان زراعي يتكرر في المخيال الريفي.
وهذه العناصر تكشف بنية مجتمع يعيش بين الطقس الديني – الشعبي وبين الاقتصاد الزراعي – البدائي، حيث لا تمثل المقدسات جامداً، بل نظاماً لإدارة الخوف والحياة.
حسّ الوداع
حين يهم الطفل بالانتحار، يتحول النص إلى وصف دقيق للتفاصيل. وهذا ليس مجرد خيال طفل، بل حالة إدراك اجتماعي لما يسميه علماء الاجتماع ب "الوعي بالموت".
والمفارقة أن الطفل يرى الأشياء بوضوح لأن المجتمع أعمى عن رؤيته هو. والوداع هنا احتجاج على غياب الاعتراف الاجتماعي بإنسانيته.
الحب كقوة مقاومة
في النهاية لا ينتصر المنع الخارجي، بل ينتصر حب الأم، وغريزة البقاء، والارتباط العاطفي بالأسرة.
هذه العناصر تمثل "شبكة الأمان العاطفية" داخل البنية التقليدية، التي تمنع الانهيار الكامل رغم القسوة.
خلاصة سوسيولوجية
النص يكشف عن مجتمع أبوي يعيد إنتاج العنف كقيمة تربوية، وسلطة ذكورية تملك الجسد والقرار والمصير، ونسقاً اجتماعياً يحوّل الطفل إلى "موضوع للضبط". وأمّاً تمثل العاطفة لكنها بلا سلطة، وطقساً شعبياً يمنح الطفل معنى، ويصبح غيابه سبباً للانكسار، ورغبة في الانتحار باعتبارها احتجاجاً على بنية اجتماعية مغلقة، وعلاقة عميقة بين الإنسان والطبيعة، حين تغيب الحميمية البشرية.
والنص في جوهره سيرة مجتمع بقدر ما هو سيرة فرد؛ إنه نموذج مصغّر للعلاقة بين السلطة والرغبة، وبين القهر وحنين البقاء، وبين طفولة تُقمع ورغبة تُولد في التحرر.
قراءة سيكولوجية
الانتحار في النص يظهر كحلّ نفسي بدائي أمام قهر خارجي مطلق، وفقدان السيطرة على المصير، ورغبة في استعادة القوة بطريقة احتجاجية.
والطفل لا يريد موت نفسه بقدر ما يريد موت القهر داخله. وهذا النوع من التفكير الانتحاري هو "تفكير رمزي" أكثر من كونه رغبة فعلية في إنهاء الحياة.
استعادة السيطرة
حين يتخيّل الطفل لحظة إطلاق الرصاصة، فهو يمارس تعويضاً نفسياً عن فقدان السيطرة، واستعادة وهمية للقدرة على تقرير مصيره، ومحاولة للشفاء من الإهانة عبر امتلاك قرار جذري.
والتفاصيل الدقيقة التي يتخيلها (الرصاصة، الصوت، الجسد) تُظهر حالة انفصال مؤقت عن الواقع لتخفيف الألم.
الحاجة إلى الحنان
التعلّق المفاجئ بالبقرة يكشف عن حاجة نفسية شديدة إلى دفء غير مشروط، وعلاقة آمنة، وكائن يمنحه قبولاً لم يجده عند الأب.
والبقرة هنا تؤدي وظيفة "الكائن العلاجي"، وتصبح مرآة لاحتياجاته العاطفية المهدورة.
مركز التوازن العاطفي
استدعاء الأم في اللحظة الحرجة يمثّل بحثاً عن مصدر الأمان الأول، ورغبة في العودة إلى الرحِم المعنوي. وتأكيداً لوجود علاقة حب غير مشروط تمنحه سبباً للحياة. وحب الأم يشكل الحاجز النفسي الأخير بين الطفل والانتحار.
الصراع بين غريزة الموت وغريزة الحياة
في النص يتأرجح الطفل بين دافعين كلاسيكيين في التحليل النفسي.
غريزة الفناء: وهي الرغبة في إيذاء الذات للهروب من الألم.
غريزة الحياة: الحب، التعلق، الخوف على الأم والبقرة.
وفي النهاية تنتصر غريزة الحياة لأن دوافع الحنان أقوى من دوافع القهر.
قراءة استنباطية
تركز هذه القراءة على تحليل شخصية أحمد سيف حاشد من خلال نص "محاولة انتحار"، بالاعتماد على مؤشرات السلوك والانفعال والبنية الذهنية التي يكشفها السرد.
شخصية شديدة الحساسية والانفعال
من خلال تحليل النص يتضح أن حاشد شخصية تمتلك حساسية عالية تجاه: الإهانة، والظلم، وفقدان الاحترام، والقسوة الأبوية.
وهذا يشير إلى بنية نفسية مرهفة وقادرة على الإحساس العميق، ما يجعل الألم مضاعفاً.
تقدير عالٍ للذات
برغم صغر سنه، الا ان حاشد الطفل يمتلك وعياً مبكراً بقيمته وكرامته، ولذلك يشعر بأن العقاب انتهاك لهويته، ومنع المولد حرمان من حق الاندماج، والسخرية أو النظرات تُذله. وهذا يعني وجود نواة شخصية قوية.
نزعة احتجاجية
شخصية أحمد سيف حاشد من خلال النص تميل إلى التمرد لا الخضوع، حتى وهو طفل، لم يكن خائفاً فحسب، بل: يتحدى، يخطط،يعاند، ويفكر في "استعادة قوته" عبر الانتحار.
وهذا مؤشر على شخصية احتجاجية قابلة لاحقاً لأن تصبح شخصية ناقدة أو سياسية أو ثائرة.
خيال نشِط
الطفل يتخيل تفاصيل دقيقة: صوت الرصاصة، سقوط الجسد، مشهد الدم، نظرة البقرة، وداع الجبل والشجر والبيت.
وهذا الخيال ليس هروباً من الواقع فقط، بل هو آلية نفسية للتعامل مع الصدمة عبر تحويلها إلى صور يمكن السيطرة عليها ذهنياً.
حسّ عالٍ بالعاطفة والارتباط
العلاقة بالبقرة، وبالأم خصوصاً، تكشف عن قدرة كبيرة على الحب، وحاجة شديدة للحنان، وذكاء عاطفي مبكر، واعتماد على الروابط الوجدانية كخط دفاع نفسي.
وهذه السمات تشير إلى شخصية تُغذّيها العلاقات أكثر مما تُغذّيها القواعد.
صدمة مبكرة وحساسية تجاه القهر
التجربة تترك أثراً نفسياً عميقاً يشبه صدمة الإهانة، وتحقير الذات، والشعور بالخطر العاطفي، وانكسار الثقة بالأب.
هذه الصدمة المبكرة تُفسر لاحقاً في نزعة الكاتب للنقد، وحساسيته تجاه الظلم، وميله للدفاع عن الضعفاء، ووعيه المبكر بالصراع بين السلطة والحرية.
وعي مبكر
حاشد الطفل في النص لا يخاف الموت نفسه، بل يخاف أثر موته على الأم.
وهذا يدل على نضج وجداني مبكر وإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، ووعي بالألم العاطفي الذي قد يخلّفه على المحيطين.
وهذه سمة أساسية في الشخصيات الإنسانية والوجدانية.
ازدواج الهوية الشعورية
شخصية حاشد من خلال النص تتأرجح بين رغبة في الانتقام، ورغبة في الاحتواء، واندفاع نحو الموت، وتمسك بالحياة، وكره للأب، وحاجة غير معلنة إليه.
وهذا الازدواج ليس اضطراباً، بل انعكاس طبيعي لطفل يعيش وسط عنف سلطوي، وعاطفة أمومية، وثقافة شعبية متناقضة.
تكثيف
من تحليل النص، تبدو شخصية أحمد سيف حاشد عميقة الحساسية، مرهفة لكنها قوية، احتجاجية وتميل للاستقلال تتغذى على الحب وتتأذى من القهر، ذات خيال واسع يحرّرها من قيود الواقع.
تكوّنت هذه الشخصية عبر جرح مبكر شكّل نواة وعيها بالظلم والحرية، وتملك قدرة على تحويل الألم إلى وعي، لا إلى عدوان.
التجربة وشخصية الكاتب
تحويل الألم إلى وعي
التجربة التي وردت في نص "محاولة انتحار" نتج عنها جرحٌ مؤسِّس تحوّل مع الزمن إلى مصدر طاقة نفسية ومعرفية. لان الشخص الذي يتعرّض لصدمة مبكرة يشعر بأن العالم غير آمن، فيبدأ مبكراً بمساءلة السلطة، ورفض الظلم، والبحث عن معنى للوجود.
وهذا يُفسّر كيف أصبح حاشد لاحقاً شخصية ناقدة، تشتبك مع السلطة، وتنحاز إلى الفقراء والمقهورين.
وهذه التجربة صنعت لديه حساسية وجودية تجاه كل أشكال العنف.
ذات احتجاجية
الطفل الذي حاول الانتحار احتجاجاً على قسوة الأب هو نفسه الرجل الذي يحتج على السلطة، ويتحدى منظومات القهر، زلا يخضع بسهولة، ويكتب من موقع المقاومة لا الانتماء.
لقد زرعت التجربة في داخله بذرة: "إذا مُسّت كرامتي، أقاوم".
وهذه البذرة نمت في البيئة اليمنية المضطربة لاحقاً لتصنع شخصية سياسية نابضة بالرفض.
الحس الإنساني العميق
الارتباط بالأم والبقرة كرمزان للحنان، مؤشر على شخصية مبكرة تتعاطف مع الضعفاء، ولديها القدرة على فهم الألم البشري، وتظل وفية للروابط العاطفية، لديها مشاعر رقيقة خلف مظهر صلب
هذا ما يظهر في كتابات حاشد التي تمزج بين القسوة تجاه الظلم، واللين تجاه البشر.
إنها شخصية تقاتل بشراسة، لكنها تُحب بعمق.
الوعي المبكر
عقاب الأب لم يكن مجرد حدث عائلي، بل أول درس في السلطة، وجسد السلطة في صورتها الأولية: رجل قوي يملك القرار والجسد والمصير.
وهذا أسّس لاحقاً لنزعة لدى الكاتب لفهم: كيف تعمل السلطة؟ لماذا يتحول البشر إلى جلاّدين؟ وما الفرق بين السلطة العادلة والسلطة القاهرة؟
الطفل رأى "الدولة" لأول مرة في أبيه، فقرر لاحقاً أن يقف ضد "الآباء الكبار".
بناء حسّ الحرية
منع حاشد الطفل من "المولد" زرع في داخله شعوراً حاداً بأن الحرية ليست ترفاً، بل رغبة داخلية أصيلة، وحق وجودي، وشرط للكرامة.
لذلك أصبح حاشد لاحقاً مدافعاً شرساً عن حرية الفرد، ورافضاً لأي وصاية، ومنتصراً لحق الإنسان في الاختلاف.
إنها حرية اكتسبت قيمتها لأنها وُلدت من الحرمان.
تكوين الهوية من خلال الألم
هذه التجربة ليست مجرد ذكرى، بل حجر أساس في بناء الذات، زلحظة إعادة تشكيل للهوية، وحدث يلازم الكاتب كجزء من تكوينه النفسي.
شخص عاش انكساراً مبكراً قد يبقى طوال حياته مشدوداً إلى فكرة العدالة، متحفزاً للدفاع عن نفسه والآخرين، حساساً لأي شكل من التهميش.
وهذا يبدو واضحاً في شخصية أحمد سيف حاشد.
النزعة إلى الواقعية الصادمة
تجربة الاقتراب من الموت في سن مبكرة ترسّخ لدى الفرد نظرة واقعية خشنة، وقدرة على النظر مباشرة إلى الألم، شجاعة في مواجهة الحقيقة كما هي، ونفوراً من التجميل والزخرفة
أسلوب الكاتب لاحقاً يعكس ذلك تماماً، كتابة مباشرة، صادمة، بلا مؤثرات تجميلية.
خلاصة
تجربة "محاولة انتحار" في طفولة حاشد لم تكن حادثة عابرة، بل صاغت شخصيته الاحتجاجية والسياسية، وشكّلت وعيه بالحرية والسلطة والقهر، وزرعت بداخله حساً إنسانياً عميقاً، جعلته أكثر قدرة على فهم الألم والدفاع عن الضعفاء، ومنحت كتاباته عمقاً نفسياً وجرأة نادرة.
إنها تجربة ولادة ثانية مات فيها الطفل المقهور، وولد منها الكاتب المتمرّد.
نص "محاولة انتحار!"
أحمد سيف حاشد
حاولتُ التحدِّي والذهاب عنوةً "مولد الخضر"، ولكن أبي كتّفني وربطني إلى عمود خشبي مغروس في قاع دكانه.. ضربني بقسوة، أحسستُ منها وفي ذروتها أن صاحبها قد نُزعت منه كل شفقة ورحمة.. ظللتُ مربوطاً على العمود الخشبي حتّى جاء الرواح، وفات موعد الذهاب إلى "المولد"، وفات معه عام من عمري المثقل بالانتظار.
كنتُ أستعجل وقت عقابي، وأتمنّى أن لا يطول؛ لعل وعسى أن أدُرِكَ بصيصاً من أملٍ ألحق فيه ساعة من "المولد" قبل الرواح، بمجرد إطلاق سراحي، غير أن أبي فطنَ بما يجوس داخلي، وما استقر عليه عزمي؛ فتعمدَ إطالة عقابي الثقيل، حتّى يدركني اليأس الأكيد من أن ألحق بقايا ذلك "المولد" الذي لن يعود إلا بعد عام طويل.. فُلَّ عزمي وأفل أملي، وتلاشى ما صبرتُ عليه، وقطع اليأس كل محاولة.. لا ذهاب لي ولا رواح، ولا جدوى من أي مسعى أو محاولة. كان الزبائن من مختلف الأعمار يأتون لشراء حاجاتهم من دكان أبي، ويمعنون النظر نحوي، وأنا مكبّل بحبل وثيق ومشدود.. مصلوب قعيد على عمود من خشب.. كان بعضهم يرمقني بحسرة وتعاطف جم، فيما حاول البعض تودد وتوسل أبي دون جدوى، ودون قدرة أن ينقذوني مما أنا فيه.. هنا "الابن ملك أبيه" كالعبد في عهد الرق مِلكاً لسيّده. وبعد فوات موعد الذهاب إلى "المولد"، وتلاشي الأمل أن أدرك قليلاً منه، تركني أبي مربوطاً على حالي، وذهب إلى "رأس شرار" ليجزّ الزرع في موسم الحصاد، فيما أمّي بعد انتظار، وغصص، وسيل من الدموع، هرولت إليّ وفكّت وثاقي، وحضنتني كابن مفقود عاد إليها بعد غيابٍ وانقطاع.. غَشَتني بعطفها وواستني بكلمات من وجع وتصبير.. أمطرتني بنظرات حسرتها وقلة حيلتها مع أبي، ثم ذهبت بعد عطف ورفق وحنان، لتجلب الماء من البئر، فيما كنتُ أحاول أداري نوبة سخط وانفعال واستنفار للانتقام من أبي، حتّى وإن كان بانتحاري.. أردتُ أن ألحِق به أكبر قدر من الغيظ والندم على ما فعله معي.
* * *
بعد أن خرج الجميع من الدار، أغلقتُ بابه من الداخل، وصعدتُ إلى حجرة أبي أعلى الدار، ووجدتُ هناك سلاح والدي قد صار في متناول يدي.. كنتُ أتخيل لحظة إطلاق الرصاصة على رأسي من أسفل ذقني.. أسمع صوتها يدوّي في رأسي ك "الصرنج".. أشعر وكأنني أسمعها حقيقة مدوية وصارخة.. ثم أتخيّل جُثتي، وقد خَررْتُ صريعاً في قاعة الغرفة، وما تلاها من همود وخمود، ونزيف يسيح في القاع، ورأسي المثقوب برصاصة لأقتل فيها أبي ثأراً وانتقاماً من ممانعته وقسوته وغلاظته.
لم أكن أعلم أن بعضاً من رأسي سيتطاير على الأرض والجدار نثاراً وقطعاً صغيرة.. لم أكن أعلم أنني لن أسمع صوت الرصاصة التي سأطلقها على رأسي.. نعم.. لم أكن أعلم أن الرصاصة التي سوف تقتلني لن أسمع صوتها.. لم أكن أدري أن سرعة الرصاصة أسرع من سرعة الصوت، وأنني سأموت قبل أن أسمع صوتها.
كنتُ أعلم أن رصاصة واحدة في الرأس تكفي لأن تقتلني على نحو أكيد، بل وقادرة على أن تقتلني مرتين إن كان لنا أن نعيش الحياة مرتين.. كنتُ أتخيّل أن مفارقتي للحياة ستكون بعد لحظة من إطلاق الرصاصة، ولكن ليس قبل أن أسمع صوتها.. كنتُ أحاول أن أعيش اللحظة كما ارتسمت في وجداني ومخيال طفولتي.
أخذتُ بندقيته الآلية، وعمّرتُها وتمددتُ، ووضعتُ فوهة ماسورتها بين عنقي ورأسي، ووضعتُ أصبعي على الزناد، وأخذت بالعد ثلاثة لأبدأ بإطلاق النار.. واحد.. اثنان، وقبل أن أطلق الرصاص بالرقم ثلاثة، سمعتُ خوار بقرة أمّي، وكأنها رسالة الكون لي لإرجاعي عمّا عزمتُ عليه!! أحسستُ أن بقرتنا تريد منّي نظرة وداع أخيرة أحتاجها أنا أيضاً، وربما تريدني هي أن أكف وأرجع عمّا أنتوي فعله، وربما غريزة البقاء كانت أقوى منّي، ولكنها تبحث عن عذر مُقنع أمام نفسي..!
ذهبتُ لأراها وألقي عليها نظرة وداع أخيرة، وأول ما رأيتُها شعرتُ أنها تترجّى وتتوسّل بألا أفعل..!! هذا ما خلته في خاطرة مرت على بالي القِلق والمضطرِب. أحسستُ أنها مسكونة بي ولا تريد لي بعداً أو فراق الأبد.. قبّلت ناصيتها، ومسحتُ ظهرها، وراحت كفّاي تداعبان عُنقها حتّى ضممته بحرارة مفارق.. كانت تصرفاتي معها ربما ترتقي إلى تصرفات الهنود مع البقر، كأنها إلّه أو معبود مقدس.
لا وحي نزل، ولا جبريل اعترض، ولا معجزة نهضت وقالت "لا تفعل بنفسك ما تنتوي فعله".. كنتُ أشعر أنني بأمس حاجة إلى معجزة تقول لي ما لا أجرؤُ أنا على قوله، بل وتأمرني بالكف عن قتل نفسي.. فقط, بقرتنا وحدها التي مالت إليّ وأحسستُ بحبّها الجارف، وبادلتها محبّة غامرة.. شعرتُ أنها تبادلني حميمية لم أشعر بها من قبل.
غالبتُ دموعي، ولكنّها كانت تنهمر سخينة.. رأيتها تشتَمُّني بلهفة، وكأنها تريد أن تحتفظ بتذكار إن عجزت عن إقناعي في العدول عن قرار أخذته بحق نفسي وبحق الحياة.. أحسستُ أنها تغالب دموعها.. بقرتنا المحروسة من العين بحرز معلّق على رقبتها كمصد يصدُّ العين والحسد. وأنا المحروس أيضاً بحرز السبعة العهود من الجن والشياطين، ولكن من يحرسني من قسوة أبي؟!!
قطعتُ اللحظة، وذهبتُ لأسرق لها الطحين، وأصبُّ عليه الماء، وأقدّمه لها كحساء وداع أخير.. أمطرتُها بقبل غزيرة، بدت لي أنها قُبلات الوداع الأخير.. وفيما أنا ذاهب عنها، رأيتها ممعنة بالنظر نحوي.. أحسستُ أنها تتوسّل وتترجّي أن ألا أفعل وأن لا أرحل عنها، وعن الحياة التي يجب أن أعيشها.
كنتُ أفسّر الحميمية التي بيننا على مقاس تلك اللحظة التي أحسُّ بها كثيفة وممطرة، أو بما ينسجمُ معها من أحاسيس ومشاعر جارفة.. كانت مناجاة ومحاكاة لها عمق في نفسي، وتفيض بمشاعر وعواطف جياشة بدت لي حقيقية، لا وهم فيها ولا سراب.
* * *
تطلّعتُ صوب الجبل والشجر والحجر أودع الجميع.. شعور وداع الأبد ليس مثله وداع.. الوداع الأبدي يجعلك ترى كثيراً من تفاصيل الأشياء قبل الرحيل، ربما لا تراها في أحوال ما هو عادي ومعتاد.. وجدتُ نفسي أودع كل شيء بما فيها التفاصيل التي لا تخطر على بال، فأنا على موعد مع الموت واستيفاء الأجل.. كنتُ أتفرّس في كل الأشياء التي يقع عليها نظري وكأنني أراها للمرّة الأولى.. الجدران والخشب والأواني وملابس أمّي وأخواتي.
تذكرتُ أمّي وحب أمّي.. أمّي التي ضَحَّت بأشياء كثيرة من أجلي.. أمّي التي تشربت ألف عذاب، وصبرت لأجلي وإخوتي على حمل ما لا تحتمله الجبال.. عاشت أمّي صراعاً لا تحتمله أرض ولا سماء.. كنتُ أشعر ببكاء السماء في كل مكروه يصيبها.
ربما في لحظة لم أكن أتخيّل أن ثمة شيئاً يثنيني عن الانتحار والذهاب إلى جهنم، ولا حتّى بقرتنا الطيبة، لكن ربما غريزة البقاء غلبتني، وربما حب أمّي هو من غلبني أكثر، فلا يوجد شخص أحبني أكثر من أمّي.. تذكرتها وهي تكرر لي فيما مضى قولها: "إن حدث لك مكروه سأموت كمداً وقهراً".
لا أستطيع أن أتخيّل أمّي وهي تراني منتحراً ومضرجاً بدمائي.. كنتُ أتصور أن مشهداً كهذا سيكون صادماً وفاجعاً للإنسان الذي أهتم به؛ مشهداً لا استطيع تخيُّل مأساته الثقيلة على أمّي التي تحمّلت الكثير من أجلي.. مشهداً لن يحس بمدى فاجعته غير أمّي التي لا شك سيكمدها الحدث إن لم تخر صريعة من الوهلة الأولى.
مقارنة مع الفارق.. كثيف ومقارب في الإيثار والحضور ذلك التصوير الذي قرأته بعد قرابة الخمسين عاماً في آخر منشور للدكتور عبد الرحمن جميل فارع وهو على فراش الموت: "لأجل الأحبة أقدّس الحياة وأتمسك بها يا ألله" .. نعم إنهم "الأحبة" العنوان الذي كان حاضراً بوجه ما حال بين عدولي عن قرار الانتحار، وانتقالي إلى قرار آخر.
بسبب أمّي وحبها وأخواتي الصغيرات أحجمت عن الحماقة لتنتصر الحياة على الموت؛ ولا بأس من احتجاج أرفق وأخف ضرراً وكلفة، وهو ما سأقدم عليه الأن لأغيظ به أبي بدلاً من الانتحار.. هكذا جاس الكلام لحظتها في وجداني المشتعل، وكان العدول إلى قرار هو أخف ضرراً وأقل مقامرة.
* * *


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.