الألم الشخصي حين يتحول إلى قوة اجتماعية، والتزام بالعدالة والانتصار للمقهورين.. فهم الألم خطوة أساسية نحو النمو الشخصي والاجتماعي.. طفولة "حاشد" المعذبة كانت بمثابة "المختبر" الذي حوَّل آلامه الشخصية إلى رأسمال عاطفي يدفعه لنصرة المقهورين..
قسوة وطفولة معذبة أحمد سيف حاشد في مرحلة من طفولتي قمتُ بما لا يقوم به أقراني من الأطفال الذكور.. لطالما كنستُ الدار، ونظّفتُ كل ملاحقه ومرافقه.. كددتُ في الأرض، ورعيتُ الغنم، وحملتُ على رأسي روث البقر، وساعدتُ أمّي فيما لا تقوى عليه، خصوصاً عند الحمل والولادة, وبسبب الكنس، والدخان، وتجريب "الشقاوة"، انقطع النَفَس، وأصبتُ بالربو، وكدت أفارق الحياة مرتين. في الصفين الخامس والسادس كنت أقطع كل يوم قرابة عشرة كيلومترات حتى أصل إلى المدرسة، وعشرة مثلها عند الإياب. كما عشتُ لاحقاً وأنا أدرسُ في القسم الداخلي، معاناة الجوع والعوز وسوء التغذية. * * * عشتُ مرحلة من طفولتي مع قسوة أبي التي تجاوزت ما كان مألوفاً ومعتاداً عند عموم الناس.. تمردتُ على أبي، وسلطته التي بدت لي يومها أنها قد أفرطَت واستَّبدت.. قاومتُ أكثر من ظلم أثقل كاهلي، وكنتُ أشعر أن الظلم يفترسني ويهرس عظمي كل يوم. كانت سياسة أبي في التربية تستند في وجهها الأهم إلى الشدّة والقسوة.. كان أبي يعاملني معاملة بالمثل القاسي: "اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفى أجله" وكانت الفكرة لدى أبي في التربية، أن الضرب يشحط الرجال، ويجعلهم أفذاذاً.. كان أبي مقتنعاً بهذا، وبأن هذه التربية سبق تجريبها مع أخي عليٍ، وقد أتت أُكلها بما رام وارتجى؛ فاعتز به، وصار زاهياً باسمه، وممتلئاً بحضوره، ومتفاخرا بأبوته. * * * في مرحلة لاحقة من طفولتي كنتُ أساعدُ أمي وأبي في عمل دؤوب يطول ويزدحم، يبدأ من الفجر، ويستمر إلى بعد دخول الليل، وخلاله كان يتكرر ضربي من أبي في رحلة مُنهكة، لا تخلو يوماً من مشقة وعذاب وإكراه. بات من الطبيعي والمعتاد كل يوم، هو ضربي المكرر من أبي، فيما كان غير الطبيعي أن يضربني أبي في يومٍ واحد أقل من مرتين.. أمّا إذا نجوت يوماً من الضرب فهو بالنسبة لي يوم مائز ومختلف، بل هو يوم عيد، لربما لا يعاد إلا في العام الذي يليه. يوم كهذا كان يستحق منّي الاحتفال. بالغ ما كان يؤلمني أن هذا الضرب يحدث غالباً أمام مشهد من الناس، وبعضه يتم بالحذاء. كنت أشعر أن الأعين حتى المشفقة منها تأكلني. كان الصبية من أقراني يعودون إلى بيوتهم فيحكون لأهلهم ما صار لي، وما جرى من أبي. كنتُ بعضاً من حديثهم الذي يقتاتون عليه، أو هذا ما أخاله وأتخيله.. لطالما شعرتُ أن الإهانات تسحق عظامي، وأبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصّاب. ولَّدَت هذه التجربة بداخلي خبرة في اختبار ومغالبة القهر، وحساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين، ألّفت – بمعية تراكمات أخرى- قيمة إيجابية وعيت لها لاحقاً، وهي الانتصار للمقموعين، والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح.. أدافع عن الضحايا بتفانٍ، وفي بعضها لو كلفني حياتي مرتين، أو هذا ما أستشعر به عند التحدي أو ما أخاله وأظنه.. عشتُ الواقع بكل مراراته وقسوته. كنتُ أشعر بإهانة بالغة ومهانة لا نظير لها. رفضتُ أن أعتاد الأمر دون نهاية، أو أتصالح معه بطاعة وخضوع، وكنت أعبّر عن رفضي هذا بحالات تمرد كثيرة، بعضها ربما كان عابراً للموت أو لمجهول، أو يكاد يكون الحال كذلك أو مقارباً له. ربما رأيتُ الموت أكثر من مرة، وغلبتني أقداري كثيراً، وخانني الحظ أو نال منّي، وأعلنتُ في نفسي ضجيج السؤال، وبلغتُ بالرفض والاحتجاج مبلغه، على أقدارٍ لم أكن أنا من اخترتها، وأحسستها في وجداني كثيفة ومؤلمة، في لحظات كانت ثقيلة، وشديدة الوطأة على كاهلي، بلغ التفكير فيها حد اقتحام الموت واستيفاء الأجل، ولم أعبأ بجهنم، وبأقوال أُمّي أن المنتحر يذهب إلى النار. * * * أنا وأبي ربما كان كل منّا يقرأ الأمور بطريقته من الزاوية التي يقف عليها.. كل منّا كان يرى أن الحق معه، فيما اليوم ربما صرتُ أتفهم كثيراً مما حدث، وألتمس له العذر، أو بعض عذر يستحقه، بحكم ذلك الواقع، وما أحاطته الظروف بنا، وكان أكبر من كلينا. من أسباب قسوة أبي في بعض منها مراهنته على نتيجة القسوة في التربية، وفي بعضها الآخر يرجع إلى شقاوتي أنا أيضاً، وبعضها كان بدافع حرص أبي على حياتي ومخاوفه مما يتهددني، إضافة إلى ما كان يعيشه من ضغوط الحياة، وزحمة المشاغل، بعد أن صارت عليه ثقيلة وكبيرة. رغم كل شيء، كنتُ أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموتُ، وهو أيضاً كان يحبني، ويصاب بجزع إن تعرضتُ لمرضٍ أو لمكروهٍ يصيبني. كنت أشعر أن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا ما زلت صغيراً لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وإخوتي. كنت أرى الأيتام وما يتجرعونه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار. وما يبديه أبي من قسوةٍ حيالي كان يراها في تقديره أنها تصب في صالحي، بدافع الحب والحرص والمخاوف، وربما يرجع بعضها إلى بعض طباعنا، وهي طباع في وجه منها نتاج واقع بائس وثقيل، ربما لا يد لنا فيه، ولطالما خرج أحدنا أو كلانا عن طوره في ذروة غضب أو نفاد صبر، أو بعض من هذا وذاك. * * * قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT & Gemini يكتب أحمد سيف حاشد في نص "قسوة وطفولة معذبة" المنشور في كتابه "فضاء لا يتسع لطائر" سيرة ذاتية نفسية، يغور فيها إلى أعماق الطفولة الجريحة ليقدّم شهادة إنسانية عن الوجع، والتمرد، والتصالح المتأخر مع الألم. رحلة وعي النص ليس مجرد تذكّرٍ للماضي، بل هو رحلة وعيٍ بالذات عبر الألم، حيث تتحول القسوة التي تلقاها حاشد في طفولته إلى وعيٍ مقاومٍ للظلم، وإلى بوصلةٍ أخلاقية قادته لاحقاً إلى الانحياز للمقهورين. الأدب الواقعي في النص يعرض أحمد سيف حاشد تجربته الشخصية مع (العمل الشاق، الفقر، وسلطة الأب القاسية)، ليحوّل هذه المعاناة إلى وعي أخلاقي وإنساني. يدمج النص بين السيرة الذاتية والتأمل النفسي، ليكون نموذجًا للأدب الواقعي الذي يدرس أثر العنف الأسري على تكوين الشخصية. منظور نفسي اجتماعي ويبرز النص تأثير التربية بالعنف على نمو الطفل، ويعرض نموذجًا لتفاعل الطفل مع السلطة الأبوية، بين التمرد والخضوع، مما يعكس صراعًا داخليًا يعكس بدوره البناء النفسي للفرد في المجتمع التقليدي. شهادة والنص هو شهادة على كيف يمكن للبيئة الاجتماعية القاسية أن تسبب جروحًا نفسية عميقة، ولكنه أيضًا شهادة على قدرة الروح البشرية على المقاومة، وإعادة تشكيل هذه الجروح إلى دافع للعدالة والتعاطف، بدلاً من أن تتحول إلى كراهية وانتقام. استجابة صحية رفض أحمد سيف حاشد الخضوع والطاعة كان استجابة صحية لإنقاذ ذاته. فكان التمرد وسيلته الوحيدة للحفاظ على إحساسه بالاستقلالية والكرامة في مواجهة نظام قمعي. (عبارات مثل "رفضتُ أن أعتاد الأمر" و"كنت أعبّر عن رفضي بحالات تمرد") تظهر أن العنف لم يكسره، بل شكّل لديه هوية المقاوم. تبلور قيم أخلاقية رادفة وبشكل مثير للاهتمام، لم تنتج التجربة شخصًا عدوانيًا أو قاسيًا، بل على العكس، ولّدت لديه "حساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين"، ما يكشف عن حجم الوعي الذي وصل إليه حاشد لاحقا. وهذه ظاهرة نفسية معروفة حيث يتحول الألم الشخصي إلى تعاطف عام ورغبة في حماية الآخرين، لكنها لن تأتي إلا بالوعي. وهنا يكون" حاشد" قد حول صدمته إلى رسالة حياتية، تتمثل في "الانتصار للمقموعين، والتصدي لكل ما ينتجه الظلم". وهو ما يظهر مرونة نفسية عالية وقدرة على إيجاد معنى إيجابي من المعاناة. صراع التعلق العلاقة مع الأب كانت معقدة ومليئة بالتناقض الوجداني. من جهة، هناك الخوف والرفض للقسوة، ومن جهة أخرى، هناك حب طبيعي للوالد وخوف عليه من المرض أو الموت ("كنتُ أحب أبي، وأجزع إن مرض"). هذا التناقض يخلق صراعًا نفسيًا عميقًا، حيث يحاول العقل التوفيق بين صورة الأب "القاسي" وصورة الأب "المحب". هذا الصراع يظهر بوضوح في محاولته لاحقًا فهم وتبرير سلوك أبيه. التحليل الموضوعي للنص 1. الطفولة القاسية والمعاناة الجسدية يبدأ حاشد بسرد يوميات الطفولة المرهقة، بما في ذلك الأعمال المنزلية والزراعية والمرض وسوء التغذية. الوظيفة السردية: تكشف عن حجم المسؤولية المبكرة التي حملها الطفل، وتبرز تأثير الظروف القاسية على الصحة النفسية والجسدية، مما يسهم في بناء الشخصية المتمردة لاحقًا. 2. الأب كرمز للسلطة والقسوة الأب في النص شخصية مركبة تمثل السلطة الأبوية التقليدية، التي تمارس القسوة باسم التربية والرجولة. ويعكس النص ازدواجية العلاقة: الأب قاسٍ لكنه يحب، والطفل يرفض لكنه يفهم لاحقًا دوافع والده. هذا يشير إلى صراع التناقض بين الحب والعنف في التربية التقليدية. 3. التمرد والتحول النفسي يمثل التمرد على السلطة الأبوية وسيلة لبناء وعي أخلاقي مبكر. التمرد كآلية دفاع: يظهر الطفل قوته الداخلية لمواجهة الظلم، ويتحول الألم إلى شعور بالعدالة والانتصار للمقهورين، وهو ما يربط النص بالبعد الاجتماعي والسياسي لاحقًا في حياة أحمد سيف حاشد. الانحياز للمقهورين يُشكل القسم الأخير من النص المفتاح لفهم عملية التحول من الضحية إلى المدافع. لقد تحولت تجربة القسوة الفردية التي تعرض لها "حاشد" إلى قيمة إيجابية و وعي جمعي مكنه من الانحياز للآخرين: 1- تبلور "خبرة مغالبة القهر" الخبرة: ولَّدت التجربة القاسية بداخله "خبرة في اختبار ومغالبة القهر". هذه الخبرة ليست مجرد ذكرى مؤلمة، بل هي أداة معرفية لفهم آليات القهر ومواجهتها. الحساسية الوجدانية: اكتسب حاشد "حساسية شديدة في استبطان أوجاع المقهورين". أي أنه لم يعد يرى الظلم كحادثة فردية، بل صار يمتلك قدرة وجدانية عميقة على استشعار ألم الآخرين نتيجة لتجربته الخاصة، مما جعله مؤهلاً نفسياً لتبني قضيتهم. 2- القيمة الإيجابية والالتزام التحول: أدرك أحمد سيف حاشد لاحقاً قيمة إيجابية تجمعت من هذه التراكمات، وهي "الانتصار للمقموعين، والتصدي لكل ما ينتجه الظلم والقسوة وعطب الروح". التفاني: تحوّل هذا الوعي إلى التزام عملي بالدفاع عن الضحايا "بتفانٍ"، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بحياته، مما يعكس عمق التأثير الذي تركته تجربته في هويته الأخلاقية والحقوقية. وبذلك فإن الطفولة المعذبة ل" أحمد سيف حاشد" كانت بمثابة "المختبر" الذي صقل حساسيته ضد القسوة والظلم، وحوَّل آلامه الشخصية إلى رأسمال عاطفي يدفعه لنصرة المقهورين. 4. اللغة والأسلوب استخدام التكرار والإيقاع الداخلي للجمل، مثل: "كنت أشعر"، "ربما"، يعمّق تأثير النص العاطفي. الصور المجازية (مثل: "أبلع غصصي كأنني أبلع ساطور قصاب") تعكس شدة المعاناة وتحاكي القارئ نفسيًا. البنية الزمنية تنقل القارئ بين الماضي والحاضر، ما يعكس السيرة الذاتية التأملية أكثر من الحدثية فقط. الدلالات الإنسانية والاجتماعية النص يسلط الضوء على أثر القسوة في التربية التقليدية ويطرح سؤالاً أخلاقيًا حول الحدود بين الحب والعنف. الألم الشخصي يتحول إلى قوة اجتماعية، إذ يعكس التزام"حاشد" بالعدالة والانتصار للمقهورين. المصالحة مع الماضي: يتمثل في إدراك "حاشد" دوافع أبيه، ما يعكس نضجًا أخلاقيًا، ويعزز فكرة أن فهم الألم هو خطوة أساسية نحو النمو الشخصي والاجتماعي. مدرسة وعي ونص «قسوة وطفولة معذبة» هو نص أكاديمي بالغ الأهمية لدراسة العلاقة بين الطفولة القاسية، والسلطة الأسرية، ونشوء الوعي الأخلاقي. ومن خلال السرد الذاتي والتأمل النفسي، يقدّم أحمد سيف حاشد نموذجًا للأدب الواقعي الذي يحوّل التجربة الشخصية إلى معرفة إنسانية وعاطفية. ا ويبين النص أن الألم يمكن أن يكون مدرسة للوعي والتعاطف مع الآخرين، وأن التجربة الشخصية تتحول إلى منصة للنضال الاجتماعي والأخلاقي. تشكل الضمير والنص في المجمل يكشف عن آلية تشكل الضمير من رحم القهر. وفيه يكتب "حاشد" ذاته ليحرّرها، ويواجه ماضيه لا لينتقم منه، بل ليفهمه ويصالحه. وهنا تتجلى مأساة جيلٍ كاملٍ من الأطفال العرب الذين كبروا بين القسوة والحبّ، بين الخوف والواجب، وبين الرغبة في الحياة والخضوع للسلطة.