محمد المخلافي عندما فتحت ديوان (قبل أن يستيقظ البحر) للشاعر العراقي حسين السياب، شعرت وكأنني أدخل حديقة مزهرة مفعمة بالهدوء، تعكس جلسته وطبيعته الهادئة التي يعرفها كل من جالسه. يتعامل السياب مع الشعر كما يتعامل الإنسان مع الأشياء التي يخاف أن تنكسر بين يديه، يحافظ على بساطة روحه وعلى المسافة التي يحتاجها الكاتب ليصغي إلى نفسه جيدًا. صدر له عدة مؤلفات، أولها مجموعته الشعرية (بتوقيت القلب) في بغداد عام 2019، تلتها طبعة ثانية في 2020، ثم (تسابيح الوجع) في 2020، و(عزف الرمال) في 2022، و(مطر على خد الطين) في 2024. وهذا الديوان الأخير (قبل أن يستيقظ البحر)، وهو موضوع هذه الدراسة، صدر مؤخرا في هذا العام 2025 عن دار منازل في دمياط – مصر، ويقع في 143 صفحة ويضم 127 نصا شعريا. يبدأ بنص يحمل عنوان (أنتِ الحلم الذي يوقظني كل صباح)، وينتهي ب (بلاد حسن عجمي). سوف أحاول من خلال هذه الدراسة المتواضعة الاقتراب من الديوان بوصفه تجربة وجدانية أكثر من كونه نصوصا متتالية، ومعرفة كيف استطاع السياب، بشاعريته الهادئة وتأمله العميق، أن يجعل البحر يستيقظ في قلب القارئ قبل أن يستيقظ على الورق. عنوان الديوان (قبل أن يستيقظ البحر) كان موفقا لما يحمل من دلالات. فكلمة (قبل) تفتح مساحة انتظار مترقّب لما سيقوله البحر حين يصحو، كون البحر كائنا حيا ينام ويصحو، فحين ينسب الشاعر له فعل الاستيقاظ فهو يعيد رسم العلاقة بين الإنسان والمكان. و(الاستيقاظ) هنا يشير إلى لحظة التحوّل التي تحمل توترا خفيا، وتُهيئ القارئ للدخول إلى عالم مليء بالأحداث. عندما تصفحت عناوين الديوان، لم أتعامل معها كقائمة جامدة، بل كأنها إشارات صغيرة تقودني إلى مزاج داخلي واحد، رغم اختلاف الصور وتنوّع الأمكنة. شعرت بأن الشاعر يكتب وفي داخله سؤال لا يريد أن يسميه بوضوح: من أنا وسط كل هذا الفقد؟ قد لا يقولها مباشرة، لكن العناوين تفضحه. عناوين مثل (نهار يتسع كأجنحة الغياب) و(أحزان بلا مراكب) و(ضباب المرايا) تعطي انطباعا بشخص يمشي وهو ينظر خلفه أكثر مما ينظر أمامه. هناك حيرة خفيفة، وارتباك يشبه تلك اللحظة التي يحاول فيها الإنسان تذكر طريق يعرفه، لكنه لم يعد كما كان. وفي الجهة الأخرى، تلمع عناوين فيها رغبة واضحة للإمساك بما يتفلت: (أكتبك غنوة)، (أنفاسك وطن)، (بسملة حب). كأن الشاعر يقول لنفسه: إذا كان الغياب أكبر مني، فربما أستطيع على الأقل أن أتمسك بصوت أو رائحة أو لحظة. حتى العناوين التي تبدو هادئة، مثل (سلام على مداد العمر) أو (صور قديمة عنك)، لا تخلو من ذلك الرجوع الذي نعرفه جميعا، الرجوع إلى لحظات لم تنتهِ كما يجب. الشاعر هنا لا يستعيد الماضي بدافع النوستالجيا، بل كأنه يراجع دفاتره القديمة ليعرف أين بدأ الجرح فعلاً. ولعل حضور الأسطورة في (عشتار) و(نشيد جلجامش) ليس زخرفة ثقافية، بل محاولة للإشارة إلى أن أسئلة الإنسان لم تتغيّر كثيرًا منذ البداية، الوجع نفسه، والبحث نفسه، والضياع نفسه، وإن تغيّرت الأدوات. أما العناوين المرتبطة بالطريق، مثل (رحلة شاعر) و(قطار) و(دروب الغواية)، فتدل على أن الشاعر في حركة دائمة، يمشي مستمرا، لأنه لو توقف لحظة واحدة، لاضطر لمواجهة نفسه مباشرة، وهو ما يحاول تأجيله قدر الإمكان. وبين كل هذه التحركات، يبقى البحر والغياب والمطر والشتاء عناصر حاضرة بصمت، مثل طقس داخلي لا يتغير، أشبه بغيوم ترافقك طوال الطريق، حتى لو لم تمطر. مختارات من الديوان: 1- عيني عليك ترسمني..!! أمكنة طائشة تكبر معي أراقب العالم من فتحة ضيقة تكفي لنصف عين ونصف قلب لأرى الدنيا كما أريد. أنا من جيل سحقته غواية الحرب والوطن المنسي على حافة رصاصة! بظل الموت مشينا بظل الخوف هربنا بظل الشعر المدسوس في حقائب الجنود، أكلتنا الأيام. بحرفة فلاح جنوبي يكشف لنا السياب في هذا النص عن تجربة عاشها تحت وطأة الحرب ورهبة الخوف. ف(الفتحة الضيقة) ليست مادية، بل رمز لقدرة محدودة على الرؤية وسط الفوضى. ومع ضيقها، تبقى نافذته الخاصة لإدراك الحياة كما يريد هو، لا كما تُفرض عليه. وتحمل الصور شعورًا بالألم والقلق، ف(ظل الموت) و(ظل الخوف) يلاحقانه وكأنه في هروب دائم. لكن وسط هذا كله، يظل هناك ما يربطه بالحياة وجذوره (بحرفة فلاح جنوبي)، التي تمثل صلته بأرضه وتراثه، وتشهد على انتمائه رغم مرارة الواقع وقسوته. 2- طوفان أنا والبكاء جرف بحر أوصيه بكِ كلما أحصي الماء في جوفه.. قطرة إثر قطرة ينساب مني كنبضك كل ليلة أذوب وأسكر في هدير صوتك أنت الروح ومن بعدك طوفان مستمر. النص يقوم على فكرة أساسية واحدة، هي البكاء المستمر، وكأنه موج لا يتوقف. يمثل البحر هنا المكان الذي يُفرغ فيه الشاعر أحاسيسه تجاه محبوبته. الصور واضحة وبسيطة، لكنها تحمل شعورا قويا يتجاوز الكلمات التي يحاول ضبطها. تكرار مفردات مثل الماء والنبض والذوبان يضفي على النص إحساسا بالانسجام والدفء. جملة (أنتِ الروح) تمثل النقطة التي يتمسك بها النص، بينما (ومن بعدك طوفان مستمر) تعكس خوف الشاعر من الفقد أكثر من التعبير عن الحب نفسه، مما يمنح النص صدقا وعاطفة محسوسة. 3- أسوار الحنين يرتفع حائط الغيث كأنه سراب يُمسك بالهواء أمد يدي في ليل يتوجس فتسقط نجمة على كتفي وتهمس الظلال باسمك هناك خلف ارتعاش الضوء يتدلى وجهك من ذاكرة غائمة يقطر من عينيه مطر قديم وأنا أتهدم بين نبضي ونبضك مثل شرفة أكلها الصمت وظلت معلقةً على خاصرة الريح..!! النص يدور حول الحنين، شعور عميق وكأنه حاجز يصعب تجاوزه. الصور الشعرية مثل (يتدلى وجهك من ذاكرة غائمة) و(مثل شرفة أكلها الصمت) تنقل الانكسار بصدق، وتجعل الحنين محسوسًا للقارئ، بحيث يمكنه أن يعيشه ويتعايش معه. لغة الديوان صادقة وقريبة، تعكس روح الشاعر كما لو كان يجلس أمام القارئ ويحكي لحظة بعد لحظة، دون أن يحاول إثارة إعجابنا بالكلمات. يميل أسلوبه أحيانًا إلى الجمل القصيرة وأحيانًا أخرى إلى المقطعية، لكنه دائمًا يحتفظ بوقع وجداني قوي يجعلنا نشعر بما يمر به الشاعر، لا بما يريد أن نراه فقط. يشكّل ديوان (قبل أن يستيقظ البحر) إضافة مهمة للشعر العراقي والعربي، إذ يقدم تجربة صادقة وبسيطة في التعبير عن الغياب والحنين، مستخدما لغة صافية وصورا رمزية تجعل البحر والمطر والرحلة الداخلية شاهدة على وجدان الشاعر، وتترك للقارئ مساحة ليشعر ويتفاعل مع نصوصه بحرية وتأمل.