رحل الشيخ "محمد المقرمي" إلى باريه بعد رحلة دعوية بدأها متأخراً، لكن سيره فيها جاوز أقرانه وسابقيه، وهي ميزة تفرد بها عن سواه، ولعل من أغرب مايمكن الحديث عنه ونحن نزفه إلى الرفيق الأعلى؛ كيف تحول من مهندس طيران إلى مهندس للتدبر الذي انطلق منه لتأسيس منهجه الدعوي الخاص، والذي وجد قبولاً واهتماماً كبيرين من طبقة واسعة من المتلقين، وخاصة ممن يهتمون بالفكر وأعمال العقل، والبحث عن مكامن المعاني وإدراك مابين السطور. وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم بأنه "لا تنقضي عجائبُه" وبين زمن وآخر تتجلى هذه الصفة في مفسرين أو علماء أو وعاظ يقدمون معاني القرآن الكريم بحلة جديدة، وتذهل حين تسمع أو تقرأ لهم من الفتوحات الربانية التي تيسرت لهم، وبها يكشفون أسراراً ومعانٍ فريدة لم يتنبه لها سابقوهم، ومن هؤلاء شيخنا الراحل "محمد المقرمي" الذي ما إن تسمعه حتى يبدو وكأنك لم تسمع واعظاً قبله.
شكلياً منهج التدبر لم يكن جديداً، لكن "المقرمي" جعله كذلك، ولعل مردّ الأمر أن تحوله العميق من الهندسة إلى الوعظ كان مبنياً على هذا المنهج، وقد ذكر واصفوه أنه فارق وظيفته واعتكف في منزله الريفي مبتعداً عن حياته السابقة ل(ست سنوات) يتلو ويتدبر ويتفكر؛ معملاً عقله المتّقد في سبر أغوار المعاني، وبحسب وصفه أنه "بدأ يقضي ساعات طويلة في الليل متأملاً السماء، ومتوقفاً عند مشاهد الكون بنظرة روحانية تأملية".
خرج "المقرمي" إلى الناس بعد عزلته واعظاً من طراز جديد، يحدّث الناس ويدعوهم إلى إعمال التدبّر في حياتهم وتصوراتهم وعلاقاتهم، وأهمها العلاقة مع الخالق سبحانه وتعالى بكل جوانبها، وارتكز منهجه التدبري على قراءة القرآن بروح واحدة، وربط الآيات والمتشابهات، واستخراج المعاني الدقيقة والعميقة، وبين البساطة في الطرح والعمق في الإدراك تجلى جيل من المريدين وجدوا مورداً عذباً للفكر فارتوو بعد عطشٍ ونَصَب.
رحم الله شيخنا "محمد المقرمي" وجمعنا به في مستقر رحمته ودار كرامته.