سيأتي زمانٌ على الناس تنعدِمُ فيه كلُّ أدواتُ المعرفةُ الجادّة. وأولها الكتابُ الذي انصرفَ عنه الناسُ عامّتُهم وخاصّتُهم منذ فترة، وستزدادُ حدّة هذا الانصراف حتّى يصبح الكتابُ مجهولًا بعدَ أن كان خير جليس وخير رفيق في الحلِّ والترحال. هذه ليست نبوءة؛ ولكنّها قراءةٌ متأنّية لسيرورةِ التراجع العلميِّ والمعرفيِّ الذي يتّسعُ في حياتِنا يومًا بعد آخر. كانَ الكتابُ سوقًا عامرًا فكَسُدَ وحلّتْ محلّه القرطاسيات، وكان مكتباتٍ عامّة، غاصّةً بمرتاديها، فانفضَّ جمْعُها وأُغلقتْ أبوابُها، وكانَ ثمراتِ مطابعَ وتنافسَ دور نشرٍ؛ فأجدبتْ هذه وصمتتْ تلك، وكانَ مكتباتٍ خاصّة في البيوت، فأكلتْها الأرَضَة، وران عليها غبار التعامي والنسيان، وحلّتْ محلّها الشاشات البرّاقة الملوّنة والهواتف المحمولة، وغادر الكتاب كلَّ منابره الآهلة، ولم يبق له إلا مساحة ضئيلة في قاعات الدراسة، وحتّى هذه يُرادُ لها اليومَ أن تضعفَ وتضعف حتى تنطفي، فكلَّ مجريات الواقع اليوم صارت ضد التعليم وضد الكتاب، وضد أن يمتلكَ الإنسانُ ولو نسبة قليلة من الوعي. وبذلك يخرج الكتاب من حياتِنا خروجًا كلّيًّا ويصبحَ ذلكَ المجهوووول. وقضية العزوف عن الكتاب قضية في غاية الخطورة لأنها السبب الرئيس في غياب الوعي. وكل النوازل المحيطة بنا اليوم سببها غياب الوعي.. وهكذا يصبح الكتاب مسألة حياة أو موت!! على أنَّ هذه الأزمة المعرفيّة لا علاقة لها بالمرحلة التكنولوجيا التي نعيشها، فالكتاب لا يزال حاضرًا في الغرب رغم التقدّم التنكنولوجي الكبير في وسائل المعرفة، وكمثال على ذلك فإنَّ أصغر دولةٍ في الاتحاد الأوربي أصدرتْ من الكُتب الثقافية والمعرفية خلال العام 2023 أضعافَ ما أصدره الوطنُ العربي بأقطاره التي تصل - حتى كتابة هذا الخبر- إلى اثنتين وعشرين دولة. كلُّ هذا ولديهم وسائلُ التواصل الاجتماعي وشبكات الأنترنت المتنافسة والرخيصة، وكل الملهيات الصارفة عن القراءة.. ومع ذلك ما يزال للكتاب الورقي حظوةٌ لديهم.. وما يزالون يقرؤون. وكبديل للكتاب الورقي يحلُّ الكتاب الإلكتروني بصيغه المختلفة بديلًا مُفترضًا يتماشى مع مختلف أجهزة الاتصال المتوفرة لإنسان اليوم من هواتف وحواسيب وغيرها، بل إنَّ بعض برامج العرض حاكتِ الكتاب الورقي كثيرًا في طريقة فتحه وتقليب صفحاتِه وربط عناوين المحتوى بالفهارس، وغير ذلك من شروط التسهيل. غير أنَّ الإحجام عن هذه النوعية من الكتب لا يزال متسيّدًا، لسبب بسيط هو أنَّ الإنسانَ العربي اليوم اتّخذا موقفًا صارمًا من القراءة والتثقيف بأي وسيلةٍ كانت، واختطفته عن الكتاب شواغل كثيرةٍ، ذهبت به بعيدًا عن القراءات الجادة، وأصبحت عيناه لا تقع قارئةً إلا على سطورٍ مستعجلة في هاتفه أو حاسوبه المحمول. ومن ثم يمكنُ القول أنَّ من أهم أسباب العزوف عن قراءة الكتاب اليوم هو الكسل الذهني الذي أنتجته تلك الشواغل العديدة التي استولت على الذهنية العربية، وكرّست فيها الشهية الاستهلاكية على حساب الوعي والثقافة ومصادرهما المتنوعة والمعتبرة. وثمّة سببٌ آخر وجيه لهذا العزوف القرائي. يتمثّل في سعي منابر التغريب والتخريب إلى جعل العرب أمّةً لا تقرأ. وبنظرة سريعةٍ إلى كمّية الألعاب الإلكترونية التي تنزل السوق وتستهدف الناشئة وهم في طور التكوين المعرفي نجد وفرةً مهولة من هذه الألعاب المثيرة المدهشة بما تفرضه من عالم مثير وآسر بديلًا عن الواقع البائس المتعثر، فأنى لهؤلاء المساكين بعد ذلك أن يتركوا هذه الألعاب الملوّنة المزركشة التي تخاطب فيهم العنف والغرائز إلى كتاب ورقي أو إلكتروني باهت الخطوط محدود الألوان يقدّم المعرفةَ بأسلوب شاق لا يراعي طبيعة القارئ ولا طبيعة المرحلة. ومع كل ذلكَ فإنَّ الحلَّ ليس في نسيان الكتاب، ولا في طلاق المعرفة، ولكن في استشعار الأسرة لدورها في هذه المسألة، وسعيها الدؤوب في تكريس عادة القراءة لدى أفرادها بشكل إجباري منذ النشأة، وهو دورٌ أساسٌ في هذا الشأن.. وعلى الأسرة أن تفعل كلَّ ذلك دون أن تنتظر من مؤسسات المجتمع مد يد العون لها كالمدرسة والنادي والمسجد.. فقد تخلّى كلُّ هؤلاء عن دورهم المناط بهم، ونسَوا أنَّ أوَّل ملمح ينبغي أن يبرزَ في هذه الأمة هو ملمح الوعي، وأنَّ أول كلمة خاطب بها الله إنسانَ هذه الأمة هي (إقرأ).