محمد المخلافي في أقل من خمسة أشهر، زرتُ عدن مرتين، وهذه المرة الثالثة، والسبب واحد: أبسط حق يُفترض أن تمنحه الدولة لمواطنيها (بطاقة شخصية) و(جواز سفر). لا شيء أكثر. الرحلة نفسها تتكرر، لكن التعب يغيّر شكله في كل مرة: انتظار أطول، أعصاب أكثر إنهاكا، وإحساس أثقل بأنك تُستنزف بلا سبب، سوى أنك تحاول أن تكون مواطنًا. هذه المرة لم أكن وحدي. كنت مع أسرتي. غادرنا صنعاء عند الخامسة صباحًا على متن باص (هايس). دار بنا قرابة نصف ساعة، يجمع الركاب من هنا وهناك. بعد ذلك انطلقنا، بعد أن تناولنا فطورا سريعا في بوفية المسافر بشارع تعز. كان البرد قارسًا.
عند أول نقطة تفتيش في مخرج صنعاء، أوقفونا. أخذوا بطاقاتنا الشخصية ودوّنوا أسماءنا، ثم أعادوها سريعًا. بعد ذلك مررنا ببقية النقاط بسلاسة غير متوقعة، إلى أن وصلنا نقيل يَسْلَح. هناك، كان المشهد مختلفًا. الضباب يلفّ المكان، والرؤية بالكاد تتضح. انحدرنا ببطء نحو الأسفل، والطريق يختفي أحيانًا تحت الغيوم. توقفنا قرب مدينة ذمار، في منطقة رَصابة. نزلنا لالتقاط بعض الصور، لا لشيء إلا لأن المشهد كان يستحق ذلك.
الغيوم كانت تزحف على الأرض، لا في السماء. منظر نادر، صامت، مهيب. أولادي كانوا مندهشين؛ لم يسبق لهم أن شاهدوا الغيوم بهذا القرب، بهذا الامتداد. أيهم، ابني ذو الأحد عشر عامًا، كان يكرر ببراءة: (كأننا في أوروبا!). واصلنا السير بين الغيوم المتناثرة حتى وصلنا إلى مدينة يَرِيم. هناك غيّرنا مسارنا نحو طريق (عدن – الضالع)، كونه الأقرب والأسهل على المسافرين. شيئًا فشيئًا، بدأ الضباب يتلاشى، وتسللت أشعة الشمس لتخترق الحجب الرمادية، كاشفة لنا الطريق أمامنا.
عند العاشرة والنصف صباحًا، كنا قد وصلنا إلى مدينة دَمْت. أوقفونا أكثر من مرة عند نقاط التفتيش، والروتين ذاته يتكرر: توقف، أسئلة سريعة، نظرات عابرة، ثم متابعة الطريق. وعند وصولنا إلى مريس، توقفنا عند أحد المطاعم لتناول الغداء. الجميع أكل بشهية السفر، إلا أيهم؛ فقد بدا متعبًا ومرهقًا من طول الطريق، فالمسافات الطويلة لم يعتدها بعد. ظل صامتًا أمام الطعام، لم يمدّ يده إليه، واكتفى بالنظر. عدنا بعدها إلى الباص لننتظر بقية الركاب الذين خرجوا لشراء القات، ثم انطلقنا من جديد نكمل طريقنا تحت شمس الظهيرة الحارقة. عند مدخل مدينة الضالع، أوقفونا في نقطة التفتيش التي تُغلق مع الخامسة والنصف مساءً ولا تُفتح إلا عند السادسة صباحًا. أدخلوا الباص إلى الوادي وأنزلونا جميعًا، فأخذوا بطاقاتنا الشخصية، وطلبوا من النساء التوجّه إلى خيمة في وسط الوادي ليتم تفتيشهن من قبل مجندات. بعدها تحركنا بسرعة، تجاوزنا مدينة الضالع وبدأنا نقترب من مدينة لحج، لكن التفتيش هذه المرة كان أدق وأشد. أوقفونا مرة أخرى، واستجوبونا عن سبب سفرنا إلى عدن، كلٌّ على حدة. فُتشوا هواتفنا، ومع كل كيلومتر نقترب فيه من عدن، كان التفتيش يزداد صرامة. كان أيهم يكرر السؤال نفسه: متى سنصل إلى عدن؟ كان منهارًا من تعب الطريق، ولم يأكل منذ البارحة. كنت أطمئنه في كل مرة وأقول: نحن على مشارف عدن، لم يتبقَّ إلا القليل. في إحدى المرات، ردّ أحد الركاب على هاتفه وقال بصوت مسموع: ما زلنا في لحج. التفت أيهم نحوي بعينين غاضبتين وقال: تكذب عليّ؟ ابتسمت على مضض، ولم أجد ما أقوله سوى الصبر. واصلنا الطريق على هذا الحال حتى وصلنا عدن أخيرًا قبل صلاة المغرب. نزلنا من الباص، واستأجرنا سيارة أجرة إلى مدينة كريتر. مشينا عبر الخط البحري، ولأول مرة شاهد أولادي البحر عن قرب، فكانوا منبهرين، يحملقون في كل الاتجاهات. وعندما وصلنا إلى خور مكسر، كانت الطريق مزدحمة بالسيارات على غير العادة. توقف سائق التاكسي عند مدخل كريتر وقال: "ممكن أدخل أعبّي غاز؟ المحطة مفتوحة، في أزمة غاز خانقة هذه الأيام". قلت له: جئنا من السفر متعبين. أجاب: (أحاول سريع). لكن طابور السيارات كان طويلًا، فتراجع واستمر في طريقه إلى كريتر. تواصلت مع صديقي علي شبير للاستفسار عن أسماء الفنادق. أعطاني بعض العناوين، لكنها كانت مزدحمة، وبعد عدة محاولات استقرينا في فندق نخيل عدن. عندما دخلنا الغرفة، سألت أيهم: ماذا تريد من عشاء؟ قال: (زربيان بالسمك). اتجهتُ مباشرةً إلى مطعم الريان في حيّ الميدان، وأحضرتُ الزربيان مع البيبسي. تعشّينا، وعادت ابتسامة أيهم. بعد ذلك خرجتُ إلى السوق مع أيهم وإلياس، وهناك التقيتُ بصديق دراستي الجامعية محمد شبير وأخيه علي شبير. رحّبوا بنا بحرارة، وجلسنا نشرب الشاي العدني في مقهى سُكَّران القريب من منزلهم في حيّ الشيخ عبدالله لنحو نصف ساعة. ثم عدنا إلى الفندق ونمنا مباشرةً حتى الصباح. استيقظنا عند السادسة صباحًا، وخرجنا إلى الشارع حيث كان صديقي (حافظ الطيّار) بانتظارنا بالقرب من مبنى الجوازات. اصطحبنا إلى أحد مطاعم صيرة، وتناولنا فطورًا شهيًا من السمك الطازج. بعد الفطور، توجّهنا إلى مبنى الجوازات، حيث تعاون معنا حافظ بشكل كبير، وبفضل مساعدته أتممنا معاملاتنا في أقل من نصف ساعة. بدا كل شيء يسير بسلاسة، ولم يتبقَّ سوى ملف ابنتي إيلاف، التي لا بدّ لها من استخراج بطاقة شخصية أولًا، ثم بعد ذلك ستحصل على جواز سفر. بدأنا إجراءات البطاقة عند التاسعة صباحًا، ودفعنا مبلغًا لشخص هناك، ووعدنا بأنه سينجز كل الإجراءات خلال ساعتين. دخلت إيلاف مع والدتها لانتظار دورها، بينما بقيتُ أنا وأيهم وإلياس خارج المبنى، لأنه في ذلك اليوم كان دور النساء. ومع مرور الوقت، بدأ الانتظار يطول. حاولتُ التواصل مع الشخص الذي وعدني، فأكّد لي أن أنتظر قليلًا، وأنه لن يغادر المبنى قبل إتمام كل الإجراءات. اختفى فجأةً وأغلق هاتفه، فبقيت إيلاف ووالدتها عالقتين حتى الثامنة والنصف مساءً، وسط زحمة النساء وضجيج المكان. حاولتُ استجداء المدير واقتحمتُ المكان متوسلًا إليه، لكن دون جدوى. ضاع ملفها، ولم يتم تصويرها إلا في آخر الوقت. في اليوم التالي، عدنا لاستخراج الاستبيان لإكمال معاملة الجواز. انتظرت إيلاف في الطابور أكثر من ساعتين، قبل أن يقولوا لها إن الرد لم يصل بعد من القنصلية اليمنية في جدة. عدنا إلى الفندق، ثم حاولنا مرة أخرى عند الواحدة ظهرًا، لكن الانتظار تكرر، وكانت النتيجة واحدة (لا جديد). بعد العصر، اتجهنا إلى ساحل أبين، إلى المكان الذي كنت أرتاده باستمرار قبل أكثر من عشرين عامًا، حين كنت أعمل وأدرس في هذه المدينة الجميلة. فوجئتُ بأن المساحة الفسيحة التي أحفظها عن ظهر قلب قد ابتلعتها المباني، وأن الساحل لم يعد كما كان، متسخًا ومثقلًا بالضجيج. تركنا المكان، ومشينا مسافةً حتى وجدنا مكانًا فسيحًا. هناك سبحنا وقضينا وقتًا جميل. في صباح اليوم التالي، عدنا للاستفسار عن الاستبيان، وبعد ثلاث ساعات من الوقوف في الطابور، أخبرت الموظفة إيلاف أن الاستبيان لن يكون جاهزًا إلا في الأسبوع المقبل، يوم الاثنين. قررنا العودة إلى صنعاء في اليوم التالي. وفي عصر ذلك اليوم، توجّهنا إلى حديقة عدن مول، عند مدخل كريتر، القريبة من مجمّع هائل التجاري. الحديقة منظّمة بعناية، تتخلّلها أشجار مرتّبة، ومساحات خضراء واسعة، وممرات تعجّ بالعائلات، تتناغم مع جمال البحر والمباني القريبة في الجهة المقابلة، والجبل الذي يلوح في الخلفية. جلسنا هناك نستمتع بمشاهدة البحر ونستنشق الهواء النقي، فيما كان الأطفال يمرحون من حولنا. ما شدّ انتباهي هذه المرة أن كثيرًا من النساء والفتيات يرتدين الجلابيب، على خلاف ما كان عليه الحال سابقًا. عند الساعة الثامنة مساءً، عدنا إلى الفندق، ولم تمضِ سوى لحظات حتى تواصل معي صديقي عدي القاضي، وكان برفقته صديقي الأستاذ والمثقف الجميل وضّاح شعلان. دعاني أنا والأولاد لتناول العشاء معهم. اختاروا مطعم الريان، المعروف بأطباقه البحرية. كانت الطاولة عامرةً بأصناف متعددة من السمك. جلسنا نتبادل الأحاديث، بين نكتة عابرة وحديث جاد، وكان للعشاء طعم مختلف، لا بسبب الأكلات وحدها، بل لأن الرفقة الجيدة دائمًا ما تضيف نكهتها الخاصة. بعد ذلك ودّعتهم، واتجهتُ إلى حيّ الشيخ عبدالله لتوديع صديقي محمد شبير وأخيه علي. لم يطل اللقاء، فقد كان الإرهاق قد بلغ مني مداه. عدتُ إلى الفندق مثقّل الجسد، وصوتي مبحوح بفعل تغيّر الجو وطول التنقّل. في تلك الليلة، كنتُ مدعوًا لتقديم مداخلة عبر قناة السلام الدولية، بدعوة من مديرها الفنان التشكيلي والأديب السوري صبري يوسف، للحديث حول السلام. شاركتُ في مداخلة استمرّت قرابة عشر دقائق، حاولتُ خلالها أن أقول ما أمكن قوله وسط التعب وضيق الوقت. كان الأولاد قد سبقوني إلى النوم. نمتُ حتى السادسة صباحًا، ثم أيقظتُ إيلاف، وخرجنا تحت زخّات المطر الخفيفة، فيما كان الضباب يلفّ قمم جبل شمسان مانحا المشهد مسحةً من السكون الجميل. اتجهنا إلى مطعم الجمهور في حيّ الميدان، وأخذنا كبدة مع خبز طاوة، وشاهي ملبّن عدني، ثم صعدنا إلى صهاريج الطويلة، ذلك المعلم العريق الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في عهد مملكة سبأ. بلغ عدد الصهاريج نحو خمسين صهريجًا، أكبرها يتّسع لنحو ثمانية عشر ألف متر مكعّب من المياه، ولا يزال منها ثمانية عشر صهريجًا قائمًا حتى اليوم. تُعدّ هذه الصهاريج من أقدم أنظمة الري في العالم، وقد وصفها الرحّالة والأديب اللبناني أمين الريحاني بأنها (من أجمل الأعمال الهندسية في العالم). اصطبحنا تحت الأشجار، ثم تجوّلنا قليلًا والتقطنا الصور قبل أن نعود إلى الفندق. كان الأولاد قد استيقظوا، وحين علم أيهم أنه لم يرافقنا، زعل وطلب بإصرار أن آخذه إلى الصهاريج.
خرجنا جميعًا، تجوّلنا والتقطنا الصور، ثم عدنا. وفي طريقنا إلى الفندق، لمحتُ منزل الفنان الراحل (خليل محمد خليل)، فالتقطتُ له مجموعةً من الصور. يُعدّ خليل محمد خليل (1917–2009) رائد الأغنية العدنية وأحد أعمدة الموسيقى اليمنية، ولُقّب ب(سيد درويش) الأغنية اليمنية لدوره الريادي في تطوير التلحين ومنح الأغنية هويتها الحديثة. بدأ مسيرته عام 1937، وأسّس (ندوة الموسيقى العدنية)، وخلّف أغانٍ خالدة مثل (الوردة الحمراء) و(حرام عليك تقفل الشباك)، مسجّلًا إرثًا فنيًا ما يزال حاضرًا في الذاكرة اليمنية. عدنا إلى الفندق لنتهيّأ بعدها للسفر. في تلك الأثناء، تواصل معي صديقي عدي القاضي. لم أجد الكلمات الكافية لأعبّر عن امتناني له على حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة الذي أظهره لنا طوال إقامتنا. عند الساعة العاشرة صباحًا، جاء بسيارته إلى الفندق، وأخذنا إلى فرزة صنعاء، وهناك نسّق مع السائق الذي أقلّنا إلى صنعاء. لم يكتفِ عدي بتوصيلنا، بل تأكّد بنفسه أننا على أتمّ الاستعداد للمغادرة، قبل أن يودّعنا بابتسامة صادقة تحمل بين طيّاتها مشاعر الصداقة والوفاء. غادرنا عدن قرابة الواحدة ظهرًا، لكننا تعرقلنا في أولى نقاط التفتيش لمدة نصف ساعة. بعد ذلك انطلقنا في الطريق بسرعة، نحاول اللحاق بالوقت خشية الوصول إلى نقطة مريس بعد إغلاقها، فهي تُغلق أبوابها عند الساعة الخامسة والنصف عصرًا. لم نتناول الغداء، وكان معي مبلغ 21,500 ريال من العملة المتداولة في عدن. عندما اقتربنا من مدينة الضالع، بدأ المطر يهطل بغزارة، ولم يتوقف السائق لتغيير العملة، واصلنا الطريق تحت زخّات المطر الغزيرة. وأخيرًا، وصلنا إلى نقطة مريس قبل خمس دقائق فقط من إغلاقها. لنواصل السير حتى استقبلتنا نقاط التفتيش الجديدة، أوقفونا لأكثر من ساعة، يفتّشون الكراتين التي كانت على ظهر السيارة. خرجتُ من السيارة وأنا أرتجف من البرد، وسألتُ أحد الجنود بعفوية: أين يمكنني تغيير هذه العملة كي أشتري عشاءً، لأنه ليس لدي غيرها؟ لكن، للأسف، تمت مصادرتها. كان في حوزة إلياس أربعة آلاف من العملة المتداولة في صنعاء، تعشّينا بها في مريس. بعد إغلاق النقطة، توقفت حركة السيارات تمامًا، وبقينا وحدنا على الخط، نمشط الطريق بسرعة، لا يرافقنا سوى الظلام، حتى وصلنا يريم. مضينا نكمل ما تبقّى من المسافة، والبرد ينهش أطرافنا، إلى أن دخلنا صنعاء بعد منتصف الليل، منهكين. بعد هذه الرحلة الطويلة والمرهِقة والمكلفة، عدنا دون أن نتمكّن من إكمال المعاملة. سلّمتُ سندات الجوازات لصديقي عدي لمتابعة إصدارها، أمّا إيلاف فلم نتمكّن من إتمام معاملتها بسبب تأخّر الاستبيان. وقفتُ للحظة أتأمّل حجم التعب والطريق الطويل والانتظار والزحام وكل ما مررنا به، وفكّرت بصوت داخلي: إلى متى ستستمر هذه المعاناة؟ وإلى متى سيظل أبسط حق من حقوقنا بعيد المنال رغم أننا مواطنون؟ لكن وسط كل هذا التعب، كانت هناك لحظات صغيرة من الفرح: البحر الذي رآه أولادي لأول مرة، وغيوم ذمار التي اقتربت منا، والضحكات التي خرجت من قلوبهم رغم كل شيء. تلك اللحظات البسيطة تستحق أن نعيشها ونستمتع بها.