محمد المخلافي كيف حالك يا محمد؟ كيف الأخبار والوضع في صنعاء؟ كان هذا سؤال صديقي ورفيق دراستي الجامعية، لطفي عمر البيض، الذي يقيم في إحدى دول الجوار. تبادلنا الحديث عبر رسائل صوتية على واتساب، وبدأت أصف له حالنا ومعاناتنا في بلدٍ لم يعد فيه للهدوء مكان، حيث بات همّ الإنسان الأول هو توفير أبسط متطلبات الحياة له ولعائلته. قال لي لطفي إن هناك فرص عمل في العديد من البلدان، خاصة في دول الخليج، واقترح عليّ أن أقدم للحصول على فرصة قد تحسن من وضعي. بدأت الفكرة تتشكل في ذهني، لكنني واجهت عدة عقبات: جواز سفري منتهي وشهاداتي الجامعية لم أقم بتوثيقها بعد في التعليم العالي والخارجية. كان لا بد لي من السفر إلى عدن، لكن هذه الرحلة ستكلفني الكثير. تنهدت بعمق وقلت في نفسي: إلى متى ستستمر هذه المعاناة؟ قررت في النهاية أن أسافر إلى عدن. خرجت من بيتي في السادسة صباحًا متجهًا إلى باب اليمن. بمجرد أن نزلت من الباص، استقبلني سائقو الباصات يسألونني عن وجهتي. أخبرتهم أنني ذاهب إلى عدن، أخذوا مني حقيبتي وأدخلوني إلى أحد الباصات الذي كان فيه حوالي عشرة ركاب. طلبوا مني أجرة الرحلة 100 ريال سعودي، لكنني تفاجأت بأن الركاب كانوا سماسرة الفرزة، حيث نزلوا جميعًا من الباص وبقيت وحدي. سألت سائق الباص عن الركاب، فأجاب ببرود: "سيأتون الآن." انتظرتُ قرابة نصف ساعة، لكن لم يأتِ أحد. عندها، طلبت منه أن يعيد لي نقودي، لكنه رفض وأخبرني أن هناك ركاب في شارع الثلاثين. اتجهنا إلى هناك، وصعد معنا فقط راكبان، ثم دخلنا شوارع فرعية حيث انضم إلينا مسافر آخر. شعرت وكأننا نقوم بعملية تهريب. وصلنا بعد ذلك إلى شارع تعز، حيث طلب سائق الباص منا الانتقال إلى باص آخر كان ينتظرنا. صعدنا إلى الباص، ودخل شخص طويل يرتدي ملابس أنيقة ويحمل كيسًا غريبًا. اقترب مني ثم أغلق حقيبتي بقفل صغير وناولني المفتاح، وعمل نفس الشيء مع بقية المسافرين. سألته لماذا فعلت ذلك، فقال: "لتأمين أغراضكم." فجأة، طلب مني 500 ريال. رفضتُ وأعدت له القفل. بدأنا رحلتنا الطويلة إلى عدن، التي تبعد حوالي 363 كيلومترًا عن صنعاء، قرابة الثامنة صباحًا. كانت عشرات نقاط التفتيش في انتظارنا على طول الطريق. كان بعضهم يوقفوننا، ويأخذون بطاقاتنا الشخصية، ويستجوبوننا، ويفتشون الحافلة، بينما الآخرون كانوا يأخذون ما تيسر من سائق الحافلة، ويسمحون لنا بالمرور. كانت الأرض قاحلة على جانبي الطريق هذه المرة، بسبب تأخر المطر، على عكس عادتها في فصل الصيف، حين تكتسي بحلةٍ خضراء تبعث البهجة في النفس. عند آخر نقاط جماعة الحوثي بعد مدينة دمت، توقف سائق الحافلة جانبًا تحت حرارة الشمس. خرج شاب عشريني من كشكه الصغير حاملاً كيسًا مليئًا بالعملة النقدية "قعيطي" التابعة للشرعية، واقترب منا. قال سائق الحافلة: "من يريد تغيير عملته؟" فنزل بعض الركاب وغيروا عملتهم. واصلنا طريقنا باتجاه مريس، المكان الذي شهد معارك عنيفة بين طرفي النزاع. لم نرى فيه سوى صمتٍ مطبق ولافتات تحذيرية تشير إلى وجود ألغام. في نقطة التفتيش عند مدخل مدينة الضالع، التي أُغلقت لأكثر من خمسة أعوام، أوقفونا وأنزلونا من الحافلة. أخذوا منا بطاقاتنا الشخصية، واستجوبونا، وفتشوا الحافلة قرابة نصف ساعة. حتى النساء تم تفتيشهن واستجوابهن من قبل نساء يعملن بجانب الجنود هناك. واصلنا رحلتنا نحو مدينة الضالع، حيث بدأت أشعة الشمس القاسية تتسلل إلينا تدريجيًا، تلهب الأجواء حولنا. بعد ذلك، انطلقنا نحو مدينة لحج، وواجهتنا نقاط التفتيش التي اتبعت نفس الروتين حتى بلغنا نقطة الرباط عند مدخل مدينة عدن. عند الساعة التاسعة مساءً، وصلنا إلى عدن. كانت الحرارة شديدة جدًا، والعرق يتصبب من كل جسمي. بمجرد أن نزلت من الحافلة، توجهت مباشرة إلى محل العصائر، و بدأت التهم العصير كوبًا تلو الآخر حتى شعرت ببعض الانتعاش. استعدت أنفاسي، ثم تواصلت مع صديقي عدي القاضي، أحد أبناء مراد المعروفين بكرمهم وشهامتهم. رغم أنه كان مشغولًا في المستشفى، إلا أنه ترك عمله وجاء لاستقبالي، ثم اصطحبني في سيارته إلى مديرية خور مكسر. تناولنا العشاء في أحد مطاعم الشابات، وهناك عصف بي الخيال إلى عشرين عامًا مضت، حين كنت أسكن في هذا الحي. لكن ملامح المكان تغيرت، وكذلك الوجوه. بوفية علي الأوصابي، حيث كنت ألتقي مع أصدقائي لتناول العشاء وتبادل الأحاديث، لم تعد موجودة. لكن صور أصدقائي وراحة المكان ما زالت عالقة في مخيلتي. بعد انتهاء العشاء، اتجهتُ مع صديقي إلى مكان سكنه في حي "المملاح" القريب من ساحل أبين. أنهكني تعب السفر، فغلبني النوم بمجرد أن وضعتُ رأسي، واستيقظتُ مع بزوغ الفجر. استأذنتُ صديقي عدي صباحًا وخرجتُ متجهًا إلى مدينة كريتر لإنجاز أوراق جواز سفري. كان الكابتن علي شبير – مدرب كرة الطاولة بنادي التلال – بانتظاري أمام بيته بحي الشيخ عبدالله، قرب مقهى سكران الشهير. يحمل هذا المكان ذكرى عزيزة؛ فقد كان نقطة لقائي الدائم بمحمد شبير الاخ الاكبر لعلي لاعب نادي التلال في لعبة اللعاب القوى "مسافات قصيرة" رفيق دراستي الجامعية قبل أكثر من عشرين عامًا. كانت أيامًا مفعمة بالمرح والطموح. كلما وطئت قدمي هذا المكان، يعود بي الزمن إلى تلك الأيام، وأشعر بدفء الذكريات يلفّ روحي. اصطحبني علي بسيارة أخيه إلى مطعم "الجمهور" الشعبي في حي الميدان. هناك، تناولنا وجبة الفطور "كبدة بلدي ومخّ مع خبز طاوة عدنيّ دافئ، و حليب ملبن. بعدها اتجهنا إلى مكتب الجوازات المجاور لملعب الحبيشي في حي القطيع، أكملنا الاجراءت في أقل من نصف ساعة. ثم عبرنا الخط البحري إلى مديرية المنصورة، حيث وثّقتُ شهادتي الجامعية في مكتب وزارة الخارجية دون عناء. لم تستغرق كل تلك الإجراءات سوى ساعتين. شكرتُ علي واتصلت بصديقي عدي، الذي أسرع بالحضور وأخذني بسيارته. تجوّلنا في أرجاء خور مكسر حتى آذن الظهر، ثم عدنا إلى البيت لتناول الغداء معًا. بعدها، بدأنا "مقيل القات، مع مجموعة من أبناء مراد حتى أذان المغرب. في تلك الأثناء، اتصل بي صديقي محمد فيصل – نجل الأستاذ فيصل سعيد فارع، رائد الاقتصاد والثقافة – رحّب بي بحفاوة، ودعاني للإقامة في شقته المطلة على ساحل أبين. استأذنتُ عدي شاكرًا ضيافته، واخذني بسيارته إلى شقة محمد. عند المساء، كنت أخرج إلى كريتر للقاء صديقي محمد شبير، نستعيد ذكرياتنا في شارع الطويلة النابض بالحياة، و نتناول العشاء في احد المطاعم الشعبية في حي الميدان، ثم نذهب إلى بوفية ثلاثين نوفمبر بجانب جامع حسين الاهدل لنرتشف شراب "الثريب" و"كنج شيك" – الشراب المفضل لدى زينب شبير ابنت صديقي محمد. بعدها، نختتم جولتنا عند "دوار الفل" قرب سوق القات. هناك، تحت الاضواء الخافتة، يجتمع أبناء عدن من كل الأعمار. يلعبون الضمنة، ويتبادلون أطراف الحديث والضحكات العريضة، رغم هموم الحياة التي لا تغيب عن أحد: غلاءٌ خانق، وانقطاع الكهرباء ساعاتٍ طويلة، وحرٌّ لافح. لكن روحهم المرحة لا تنكسر. يصرون على البهجة، ويواصلون ضحكاتهم ومزاحهم حتى ساعات الليل المتأخرة، كأنهم يقولون للحياة: لن تسرق منا فرحتنا. كانت محلات الصرافة تعج بالحركة؛ شباب يتدافعون نحو شبابيك الصرافة، وكبار في السن يجلسون في زوايا الانتظار، ونساء من مختلف الأعمار يودعن بالريال السعودي، تلك العملة التي أصبحت هي السائدة في أغلب الأماكن في عدن. بالصدفة، دخلت أحد البوفيات، وفجأة لمحت مدرب منتخب الناشئين، الكابتن قيس محمد صالح، جالسًا على الطاولة يتناول العشاء مع أولاده. ابتسم لي ودعاني لتناول العشاء معه. صافحته وجلست بجانبه، وذكّرته بتلك اللحظة التاريخية عندما توج منتخب الناشئين بلقب بطولة غرب آسيا. كانت تلك المناسبة بمثابة فرحة جماعية، حيث وحدت قلوب كل اليمنيين ورسمت الابتسامة على وجوه الكبار والصغار. كان الكابتن قيس يروي بفخر تفاصيل تلك البطولة، وكيف تمكن الفريق من تجاوز كل التحديات بعزيمة وإرادة قوية. قبل سفري بيومين، توجهت إلى مكتب الجوازات لمتابعة إصدار جواز سفري. أخبرني العقيد عادل سعيد عبده، نائب المدير، أنه سيصدر بعد يومين، ونصحني بالسفر، مؤكدًا أنه سيرسله لاحقًا إلى صنعاء. عدت إلى شقة محمد فيصل، جمعت أغراضي وتوجهت إلى فرزة صنعاء في مديرية القاهرة. كان الوقت متأخرًا، حيث كانت الساعة الحادية عشر صباحًا، ولم تكن هناك باصات متاحة، إذ إن نقطة التفتيش في مدخل مدينة الضالع تغلق أبوابها في الساعة الخامسة والنصف عصرًا، مما جعل العديد من سائقي الباصات يرفضون السفر في هذا التوقيت. سألت أحد سماسرة الفرزة، فأخبرني أن أحد الباصات تحرك قبل قليل. تواصل معه وأوقفه عند جولة الكراع، وأوصلني بسيارته إلى هناك. صعدت إلى الباص وجلست في المقعد الأخير حيث كان هناك راكبان. أحدهما كان مزعجًا، يجلس بجانبي ويمد برجله باتجاهي. حاولت التحدث معه بأدب، لكنه لم يستجب، وما زاد من انزعاجي هو أنه أخرج علبة سجائر وبدأ يدخن. حاولت التحدث معه مجددًا لكن من دون جدوى. في سوق الفيوش القريب من مدينة لحج، أوقفت الباص ونزلت، وعدت إلى عدن. بقيت هناك حتى استلمت جواز سفري. ثم تواصلت مع صديقي عدي القاضي، الذي رتب لي السفر مع أحد أصدقائه المتجهين إلى صنعاء. ركبت معهم في رحلة هادئة، لم تعكر صفوها سوى بعض نقاط التفتيش بروتينها المزعج. وصلت صنعاء في الساعة الثامنة والنصف مساءً. كانت تجربة متعبة ومرهقة، لكنني استمتعت بزيارة المدينة التي قضيت فيها أجمل أيام عمري و بلقاء الأصدقاء.