حضرموت هي الجنوب والجنوب حضرموت    الزنداني يلتقي بمؤسس تنظيم الاخوان حسن البنا في القاهرة وعمره 7 سنوات    حقائق سياسية إستراتيجية على الجنوبيين أن يدركوها    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    الضربة القاضية في الديربي.. نهاية حلم ليفربول والبريميرليغ    لغزٌ يُحير الجميع: جثة مشنوقة في شبكة باص بحضرموت!(صورة)    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    لأول مرة.. زراعة البن في مصر وهكذا جاءت نتيجة التجارب الرسمية    رئيس كاك بنك يبعث برقية عزاء ومواساة لمحافظ لحج اللواء "أحمد عبدالله تركي" بوفاة نجله شايع    اليمن: حرب أم حوار؟ " البيض" يضع خيارًا ثالثًا على الطاولة!    "صدمة في شبوة: مسلحون مجهولون يخطفون رجل أعمال بارز    البحسني يثير الجدل بعد حديثه عن "القائد الحقيقي" لتحرير ساحل حضرموت: هذا ما شاهدته بعيني!    وفاة نجل محافظ لحج: حشود غفيرة تشيع جثمان شائع التركي    عبد المجيد الزنداني.. حضور مبكر في ميادين التعليم    وحدة حماية الأراضي بعدن تُؤكد انفتاحها على جميع المواطنين.. وتدعو للتواصل لتقديم أي شكاوى أو معلومات.    الخطوط الجوية اليمنية تصدر توضيحا هاما    شبوة تتوحد: حلف أبناء القبائل يشرع برامج 2024    إصابة مدني بانفجار لغم حوثي في ميدي غربي حجة    مليشيا الحوثي تختطف 4 من موظفي مكتب النقل بالحديدة    شكلوا لجنة دولية لجمع التبرعات    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    البرق بتريم يحجز بطاقة العبور للمربع بعد فوزه على الاتفاق بالحوطة في البطولة الرمضانية لكرة السلة بحضرموت    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    يوكوهاما يصل لنهائي دوري أبطال آسيا    رئيس رابطة الليغا يفتح الباب للتوسع العالمي    وزارة الداخلية تعلن الإطاحة بعشرات المتهمين بقضايا جنائية خلال يوم واحد    تحالف حقوقي يوثق 127 انتهاكاً جسيماً بحق الأطفال خلال 21 شهرا والمليشيات تتصدر القائمة    صحيفة مصرية تكشف عن زيارة سرية للارياني إلى إسرائيل    رئيس الاتحادين اليمني والعربي للألعاب المائية يحضر بطولة كأس مصر للسباحة في الإسكندرية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    المهرة يواصل مشاركته الناجحة في بطولة المدن الآسيوية للشطرنج بروسيا    الذهب يستقر مع انحسار مخاوف تصاعد الصراع في الشرق الأوسط    تحذير حوثي للأطباء من تسريب أي معلومات عن حالات مرض السرطان في صنعاء    بشرى سارة للمرضى اليمنيين الراغبين في العلاج في الهند.. فتح قسم قنصلي لإنهاء معاناتهم!!    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    قيادة البعث القومي تعزي الإصلاح في رحيل الشيخ الزنداني وتشيد بأدواره المشهودة    «كاك بنك» فرع شبوة يكرم شركتي العماري وابو سند وأولاده لشراكتهما المتميزة في صرف حوالات كاك حواله    «كاك بنك» يكرم شركة المفلحي للصرافة تقديراً لشراكتها المتميزة في صرف الحوالات الصادرة عبر منتج كاك حوالة    نزوح اكثر من 50 الف اثيوبي بسبب المعارك في شمال البلاد    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    الاعاصير والفيضانات والحد من اضرارها!!    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و183    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    دعاء مستجاب لكل شيء    من هو الشيخ عبدالمجيد الزنداني.. سيرة ذاتية    مستشار الرئيس الزبيدي: مصفاة نفط خاصة في شبوة مطلبا عادلًا وحقا مشروعا    مع الوثائق عملا بحق الرد    لماذا يشجع معظم اليمنيين فريق (البرشا)؟    الحكومة تطالب بإدانة دولية لجريمة إغراق الحوثيين مناطق سيطرتهم بالمبيدات القاتلة    لحظة يازمن    بعد الهجمة الواسعة.. مسؤول سابق يعلق على عودة الفنان حسين محب إلى صنعاء    المساح واستيقاف الزمن    - عاجل فنان اليمن الكبير ايواب طارش يدخل غرفة العمليات اقرا السبب    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    تصحيح التراث الشرعي (24).. ماذا فعلت المذاهب الفقهية وأتباعها؟    وزارة الأوقاف تعلن صدور أول تأشيرة لحجاج اليمن لموسم 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 25 - 12 - 2007


الحلقة الأولى
لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الإطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغربيتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. ندأ.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
أنا ومذكراتي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد...
فهذه مقدمة لما سوف أكتبه من تاريخ حياتي كمحمد عبدالواسع حميد الأصبحي وعن الحركة الوطنية التي بدأت مع الرفاق والزملاء والأحباب.
وإذا جاءت هذ الكتابة متأخرة فذلك لأنني كسول أو مهمل، أو لأن ثمة عقدة ما بيني وبين مذكراتي.. على أية حال لا أرغب في الدفاع عن نفسي بهذا السياق كما لا أميل إلى التبرير فما كان، إلا أن حادثة تتعلق بتدوين مذكراتي أرى من الضروري أن أذكرها هنا:
فقد تركت في عام 1962م بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المباركة مذكرات تربو على أربعمائة صفحة وكذا رسائل من الأصدقاء والأحباب بينها رسائل من الزعيم اليمني الشهيد محمد محمود الزبيري أيام كان في الباكستان وقد هداني إلى عنوانه آنذاك الزعيم اليمني الكبير الذي كان أول من تسمى بأبي الأحرار الشيخ عبدالله علي الحكيمي والذي كان يصدر جريدة السلام في كاردف ببريطانيا، ورسائل أحمد محمد نعمان إلى فرنسا عندما كنت مغترباً ثم إلى عدن ثم من عدن إلى القاهرة ورسائل ومذكرات تركتها كلها عند ابن عمي في عدن لأني كنت أخاف أن أضعها في القرية، ولا سامحه الله فقد أهملها وذهبت فيما ذهبت أيام التفتيش على مناوئي الحكم البريطاني آنذاك، فبدأت عقدتي من هنا لأني فقدتُ أعز ما يمكن أن أكتبه عن الحركة الوطنية، ولم يبق لي إلا أن أعتمد على ذاكرتي.
وقبل أن أمضي في كتابة أحداث حياتي، أحب أن أذكر لقارئي أن تجربة في الكتابة الأدبية قد سبقت لي، حيث كتبت أول قصة وكان عنوانها «مأساة لم تتم فصولها»، وذلك بعد الثورة المصرية المباركة عام 1953م وكنت في عدن أهم بالهجرة مرة أخرى إلى فرنسا.
ولا أزال أذكر مقدمة تلك القصة التي دفعتني فيها الغربة إلى أن أجرد من نفسي شخصاً آخر أجعله صديقاً وأبادله المشاعر والأفكار حول متاعب الحياة وآلامها، وقد جاءت بداية تلك القصة على النحو التالي:
«أكتب هذه المأساة أو بعبارة أخرى تاريخ حياة صديق ودود عشت معه بضعة عشر عاماً لا نفترق إلا لنلتقي ثانية.. كان يلازمني كظلي لا يهنأ له عيش إلا إذا كان بجانبي، وكنت أعلم أنه يحمل هماً ثقيلاً وسراً دفيناً عميقاً لا يستطيع أن يبوح به لأحد، ولم أستطع أن أكاشفه عن أسباب وجومه وتشاؤمه في الحياة، وكان كثيراً ما يشكو لي متاعبه وآلامه، وكان يقول لي أيضاً: إن بعض معارفي يظنون بأنني سعيد ولو كشف لهم عما ينطوي عليه قلبي لغيروا رأيهم ولعلموا أني أتعس إنسان في هذه الحياة.
وكان عندما يخلو إلي يسألني دائماً عن أسباب الشقاء وأسباب السعادة، فأدلي إليه بما وصل إليه علمي ومعرفتي عن بعض أدلة كبار العلماء والفلاسفة وآرائهم، وأنصحه دوماً بأن يقرأ للكاتب الأمريكي «ديل كارنيجي» «دع القلق وابدأ الحياة» فيقول: لا بأس، ولكن ديل كارينجي وغيره لم يصلوا بعد إلى دواء ناجع لإزالة الآلام التي يقاسيها الاشقياء السعداء ،ثم لم يذكر لي قصصاً واقعية عن بعض العظماء من الفلاسفة والشعراء الذين عاشوا طوال حياتهم بائسين،ثم ينشدني بعض مقطوعات من الشعر لعدة شعراء وكلها تمثل البؤس والشقاء..وحتى كان أحياناً يستشهد لي بقصائد أو بنبذ من قصائد للشعراء العذريين أمثال جميل بثينة وكثّير عزة ومجنون ليلى وقيس ولبنى وعروة بن حزام مع محبوبته عفراء،وكأني أراه الآن وهو ينشد تلك الأبيات المحزنة وكأنه يتمثلها في نفسه، ولكنه لايبوح ..لايبوح..وهكذا ما زلت أعيش مع هذا الصديق كأنه قطعة مني أرثي له وأحزن وأبكي من أجله عندما أخلو إلى نفسي».
ولقد أقدمتُ على تمزيق هذه القصة لما كانت تحتوي عليه من عواطف إنسانية جارحة ومن آلام نفسية مبرحة،ثم عبرت بعد ذلك عقود من الزمن نسيت خلالها أو تناسيت الكتابة الأدبية،وانهمكت بالعمل الوطني فحال مالاقيت من أهوال وأخطار دون تسجيل
الأحداث والأخبار
وحين أجد نفسي الآن مقبلاً على كتابة شيء من مذكراتي لابدّ لي من أن أتذكر الكثيرين من الأحبة والأصدقاء الذين يعزونني ويقدرونني ويحبونني ،كانوا دوماً يلحون عليّ بأن أكتب لاسيما عندما أقص عليهم قصة من قصص حياتي الشخصية أو طرفاً من سيرتي الذاتية،أو ماكنا نصنع في الغربة وكيف كنا نناوئ الإمامة والحكم الفاسد الطاغي في اليمن.وأذكر في مقدمة هؤلاء الأصدقاء الأحباء الأخ الودود والصديق الصدوق الذي لا ولن أنساه«حتى أوسّد ففي التراب دفينا» إنه الأخ علي محمد سعيد أنعم رئيس شركة مجموعة هائل سعيد أنعم.
أجل عدد كبير من الاصدقاء كانوا يحثونني على كتابة مذكراتي،حتى أن بعض الأخوة المصريين والسوريين والعراقيين الذين كنت ألتقيهم من الكتاب والأدباء والشعراء كانوا يلحّون علي أيضاً أن أكتب وأكتب..ولكنني كنت أحياناً أتكاسل وأحياناً أتعقد من ضياع ماكنت قد كتبت منذ أكثر من ثلاثين عاماً،وهاأنذا الآن أشرع بكتابة نتفٍ من مذكراتي الشخصية ،وسأعمل على إخراجها في كتاب ،واثقاُ أنها ليست ملكاً لي بل ملك للآخرين..وللأجيال القادمة فربما تأخذ دروساً مما كنا نعاني من مرارة الغربة وبأساء الحياة وشقائها ومن مظالم الحكم الإمامي الفاسد:هذا الحكم لا أشبهه بعهود القرون الوسطى بل أصنفه ضمن عصور العبودية..وما عانيناه في ظله يفوق حدود التصوّر،حتى أن من نقص عليهم أقاصيص بسيطة مما كابدناه في تلك الأيام السوداء يقفون مستغربين متعجبين بين مصدقين ومكذبين متسائلين كيف استطعنا أن نعبر تلك المرحلة وما يتلاطم في خضمها من مآسي وأهوال لنصل إلى شاطئ الأمان ونحدثهم عما كان..
طفولتي الأولى
نشأت في أسرة عريقة،لا أقول في المجد،بل أقول في المحافظة على التقاليد العربية من كرم وشجاعة واعتداد بالنفس.وكانت لها السيادة في قومها أو مايسمونه المشيخة أو المشيخ وكان عميد هذه الأسرة هو جدي حميد بن زيد عبدالعالم الأصبحي من الحجرية أي المعافر أصلاً..وقد آلت السيادة من بعده إلى ابنه الأكبر وهو عمي سيف حميد زيد وكان أكبر أخوته الأربعة..ولما انتهى الاحتلال العثماني أو الفتح العثماني،فأنا لا أسميه احتلالاً بل كان حماية وفتحاً،وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1918م آلت السلطة إلى يد الإمام يحيى بن حميد الدين رحمه الله..
فقد سيطر على اليمن ووصلت سلطته إلى الحجرية التي تسكنها عشيرتي دون قتال أو تصد له لأن اليمنيين كانوا يعتبرونه المنقذ باعتبار أنه حاكم يمني. وكما هو معروف للعالم العربي فقد افتتح الإمام يحيى عهده بالإرهاب والظلم والتشريد والاستبداد والاعتقال وإرهاق الشعب بالضرائب وغير ذلك مما يعرفه القاصي والداني مما نتج عنه هجرة اليمنيين إلى عدة أقطار،وقد توغلوا في الهجرة طلباً للرزق ولإعانة من بقي منهم في الداخل ليتقوا جنود الإمام وسطوتهم في التنفيذ والخطاط وجباية الضرائب:حيث كان الجنود يسكنون منازل الرعية ولايبرحونها إلا بعد أن يأتوا على الأخضر واليابس..
في هذه الظروف هاجر والدي واثنان من أخوته وبقي في البلاد أكبرهم وهو الشيخ سيف حميد،أما أوسطهم أو بالأحرى ثالث الأخوة الأربعة وهو قاسم حميد
فقد توفّق وساعده الحظ بعد أربع سنوات من هجرته فأصبح رئيساً لعمال ميناء جيبوتي لشحن وتفريغ السفن بالفحم..
وكان وقود السفن آنذاك بالفحم..وقد در هذا العمل عليه أرباحاً لا بأس بها كان ينفق أكثرها على أخيه الأكبر في القرية وعلى بقية أفراد الأسرة.
أما والدي فقد فتح متجراً بالاشتراك مع أخيه الأصغر عبدالعالم حميد..وكان يسافر أحياناً إلى الصومال البريطاني أو مايسمونه «صومال لاند» أي بربرة وهرجيسه وزيلع لشراء الأغنام وبيعها في «جزيرة ميون» التي كانت أيضاً مقراً لتزويد السفن البريطانية وغيرها بوقود الفحم،ثم يعود إلى مقرّه الرئيسي..وهكذا كان والدي وأخوه يتناوبان البيع والشراء في المتجر.
أما تاريخ ولادتي فهو عام 1339ه حسبما وجدته مدوّناً في جذاذة من كتاب قديم لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن هشام،وأما طفولتي الأولى فقد عشتها قلقاً مضطرباً بين أبوين فرق الطلاق بينهما.ولا أعرف على وجه التحديد سبب الخلاف الذي عصف بحياتهما الزوجية،كما لاأعرف متى كان الزواج الثاني لوالدي، فقد حدث كل ذلك حين كنت لا أزال طفلاً أحبو...وكان الطبيعي أن تذهب والدتي إلى بيت أبيها في منطقة الحضارم أي آل السقاف من الهاشميين التي لاتبعد عن قريتنا أو حصننا المسمّى «حصن نعامه» إلا بثلاثة كيلومترات.
وحين عاد عمي الموفور الحظ قاسم حميد من هجرته في جيبوتي إلى اليمن وكان متزوجاً بواحدة في جيبوتي وباثنتين في اليمن رآني شبه شريد موزعاً بين والدي الذي كان كلما التقاني يلقي القبض علي بهدوء ليعيدني إلى الحصن وبين والدتي التي أتذكر أنها كانت تتسلل في اليوم التالي باكية لتضمني إلى صدرها بلهفة وحنان.
آه. ماذا أذكر أيضاً؟هل أذكر أختي التي تكبرني بخمسة أعوام وكان عمرها آنذاك عشر سنوات حين أقسروها على الزواج بحكم المشيخ والأسرة الخ..وتزوجت بابن عم لها يكبرها بثمانية عشر عاماً؟
إن تاريخ طفولتي الأولى هو تاريخ للمواجع والآلام فوراء كل حدث من أحداثه قصة حزينة، ولن أسمح لهذه القصص بأن تطغى على ذكرياتي.
لذا أعود إلى عمي الذي رآني يتيماً شريداً لأقول أنه قرر أن يأخذني إلى جيبوتي فأرسل مع «الطبل» «هو المراسل بين المغتربين وذويهم في البلاد» الذي كان يرسل معه المصاريف للأسرة من الغربة ليصحبني معه.
وها أنذا طفل لم أدخل اليفاع بعد أطرق دروباً مجهولة لا يعرف إلا الله ما تخبئ لي الأيام وراءها..
الطفل المغترب
ها أنذا ألقي بنظراتي هنا وهناك على بيوت أهلي ومرابع طفولتي مودعاً الرحاب التي طالما درجت عليها والجدران التي طالما تفيأت ظلالها، وهاهي والدتي ترتمي في صدري وتبكي، ولاأنسى تلك الدموع التي ما برحت أتذكرها كلما تذكرت قول الشاعر بشارة الخوري رحمه الله:
فهوت عليك بصدرها
يوم الفراق لتستردك
ولكن لابد مما ليس منه بدُّ.. فها أنذا أسافر مغادراً البلاد مشياً على الأقدام حافياً من القرية إلى معبق أي «طور الباحة» لمدة أربع ساعات متهالكاً إلى أن أنضمّ إلى قافلة فيها مايقرب من عشرين بعيراً هوت بنا لمدة ثلاثة أيام في صحراء الرجع أي الصبيحة أو بالأحرى الأصابح حتى وصلنا إلى عدن، حيث مكثت هناك مع ذلك «الطبل» مدة أسبوع، أبحرنا بعده في باخرة لشركة قهوجي إلى جيبوتي لمدة يومين، لألقي عصا الرحيل في جيبوتي وأنزل في بيت عمي.
كان عمي كما يقال «صرنج» وبالأحرى أنا أسميه مقدّم العمال في ميناء جيبوتي للفحم.. وكان العمال بين مائتين وخمسين وثلاثمائة عامل يشتغلون في تفريغ السفن وشحنها.. أما منزل عمي فكان يتكون من غرفة وصحن للدار كما يسمونه في عدن «الدارة».
كيف تعلمت القراءة
بعد شهر أرسلني عمي إلى أحد الكتاتيب لأدرس لدى امرأة فقيهية، لا أزال أتذكر اسمها «الفقيهية قينية» من أصل يمني من الحديدة، فمكثت عندها عاماً كاملاً قرأت خلاله القرآن الكريم ثلاثين جزءاً.. وهكذا تعلمت القراءة أما الكتابة فلها قصة أخرى.
كيف تعلمت الكتابة
في يوم عاصف أعتقد أن الشياطين كانت تنفخ فيه فررت من منزل عمي إلى الجزيرة التي فيها أبناء عماتي، ذهبت هناك لكي يعلمونني القراءة والكتابة البسيطة مقابل لقيمات أو مانسميها عشيرة واحدة.. وأقسم بالله أني حتى الآن لا أصدق نفسي أو لا أصدق كيف عشت قرابة العامين أعجن الطحين وأخبز لثمانية أشخاص وأطبخ لهم الطعام واللحم، وأنا ابن عشر سنوات ثم أنتظر عودتهم من العمل لآكل معهم مقابل حدبهم عليّ من ناحية ولشغفي بالتعلم من ناحية أخرى.
العمل في دكان
بعد رحلة تعلّم الكتابة عدت إلى منزل عمي، فقال لي رحمه الله:
مارأيك يابن أخي في أن تذهب إلى دكان تتعلّم كيف «يقرطسون» أي يبيعون الأشياء السكر والرز وأشياء صغيرة جداً، لتتعلم وتصير تاجراً في المستقبل؟ فوافقت وذهبت إلى دكان، وكان ذلك الدكان لشخص من الأصابح لم أجد ألأم منه، إلاأنه كان من أسرتنا، في هذا الدكان كنت أهش الذباب في قوصوة تمر أو داخل الدكان لأكون حارساً، وفي ذا الوقت افتتحت مدرسة النجاح.
مدرسة النجاح
مدرسة النجاح هذه هي أول مدرسة في القرن الأفريقي قام بإنشائها من كنا نسميه آنذاك «أبو الحسنين» علي محمد صالح كبيش، وهو يمني ولايزال ولده سعيد علي كبيش حياً ويرأس الغرفة التجارية في جيبوتي، تطوّع أبو المحسنين بالبناء فجاء من ستة فصول وستة منازل للمدرسين، وتعاون مع أبي المحسنين فرج جمعان باظفاري، وهو من حضرموت، وسيف سعيد العطار وهو أخو الدكتور محمد سعيد العطار فجاؤوا بمدرسين من حضرموت ولأول مرة في القرن الأفريقي تفتح مدرسة نموذجية: اللباس فيها موحد والكراسي والطاولات متوفرة.
قال أحد الأخوة لعمي: مارأيك.. لماذا لاتدخل محمداً ابن أخيك إلى هذه المدرسة النموذجية؟ فذهب بي إلى ناظر المدرسة وهو فرج جمعان باظفاري، فأجابه بخشونة: لاتوجد أماكن شاغرة، فتركني عمي لدى صاحب الدكان، وكنت شغوفاً بالتعلم، أشعر بأنني يتيم على الرغم من أن والدي على قيد الحياة: فوالدي غير موجود، ووالدتي بعد أن غادرت البلاد أصيبت بما يشبه الجنون وهاجرت مع نسوة إلى عدن ومن عدن إلى جيبوتي.. فماذا أفعل لأتعلم
تلميذ الطاقة
كنت أذهب بعد أن أترخص من مساعد صاحب الدكان إلى المدرسة وأقعد في الطاقة، وظللت على هذه الحال مايقرب من ثلاثة أشهر ألتهم الدروس من السبورة.
وذات يوم التفت إليّ أحد الطلبة ولن أنسى اسمه أحمد صالح فارع وابنه الآن موجود من أنبل الأبناء في جيبوتي.. إنه رشاد أحمد فارع سفير جيبوتي في اليابان.. وكان أحمد صالح فارع هذا يكبرني بخمسة أعوام إذ دخل تلك المدرسة مؤقتاً في الإجازة لأنه كان في المدرسة الفرنسية، فقال: لماذا ياولد تقعد في الطاقة هكذا ولاتدخل المدرسة؟
فقلت له: الناظر باظفاري قال لايوجد أمكنة شاغرة.
فالتفت إلي المدرس، ولن أنسى اسمه، عبدالرحمن الباز السقاف أو الباز من حضرموت، وقال: «إلا» يوجد أماكن شاغرة.
ولكن إلى من أتوجه ليأخذني إلى المدرسة؟ أما عمي فلم أجرؤ على أن أطلب منه ذلك فقد سئم مراجعة الناظر.
من ياترى سيغير مجرى حياتي وينقلني من مساعد مساعد في الدكان أهش الذباب الذي يقع على التمور وافترش الثرى والتحف العرا إلى طالب في المدرسة أنهل العلم والمعرفة؟
إنه عبدالعزيز الطيار الرجل الذي أحدث هذا المنعطف الكبير في حياتي.
فمن هو عبدالعزيز الطيار؟
ذهبت إليه شاكياً باكياً، وأخبرته بأن مدير المدرسة قال لي بأن هناك أماكن شاغرة للدراسة، فأخذ بيدي، واحتضنني كأنني ابنه، وكان مهيباً ومخيفاً ومحترماً، فذهب بي إلى فرج جمعان باظفاري ناظر مدرسة النجاح، وقال له: ياباظفاري أنتم تشجعون الطلبة على التعليم أم تثبطونهم؟ لماذا مدير المدرسة يقول أن هناك أماكن شاغرة وأنت تقول لالا، لماذا أعطني ورقة بدخول هذا الفتى المدرسة، وأخذ بالتهديد، وكانت لغته فصيحة فما كان من ناظر المدرسة إلا أن أعطاني ورقة بدخول المدرسة، وكنت كأني أدخل الجنة على الصراط المستقيم.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة بمعيّته، فقام مدير المدرسة والمدرسون احتراماً وإجلالاً لتلك الشخصية المهيبة.
وبعد الامتحان أدخلت في الصف الثالث لأبدأ دراستي في هذه المدرسة.
فمن هو ياترى عبدالعزيز الطيار؟
من هو هذا الرجل الذي ظللت أبكيه وسأظل أبكيه لأن الناس قد نسوه، ونسيه التاريخ، فهل تسمحون لي بأن أسمي الفصل التالي باسم تاريخ ما أهمله التاريخ؟
تاريخ ما أهمله التاريخ
البطل عبدالعزيز الطيار
وفد هذا الرجل إلى جيبوتي عام 1929م قادماً من «ميون»،ونزل ضيفاً على عمي قاسم حميد في حبيوتي.. أنزله في منزل في الطابق الأعلى لرجل اسمه أحمد بن أحمد.. وكان يلبس قميصاً ومشلحاً وعقالاً وهذا هو اللبس الحجازي آنذاك، وكانت ترافقه زوجته التي نسميها «الجدَّاوية» نسبة إلى مدينة جدَّة، وابنته الصغيرة وعمرها آنذاك أربع سنوات، ولن أنسى اسمها نور الهدى، ومكثوا في جيبوتي عامين.
أجل عبدالعزيز الطيار هذا البطل اليمني بقامته المديدة الفارعة عرفت عنه آنذاك مالم أكن أعرفه عن تاريخه السابق، كان خطيباً مصقعاً يخطب ارتجالاً في كل ليلة من ليالي الجمعة وينتقل من مسجد إلى آخر..
ولم يكن الناس في جبيوتي سواء الصوماليون أو اليمنيون أو غيرهم قد تعودوا أن يخطب إنسان ارتجالاً، وكان عمي رحمه الله إذا أعزّ إنساناً ترك أحد أقربائه ليخدمه فتركني عنده وكنت شغوفاً ومحباً لخدمته.. أرتاح لأن أظل معه وأن اشتري له حاجاته من السوق.
ولا بدّ لي من أن أذكر هنا أن الأسم الذي اشتهر به هذا الرجل هو عبدالعزيز الطيار، أما اسمه الحقيقي فهذا مابحثت عنه ثلاثين سنة حتى عرفت اسم أسرته واسم أبيه وجده.
اسمه:عبدالعزيز محمد عبدالله مقبل المنصوب شهرة إلى المناصيب الطيار الموجود في تربة ذبحان الآن، وهي مركز قضاء الحجرية.
وما لم أتوصل إلى معرفته هو كيف درس اللغة العربية وكيف درس العلم.. لا أدري كيف،عرفت فيما بعد أنه كان ضابطاً كبيراً ومن زملائه عزيز المصري الذي يعتبره المصريون روح الضباط المصريين الأحرار بما فيهم جمال عبدالناصر، ومن زملائه أيضاً الشهيد محمد سري شائع الذي رافقه في الحرب العالية الأولى، والذي استشهد في ثورة عام 1948م ضد الإمام يحيى ومن تلامذته الأمير لاي العزي محمد البصراوي.. كل هذا عرفته، وعرفت أنه كان قبل ذلك ضابطاً في الجيش العثماني، اشترك في الحرب العالمية الأولى 1914م، وتنقل بين فلسطين والأردن والعراق، وظل يقاتل حتى هزيمة ألمانيا ومعها الدولة العثمانية طبعاًَ، ثم انضوى مع الشريف حسين قائد الثورة العربية الكبرى، وعلى الرغم من هزيمة الأتراك ثم هزيمة الشريف فإن هذا الضابط استطاع أن يحافظ على مدينة جدة من النهب والسلب والاعراب الذين قدموا محاولين أن يعيثوا فساداً فيها، إلى أن دخلها الملك عبدالعزيز بن سعود فكان عبدالعزيز الطيار من ضمن ضباطه، ولكن الملك عبدالعزيز سجنه فيما بعد.
كيف سجنه ولماذا؟
هنا لا أدري أيضاً.. عرفت فيما بعد أنه كانت له صلة بآل الوزير، إذ يقال أنه كانت هناك مناسبة بينه وبين أحمد قاسم عثمان الوزير عامل ذمار آنذاك، فكتب الإمام يحيى إلى الملك عبدالعزيز عند دخوله الحجاز، وكانوا يسمونه آنذاك سلطان نجد والحجاز وملحقاتهما، فأخرجه من السجن وعاد إلى الإمام.. وهنا أذكر كلمة ليسلم على أحمد قاسم عثمان الوزير، قبل الوصول إلى الإمام.. وهنا أذكر كلمة لهذا الضابط الشجاع لن ينساها الأستاذ قائد عبدالله ثابت الأصبحي الذي عرف الاثنين: فحين سأل عبدالعزيز الطيار عن المراسم والبروتوكول للدخول على الإمام، قال له أحمد قاسم الوزير بأن عليه أن يسلم على الإمام ويقَّبل يده وركبته، فقال هذا البطل: أبداً.. والله لا أركع إلا لله، ولن أنحني إلا لله، وسأعود من هنا، فقال له: هوّن عليك.. أدخل وسلم عليه سلام تحية إلى آخره.. وهكذا كان.
في اليمن عهد إليه الإمام يحيى بتدريب الجيش، وفي الوقت نفسه وكعادته كان مرتاباً فيه، ينظر بعين القلق إلى الطرائق النموذجية والمتقدمة التي يدرب فيها الجيش، فهم بالقبض عليه وإيداعه السجن «سجن القلعة» أي ما يسمى الآن قصر السلاح أو قلعة غمدان، ففر الطيار بطريقة أو بأخرى إلى جزيرة ميون التي كان فيها عبدالله ثابت الأصبحي الملقب «بالصرنج» حاكماً ورئيساً لعمال الفحم.
بقي عبدالعزيز الطيار في هذه الجزيرة مايقرب من عام التقى خلاله الشيخين الفاضلين علي عثمان وعبدالله عثمان، وابن علي عثمان المرحوم الشهيد الشيخ محمد علي عثمان عضو مجلس الرئاسة فيما بعد.. ولكنه ضاق ذرعاً بالإقامة في هذه الجزيرة المحاطة بالبحر، فكتب في جبيوتي .. وهكذا وصل الطيار مع زوجته «الجدّاوية» وابنته نور الهدى ذات السنوات الأربع من العمر آنذاك.
ولهذا الإنسان الشامخ قصيدة كتبها وهو يودع ميون ويودّع اليمن، ولا أعتقد أنها القصيدة الوحيدة التي نظمها، إذ لا بد أن تكون له قصائد أخرى ضاعت كما ضاع هو، ولم يبق في هذا الوجود من يعرفه أو يكتب عنه إلا اثنان هما محمد عبدالواسع حميد الأصبحي كاتب هذا والأستاذ قائد عبدالله ثابت الأصبحي «الصرنج» الذي زامله في «ميون» .. أما قصيدة الوداع تلك فأذكر أنها كانت محفوظة لدى الشيخ محمد علي عثمان، وأنا أحفظ منها هذه الأبيات، يقول رحمة الله عليه:
من لي ببعدي عن أرض شوت كبدي
وأوهنت أوهنت منها القوى جلدي
وحقرتني واني لكبير علا
وإنني واحد فيها بلا عضدِ
لا عرب لا أسد فيها فالقرود بها
يفضلون على الانمار والأسد
إذا تحدث عن أحوالهم يقظ
قاموا عليه بسوم الخف والنكد
أجل .. ولا بدّ لي من أن أستدرك هنا فأذكر معاناة هذا البطل العملاق للخروج من ميون، فبعد إقامة عام فيها فكر في الذهاب إلى عدن ولكنه منع من السفر بحراً إليها، وقد قال له الحاكم البريطاني في جزيرة تسافر إلى باب المندب أو إلى أية منطقة أخرى في اليمن وتدخل إلى عدن دون أن يعترضك أحد؟
فابتسم البطل الذكي وقال له: ياهذا إنك تطلب مني أن أستجير من الرمضاء بالنار.. فالإمام يحيى يبحث عني لزجي في أعماق السجون حتى الموت.. وعندها توجه إلى جبيوتي بتوصية من الشيخ عبدالله ثابت الأصبحي إلى عمي قاسم حميد فنزل أهلاً، ومكث مايقرب من عام ونصف يلقي الخطابات في المساجد والمحافل ويتحدث عن الظلم وخضوع حكام العرب والمسلمين للمستعمرين.. ولكن الأمر كان كما سمعته أكثر من مرة يردد:
فلو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن ضاع نفخك في الرماد
سمعت هذا منه كثيراً، ولكنني فهمته تماماً فيما بعد.
ضاق الطيار مرة أخرى بهذه المدينة الصغيرة، التي كانت أقل بكثير من طموحاته، فهو لم يخلق للخضوع ولم يتربّ تربية تمكنه من التزلّف للملوك والأمراء والحكام، فحاول أن يذهب إلى الصومال البريطاني المحكوم من قبل بريطانيا فمنع.. ثم فكّر وقدّر ورأى بثاقب رأيه وهمته العالية أن يغامر ويدخل اليمن، ولكن كيف السبيل؟ لابدّ من دخول عدن بحراً، أما براً فسيلقى القبض عليه.
الطيّار والدباغ يلتقيان
وهنا لابد من ذكر أن بطلنا الطيّار قد تعرّف إلى الثائر الدباغ، ولا أدري حتى الآن كيف تمّ التعارف بينهما، فالثائر الدباغ مشهور جداً وقد عرفته فيما بعد وأنا في السادسة عشرة من عمري.. عرفته فاراً من جيزان إلى أثيوبيا ماراً بجيبوتي وكان يلبس مشلحاً وعقالاً، ويقطن في يافع العليا، وعرفت أيضاً أنه من أصل حجازي ومن أسرة عريقة.
لقد كان الدباغ همزة الوصل بين الطيّار وبين السلطان عبدالكريم فضل، ثم بينه وبين ابن رشيد، وآل رشيد آنذاك ملوك وسلاطين في حائل يناولهم آل سعود، الذين لم يتغلبوا على آل رشيد إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
نظر هذا العملاق الشامخ الطيّار إلى الأفق فوجد أنه إما الحياة وإما الردى، فدعا عمي قاسم حميد، وقال له: قل لأحمد بن أحمد عابد - وهذا صاحب البيت الذي استأجره عمي له وكان لئيماً - قل له أن يأتي ويكنس مابقي من زجاجات الخمر.. فأحمد بن أحمد ذاك كان داعراً فاسداً، ولا أريد أن أذكر ميتاً.. وهكذا توجّه الطيار إلى رصيف جيبوتي وكنت أرافقه حاملاً حقيبته وطلعنا في قارب حتى باخرة قهوجي، حيث ودعته، وعدت إلى المنزل باكياً، فلم أتغد ولم أتعش في ذلك اليوم وأنا أبكي على هذا الانسان، أبكيه لأنني:
خلقت ألوفاً لو رددت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكياً
هذا البيت من شيمي حقاً، ولكنني بكيته أيضاً لأنه الإنسان الذي غيّر مجرى حياتي، وبكيته أيضاً وأنا أفكّر بالمصير الذي سيواجهه.
بعد ثلاثة أيام وصلت هذه الباخرة الصغيرة التي تقلّه إلى ميناء عدن، فلما نزل حاول أن يلتقي بعض الشخصيات مثل الشيخ عبدالقادر المكاوي وغيره، ولكنه وجد هناك ضباطاً بريطانيين ويمنيين في الجيش البريطاني منعوه من أن تطأ أقدامه الأرض إلا في سيارة أجرة، واختار لحج وذهب إليها فرحّب به المرحوم الطيّب الذكر السلطان عبدالكريم فضل، فظّل هناك شهراً أو شهرين، ثم استقل سفينة شراعية مع زميله الدباغ.. ولكن السلطات البريطانية التي كانت حريصة كل الحرص على عدم إثارة أية مشاكل أو ثورات في الجزيرة العربية آنذاك رصدت البطل الطيار وزميله الثائر الدباغ، فنزلا متخفيين وظهرا في جبال عسير مع ابن رشيد، وكانوا يهمّون بانقلاب.. ذكر هذا المجاهد الكبير محمد علي الطاهر في صحيفته «الشورى» التي كانت تصل إلينا في جيبوتي، ولكن ألقي القبض على ابن رشيد وعبدالعزيز الطيّار أما الدباغ فكان أسرع في التخفي ويتقن اللهجات القبلية في عسير وصَبْيا فغّير لباسه وتسلل إلى جيزان ومنها أبحر بسفينة شراعية إلى جيبوتي، وقد شاهدته بنفسي، ولم يمكث سوى أسبوع واحد، وذهب إلى أثيوبيا، ومنها عاد مرة أخرى إلى يافع، وقصته معروفة في يافع إذ يسمونه الدباغ الثائر.
بعد إلقاء القبض على ابن رشيد وعبدالعزيز الطيّار أرسلا مخفورين إلى جدة حيث يقيم عبدالعزيز آل سعود، أما ابن رشيد فقد أعدمه فوراً، وأما عبدالعزيز الطيار فقد عرفت مصيره من صحيفة كان يصدرها البطل الثائر المناضل محمد علي الطاهر في لبنان، وهو من الثوار الفلسطينيين الشرفاء، وزميل الحبيب أبو رقيبة، وأول رجل نفته بريطانيا من فلسطين بعد الحرب العالمية.. ففي ذات يوم وكنت في السادسة عشرة من عمري، إذ بشخص يأتي بهذه الصحيفة لعمي قاسم حميد وهو يتغدّى، وقال له: صاحبك قتل.. فأحجم عمي وسقط الطعام من بين أنامله، بينما فررت أنا إلى الشارع أبكي وأبكي ذلك الإنسان.. وفي اليوم التالي قرأت الصحيفة، وقد ورد فيها الخبر كما يلي: «ألقي القبض على البطل المناضل الأمير لاي عبدالعزيز الطيّار الذي قاتل في فلسطين وقاتل في الحجاز وقاتل.. وقاتل..
الطيّار بين يدي ابن سعود
أما ابن رشيد فقد أمر بإعدامه عبدالعزيز آل سعود، وأما عبدالعزيز الطيّار فقد مثل بين يدي ابن سعود الذي قال له: ألم نطلقك من السجن؟ ألم نحسن إليك؟ نحن أركبناك الحصان الأبيض «والحصان الأبيض لايركبه إلا الأمراء» وأخيراً تصنع بنا هكذا؟ تريد أن تقوضّ ملكنا.. وتريد أن.. إلخ.. فقال عبدالعزيز العزيز الطيار: ياصاحب الجلالة: الأتراك نفوني، وأنت نفيتني وسجنتني، والإمام يحيى أيضاً كاد يسجنني ويقتلني، وبريطانيا نفتني،، وحسب رواية صحيفة محمد علي الطاهر فإن الوحيد الذي كان شجاعاً وتدخّل في أمر الطيار هو الأمير فيصل بن عبدالعزيز الذي صار ملكاً فيما بعد، فقد قال لوالده: ياصاحب الجلالة يا والدي: لقد صدق عبدالعزيز.. ماذا صنع؟ لقد حفظ الأمن في جدة من عبث البدو والنهابين، وقد جازيناه بالسجن إلى أن أرسلناه إلى اليمن.
فقال ابن سعود: سوف ننظر فيه.. سوف ننظر ماذا نصنع به.. أرسلوه إلى سجن المطبق، والمَطْبَق في الطابق الأسفل تحت الأرض وهناك مات مغموماً بين الماء والملح كما قيل لي فيما بعد.
هذه نبذة قصيرة جداً عن حياة ذاك البطل الشهيد الذي لا ولن يهدأ لي بال حتى أقف على تفاصيل حياته كاملة.. فما زال يتردد في سمعي صوته يردد قوله المتنبي:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة؟
وماتبتغي؟ ما أبتغي جلّ أن يسمى
وكأني به يشير إلى مافي القصيدة نفسهامن أبيات تعبّر أوضح تعبير عن حاله في تشرده ومقاساة الأهوال التي أحاطت به، إذ جاء في قصيدة المتنبي:
تغرّب لا مستعظماً غير نفسه
ولا قابلاً إلالخالقه حكماً
كذا أنا يادنيا إذا شئتِ فاذهبي
ويانفس زيدي في كرائهها قدما
فلا عبرت بي ساعة لاتعزّني
ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.