وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    سلام الغرفة يتغلب على التعاون بالعقاد في كاس حضرموت الثامنة    حسن الخاتمة.. وفاة شاب يمني بملابس الإحرام إثر حادث مروري في طريق مكة المكرمة (صور)    ميليشيا الحوثي الإرهابية تستهدف مواقع الجيش الوطني شرق مدينة تعز    فيضانات مفاجئة الأيام المقبلة في عدة محافظات يمنية.. تحذير من الأمم المتحدة    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    أول ظهور للبرلماني ''أحمد سيف حاشد'' عقب نجاته من جلطة قاتلة    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    الإطاحة بشاب وفتاة يمارسان النصب والاحتيال بعملات مزيفة من فئة ''الدولار'' في عدن    صحيفة تكشف حقيقة التغييرات في خارطة الطريق اليمنية.. وتتحدث عن صفقة مباشرة مع ''إسرائيل''    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    العميد باعوم: قوات دفاع شبوة تواصل مهامها العسكرية في الجبهات حماية للمحافظة    وكالة دولية: الزنداني رفض إدانة كل عمل إجرامي قام به تنظيم القاعدة    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    البحسني يكشف لأول مرة عن قائد عملية تحرير ساحل حضرموت من الإرهاب    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    المليشيات الحوثية تختطف قيادات نقابية بمحافظة الحديدة غربي اليمن (الأسماء)    في اليوم 202 لحرب الإبادة على غزة.. 34305 شهيدا 77293 جريحا واستشهاد 141 صحفيا    "قديس شبح" يهدد سلام اليمن: الحوثيون يرفضون الحوار ويسعون للسيطرة    خال يطعن ابنة أخته في جريمة مروعة تهزّ اليمن!    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    فشل عملية تحرير رجل أعمال في شبوة    مأرب.. تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    إلا الزنداني!!    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34305    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    المكلا.. قيادة الإصلاح تستقبل جموع المعزين في رحيل الشيخ الزنداني    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    مقدمة لفهم القبيلة في شبوة (1)    لابورتا يعلن رسميا بقاء تشافي حتى نهاية عقده    الجهاز المركزي للإحصاء يختتم الدورة التدريبية "طرق قياس المؤشرات الاجتماعي والسكانية والحماية الاجتماعية لاهداف التنمية المستدامة"    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    الإصلاحيين يسرقون جنازة الشيخ "حسن كيليش" التي حضرها أردوغان وينسبوها للزنداني    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    سيئون تشهد تأبين فقيد العمل الانساني والاجتماعي والخيري / محمد سالم باسعيدة    تضامن حضرموت يظفر بنقاط مباراته أمام النخبة ويترقب مواجهة منافسه أهلي الغيل على صراع البطاقة الثانية    اليونايتد يتخطى شيفيلد برباعية وليفربول يسقط امام ايفرتون في ديربي المدينة    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    الديوان الملكي السعودي: دخول خادم الحرمين الشريفين مستشفى الملك فيصل لإجراء فحوصات روتينية    برشلونة يلجأ للقضاء بسبب "الهدف الشبح" في مرمى ريال مدريد    دعاء قضاء الحاجة في نفس اليوم.. ردده بيقين يقضي حوائجك ويفتح الأبواب المغلقة    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    كان يدرسهم قبل 40 سنة.. وفاء نادر من معلم مصري لطلابه اليمنيين حينما عرف أنهم يتواجدون في مصر (صور)    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبدالواسع الأصبحي يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 27 - 12 - 2007


الحلقة 3
لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الإطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغربيتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. ندأ.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية.
دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
التسلل إلى جبيوتي
بلغني في عام 1943م أن الديغوليين التابعين للجنرال شارل ديغول قد احتلوا مناطق في فرنسا بمساعدة الحلفاء، ومن ضمنها أيضاً مناطق في فرنسا ماوراء البحار كجزيرة مدغشقر التي تسمى الآن جمهورية مالاجاشي، وجبيوتي،فاشتاقت نفس إلى الذهاب إلى جبيوتي، فأنا أتكلم الفرنسية وأتقنها قراءة وكتابة وبالتالي بإمكاني أن أعمل هناك بدلاً من أن أظل هنا بين الشمس أكابد مايشبه الأعمال الشاقة بأجر زهيد..
ولكن المشكلة التي كانت تعترضني هي أنني لا أملك هوية، فماذا أصنع؟
التقيت بناخوذة كما يسمونه، أي ربان سفينة شراعية من باب المندب اسمه محمد أحمد العنبري من آل العنبري، وآل العنبري مشايخ باب المندب أي «الحَكَم» ذكرت قبيلته آنفاً، فتعارفنا وكان أبي وعمي يعرفان أسرته، وكان يملك سفينة شراعية تحمل 3 آطنان لاغير،وهو يبحث عن أي شيء للتهريب.. وكنا عشرة أشخاص نريد الوصول إلى جبيوتي، فاتفقت معه على أن نعطيه 100 روبية 10 روبيات عن كل راكب، وسلمت له خمسيناً، وبقيت خمسوناً اتفقنا على تسليمها حين نلتقيه في عمران، وعمران هذه ليست التي بجانب صنعاء، بل عمران البريقة ثم فقم ثم عمران وهي ساحل بحري على البحر الأحمر، فذهبنا نحن العشرة مشياً على الأقدام حفاة، وكل واحد منا يحمل أمتعته في بقجة، وظللنا نمشي أكثر من أربع ساعات حتى وصلنا إلى عمران، وهناك مكثنا خمسة أيام في انتظاره حتى وصل وأرسل لنا أحد البحارة يعلمنا بوجوده.. وها نحن الآن على ظهر هذا المركب الصغير تعصف بنا هوج الرياح، نصعد في أمواج كأنها الجبال ثم ننحدر في مهاوي كأنها الوديان وهكذا صعود وهبوط كريشة قذفت بها الأقدار بين عواصف السماء وأمواج البحار..
ولم نستطع أن نواصل مسيرتنا إلى جبيوتي بل ألقينا المرساة إلى سقية، وسقية هذه مابينها وبين باب المندب 3 ساعات على الأقدام وقد مشيتها.. المهم أننا مكثنا في سقية مايقرب من أسبوع ننتظر هدوء العواصف.
وهنا لابد لي من أن أعرج على ذكر رجل كريم جدير بأن يدعى:
جابر عثرات الكرام
فمن هو جابر اسمه سالم علي ميطي، كنت أسمع بكرمه وشهامته وتضحيته وبذله لليمنيين المنكوبين في جزيرة ميون وغيرهم، وكنت أتوق منذ عامين لرؤية هذا الإنسان، وبالمصادفة بينما كنت أدخل أحد الأكواخ إذ بي أجد هذا الإنسان في سرير من خوص وأمامه مانسميه دله أو دبه من الشاي وبجانبه أحمد حيدر قاسم الأصبحي الذي رافقني من جزيرة عمران.
فشربت الشاي ثم خرجت، وبعد خروجي بدقائق سأل أحمد حيدر قاسم، قائلاً: هذا الولد أنا شبهته بشخص أعرفه أم أنه يشبه واحد أعرفه .. ابن من ذا يا أحمد حيدر؟
فقال له: هذا ابن عبدالواسع حميد..
فصاح بلهجته:وي .. وي.. وي.. أبوه صاحبي.. أبوه كان معي ..
أبوه كنا في ميون مع بعض.. يا أحمد حيدر ناد الولد.
وناداني وسلمني خروفاً،وقال: هذا ضيافتك، ثم قدم لي بحياء خمسين روبية في ظرف.. والخمسون روبية آنذاك تصرف على عائلة بأسرها مدة شهر، ففرحت فرحاً كبيراً لأن هذا العطاء جاء في الوقت المناسب تماماً..
وليسمح لي القارئ بأن أبوح بهذين البيتين:
لنعم المال ينفقه كريم
على ذي حاجة في يوم ضنك
ونعم فتى شكور ليس ينسى
يحدث عن عطاياه،ويحكي
وحين هدأت العواصف أبحرنا من جديد إلى جبيوتي، وهنا لا أستطيع في الحقيقة أن أصور بالكلمات كيف كانت حالنا، ففي كل تفصيل من تفاصيل تلك الرحلة ما يملأ صفحات وصفحات.. وحسبي أيها القارئ أن أجعلك تلم بقصة من هنا وطرفة من هنا، فأنا والله عاجز عن أن أسجل كل ماكان يدور من أحداث وأحاديث، وكل ماكان يعتري تلك النفوس من مشاعرالألم والفرح والغربة والسعادة والأمل والقنوط فقد كانت تتداخل المشاعر وتضطرب الأهواء ونحن معلقون بين الماء والسماء فلا نعرف كيف نغرق بالضحك وكيف نجهش بالبكاء لقد كان من بين العشرة على ظهر هذا المركب ستة شبان كأنهم من البحارة أو من الصيادين لايخافون البحر ولايخشون ركوبه يرسلون أغانيهم مع تراقص الأمواج والأضواء وسط زمجرة الرياح، وكنت واحداً من هؤلاء الستة،أما الأربعة الآخرون فكان لهم شأن آخر إذ لم يكونوا آلفين لمثل هذه الأحوال ولاسابق عهد لهم بمثل هذه الأحوال.. ولكن الحياة تبقى هي الحياة،وهاهو ابن عمي أحمد حيدر قاسم يتأمل رؤوسنا المكشوفة وخصلات شعرنا المتراقصة مع الرياح وهو حسير أسيف لأن داء القذع قد أتى على شعر رأسه ولم يغادر سوى شعرات قليلات تلتصق برقبته،
فقال لي: يابن عم ماأسعدكم وأنتم تغنون مكشوفي الرؤوس تفرحون وتمرحون،بينما أنا معتم بعمامة لاتفارق رأسي إخفاءً لجلدة رأسي الممردة كصفيحة النحاس أو كحبة الأناناس.وغداً حين ننزل على الشاطئ لابد من أن الفتيات يبادلنكم الغزل فكيف لي أن أحشر نفسي بين الغزل والعطر والورد بهذه الراس التي كأنها جحر قرد؟فضحكت وقلت له:اسمع يابن عمي ،قبل إعلان الحرب أي في عام 1938م وكنت في المدرسة الفرنسية كان هناك «ماجازان» معرض لفرنسي اسمه «بيرتران» يبيع مايسمونه الباروكة للنساء،وربما يصنع للرجال باروكات أيضاً.
قال: ماهو؟ماهذه الباروكة؟
قلت له:هي أشبه ماتكون بقفشة المداعة «النارجيلة».
توقف الحديث بنا هنا،وتتالت أحداث الرحلة علينا،وهانحن ننزل إلى ميناء جيبوتي..وكان أول امتحان واجهني هو محاولة الأخ فارع عبدالله الزكري الذي كان يضمن الكثير من اليمنيين أن ينزلني وحدي فرفضت رفضاً قاطعاً،وبقيت على ظهر السفينة بين الرياح والشمس،رابطاً مصيري بمصيرهم،فما أقسى تلك الأيام وألذها!وها أنا مع رفاقي أثلج صدر شيخ المعرة أبي العلاء المعري القائل:
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي
سحائبُ ليس تنتظم البلادا
وبقينا على هذه الحال إلى أن جاء مدير الهجرة الفرنسي فقال:إما أن تكتبوا جنوداً أو أن تعودوا،وهكذا كان قد فعل مع من قبلنا،وكنا بين أمرين أحلاهما مرُّ: العودة إلى المجاعة أو الذهاب لنأكل ولكن إلى أتون الحرب،فقلنا له:سننزل.
فاختار من العشرة ستة وكنت أصغرهم.وعلى الساحل قابلنا نقيباً فرنسياً دوّن أسماءنا وسرّ كثيراً وارتاح لأني أتكلم الفرنسية،وقال :يبدو أنك فرنسي أو تتكلم الفرنسية..اذهبوا وتعالوا إلينا غداً الثامنة صباحاً..
في مساء ذلك اليوم ذهبنا إلى دكان محمد حيدر قاسم وهو أخو أحمد حيدر وكان قد أناب عنه في الدكان شخصاً آخر بينما تجند هو لأنه جاء بلا رخصة فجندوه فقبل.وقد نصحنا محمد حيدر بأن لانتجند وقال أنتم اليوم أحرار، ولكن غداً ستكونون عبيداً...انظروا إلى حالي فأنا أتدرب منذ ثلاثة أشهر وبعد أشهر سيرمون بي إلى أوروبا لأحارب في صف فرنسا ضد ألمانيا وهذا كله من أجل لقمة عيش..ارفضوا ..ارفضوا..
في اليوم التالي عدنا إلى ذلك النقيب الفرنسي الذي حاول لمدة ساعة أن يقنعنا بقبول التجنيد فرفضت رفضاً قاطعاً ورفض زملائي،فتألم النقيب،وأعادنا مع الشرطة إلى «المجريشن» أي ما يسميه الانجليز إدارة الهجرة والجوازات ،وزجوا بنا في زنزانة لاتتسع لاثنين فكيف ونحن ستة ،والحر شديد لايطاق،والهواء لايتسرب إلينا إلا من خلال شق صغير في الباب كنا نتبادل التنسم منه ونتبادل زجاجة قذرة فيها قليل من ماء آسن نرشف منها رشفات تمسك علينا رمقنا..وبعد ساعات جاء ذلك الوحش وبدأ يهددنا ويقول: أنتم تتهجمون.. تلعبون ..تكذبون على الحكومة الفرنسية..أنتم من تكونوا ياحشرات؟..والله إنكم لاتستحقون السياط بل تستحقون الضرب بالأحذية،ثم التفت إلى بقايا الزجاجة التي فيها قليل من الماء ،فقال: وأيضاً تشربون الماء؟وأخذ الزجاجة..
وكنت الوحيد الذي يفهم عليه ما يقول بالفرنسية ،فالتفت إليّ أحمد حيدر بعد خروجه وقال لي: ماذا يقول هذا الفرنسي؟
فقلت له: يقول كيت وكيت وكيت..
وإذا ب يقول لي،وكان يقرأ التاريخ ،وعنده شيء من الوعي مع سذاجة:اسمع يابن عمي،إن آباءنا وأجدادنا العرب فتحوا اسبانيا وكانت سنابك خيولهم تدق أبواب فرنسا،وربما كانت تدق أبواب باريس،وهذا العلج العنيف يهددنا ويشتمنا!وانفجر باكياً..ورحت أهدئه وأكفكف دموعه،فثاب قليلاً إلى نفسه ثم التفت إليّ قائلاً: يابن عمي هلا ألقيت نظرة ونحن عائدون مع الشرطة إلى تلك المجازة التي فيها القفشة الشعر؟
وهنا انفجرت ضاحكاً..حقاً إن الحياة هي المضحك المبكي كما يقولون.
وبعد اثنتي عشرة ساعة أخرجونا مسفّرين إلى تلك السفينة الشراعية اللعينة،وأمروا الربان بالعودة من حيث جاء،ولم يسمحوا له بإطلاع أي شيء حتى ولا بركوب أي فرد ذاهب إلى اليمن،وكان ماتقاضاه منا المسكين وهو مائة روبية قد تم انفاقه في الطريق..فماذا يصنع؟وبعد ثلاث ساعات في البحر قابلنا مدينة «اوبخ» ،ومدينة أوبخ هذه تاريخياً للعفر «الدناكل» احتلها الفرنسيون وظلوا فيها عشرين عاماً يزودون بواخرهم فيها بالفحم والوقود، وبعدها انتقلوا إلى ساحل جيبوتي ،جيبوتي لم تكن شيئاً يذكر من قبل..هذا للتاريخ.وكان معي أحد الأصابح من ابناء عمي اسمه سعيد سالم،فقلت له:مارأيك أن تعود معهم وأنا سأنزل هنا..حياة أو موت..
فقلت للناخوذة:أنا سأنزل هنا.
فقال لنا الناخوذة: أنت وابن عمك اذهبا،ولن آخذ منكما أي شيء،أما الباقون فلن ينزل أحد منهم ولن يضع رجله على اليابسة إلا بعد أن يدفع لي حق العودة.
فنزلت وكنت أجيد السباحة ونزل سعيد سالم،وقد كاد أن يغرق فحاول أن يتشبث بي ولكني غصت مع ثيابي في الماء وهنا وقف على أقدامه،والماء إلى عنقه، ثم تبعنا اثنان بعد أن دفع كل منهما 10روبيات ثم ثالث وهكذا صرنا خمسة وبقي خمسة في السفينة،فنزلنا سباحة إلى اليابسة.ولكن كيف نعمل؟الفرنسيون هنا أيضاً يحكمون هذه المنطقة وبالنيابة عنهم أحد العفر..فظللنانحن الخمسة متخفين بين الأشجار،إلى أن اتيحت لي فرصة فتسللت إلى المدينة لأبحث عن أي عربي،فوجدت يمنياً واحداً عنده متجر ولن أنسى اسمه «شمسان صالح المقطري» ،فلما رآني رحب بي،وكنت في أشد الجوع فأعطاني كسرة لآكلها،وسألني: هل معك أحد؟انتبه سيلقون القبض عليكم.
المهم في الأمر أننا نمنا تلك الليلة في الساحل على رقصات الأمواج وعويل الرياح،ثم حفر كل منا بين الرمال حفرة تشبه القبر،واندس فيها إلى أن أطل صباح اليوم التالي.
في اليوم التالي تسللت مع سعيد سالم فرآني شخص من الشرطة وكنت أعرفه،وقد جهل اسمي،فقال: ماذا تفعلون هنا يايمانية؟فتفاهمت معه،فقال: اسمعوا هنا ممنوع ولكن أنت مافيش معك ناس يعرفوا يشتغلوا بنائين لترميم المسجد هنا؟
قلت له:كلنا،نحن اثنان ومعنا ثلاثة آخرون،وكلنا نعمل.وهكذا أمضينا خمسة عشر يوماً نعمل في النهار بنائين في المسجد وننام في الليل على الساحل..إلى أن جاءنا الفرج..جاء جابر عثرات الكرام سالم ميطي بسفينته..القدر جاء به لينقذنا وهو متجه ببضاعته إلى زيلع ،وزيلع هذه يعرف كل من قرأ التاريخ أنها من الموانئ اليمنية،كانت مركزاً تجارياً يملكه الأئمة،ولكن الصومال استولوا عليها فيما بعد،ولها قصة تاريخية،ولكنها خربت كما خربت مدينة سواكن في السودان.
فلما رآني سالم ميطي قال: اسمع يابن عبدالواسع ،اطلع معي إلى السمبوق وسأرسلك مع مرافق من زيلع إلى جيبوتي ولو أخسر عليك1000روبية،مايساوي يومذاك أكثر من ألف دولار.
فقلت له:أنا وابن عمي.
فقال: ما أقدرش.
ولكنه أمر أحد البحارة فسلمني كيس قمح مائة كيلو،وسمن أربعة كيلو غرامات تقريباً ثم سلمني مائة روبية،فصرت كأني في عيد. فوزعت المائة روبية بين زملائي وأعطيت القمح للتاجر شمسان صالح وعشنا مرتاحين حوالي اسبوعين إلى أن عاد ذلك الإنسان العظيم جابر عثرات الكرام،ونزل عمداً،ولم يكن له مقصد من هذا النزول سوانا.وقال: اسمع ابن عبدالواسع حميد..ياأصبحي أنت وأصحابك أوديكم كلكم اليمن لعدن لحد ماتشتو.
فتشاورت مع أصحابي فأبوا كلهم،إلا أنهم قالوا إذا كنت ستذهب معه وتعود هل يمكن له أن يرسل لنا سفينة شراعية تقلّنا إلى سواحل جيبوتي،ومنه سنتدبر ماذا نصنع حتى نصل إلى أثيوبيا..وفي أثيوبيا آنذاك كان أي مهاجر لايسأل عن هويته أو عن جوازه..بل كانت الجوازات لاتستعمل آنذاك. فقلت له:أما أنا فسوف أعود معك. ولم يقصر أيضاً فأمر بشوال طعام فيه مايقرب مائة كيلو ،وسلّمني مائة روبية،وقال: وزعها على أصحابك ..إنسان كريم ماذا أقول عنه..
وها أنذا أقلع معه على السمبوق في ريح مواتية،وأذكر أن السمبوق كان ممتلئاً بالطعام،وبعد عشر ساعات تقريباً نزلنا في «سُقية» وهي تبعد عن باب المندب أي عن غريرة ثلاث ساعات على الأقدام..وهناك أمر هذا الكريم بأن ينزلوا من السفينة عشرة أكياس من القمح والطعام ليوزعوها على أصحاب الأرياف الذين يبعدون عن سقية في أيام المجاعة آنذاك،وظللنا يومين في سُقية أبحرنا بعدها إلى ميناء لابأس به اسمه «العاره» وهو مشهور في التاريخ، مكثنا فيها يومين ثم أبحرنا أيضاً مدة عشر ساعات مع أن الرياح كانت غير مواتية إلى ساحل عميرة وفيه ميناء صغير تابع لسلطنة لحج،وهناتوافدت الأرياف وكانوا يغنون ليلاً نساءً ورجالاً ويرقصون برقصات تشبه الدبكة اللبنانية ويشيدون بسالم ميطي وأذكر أنهم كانوا يرددون هذا الشعر البدوي:
تعيش دايم ياسالم الميطي
بقيّة الله تستاهلن لومه
وإن شي جرالك باطل
من أصحابك رسّي عميره
دار السهالة تستاهلن..الخ.
وأمر بتفريغ مابقي من الطعام لأولئك الفلاحين الذين جاؤوا يمشون على الأقدام أو على الجمال،وكان بإمكانه أن يبيع تلك الأكياس بأقل مايمكن بألفي جنيه استرليني..ولكنه كان كريماً..
وتابعنا إبحارنا من موج إلى موج في جبال من المياه ووديان،بيد أني كنت لا أبالي حتى رست بنا السفينة في منطقة فقم ثم البريقة،فنزلنا وركبنا سيارة «لاندروفر» مايقرب من ثلاث ساعات وإلى «الشيخ عثمان» وهناك ألقيت رحالي في انتظار ما تأتي به الأيام.
الدخول إلى جبيوتي برخصة فرنسية
وبعد شهر من مكوثي في الشيخ عثمان وصل المنقذ فارع الزكري،وجاءتني رخصة دخول مع رجل اسمه حميد عثمان، وكان مكتوباً فيها:
«هذه الرخصة الفرنسية من جبيوتي يسمح بموجبها لحميد عثمان وولده محمد حميد عثمان بالدخول إلى جبيوتي.
ولن أنس في تلك الأيام العصيبة ذلك الإنسان سالم ميطي الذي كان في كل أسبوع يضع لي بعض النقود في بيت عبده محمد باشرام الأصبحي والد عباس القرشي رئيس البنك الصناعي اليمني الآن.. كان يضع لي في كل أسبوع عشرين روبية أو خمسين روبية وهكذا..
ثم كان الإبحار في سفينة ربانها أحد الحضارم،في ظروف غير مواتية ظللنا نتخبط فيها بين الأمواج والرياح أربعة عشر يوماً لنقطع مسافة مئتي كيلو متر كان يمكن أن نقطعها خلال يومين أو ثلاثة أيام لو كانت الظروف ملائمة.. ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن.. وعلى الرغم من ذلك وصلنا ونزلنا إلى جبيوتي.
ماذا أصنع في جبيوتي؟ ظللت ثلاثة أشهر بدون عمل أخدم ذلك الإنسان المحسن فارع الزكري في متجره أبيع وأشتري مقابل أن آكل وأشرب عنده وأحصل على السجائر أيضاً..
الجنسية والعمل
بعد ثلاثة أشهر التقيت هناك بشخص كنت أعرفه اسمه أحمد علي المداح، وكنا في عمر واحد، قال لي: يامحمد عبدالواسع لم لاتكتب عريضة إلى مدير الجمارك باللغة الفرنسية وستشتغل معنا؟ وماذا ينقصك غير أن تأتي« بسكونية» أي «مخلقة» «1» تثبت أنك ولدت في جبيوتي؟
فقلت له: حاضر.
شكراً لذلك الإنسان الذي لم أنسه بعد أن تعينت سفيراً في جبيوتي فبحثت عنه ووجدته وثابرت على ردّ الجميل له طوال إقامتي في جبيوتي وذلك مقابل نصيحته.
وفعلاً تقدمت بعريضة باللغة الفرنسية الركيكة وكنت أتقنها يوم ذاك دون الوسط،فأعجب بي نائب المدير وقال لي: أعد الكتابة، فأعدتها فوجد أنها كتابتي .. وهناك وبسرعة وافق على أن أعمل في الجمارك،وكان عملي آنذاك بصفة جندي أو وظيفة بسيطة.
وحين سألني عن «مخلقتي»، قلت له أنا خلقت هنا والدليل على ذلك لغتي الفرنسية، ولكني سآتيك بها لو أمهلتني ستة أشهر، وكانت القوانين آنذاك أن تأتي بثلاثة شهود من أجل التسنين، أحدهما أو أثنان منهما عربيان والثالث صومالي، وكان منهم من يأخذ أجرة لقاء شهادته، ولكني لم أكن أملك نقوداً فذهبت إلى اثنين من العرب وواحد من الصومال وكانوا يعرفون والدي فقبلوا.
وحين عرضت عريضتي على نائب مدير البلدية، وكنت من بين تسعة اشخاص تقدموا للحصول على هذه الشهادة وبالتالي الحصول على الجنسية الفرنسية أو الرعوية كما كنا نسميها.. أقول كنت الوحيد الذي أتكلم الفرنسية، فأعجب بي، ولكن عندما حان وقت إعطاء الشهادات تخلف أحد الشهود الذين وعدوني بالحضور ليشهدوا لي، فتلفت يميناً وشمالاً وكنت ساهماً.. ماذا أصنع؟
هذا يعني أنني سأنتظر ستة شهور أخرى كي أُعطى الشهادة، ومن أين لي أن آتي بنقود أدفعها للشاهد؟
وكان هناك شخص بين المحلفين اسمه علي محمد الشامي، فقال لأحد الشهود واسمه محمد ردمان، غفر الله له: يا محمد ردمان: هذا ابن عبدالواسع حميد، هذا عمه قاسم حميد كان نصف جبيوتي وكان وكان لم لا تشهد له؟
فأجابه بلهجة باردة: أنا لا أستطيع أن أحلف اليمين أنه خلق في جبيوتي.. أعرف عمه، ما اعرفوش أنا هذا.
لكن نائب مدير البلدية الفرنسي الله يجزيه الجنة بدل محمد ردمان، فقد قال بكلماته الفرنسية:« ليست ضرورية الشهادة.. أعتقد أن من بين التسعة هذا هو الوحيد الفرنسي، وخلق هنا، لا هؤلاء الذين لايتكلمون بكلمة فرنسية واحدة، ولكن القانون لا يسيغ لي أن أرفضهم وسأعطيهم شهادة لأن هناك شهوداً، أما هذا فلا داعي للشهود.. أعطه شهادة».
وفي اليوم الثاني أعطاني تلك الشهادة أي «السكونية»، ومازلت أحتفظ بها، وهي تؤكد أنني خلقت في جبيوتي سنة 1922م .. هكذا سجلت ودخلت الجمارك.
الخطوات الأولى على طريق النضال
في نادي الشبيبة العربية
حين بلغت الثانية والعشرين من العمر كان هناك سؤال يلح علي وهو كيف أبرز في المجتمع وأثبت وجودي بجدارة بعدما نسي الناس أو كادوا عمي قاسم حميد ووالدي عبدالواسع حميد؟ وتذكرت قول الشاعر:
إن الفتى من يقول هنا أنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
استجابة لهذا السؤال الملح توجهت للاشتراك في نادٍ كان هو النادي الوحيد في جبيوتي ويسمى نادي الشبيبة العربية، وكان نادياً شبه سياسي ورياضي وثقافي يرأسه سعيد علي كبيش الذي مازال حياً يرزق وهو أكبر مني سناً.. وكان رسم الاشتراك في هذا النادي مايساوي عشر فرنكات مترو أي مايساوي شلناً واحداً، ولكنهم كانوا يسوّفون ويؤجلون من يرغب في الاشتراك شهرين أو ثلاثة أو حتى سنة فماذا أصنع كي أدخل في ذلك النادي كمشترك لتتاح لي الفرصة كي أبرز أمام هؤلاء المتشدقين أنصاف المتعلمين بل أقل .. فكتبت قصيدة، وكانت عندي ملكة شعرية آنذاك، ثم أرسلتها مع شخص يعرفني ويعرف عمي، وكان يشتغل في شركة «آلبس» في الميناء نفسه الذي أعمل فيه بالجمارك، وكان مطلع تلك القصيدة:
سلام على نادي الشبيبة والعرب
سلام عليكم يابني الفخر والرُّتب
سلام على ناديكم ورئيسكم
له الفخر في هذا وحيّا من انتخب
وهكذا قُبلت فوراً في هذا النادي،وفي العام التالي كنت واحداً من أعضاء الإدارة فيه.. وفي العام الثالث وفد علينا ابراهيم سعيد العطار خريج الأزهر في مصر، فقال لنا ما رأيكم أن ننظّم مكتبة ثقافية وأنا عليّ أن آتي بالكتب ولكن ينقصنا المال اللازم.. فخرجت أنا وقد بدأ اسمي يبرز مع شخص لا أنسى اسمه وهو صديق عزيز ومثقف إنه أحمد فرج باظفاري من حضرموت،خرجنا إلى التجار ومنهم:
باشمفر وبازرعة وعبدالله طه وعلي كبيش وغيرهم واستحصلنا منهم على مايقرب من ألف جنيه استرليني وأرسلنا بها إلى مصر، فجاءتنا الكتب ونظمناها حسب الحروف الابجدية، وباشرنا في الاعداد لتقديم أول محاضرة في تاريخ النادي، بل استدرك فأقول إن تلك المكتبة كانت أول مكتبة في جبيوتي وتلك المحاضرة كانت الأولى أيضاً في تاريخ جبيوتي، وقد كانت محاضرتي عن الظلم والاستبداد وحرية الشعوب.
ولابد هنا من أن يتساءل القارئ عن بداية تلمسي لطريق الوعي السياسي وعن الجذور التي تمثل الأساس لتحولي باتجاه الحرية والأحرار، وللإجابة عن هذا التساؤل لابد من هذا الاستطراد:
بداية تعرفي إلى الأحرار
في عام 1943م زار ولي العهد أحمد الإمام أحمد فيما بعد الحجرية «المعافر» وكانت المجاعة قد أرهقت البلاد والعباد، فطلع إلى «قلعة المقاطرة» التي هي في المعافر؛ تطلُّ على شرجب؛ وأقسم على أن لاينزل منها إلا على فرسه المشهور المسمى بالرعد، وليبرّ بقسمه سخّرت الرعايا لقطع الأشجار وجلب الاخشاب ونحت الأحجار ليعبدوا طريقاً ينزل عليها ولي العهد راكباً فرسه.
هذه الحادثة تركت في نفسي عميق الأثر، فقد رأيت الظلم بأم عيني ينزل على رؤوس الناس الضعفاء الذين لاحول لهم ولاقوة، فامتلأت نفسي بالآلام، وكرهتُ الظلم والظالمين، وتطلعتُ إلى رفع الجور عن المضطهدين، ولكن هذه المشاعر لم تتوجه التوجّه الصحيح، ولم تأخذ مسارهاالفكري إلا عندما تعرفت إلى الأستاذ الكبير أحمد محمد نعمان الذي قدم من مصر بعد أن تخرج في الأزهر وكانوا يسمونه آنذاك السكرتير الخاص لولي العهد، صحيح أنني لم أكن أعرف معنى الديمقراطية، ولكنني كنت أفهم معنى الحرية.. حرية الشعوب في العالم، إذ أنني أضفت في هذه الفترة إلى ثقافتي الأدبية والتاريخية شيئاً من تاريخ الثورة الفرنسية.. وصرت أتابع عن كثب نضال الأحرار منذ قرار الأستاذين الجليلين الكبيرين اللذين صنعا النور في اليمن محمد أحمد نعمان ومحمد محمود الزبيري إلى عدن عام 1945م .. وهنا أستطيع أن أذكر بعض تفاصيل مجريات القرار هذا، وهي تفاصيل أعتقد أن التاريخ أهملها، فلتكن تاريخاً ما أهمله التاريخ: أقول أن الأستاذين احتُجزا في لحج فكتبا إلى الشيخ عبدالله علي الحكيمي وكان يملك جواز سفر بريطاني وهو من كبار الأحرار وأنا أعدّه ثالث ثلاثة في اليمن آنذاك، فذهب إليهما وضمنهما على الدخول إلى مستعمرة عدن البريطانية، ومكث الأستاذان هناك يكتبان الشعر والنثر وينشران في «فتاة الجزيرة» التي كان يصدرها المحامي الكبير محمد علي إبراهيم لقمان.. وهذا له تاريخ أيضاً فهو أول من كتب في صحيفته «الدستور الدستور يجب أن يكون هناك دستور لليمن»..
وفي هذه الأثناء نزل ولي العهد لإعادتهما والمؤرخون يعرفون هذه القصة، وأنا معاصر لها، ولكن البريطانيين فيما بعد أعطوا الترخيص لحزب الأحرار الدستوري بإصدار جريدة «صوت اليمن» وبفتح الجمعية اليمنية الكبرى، وكان الأحرار يكتبون في هذه الجريدة مقالات نارية ومراجعات، ويستحثون الملوك العرب لمراجعة الإمام يحيى بشأن أحرار اليمن.
فرار سيف الحق إبراهيم
وفي هذه الأثناء أيضاً، ومن حسن حظ الأحرار أن سيف الإسلام إبراهيم بن يحيى المسمى فيما بعد سيف الحقّ قد فرّ إلى عدن، فكيف فرّ؟
أقول هنا للإنصاف والتاريخ أن الذي دفعه إلى الفرار هو السكرتير الخاص الشهيد أحمد البراق، وكان والده الإمام يحيى مقتّراً فخرج للعلاج، ولم يسمح له إلا بالذهاب إلى أثيوبيا، وفي طريق عودته من أديس أبابا إلى أسمرة شجعه أحمد البراق على أن ينضمّ إلى الأحرار، ولكن لم يكن له هناك مساعد.. وللتاريخ أيضاً نقول أن تاجراً يمنياً معروفاً مازال حياً حتى الآن هو شائف محمد سعيد العَرِيقي قد ساعدهما وقطع لهما تذكرة سفر مع المصاريف إلى عدن، وبعد بضعة أشهر حنّ سيف الحقّ إلى أولاده وزوجته وظلّ يبكي حتى قام الأحرار بتهريب زوجته وأولاده من صنعاء إلى عدن، إذ أرسلوا عبدالجليل نعمان ابن الشهيد عبدالوهاب نعمان حيث استطاع أن يفرّ بالعائلة عن طريق بيحان حتى أنزلهم عدن.
عامل ثالث كان له تأثير كبير في تغيير مجرى حياتي، يضاف هذا العامل إلى ماسبق وذكرت من معاينتي للظلم ومن اطلاعي على نضال الأحرار.. هذا العامل هو تحريض أحد أقربائي وهو الشهيد عبدالغفار زيد الأصبحي وقلة من اليمنيين من يعرفونه.. ففي عام 1946م وكنت أعمل في الجمارك جاء عبدالغفار من أثيوبيا وكان شعلة من الذكاء وكان شعلة من شعل الحرية وكان تاجراً ومسؤولاً عن توزيع «صوت اليمن» وعن احتواء الأحرار وتجميعهم وتوعيتهم في أثيوبيا، وهنا بدأ يقول لي: يامحمد عبدالواسع أنت هنا مشغول بنفسك، فلم لاتفعل.. وشجعني ودفعني إلى العمل ضمن حركة الأحرار، فهو السبب المباشر في زجي في الحركة.. وأذكر في تلك الفترة أننا لم نجد آذاناً صاغية، وكنا حفنة صغيرة من الشباب لايزيد عددنا على عدد أصابع اليدين، أذكر منهم: علي طاهر صالح الأغبري ومحمد أحمد شعلان الأغبري وعبده نعمان البسباس الأغبري وثلاثة من الأعروق وواحد من رداع هو علي بن علي المسعودي القيفي.. كنا نجمع التبرعات، وكلما تجمعت لدي حوالي مئتي روبية كنت أفتعل رخصة مرضية من الجمارك وأخرج إلى عدن وأرسل النقود، أو مع البريد أحياناً..
هكذا تضافرت العوامل التي حدّدت مسار حياتي في العمل السياسي على طريق الحرية والأحرار..
- هامش
(1) مخلقة: قيد نفوس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.