نهاية الانقلاب الحوثي تقترب.. حدثان مفصليان من مارب وعدن وترتيبات حاسمة لقلب الطاولة على المليشيات    الأحزاب والمكونات السياسية بتعز تطالب بتسريع عملية التحرير واستعادة مؤسسات الدولة    لحظة إصابة سفينة "سيكلاديز" اليونانية في البحر الأحمر بطائرة مسيرة حوثية (فيديو)    شركة شحن حاويات تتحدى الحوثيين: توقع انتهاء أزمة البحر الأحمر رغم هجماتهم"    وزير المالية يصدر عدة قرارات تعيين لمدراء الإدارات المالية والحسابات بالمؤسسة العامة لمطابع الكتاب المدرسي    الوزير الزعوري يهنئ العمال بعيدهم العالمي الأول من مايو    توجيهات واحصائية".. اكثر من 40 ألف إصابة بالسرطان في اليمن و7 محافظات الاكثر تضررا    بالفيديو.. عالم آثار مصري: لم نعثر على أي دليل علمي يشير إلى تواجد الأنبياء موسى وإبراهيم ويوسف في مصر    يوم تاريخي.. مصور يمني يفوز بالمركز الأول عالميا بجوائز الاتحاد الدولي للصحافة الرياضية في برشلونة (شاهد اللقطة)    تشافي لا يريد جواو فيليكس    مركز الملك سلمان يمكن اقتصاديا 50 أسرة نازحة فقدت معيلها في الجوف    تفجير ات في مأرب لا تقتل ولا تجرح كما يحصل في الجنوب العربي يوميا    للزنداني 8 أبناء لم يستشهد أو يجرح أحد منهم في جبهات الجهاد التي أشعلها    عودة الكهرباء تدريجياً إلى مارب عقب ساعات من التوقف بسبب عمل تخريبي    برشلونة يستعيد التوازن ويتقدم للمركز الثاني بفوزه على فالنسيا برباعية    تراجع أسعار الذهب إلى 2320.54 دولار للأوقية    اختتام برنامج إعداد الخطة التشغيلية للقيادات الادارية في «كاك بنك»    تنفيذية انتقالي لحج تعقد اجتماعها الدوري الثاني لشهر ابريل    هجوم جديد على سفينة قبالة جزيرة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي    رئيس جامعة إب يطالب الأكاديميين الدفع بأبنائهم إلى دورات طائفية ويهدد الرافضين    نابولي يصدّ محاولات برشلونة لضم كفاراتسخيليا    البكري يجتمع ب "اللجنة الوزارية" المكلفة بحل مشكلة أندية عدن واتحاد القدم    عقب العثور على الجثة .. شرطة حضرموت تكشف تفاصيل جريمة قتل بشعة بعد ضبط متهمين جدد .. وتحدد هوية الضحية (الاسم)    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    اتحاد كرة القدم يعلن عن إقامة معسكر داخلي للمنتخب الأول في سيئون    شاهد.. مقتل وإصابة أكثر من 20 شخصًا في حادث بشع بعمران .. الجثث ملقاة على الأرض والضحايا يصرخون (فيديو)    وزارة الداخلية تعلن ضبط متهم بمقاومة السلطات شرقي البلاد    يجب طردهم من ألمانيا إلى بلدانهم الإسلامية لإقامة دولة خلافتهم    ماذا لو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيل؟    السامعي: مجلس النواب خاطب رئيس المجلس السياسي الاعلى بشأن ايقاف وزير الصناعة    بينها الكريمي.. بنوك رئيسية ترفض نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن وتوجه ردًا حاسمًا للبنك المركزي (الأسماء)    قيادي حوثي يذبح زوجته بعد رفضها السماح لأطفاله بالذهاب للمراكز الصيفية في الجوف    استشهاد وإصابة أكثر من 100 فلسطيني بمجازر جديدة للاحتلال وسط غزة    انهيار كارثي للريال اليمني.. والعملات الأجنبية تكسر كل الحواجز وتصل إلى مستوى قياسي    ماذا يجري في الجامعات الأمريكية؟    هذا ما يحدث بصنعاء وتتكتم جماعة الحوثي الكشف عنه !    تعليق على مقال زميلي "سعيد القروة" عن أحلاف قبائل شبوة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    البخيتي يتبرّع بعشرة ألف دولار لسداد أموال المساهمين في شركة الزناني (توثيق)    لماذا نقرأ سورة الإخلاص والكافرون في الفجر؟.. أسرار عظيمة يغفل عنها كثيرون    فشل العليمي في الجنوب يجعل ذهابه إلى مأرب الأنسب لتواجده    اعتراف رسمي وتعويضات قد تصل للملايين.. وفيات و اصابة بالجلطات و أمراض خطيرة بعد لقاح كورونا !    مدرب بايرن ميونيخ: جاهزون لبيلينغهام ليلة الثلاثاء    لأول مرة.. مصر تتخذ قرارا غير مسبوق اقتصاديا    الكشف عن الفئة الأكثر سخطًا وغضبًا وشوقًا للخروج على جماعة الحوثي    وزارة الأوقاف بالعاصمة عدن تُحذر من تفويج حجاج بدون تأشيرة رسمية وتُؤكّد على أهمية التصاريح(وثيقة)    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبد الواسع حميد الاصبحي .. يتذكر
نشر في الجمهورية يوم 26 - 12 - 2007

«الجمهورية» تعيد نشر هذه المذكرات لرجل ساهم بقسط وافر في خدمة الوطن واستذكر ملامح وشواهد من التاريخ المعاصر لليمن والظروف المحيطة بتلك المرحلة وهي مذكرات أحق أن يقرأها هذا الجيل الذي لا يعلم حجم تلك التضحيات وطبيعة الظروف فضلاً عن اتسامها بالأسلوب الأدبي الشيق في رواية الأحداث والأسماء
لقد كتب الأستاذ المرحوم- محمد عبدالواسع الأصبحي، عن الآخرين في مذكراته أكثر مما كتب عن نفسه، فأبرز رجالاً كان حظهم من البروز أقل مما هم به جديرون، ونوه برجالٍ لا يكادُ أكثر الناس يعرفون عنهم شيئاً.. ومن العدل أن نقرر بأن لكل من يكتبون «المذكراتِ» أو «السيرة الذاتية» الحق في أن يتحدثوا بضمير المتكلم، وإلا لما سميت هذه المؤلفات بالمذكرات ولا بالسير الذاتية، ولكن الميزان في هذا المجال دقيق وحساسٌ، فإذا اختل التوازن هنا، ثقلت كفة «الأنا» أو «الذات» ثقلاً تصبح معه عبئاً باهظاً على التاريخ وعلى القارئ.. وبمقابل ذلك تخف كفة «الهو» أو «الغير» خفة مجحفة بحق التاريخ وبحق القارئ في المعرفة الصحيحة.
ولقد أمسك الأستاذ محمد بالميزان، إمساك الصادق الأمين، الذي تهمهُ أولاً وقبل كل شيء الحقيقة الصادقة، والمصلحة الوطنية، وحق القارئ في الإطلاع على حقائق التاريخ المجردة من عبث الأغراض وتسلط الأهواء، وهذه درجة رفيعة لا يصل إليها إلا القليلون من الخائضين في هذا الميدان من ميادين الكتابة التي تتطلب قدراً عظيماً من النزاهة والإحساس بالآخرين.. وسيجد القارئ الكريم، ما يكفي من الأمثلة التي تبرهن على هذه السوية الرفيعة التي وصل إليها كاتب هذه المذكرات.
كما أن القارئ سيقف أمام بعض الحقائق الإقليمية التي تشمل البحر الأحمر وخاصة في شطره الجنوبي وما جرى على ساحله الشرقي في اليمن وساحله الغربي الذي تقع عليه بعض دول ومناطق شرق أفريقية وما كان يدور في شرق أفريقية من الصراع الاستعماري الذي أدى إلى نشوء دول واختفاء أخرى وهو لا تزال رحاه تدور أمام أعيننا إلى هذا اليوم.. ولن يسع القارئ إلا أن يشعر بالإعجاب إلى حد الدهشة، لما أبرزه الأستاذ محمد عبدالواسع الأصبحي، من أخبار اليمنيين في تغربيتهم الحديثة التي بلغوا بها أصقاع الأرض، وما قابلوه من أهوال تتضعضع أمامها الجبال، ولكنهم قابلوا كل ذلك بصبر عظيم، وجلدٍ لا يذل ولا يهون، وبقدرة على التكيف مع عالم غريب ينكرهم وينكرونه، وينفيهم فيقتحمونه، مما ينبئ عن معدن صلب عريق لهذا الشعب الذي أنجب هؤلاء الرجال، ويبشره بمستقبل زاهر مجيد رغم كل ما يحيط به من مكر الأعداء وقسوة الظروف.. ولو كان لي أن أوجه نداء لهتفت.. ندأ.. نداء..: أيها اليمنيون اقرأوا مذكرات المناضل الحر الأستاذ «الخال» محمد عبدالواسع حميد الأصبحي المعافري الحميري اليمني، من هذه المنطلقات، وستجدون فيها طاقة خلاقة قوية، تدفع بالمسيرة إلى الأمام بثقة ماضية وجباه عالية. دمشق 21-5- 1996م مطهر الإرياني
تحصيلي العلمي
أعود إلى قصة حياتي.. إلى حيث أنا طالب في مدرسة النجاح هذه المدرسة التي مكثت فيها أربعة أعوام هي عندي بمثابة عشرة أعوام من حيث التحصيل العلمي، فمنذ العام الثاني من هذه المدرسة كان مديرها يفخر بي ويعزني ويقدمني لمن يزور المدرسة من مصر أو من الأزهر الشريف على أنني من المتفوقين، ويمتحنني أمامهم على السبورة كتابة وإملاء ونحواً، ويقول لهم هذا تلميذ الطاقة الذي ابتدأ تعليمه في الطاقة.
ولا بد أن أذكر هنا الأستاذ المغفور له السيد محمد المديحجي السقاف الذي قدر اجتهادي وتفوقي، فدعاني إلى منزله لأتلقى درساً خاصاً من لدنه ما بين المغرب والعشاء من كل يوم، وله فضل كبير علي، وما زلت أذكر من تدريسه لي كيف علمني التفريق بين حرفي الضاد والظاء، عندما سألته عن هذه المسألة، فقد حفظني قصيدة للحريري تستوعب أصول الكلمات التي يرد فيها حرف الظاء وهي ستة وتسعون، وما عداها فهو ضاد، فاستوعبت هذه القصيدة بحيث لم أكن أخطئ في هذه المسألة، وقد كان مطلع تلك القصيدة:
أيها السائلي عن الضاد والظاء
لكي لا تظلّه الألفاظ
هوايتي للأدب والتاريخ
ولعل هوايتي للأدب والتاريخ قد تفتحت في تلك المرحلة على يدي ذلك الأستاذ الجليل الذي درسني سيرة الرسول مختصرة لابن هشام وغزوات الرسول وسراياه ثم الخلفاء الراشدين ونبذة عن ترجمة كل منهم ثم العصور الإسلامية المتتالية باختصار.. أما الشعر فكان كثيراً ما يسشتهد به الأمر الذي حبب لي الشعر وحفظه، وما زلت أذكر كيف أن والدي حين وصل من البلاد ورآني أقرأ في كتاب لن أنسى عنوانه هو «الروض الفائق في المواعظ والرقائق».
فرح والدي كثيراً، فها هو ولده الذي غاب عنه بضع سنوات ولم يقم بتربيته وتعليمه، ها هو يقرأ ويكتب أمامه.. ومع ذلك أذكر أنه رمى ذلك الكتاب جانباً، وقال: يابني اقرأ هنا تاريخ الأمويين واقرأ تاريخ العباسيين، وسأقدم لك هذا الكتاب «جواهر الأدب» لأحمد الهاشمي.. وقد التهمت هذا الكتاب، بل حفظت معظمه عن ظهر قلب خلال مدة ثلاثة أعوام قضيتها في قراءته وإعادته مرات ومرات، ومن ذلك الكتاب حفظني المدرس المعلقات والمذهبات والمنتقيات.. كما وضع والدي بين يدي أيضاً «نيل الأرب في تاريخ العرب» وكتاب «مجاني الأدب في تاريخ العرب»، وعلى هذه الكتب تأسست ثقافتي وتحدد اتجاهها في مجالي الأدب والتاريخ.
في المدرسة الفرنسية
وأخيراً تاقت نفسي إلى تعلم اللغة الفرنسية في المدرسة الفرنسية فذهب عمي كعادته إلى مدير المدرسة الفرنسية، فرفضني، ولكنني أمضيت عاماً كاملاً في حفظ الأحرف الفرنسية وتعلمها من الصحف الفرنسية، ثم استعنت برجل اسمه «عبدالله حسين نور» كان مساعداً في القنصلية الإيطالية في جيبوتي، وتجمعه قرابة بعمي فقد كانا متزوجين بأختين وبواسطة عبدالله حسين نور دخلت المدرسة الفرنسية بعد أن امتحنني مدرس القسم وهو صومالي اسمه أحمد فارح، وبما أني كنت أتقن عدداً من الكلمات لا بأس به، وإملائي متوسط، فقد دخلت في الصف الثالث الابتدائي مباشرة، وهكذا أمضيت عامين في تعلم اللغة الفرنسية.. وفي عام 36 أخرجني مدير المدرسة الفرنسي باعتبار أني كبير، وقال: أذهب إلى العمل، وقد استفدت في تعلم الفرنسية خلال هذين العامين أيما استفادة، لأني كنت أدرس بشغف وأتعلم بتعطش شديد، فابن عمي الذي دخل معي المدرسة وبقي فيها خمس سنوات لا سنتين، والذي لا يمكن أن أفرط باسمه «هائل سيف حميد» خرج من المدرسة وهو لا يعرف معشار ما أعرف..
المهم أنني خرجت من المدرسة إلى العمل، فكتبت عريضة إلى شركة «افريك اورينتال»، وهي شركة تشرف على الأعمال البحرية والسفن، فاشتغلت كاتباً فوق البواخر التي تنقل البضاعة أو تفرغ من الباخرة إلى الرصيف في جيبوتي إبان الحرب بين إيطاليا وإثيوبيا، وأمضيت في هذا العمل عامين من حياتي.
العودة إلى الوطن
قبل الحرب العالمية الثانية بعام واحد تاقت نفسي إلى العودة إلى بلدي الذي مضت عشر سنوات على غيابي عنه.. عشر سنوات نسيت خلالها كل ما فيه.. لقد كنت في شوق كبير وظمأ لا يروي إلا برؤية الوطن، وهكذا وجدت نفسي فجأة فوق سفينة شراعية تنقلني إلى باب المندب، ومنه توجهت إلى القرية لأجد نفسي في مرابع طفولتي التي انتزعتني الغربة منها انتزاعاً.
في القرية وصلتني رسالة من عمي يخوفني فيها من وشوك وقوع الحرب، وأرسل معها 200ريال للمباشرة ببناء دار له في الموقع الذي اختاره تحت الحصن في الوادي، ذلك الدار الذي بنيته أنا وعلى جانبيه بئر ونبع صاف.
لقد كان والدي يحس في قرارة نفسه أنه أهملني، لذا فرح بي فرحاً كبيراً حين وجدني أتقن القراءة والكتابة، وحين رآني ألقي الخطابات في المحافل والجوامع، وحين عملت في البواخر ككاتب «كراني» كما يقولون، وأنا من جهتي لم أقصر في حقه، فظل يدعو لي ويفخر بي، وحين كنت أبني الدار كان يقول: إن ابني يبني داراً بما يساوي 600 ريالاً في منطقة السجيعة «من سجع الحمام»، وهي دار لا يمكن أن تبنى بأقل من 1000 أو 1500 ريال، وقد ساعدني كثيراً في بنائه فالأخشاب من أخشابه في الحقول..
وحين قدم عمي من جيبوتي ذهل حين رأى الدار، وبعد أن أسكنت أولاده الأربعة وزوجه فيه، افتخر فيه، افتخر بي، وكان يريد أن يصنع لي شيئاً رداً للجميل ولكن الحرب قد قامت، ولم يكن باستطاعته أن يفعل شيئاً.
رحلة الهلاك وراء أحمد شمسان
وبعد بضعة أشهر قدم إلينا أحمد شمسان قاسم صهر عمي قاسم حميد، قدم إلى البلاد ثم توجّه إلى عدن، وأبقى ابنه عندنا، وقال لي: اتركه في المخا.
وهنا لابد من أن أسرد هذه القصة تاركاً للقارىء أن يحكم عليّ فيها، فهي قصة لايمكن أن تّمحى من ذاكرتي:
أقول: خرجنا لوداع أحمد شمسان قاسم هذا.. خرجنا إلى مشارف شرجب، أي قبيلة شرجب التي منها الشيخ الشهيد أحمد سيف حزام الشرجبي، وكان والدي يقول لي إذا أردت الخير فامش معه إلى هذه العين، يقصد عدن، وكنت أقول له: ياوالدي لقد وضع ابنه عندنا، وعهد إلي أن آخذه إلى المخا، ولابدّ من أن أوصله إلى هناك.. وفعلاً بعد سفره سافرت مع ابنه إلى المخا على جمل مدة ثلاثة أيام، وهناك ظللنا نصف شهر، حتى وصلت قافلة فتابعنا فيها السفر على الجمال من المخا إلى «ذوباب» مسافة خمسين كيلو متراً في أكثر من عشر ساعات، ثم بقينا يومين حتى ركبنا سفينة شراعية عبرت بنا في يومين أيضاً إلى جيبوتي، فوجدناها محاصرة آنذاك، لأنها كانت تابعة لحكومة فيشي بعد سقوط باريس بيد الألمان في الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من حصار جيبوتي من قبل الإيطاليين في أثيوبيا ومن قبل بريطانيا من ميون وعدن والبحر الأحمر، فإن حاكمها كان يرسل جواسيسه عبر اليمن إلى عدن وكان من ضمنهم أحمد شمسان هذا وقد لمّح لي بأن يضعني إما في عدن أو في المخا لأكون همزة وصل في هذه المخابرات، فقلت له: تأبى نفسي هذا، وأنشدت بيتاً كنت قد حفظته:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها
وحقك لن تكرم على أحد بعدي
ياخالي لا ولن أقبل، فتألم مني، ورأيت أنه قد أربدّ، وأنه كان يريد أن يورطني بأكبر مما سبق وورطني به من قبل.. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فلا بد لي من أن أورد هنا هذه القصة الأليمة التي جرت بيني وبين هذا الرجل.
ففي فترة حصار جيبوتي قال لي أحمد شمسان هذا: لماذا لاتدخل أية بضاعة إلى جيبوتي، تبيعها وتربح؟
وصدّقت كلامه، فاشتريت أشياء مختلفة بمبلغ ثلاثمائة ريال ماري تريزا دفعها لي عمي، وهذا مبلغ كبير آنذاك يصرف على عائلة كاملة مدة عام، وباختصار استولى هذا المخادع على الثلاثمائة ريال هذه وتركني في جيبوتي.
تسللت بسفينة شراعية إلى باب المندب، وظللت في «غُريرة» وهي قرية صغيرة تتبع لباب المندب في منطقة الشيخ سعيد التي يقابلها المنهلي وجبل مراد، وهناك تعرّفت بالمصادفة على الأمير لاي العزّي محمد البصراوي رحمه الله الذي كان أول من عمل خريطة عسكرية لليمن بأسرها في أثناء الحرب العالمية وكنت في التاسعة عشرة من عمري، فأعجب بي وحدب عليّ في تلك الأثناء وأنا أنتظر ذلك الأفّاق أحمد شمسان أن يعود من جيبوتي ليعطيني ماعنده من النقود ولا أريد فوق ذلك شيئاً أريد رأس المال فقط لأعود به إلى عمي الذي راح يبيع أرضه وحقوله ليقيت نفسه وعياله.
ظللت في غُريرة المركز بجانب الشيخ سعيد وفيها أصحاب السفن الشراعية إلى أن بلغني أن أحمد شمسان قد عاد من عدن إلى «ذوباب» ليدخل جيبوتي، فذهبت ولا أملك إلا نصف ريال، وسألت أحد الأخوة: كيف أمشي مسافة خمسين كيلو متراً؟ فقال لي: خذ هذا الماء بهذه الزمزمية وامش على ساحل البحر فتصل إلى «ذوباب».. وهكذا مشيت مايقرب من سبع ساعات على ساحل البحر حافياً لا أملك إلا نصف ريال وتلك الزمزمية حتى وصلت إلى «المخدم» أحمد شمسان، فرآني شاحباً كما قال، قال: لماذا تقعد هناك؟
فقلت له: أنتظر رجلاً اسمه علي علوان يأتيني بالعطر لأبيعه ثم أقتات ببعض منه، وأوصل البقية إلى عمي.
قال لي، وأنا أتحدث إليه بخجل وحياء،.. ولكن قبل أن أذكر ما قال لي لابد من أن أعرّف القارىء أن هذا الرجل قد أقام ثماني سنوات في منزل عمي لايذهب إلى منزله الذي استأجره في حارة ثلاثة مع زوجته إلا في المساء، وكان حرياً به أن يكون وفياً مع ذلك الإنسان الكريم.
حاول أن يجعلني جاسوساً
قال لي: ما رأيك أن تعود إلى المخا وتنتظرني هناك؟
وأراني خريطة أتذكرها حتى الآن فيها رسوم لبوارج حربية بريطانية وأسترالية وغيرها مارة بعدن ذاهبة إلى قناة السويس، فتأكدت من ذلك أنه مخابرات لحكومة فيشي، ومالي ومالها.
ثم قال لي : خذ هذا الحمار وعد به إلى المخا، إلى صاحب المطعم عبدالله عبده المسني، وصاحب المطعم ذاك لارحمه الله كنت أودعت عنده في المرّة الأولى عشرة ريالات كانت والدتي قد زودتني بها يوم سفري إلى المخا، وهو مبلغ يمكن أن أعيش به شهرين آنذاك.
على أية حال لم أكن أعرف، ولم يكن يخطر على بال، ولم يعلمن أحد أن الحمير والبغال والأثوار والحيوانات كلها لاتستطيع أن تمشي أكثر من 24 ساعة في الخبوت الرملية.. لأنها تحفى كما يقولون هذا أمر، وأمر آخر هو أني مكثت مايقرب من ثلاثة أشهر في جيبوتي ثم أكثر من عشرين يوماً في غريرة بدون سير أو مشي، ولا أدري شيئاً عما يسمونه «العضل» أي تشنج العضلات والأعصاب لدى السير الطويل، بحيث لايستطاع المشي إلا خطوة خطوة.
وهكذا ركبت الحمار وانصرف هو إلى السفينة الشراعية داخلاً إلى جيبوتي.. وبعد خروجي من «ذوباب» بدأت متاعبي مع الحمار وبدأ جسمي يتثاقل، وبدأت قدماي تخذلاني.. في رحلة أعتقد أن من دفعني إليها كان يرمي بي إلى الهلاك.. فالمسافة بين «ذوباب» والمخا كما أعرف الآن 46 كليو متراً وضرب من المستحيل أن تقطع على حمار، من قبل شاب صغير ليست له تجربة سابقة في اجتياز الصحراء ولايصحب حتى قربة ماء.. ولكنني مشيت ومشيت حتى أخذ مني التعب والإرهاق كل مأخذ، فارتميت شبه هالك تحت شجرة شوكية تظلني في ذلك الهجير، ورحت بين الموت والحياة أناجي الله بأنفاس متخامدة: يارب إما أن تعفني أو تلفني.. يارب لاتتركني للوحوش تنهشني وأنا أسمع وأبصر.. وكان لساني لايرتفع بالحديث إلا همساً..
صراع البقاء من أجل شربة ماء
هنا تدخل القدر وإذا بشبح إنسان، وهو يسير بسرعة ومعه عصا وعليه قربة ماء، فذهبت إليه أتوسّل:
ياهذا اللله يجزيك كل خير.. الله يسقيك من ماء زمزم.. الله يسقيك من الحوض.. أعطني ماءً، وكنت أحدثه بكلمة من لغة ذلك الساحل، فأقول له «عمّني» أي اسقني.. ولكنه كان شرساً، وكان ردّه «فيشي» أي لايوجد.. ويالها من لحظة قاسية جداً: إما الحصول على الماء أو الموت.. وهكذا وجدتني أثب على صدره وثباً، وأمسكت بقربة الماء وفتحتها وشربتها، وأمسكت بالعصا باليد اليسرى، وإذا به يرتعش ويقول لي: «عُم عُم» اشرب اشرب.. وشربت حتى ارتعش كل عرق فيّ.
وهنا كدت أسقط متهالكاً، ولكن لا أدري أي شيء جعلني أنتفض خوفاً من ذلك الوحش كي لايضربني لأني أخذت منه الماء، فسلمته القربة ورميتُ بالعصا بعيداً مايقرب من خمسة أمتار ثم انحنيت وأخذت بعض الحجارة اتقاءً لشره فيما لو حاول ضربي بالعصا.
فقال لي: ماتفعل ياجبلي؟ ماذا تفعل بالحجارة؟
فقلت له: انصرف وأنا أنصرف.
وفعلاً انصرف ذلك الشيخ المتقوس الذي أظن أنه كان أحد عمال أعمدة الهاتف لدى الأتراك.. وتابعت طريقي إلى منطقة اسمها «واحجة».
ليلة في واحجة
في هذه المنطقة دخلت مقهى أريد كسرة خبز فجاؤوني بقهوة قشر وكانت الساعة الرابعة بعد الظهر.. وكان هناك أحد الجنود وأذكر أنه كان من حاشد فرآني أطلب من صاحب القهوة: أعطني كسرة.. أعطني خبزاً وهذه النقود.. وكان يجيبني: «فيشي فيشي» أي لايوجد لايوجد.
ولكن ذلك الجندي غاب حوالي ربع ساعة وجاءني بفطيرة كبيرة تزن نصف كيلو، فرحت أبلّها في القهوة القشر بدون سكر وآكلها بنهم حتى أتيت عليها، ولم يسعن إلا أن أرمي له بربع ريال كان معي، ولكنه كان شهماً كريماً فقال لي: الله المستعان والله لو كنت في بيتنا لاستضفناك، ولكن أنت بين بدو، هؤلاء ليسوا من تهامة، تهامة كرام، أهل «واحجة» هؤلاء أغلبهم بخلاء لؤماء.. انصرف ياهذا وهناك ستجد قهوة تنام فيها.
سرت مايقرب من ساعة فوصلت مع حلول الليل إلى قهوة هي عشة صغيرة من الخوص وعمود.. ربطت الحمار إلى عمود القهوة وقصدت القرية أطلب الماء، فلم أجد إلا قهوة قشر ببقشتين.. وجاء صاحب القهوة فاستنكر وجود الحمار مربوطاً إلى عمود القهوة، وأمرني بإخراجه، فرحت أتوسل إليه: ياهذا: الحمار ليس لي، وأخشى أن يسرقوه، وأنا غريب.. ولكنه أصر قائلاً: أخرج العَيْر..
ماذا أصنع؟ لقد كنت متهالكاً فوق الكراسي دون فراش كأنني على ديباج، وخطر لي أن أربط حماري برجلي حتى إذا أراد أحد أن يسرقه أهبّ واقفاً ولكن صاحب القهوة رثى لحالي على مايبدو، فعاد بعد خمس دقائق، وقال: اسمع ياجبلي «جيب» الحمار إلى منزلي واذهب إلى المسجد قلت له : أنا معك.
ذهب بالحمار إلى منزله، وذهبت إلى المسجد.. مسجد من الخوص تتناوح الرياح حوله، كأنها عزيف الجان، وسافيات الرمال تسفي عليّ من كل جانب، ولم أنم إلا بعد أن تعرفت إلى مكان منزله.. وفي الصباح الباكر ذهبت فأعطاني الحمار.. فشكراً له.
انطلقت بالحمار في هذا الصباح، أمتطيه كما لو أني ملك على حصان.. ولكنني تهت في الطريق، فوجدت مزرعة، وإذا بفتيان وفتيات ينادون:
أوو صاحب العير «ياصاحب الحمار» وين رايح؟
ذاهب المخا.
آوو ضليتم الطريق.
اهدوني إلى الطريق.
أدِّ لنا بقشه.
المهم.. أديت لهم بقشة، ودلوني على الطريق، فوصلت المخا في اليوم الثاني عصراً، وهكذا دواليك..
ذهبت إلى صاحب المطعم عبدالله المسني، وانتظرت.. انتظرت.. فلم يجئن بالعشاء إلا بعد الساعة الرابعة مساءً مع الشغالة، فقلت له، وأنا أذوب خجلاً وكأني أستجديه: ياعمي، أعطن العشرة ريال التي وضعتها عندك كأمانة.
فقال لي، وهو يلوي عنقه، ويصعّر خده بكبرياء: لقد سملتها لأحمد شمسان، فوجمت وأطرقت، وكدت أشرق بالدمع، وظللت أفكر: ماذا أصنع؟ ولم يبق في جيبي ريال واحد، وكانت معي ساعة يد ثمينة ونادرة لا يملكها إلا الأثرياء، وهي غالية عليّ لأنها مهداة إليّ من البصراوي، وأنا حريص على أن لا أفرّط بها، فذهبت إلى رجل عرفته مصادفة اسمه أحمد عبدالرحمن العليمي وهو تاجر بسيط في المخا، فقلت له: أعطني ريالين وهذه الساعة رهن، فرهنت عنده الساعة بريالين، وبعد المغرب مباشرة امتطيت جملاً مع رحالة، أي مع مسافرين، وسافرت معهم مايقرب من ست ساعات إلى أن وصلنا إلى «ذوباب».. وهنك مكثت ليلة واحدة عند الحاج المرحوم سفيان حيدر قاسم الأصبحي، فاستضافني، ولم يبق معي إلا نصف ريال، لأني دفعت ريالاً ونصف ريال إيجاراً لذلك الجمل الذي ركبته، فطلبت منه بعد أن ظللت ربع ساعة متلعثماً.. المهم طلبت منه ريالاً، وقلت له: سوف أستأجر جملاً لأعود إلى باب المندب لانتظر صاحب العطر، فأعطاني رحمه الله، ولايزال أولاده وأحفاده موجودين في «ذوباب» ومنهم في الأصابح.. وعدت إلى باب المندب في قصة طويلة، وبعد ثلاثة أيام وصل علي علوان ومعه العطر فبعته بمائة ربية هندية «عملة كان يتداولها اليمنيون والانجليز في عدن وهي تابعة لعملة الهند»، سدّدت منها خمسين روبية كانت ديوناً عليّ، وبقيت معي خمسون روبية.
وها أنذا أنطلق من «الشيخ سعيد» على جمل صحبة يافع لايتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وفي الطريق مررنا بخبت عقنقل كما يقال وإذا بصاحبي يجنح بي إلى طريق آخر، وأنا أجهل الطريق في البيداء.. بيداء تتخللها بعض الأشجار الشوكية.. وها هو ينيخ جمله قريباً من جبل فيه سفوح، جوار قرية صغيرة فيها قبيلة الحكم، وقبيلة الحكم مشهورة، ولكن منهم «حكم» بدو، ومنهم «حكم» بحارة في باب المندب، ومنهم «حكم» في تهامة من الحديدة، و«حكم» الجبال والخبوت رعاة، وحتى منهم من هم من سعد العشيرة.. نزلت بين أفراد هذه القرية فجاؤوني بلبن وثريد كانوا يلعقونه بأيديهم، خفت أن آكل معهم بالأيدي والأنامل المتسخة ولكن الجوع لايرحم، وفي أثناء الأكل سمعتهم يتحدثون عن الحرب بين قبيلتين، وكل منهم متوشح بندقيته وأصبعه على الزناد، التمي والدرين: التمي اسم الشيخ والدرين معناها الثعلب وهو لقب الشيخ الآخر.. يا الله ماذا أصنع؟ اللهم خارجنا، ونمت تلك الليلة على قلق، وما أن أصبح الصباح حتى شدّ ذلك الفتى الجمل وركبت معه فأوصلني إلى «ذوباب»، فاعتبرت ذلك كرماً منهم فنفحته فوق الروبيتين روبيتين أخريين.
في سفينة الملاريا والتيفوس
في «ذوباب» رأيت نفسي قد تعبت من ركوب الجمال وكادت إليتاي أن تتجرحا، وصار فيهما دمل، ورأيت سفينة شراعية فيها ما يقرب من ثلاثين جندياً جاؤوا من جبل الشيخ سعيد فيهم مرض الملاريا والتيفوس، فركبت تلك السفينة لا ألوي على شيء ولا أبالي بما يمكن أن يحدث لي وفي ظرف 5.23 ساعات وصلنا إلى المخا، فنزلنا هناك، وظللت عشرة أيام أنتظر أحمد شمسان.. والثلاثمائة ريال، ولا أريد ال 600 ريال أو الألف ريال التي كان يمنيني بها.
وحين وصل تغدينا عند ذاك صاحب المطعم المسني غداءً حنيذاً وأرزاً فقلت له: إني سأسافر مع ابن اختك فارع مقبل.
فقال: مع السلامة.
قلت له: ماذا أقول لعمي؟ ثم إن زوجتك طلبت مني 20 روبية فأعطيتها.. وإذا به يصرخ في وجهي صراخاً أمام أصحاب المطعم والزبائن: ياطفل ياسفيه.. وأمطرني بالكلمات البذيئة وشتمني قائلاً أنتم أبناء الأصابح بلا مروءة أنت.. أنت..
وكان مني البكاء والنحيب، ويالها من ساعة، ولم أجبه بشيء.
عدت خائباً
وفي اليوم التالي ركبت حماراً، والقصة طويلة، حتى وصلت بعد ثلاثة أيام إلى القرية وماكدت أصل البيت حتى كانت الحمّى قد بدأت تنتابني لأدخل في مرض الملاريا وبعده التيفوس، ثلاثة أشهر أقيم في السجيعة الدار التي بنيتها لعمي ولا أعرف أين أنا، وقد سمعتهم ذات يوم ينعوني.. وكان عمي كلما أفقت يسألني: ماذا قال لك أحمد شمسان؟ ماذا قال لك الصهر؟ ماذا قال لك النسب؟ ولا أجيبه إلا بالبكاء.
الاغتراب وشظف العيش
لابد من الهجرة
بعد ثلاثة أشهر ركبت وطلعت إلى الحصن المسمّى نعامة بمساعدة والدي المريض بالقرحة، ولكن والدي مالبث بعد شهر من بقائي في الحصن أن نصحني بالذهاب إلى عدن للعمل، فأطعته، ونزلت إلى عدن ماشياً مدة أربع ساعات، ثم حشرت نفسي في سيارة أجرة أنزلتني في «الشيخ عثمان».
ولما لم أكن قد عملت من قبل لا عاملاً ولا أوسطى ولانجاراً ولا سمكرياً ولا أي شيء فقد اضطررت اضطراراً إلى أن أعمل كعامل عادي في «بيرفضل» التي تبعد ستة كيلومترات عن الشيخ عثمان، أحمل فوق كتفي الأسمنت للأسطى أي للبناء بما يقارب ربية إلا ربع في اليوم.
مات أبوك.. مات عمك
ظللت شهرين أعمل بجد واجتهاد إلى أن صار مامعي حوالي خمس روبيات فهممت بأن أرسل نصفها لوالدي ونصفها لعمي قاسم، وإذا بالنبأ المفزع يأتيني.. جاءني مع رجل من القرية يكبرني بخمسة وعشرين عاماً، ولن أنسى اسمه إنه محمد سعيد فارع الأصبحي، فانتحى بي جانباً، وقال لي كعادة القرويين: يابني هل سمعت شيئاً عن البلاد؟
قلت: لا خير.
قال: ألم تسمع بمرض أو عرض؟ قلت: لا لم أسمع.
فقال لي: عمك قاسم مات، فذهلت ولم أجبه، فأضاف وكمان أبوك، مات عبدالواسع حميد، في يوم واحد.. فأرتج عليّ، وعزاني، وانصرف، وبقيت في حالة ذهول من الساعة الثامنة مساءً حتى الصباح، لا أتحدث، ولا أبكي.. أنا غزير الدموع بيد أني كنت ذاهلاً، أو كما يقال في غيبوبة، لا أدري ماذا أصنع.
وفي الصباح فكرت: والدي عنده خمس بنات الكبرى متزوجة، والبقية طفلات، وخالتي أي زوجته حامل.. عمي قاسم أيضاً عنده خمس بنات وطفل عمره ثلاثة أشهر.. ماذا يصنعون؟ وكيف؟ وأين؟ والحرب قائمة والحصار قائم والمجاعة على أشدها في اليمن.. فلم يسعن أن أفعل شيئاً سوى أن أتوجه إلى العمل صباحاً في الساعة السادسة إلى «بيرفضل».
وكان رئيس العمال قد يعطف علي.. فقال لي: قم بطلاء الواجهة الخشبية للعمارة هذه.
الغربة والشعر
أتذكر أنني بعد عصر ذلك اليوم نظرت إلى الأفق البعيد، فرأيت في تلك الجبال التي تبعد عني حوالي خمسين كيلومتراً إلا أنها مرتفعة.. رأيت الغيوم تملأ الفضاء وكان هناك مطر وسيول ولاح لي في الأفق البعيد أيضاً موت أبي وعمي وهؤلاء وهؤلاء وكانت الدموع تنحدر على خدّي مدرارة.. وإذا كانت لدي موهبة شعرية فأعتقد أنها قد تفجرت في تلك اللحظات، فأخذت قلم رصاص وورقة من بقايا علب السجائر، وكتبت قصيدة وأنا أبكي، أذكر منها هذا المطلع:
ماراعني غير النسيم الساري
وحنين ورقاء على الأوكارِ
وبلابل فوق الغصون تغرّد
أشجيتني يا بلبل الأشجارِ
العمل في التواهي
بعد ذلك انتقلت من «الشيخ عثمان» إلى «التواهي» حيث يوجد عمال من أبناء قريتي الأصابح، وصرت أعمل «كولي» أي عامل، وكنت ألبس ثياباً جميلة، ومن ضمن ذلك عمامة رشوان حريرية، وهذه العمامة مطرزة كانت تجلب من سورية قيمتها يومذاك 100 روبية، فرأيت الأنظار تتوجّه نحوي، تكاد تخترقني، وكان قد انتشر آنذاك الشذوذ وكان أحدهم يقول: من هذا الفتى؟ وكنت في العشرين من عمري، كيف، وصاحب العمل لايلبيس هذه الثياب؟
هذه لاتلبس إلا في الحفلات أو المناسبات، فكيف يلبسها؟
وكنت أشعر أن هؤلاء يتآمرون عليّ، فلم يسعن إلا أن أعرضها على سمسار في «الحراج» كما يسمونه في عدن، فباع لي إياها بربع ثمنها 25 روبية، فاشتريت ثياباً من «المريكن» البيض وقميصاً أبيض، وكلها بما يساوي ثلاث روبيات فأصبحت واحداً من العمال..
من أجل عود ثقاب
وها هنا قصة لابد لي أن أذكرها فهي جزء من حياتي، ففي تلك الأيام كنت مولعاً بالسيجارة.. لقد كنت مبتلى بالولع بها، لعنة الله على السيجارة.. وكنت أحياناً أشتري ثقاباً وأحياناً لا أشتري اقتصاداً لكي يأتي يوم الأحد ومعي مايساوي روبية أتغدى وأتعشى بها..
فذهبت إلى غرفة أخرى تجاه أحد النجارين وكنت أعرفه ولا أنسى اسمه إنه علي أحمد هطيل، وكان هذا يعمل قبل الحرب في جبيوتي عند عمي قاسم وعند آخرين، وكنت عندما أحمل «المداعة» أجده هناك عند عمي يقص الأقاصيص: أرسين لوبين وشرلوك هولمز.. الخ. فقلت له:
أعطني أولع.
ومع هذا لم أمسك السجائر من يده كعادتي لأني ذواق منذ طفولتي ولافخر، فكعادة الآدميين آنذاك سألني: إيش تشرب من سيجارة؟
فقلت له:أبو قلعة،فقال: بس بس.. أنا أشرب أبو مقص، وكان أبو مقص أرقى الموجود من السجائر في عدن.. أبو مقص بثماني بياس أي بعانتين من عملة تلك الأيام.. بينما أبو قلعة أقل ببيستين فقط، فقلت له:عرفت غرضك، لكي لاتتأثر سيجارتك بسيجارتي فالتبغ في كلتيهما انجليزي.
فأجابني بسخرية وعجرفة، وكأنه يرى دمية أمامه..
ومن أنا في نظره غير أحد الشماليين المنحدرين من شمال اليمن رغم الحرب القائمة على أشدها، ورغم الحصار والجفاف والظلم والثالوث المخيف الجهل والفقر والمرض.. وذلك بعد أن انقطعت مساعدات المهاجرين المغتربين عن البلاد بسبب الحرب، فلم يكن أمامنا إلا الانحدار إلى عدن.. أجابني:لا .. لا .. أنت تفهم أنا لا أفهم، أنا جبلي ولست أنت جبلي أنا البدوي ولست أنت البدوي.
ولست أدري تالله حتى هذه اللحظة أي ملاك أو هاتف أو وحي أجرى هذه الأبيات على لساني، فقلت له:
أأخي إن الحادثات عركنني عرك الأديم
لا تنظرن قد رأيت أخاك في طمري عديم
إن كن أثوابي رثاثاً إنهن على كريم
ثم أجهشت بالكباء.. عند ذلك فهم ذلك الرجل بأنني لست كما يتصور وظل يحتضنني،ولكن أنى لي أن أتحدث والدموع تنحدر على خدي.. كنت أحدث نفسي: من يكون هذا التافه. ألأني ألبس هذه الثياب؟.. ألأني أشتغل وأعمل كعامل بناء أو بخار..؟
ولكنه راح يسألني: هذا ليس كلام بدوي أو جبلي.. أليس كذلك؟
وهنا أيضاً زاد ألمي، فقلت له: يا أخي مامعنى كلمة جبلي؟
ولماذا تكرر كلمة جبلي وأنا أفهم أنك تعنيني لماذا؟
فقال: اسمع يا أخي. من أنت ؟
فقلت: أنا إنسان. أنا أدمي.. أنا ابن اليمن.. أنا جبلي .. دعني.
قال: أبداً. والله لن تخرج من هذه الغرفة حتى تخبرني من أنت وابن من أنت.
فلما رأيته مكشراً غاضباً يريد أن يعرف من أنا وكأنني جئت من المريخ.. وهو لايتصور أن إنساناً يأتي من المعافر أي الحجرية أو تعز أو صنعاء ويتكلم العربية أو يفهم هذه الأشياء.. هكذا كانوا يتصورون..
فقلت له: لاتعرف والدي. فقال: أبداً،قل لي.
فقلت له: أنا ابن عبدالواسع حميد الأصبحي
فقال: أليس عمك قاسم حميد الذي كان في جبيوتي؟ قلت: نعم.
فإذا هو يحتضنني ويتألم ويقول أنا اسف اسف .. إنه إنسان كريم عملت معه، ورباني.. «وأنا عارف أنه كان يعمل معه، ولكن» وعزم علي أن أتغدى معه أرزاً وسمكاً مقلياً.. وتعارفنا..
وظللت هناك عامين تدرجت خلالها من بناء إلى نجار إلى مشرف..
وكان كل مايزيد معي من النقود أرسله إلى أخوتي الأيتام وأبناء عمي الأيتام أيضاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.