ما انفكت كتب التاريخ تسرد ذكريات الوحدة اليمنية فتصفها «حلماً».. إلا أن جيل الشباب يتساءل: لماذا كانت حلماً؟ أليس من المبالغة الحديث عن حق تاريخي بذلك الوصف؟! أتفق مع الشباب في أن اليمنيين كشعب لم يعيشوا لحظة انفصال في أية حقبة من تاريخهم، لذلك كان من الصعب تخيل أن الوحدة قد تتحول إلى حلم، لكن الوجه الآخر من الحقيقة التاريخية يؤكد أن الأنظمة السياسية كانت منفصلة عن بعضها، وأن مؤسسات الشطرين كانت منفصلة أيضاً، بل إن خلافات الأنظمة تشعبت إلى بعد أيديولوجي، وعسكري، واستراتيجي مما دفع بالأوضاع إلى حالة معقدة للغاية، ومثقلة بمواريث تاريخية هائلة متصلة بالعهد الإمامي في الشطر الشمالي، والاحتلال البريطاني في الشطر الجنوبي، وما خلفه كل منهما من بصمات سياسية واقتصادية وثقافية على الحياة اليمنية. لا شك أن رغبة إعادة تحقيق الوحدة كانت قائمة في شطري اليمن، لكن الرغبة وحدها لم تكن كافية ما دامت دوائر صنع القرار تتقاطع بآلياتها للوحدة.. فالشمال رغم كثافته السكانية الهائلة مقارنة بالجنوب لم يرث شيئاً مؤسسياً عن النظام الإمامي الملكي، ولا حتى قاعدة متعلمة في الوقت الذي غادر البريطانيون عدن مخلفين وراءهم تيارات سياسية تتبنى توجهاً أيديولوجياً غربياً بات يسعى لإسقاط تجارب الشرق على ساحة اليمن، ويكرس جهداً كبيراً لفرض أيديولوجياته الجديدة على كل ما حوله من الشطر الشمالي وحتى دول الجزيرة والخليج.. بل إن الأخطر فيما حدث هو أنه تبنى الخيار المسلح في فرض فلسفته الجديدة التي ظلت تحظى بحصانة موسكو حتى قبيل تحقيق الوحدة اليمنية بفترة قصيرة جداً.ومع أن جميع الزعماء اليمنيين الذين تولوا رئاسة أي من الشطرين كانوا وحدويين، ومؤمنين بأن القدر والمصير اليمني واحد إلا أنهم كانوا يصطدمون إما بالآليات التي تكفل إعادة الاندماج السياسي، أو ببعض القوى الوطنية التي آلت إلى حالة شتات وتصادم، أو بالموروث الذي عليه واقع كل شطر، فضلاً عن دور التدخلات الخارجية في إعاقة سير اتجاهات الوحدة.. وكانت دائماً هناك صعوبات في تشخيص الحالة القائمة وتحديد الاحتياج.لا أبالغ، ولا حتى التاريخ يمكن أن ينكر أن أول تشخيص دقيق لحالة الوحدة اليمنية تبلور في عهد الرئيس علي عبدالله صالح.. إذ أن العمل من أجل الوحدة بدأ يأخذ بعداً مدروساً قائماً على أفقين: الأول نظري يترجمه الحوار، وطاولات المفاوضات التي كانت اتفاقية الكويت مع الرئيس عبدالفتاح اسماعيل أولى بشائرها الواعدة بتحريك مسار الوحدة، أما الأفق الآخر فهو عملي بنيوي قائم على أساس تأهيل البنى المؤسسية للدولة ورفع قدراتها التنموية، ومد جسور الشراكة بين الشطرين.وفي الحقيقة إن الرئيس صالح أعطى الأولوية للوحدة الوطنية قبل الوحدة اليمنية باعتبار أن الأولى هي القاعدة التي يمكن أن تقف عليها الثانية.. فشتات القوى الوطنية اليمنية كان مقلقاً ويعد من أهم عقبات الوحدة، لأنه سمح أيضاً بتوغل الأيديولوجيات الاشتراكية «الماركسية، اللينينية، الماوية» واستشرائها على نحو خطير يهدد بصهر التراث الثقافي العربي الإسلامي.. وهو أمر تسبب به الفراغ الدستوري الذي لم ينظم عمل التنظيمات السياسية وعمل على تحريم الحزبية.كانت مبادرة الرئيس صالح إلى صياغة ميثاق وطني وتأسيس مؤتمر شعبي عام تنضوي تحته مختلف القوى الوطنية بمثابة أول وحدة فكرية للانطلاق نحو الوحدة اليمنية.. ولعل الحوار الكثيف الذي انطلق بين نظامي الشطرين في تلك الفترة، والدور الذي لعبه المجلس الأعلى للوحدة أثبت بما لا يقبل الشك أن طاولة التفاوض هي الرهان الأول للقضايا الوطنية اليمنية.الرئيس علي عبدالله صالح لم يكن فقط صاحب فضل تشخيص داء الوطن، بل أيضاً إنه كان صاحب الفضل في صهر القوى المعارضة سواء لنطامه أو لنظام الشطر الجنوبي في ركب العمل الوطني من خلال التفاوض معها، والعفو عن عناصرها المتورطة بأعمال مسلحة، ومن ثم إشراكها في الحياة السياسية.. وهو الأمر الذي أغلق نافذة مهمة من نوافذ التوتر والفتن التي من شأنها أن تتحول إلى عقبة كأداء في مسار العمل الوحدوي بين الشطرين.للأسف، هذه الحقائق ما زالت غائبة عن ثقافة شبابنا اليوم، وإن المسئولية تقع علينا جميعاً كحملة أقلام في إيصال مفردات النضال من أجل الوحدة اليمنية إلى كل فرد من هذا الجيل الصاعد.