اعترف أنه ومنذ فترة طويلة مشهد حياتي واحد يشغل حيزاً كبيراً من تفكيري ولم أجد تفسيراً مقنعاً لهذا المشهد، ويقيني أنكم مثلي تفكرون بما أنا أفكر حول هذا المشهد الذي يلازمنا منذ ولادتنا حتى ساعة الرحيل من الحياة.. يلازمنا طوال يومنا ولا أدري إن كان كذلك عندما نخلد إلى النوم. «الصراخ» نعم «الصراخ» الذي وبكل أسف نقولها إنه أصبح ملازماً لنا نحن العرب والمسلمين أكثر من غيرنا خلق الله. صارت حواراتنا صراخاً.. وكلامنا صراخاً وأغانينا صراخاً حتى وإن كنا نعتقد أنه همس مع الحبيبة فهو صراخ يتجاوز حدود الهمس المعروف بين الحين والآخر ولا أبالغ لوقلت إن أسرارنا باتت صراخاً.. عندما بلغت العقد الثالث قالت لي أمي أطال الله في عمرها: «إنني خرجت من بطنها وأنا أصرخ!!» فقلت لها: «هذا شيء طبيعي أن المولود يصرخ بعد خروجه إلى الحياة والنور بعد شهور في بطن أمه يتكون حتى يكتمل تكوينه وهو صامت ويخرج وأول شيء يفعله يصرخ».. ردت أمي: «هذا صحيح.. ولكنك ظللت تصرخ حتى اليوم.. كلامك صراخ، حديثك عبر الهاتف صراخ، حتى الكلمات التي تكتبها في الصحف والمجلات كلها صراخ، لم أشاهدك وأنت اليوم في العقد الخامس صامتاً إلا عندما تخلد للنوم؟؟ وأضافت حفظها الله: «حتى في أكثر أيام تصل وأنت تصرخ» استغربت وسألتها: «كيف أصرخ وأنا نائم؟!» ردت: «تشخر» وأعذرك لأنك طول اليوم وأنت تصرخ وعندما تذهب إلى النوم» « وترتاح من رحلة يوم عمل متعب فإنك تشخر» وأعذروني لا أعرف معنى آخر لكلمة «شخير» وأتمنى أن تفهموها.. ما قالته أمي لي أجده مجسداً أمامي طوال اليوم وأنا في العمل أو في الشارع أو في المقهى ناهيك عن سوق القات الذي هو أصلاً مجمع للصراخ وكذلك عندما أشاهد القنوات الفضائية العربية دون استثناء بما فيها قناتنا «اليمن» فإنني أجد البرامج الحوارية أشبه بحلبة صراخ تفقدنا متعة متابعة الحوار الذي من أجله يتحدث ضيوف البرنامج.. فبدلاً عن ايصال الفكرة بصوت هادئ إلى المشاهد فإن المتحاورين وهم بدلاً عن الكلام يضيعون بصراخهم الفكرة، كل شيء في حياتنا مع الأسف الشديد صار صراخاً ولا أقصد هنا نحن في اليمن فقط بل إن لم أقل كل البلدان العربية والإسلامية فإن الغالبية منها وهذا ما شاهدته وسمعته بنفسي خلال زياراتي لعدد من هذه الدول، وهو عكس تماماً ماشاهدته وسمعته في عدد من الدول الأوروبية التي زرتها كذلك وإن كانت قليلة العدد أي لاتتجاوز أربع دول.. لماذا يتجول كلامنا وتتحول مناوشاتنا إلى صراخ؟! حقيقة لا أدري... هناك من يقولون «الطبيعة والبيئة» هما السبب وآخرون يذهبون إلى القول بأن السبب هو اجتماعي وتربوي وثقافي، وكذلك طريق ثالث ورابع يذهبون إلى أسباب أخرى غير أني وأنا في العقد الخامس من العمر فإن هذه الأسباب ليست مقنعة لي.. خاصة وأن هناك شعوباً غير شعوبنا طبعاً تعيش مناخاً وظروفاً شبيهاً بمناخنا وظروفنا.. بل إن شعوباً في آسيا وأفريقيا وحتى في أوروبا يعيشون أوضاعاً أسوأ من أوضاعنا نحن العرب والمسلمين الذين يعلمنا ديننا الحنيف «آداب الحوار».. هناك اعتقاد شخصي بأن «الصراخ لدينا ناتج عن قناعة بأننا أقوياء وقوتنا ليست بالعلم والحجة والنقاش الهادئ بل تكمن في صوتنا المرتفع «الصراخ» الذي هو في حقيقة الأمر تعبير عن عجزنا في محاورة الآخر والعيش بسلام» هذا الاعتقاد الذي حتماً سيجد عدم القبول به ولكن ليس بالحوار الهادئ بل بالصراخ الذي لانفهم منه ماذا نريد أن نقول.. الستم معي أننا نصرخ منذ الولادة حتى الرقود في «اللحد»!! أتمنى في الاخير أن أجد من يحاورني أو يتحدث معي دون صراخ.. عفواً أتمنى أن أكون أنا هادئاً ولا أصرخ!!