لأن السياسة لا أخلاق لها؛ فكل ما يحقق أهدافها ويخدم مصالحها فهو مباح، وكل ما يقوم به السياسي كشخص أو حزب أو دولة لتحقيق تلك الأهداف والمصالح فهو جائز ومشروع..وفي منطق السياسة لا شيء ثابت أبداً، لا عداوة عدو ولا صداقة صديق. فلا مكان للعواطف والمثل في عالم السياسة، ليس على مستوى الدول والحكومات والأحزاب، بل حتى على مستوى الأسرة الواحدة تجد السياسة طريقها لبعثرتها وشق صفها وتمزيق وحدتها وإثارة العداوة والأحقاد والكراهية بين أفرادها. ومن يحترف السياسة بمفهومها المجرد لا بد أن يكون قادراً على العيش منزوع الضمير، متجمد المشاعر والأحاسيس ولديه القدرة على تقديم التنازلات مهما كانت صعبة وغير مقبولة تصل إلى حد التضحية بأقرب الناس من أجل تحقيق مصلحته الشخصية أو الحزبية من أجل البقاء في دائرة الأضواء وفي مقدمة الصفوف، ولهذا فلا عجب أن تتحول جثث الأطفال والنساء وأشلاؤهم وحرائق المدن وخرابها إلى جسر عبور يمشي فوقه رجال السياسة نحو كراسي الحكم. وأن يصبح التآمر على الأوطان والخيانة والتواطؤ مع الأعداء والغاصبين وتجار الموت ضرورة تقتضيها المرحلة ويتطلبها الواقع وغير ذلك من المبررات.. ولهذا نجد الجميع في عالمنا اليوم يعمل وفق هذه السياسة دولاً وحكومات وأحزاباً ورجال دين ومنظمات ورجال أعمال وحتى على مستوى الأشخاص العاديين أيضاً لا يخلو الأمر من شيء من السياسة غايتها تحقيق المصلحة والوصول إلى الهدف بغض النظر عن ما يلحق الآخرين من أضرار وخسائر. ومع الأسف إنه ووفقاً لهذه النظرة القاصرة يتم تقييم الآخرين والحكم عليهم في أبسط الأمور العامة، فكم نسمع أن موظفاً مهضوماً ومضطهداً ويتعرض دائماً للتعسف، فلا اكراميات ولا علاوات ولا ترقيات ولا مهمات رغم أنه نزيه وكُفء ومخلص وشريف إلا أنه وبتعبير آخر لا يعرف كيف يسايس مسئوليه ومديريه، يعني أنه يرفض تقديم تنازلات على حساب نزاهته وأمانته ومسئوليته وعلى حساب وطنه أيضاً. ولأن مأساة غزة هي محور الحديث أعود فأقول: إن مأساة غزة صنعتها السياسة قبل أن تصنعها آلة الحرب وما تعرضت له من عدوان وقتل ودمار، لا يزال مستمراً ما هو إلا نتاج صراع سياسي اسرائيلي -اسرائيلي، وفلسطيني - فلسطيني، وعربي - عربي قبل أن يكون نتاج صراع فلسطين عربياً - إسرائيلياً. فاسرائيل وحكومتها الانتقالية وما تعيشه من صراع سياسي داخلي دفع الاسرائيليين إلى البحث عن مخرج لهذا الصراع وتحقيق مكاسب سياسية ترفع نسبة الفوز في الانتخابات لهذا الحزب أو ذاك، ولم يجدوا أفضل دعاية انتخابية وبرنامج سياسي يقدمونه للناخب الاسرائيلي غير الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين وتدمير غزة على رؤوس سكانها، مستغلين حالة اللا وفاق السياسي بين فتح وحماس في ظل انقسام عربي بين دول ممانعة ودول مؤيدة. فكان الدم العربي الفلسطيني قرباناً لإقناع الناخب الاسرائيلي ليستعيد ثقته بجنرالات حربه المتنافسين على مقاعد حكومته الارهابية ليتم اختيار أكبر سفاح وأكثر دموياً والأقدر على إبادة الشعب العربي ليس في فلسطين وحسب وإنما في جميع الأقطار العربية إن أمكن. أما خارج اسرائيل وبالذات في الوطن العربي فقد كانت لهم حساباتهم السياسية وفقاً للربح والخسارة لتتحول مأساة غزة إلى ميدان لتصفية الحسابات بين الحكومات والأطراف العربية والإقليمية والدولية على حساب القضية الفلسطينية ومستقبلها ،ولهذا فقد جاءت المواقف نتاجاً لتلك الحسابات السياسية، ولهذا أيضاًَ يستمر استثمار مأساة غزة وتحويلها إلى دعاية انتخابية في كل أرجاء الوطن العربي يستغلها الجميع بما فيهم الشخصيات الاجتماعية والدينية ممن يرون في غزة ومأساتها وسيلة مثلى لتلميع أنفسهم وحشد التأييد لهم تمهيداً لخوضهم غمار التنافس الانتخابي كما هو حال الكثيرين في بلادنا اليمن مع اقتراب الانتخابات النيابية. مع العلم أن مواقف اليمن حكومة وشعباً تجاه القضية الفلسطينية معروفة وثابتة ولا تخضع لأية حسابات غير حسابات الواجب والدين والعروبة. فإن حاول البعض استغلال هذه المأساة لمصالحهم الشخصية تحت شعار الفعاليات التضامنية من مهرجانات وندوات وأطباق خيرية؛ فهذا شأنهم وهذه رؤيتهم السياسية، ولكن هل إقامة المهرجانات والضيافات وعزائم المجاملات مقياس لشعبية فلان أو علان؟!. وهل المعيار لاختيار المرشح بعدد مآدب الغداء وجلسات القات التي أعدها، وهل على المرأة كمرشحة أن تقوم بكل هذه الأمور وتتنازل عن قيمها وأخلاقياتها لتحظى بقبول الحزب الحاكم ومن يمثلونه من أصحاب القرار كما يعتقد البعض ليتم اختيارها كمرشحة حزبية؟!. أكيد لا.. ونحن ننأى بأنفسنا أن تتبع مثل هذه الوسائل، كما ننأى بأنفسنا من استثمار دماء الضحايا ودموع الأيتام ونواح الثكالى في مهرجانات ظاهرها غزة وباطنها كراسي البرلمان. والحليم من الإشارة يفهم!!.