الجمال سياسي وثقافي أكثر منه بيولوجي. والمرأة ترى في الرجل ما يرى فيها. وذكر الإمام ابن حزم أنه لا تجتمع أنثى بذكر، إلا حاول كل طرف لفت نظر الآخر على نحو ما، وهو شيء لا واعي، ولا يخضع لقوانين المنطق. والحب يحدث من النظرة الأولى صدق من صدق وكذب من كذب. أو من سطر وجملة. وميل الرجل للمرأة لا يتوقف ولو بلغ الثمانين، وميل المرأة للرجل لا ينتهي، ولو ناهزت المائة عام. كما جاء في قصة الحب في زمن الكوليرا فقد تزوجها وهي في عمر الثمانين على ظهر مركب. وفي فيلم (شاب إلى الأبد) أحب شاب فتاة، ثم خطفتها يد الحوادث، فضربتها سيارة، ووقعت في غيبوبة، ولما شعر أنها تمشي إلى الموت، سلم نفسه لتجربة، حشر فيها جسده في براد، للتجربة على أن ينهض منه بعد سنة، ولكن التجربة امتدت، ثم نسوه ثلاثاً وخمسين سنة، فلما خرج من كفنه الجليدي مرتعشاً، واستعاد ذاكرته منتفضاً، كانت حالته مثل أصحاب الكهف، وكان أهم شيء فعله هو أن سأل عن فتاة أحلامه، وأول شيء فعله عندما رآها، وهي في سن الثمانين أن قال لها: هل ترضين أن تتزوجي بي؟. واليوم تأتي الأبحاث العصبية الجديدة لتذكر، أن الحب يمكن أن يتشكل منذ النظرة الأولى. ويبدو أن هناك قدراً من التيارات غير ما نعرف، من كهرطيسية أو ضوء أو صوت، فقد اكتشف عالم أمريكي انتقال موجات بين النباتات مجهولة الهوية، فإذا جرحنا شجرة ما أحست بمصيبتها بقية فصيلة نوعها، فشاركتها محنتها وواستها على نحو غامض. وجاء من قصص الجاهلية أن أمرأ القيس تربص ورصد فريقاً من الفتيات، ذهبن للاستحمام في بركة، فسرق ملابسهن، ولم يرض أن يعيدها، إلا بعد أن رآهن مقبلات مدبرات، وذكر ذلك في شعره الماجن، وما يلفت النظر في شعره تشبيهه أعجاز النساء بأعجاز البقر، فهذه كانت الموضة في تلك الأيام، وكانت المرأة السمينة الممتلئة، تعني الغذاء الحسن والصحة الوافرة. وفي حديث عائشة الجميل عن (أبي زرع) عن النساء اللواتي اجتمعن، وكان عددهن إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتواثقن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، وكان مسك الختام في روايات النساء قصة أم زرع، وتأرجحت عشرة قصص بين الذم والثناء؛ فواحدة كان يضربها زوجها باستمرار (فككّ أو شجك أو جمع كلاً لك). والثاني كان رائع الملمس والرائحة (المس مس أرنب والريح ريح زرنب)..والثامن أنه كليل تهامة لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة. وعرفنا هذا في رحلاتنا إلى البحر الأحمر والنوم بجانبه عندما عملت في عسير. وفي النهاية ذكرت عائشة رضي الله عنها أبا زرع الكريم، وكان الرسول صلى الله علية وسلم يقول لها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع.. دلالاً ونعمة ونعومة وكرماً ورحمة ونفقة.. والحديث يمثل قطعة فنية أدبية، وتصويراً رائعاً للبيئة، ومسحاً مدهشاً للعلاقات الزوجية، وطوبوغرافيا نفسية للبشر، ينصح بقراءته وتأمله، وهو من عيون التراث، وشيء ممتع دون حدود. والمهم في الحديث وصف أم زرع فقد كانت بدينة (ملء من شحم عضدي وأناس من حلي أذني وبجحني فبجحت إلى نفسي).. واليوم تتسابق معارض الجمال والملابس الإيطالية والفرنسية، لإظهار نحافة الفتيات، إلى درجة أن أمرأ القيس، لو خرج في هذه الأيام لن تصدق عيناه،ولظن أنها عصر مجاعة أو فتيات خرجن من معسكرات الاعتقال، حيث تبرز العظام، وتنتأ الأضلاع، ولا يبقى على العظم إلا الجلد، فهي هيكل عظمي؟!!فهذه هي موضة العصر الآن. وعندما زرت أنا شخصياً متحف اللوفر، وفيه قاعات واسعة، تحوي لوحات تنتسب إلى عصور مختلفة، بحيث يخرج الإنسان من قاعة القرن الخامس عشر إلى القرن الذي بعده، فترى تطور الرسم.. ومما أذكر أنني رأيت بعض اللوحات، وفيه عرض لنساء ظهرت عليهن البدانة، فهذه كانت موضة العصر في ذلك الوقت. ومن العجيب أننا نجتمع أحياناً بروح عصر، وأخرى بذوق لناس تعلقت قلوبهم بنساء، لا نرى فيهن مسحة جمال حسب أعيننا التي ترى؟. وفي يوم أثناء وجودي في ألمانيا، اتصل بي مرعوباً صديق لي يثق بي ويقدرني، وكان قد تزوج حديثاً، قلت له: ما بالك؟!. قال: أنا في ورطة!!. ثم بدأ يصف الزوجة الجديدة، أنها أنثى مخيفة وكائن منفر، بأظافر مرعبة، وأصابع مشوهة، وهيكل أعرج، ووجه دميم، وخلق سقيم، وذهبت ومعي زوجتي لاكتشاف هذا الكائن الأسطوري، وكانت دهشتنا أننا اجتمعنا بامرأة جميلة، بأظافر نظيفة لامعة، وأنامل دقيقة، ووجه مليح، وقد رشيق، ولا ينقصها شيء سوى أن يميل قلب زوجها إليها. وأنا ركزت على أظافرها التي وصفها فصعقت من جمالها ووصفه.. والسبب في مثل هذه النكبات في الغالب، هو الزواج بالمراسلة، والتعارف بالبريد قبل التعرف مواجهة وائتلاف القلوب. وجاء في الحديث عن صحابي يريد أن يتزوج ولم ير الفتاة، قال له الرسول «صلى الله عليه وسلم» هل رأيتها؟ قال: لا، فأمره أن ينظر إليها، ويتعرف عليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما. أي أن تجتمع القلوب على الحب..