عندما شكّت زوجة الطبيب من الصداع المستمر أشار عليها بتناول بعض المسكنات، والأطباء في العادة أقل الناس اهتماماً بعائلاتهم صحياً، وإذا أصبحوا مرضى كانوا عموماً من النوع غير المريح، وإذا أصيب أحدهم بنوبة سعال ظن أنه سرطان رئوي، أو إذا عانى من عسرة هضم شك على الفور بقرحة متقدمة أو ورم مستفحل، فدماغهم يجري بسرعة نحو أشد الأمراض فتكاً وسوءاً، وأكثرها قتامة وشؤماً، ولاغرابة فهم ينامون على موت دماغ في العناية المشددة، أو ينهضون في ظلمات الليل على كارثة جراحية من وراء حادث مروري، أو طلقة (خردق) ثقبت العين ودمرت الدماغ وقذفت بصاحبها إلى سكرات الموت، أو يستيقظون على مريض يحشرج من احتشاء قلب؟!!. والذي حدث مع زوجة الطبيب أنها استمرت تشكو من الصداع الذي يكاد يفجر رأسها، ثم لاحظ الجراح على زوجته أنها بدأت تتغير في تصرفاتها، فلقد أصبحت أكثر عدوانية فهي تغضب مع كل تصرف، كما اتسمت تصرفاتها بالغرابة فَطَبق (السلَطة) كان مترعاً بالملح وبشكل يومي، فصرخ الزوج في وجهها: لاشك أنك جننت وهناك شيء ما في رأسك؟ وعندما استلقت الزوجة تحت جهاز التصوير الطبقي المحوري (CT - SCAN) أظهرت الصورة ورماً متقدماً في الفص الدماغي الجبهي المسؤول عن الشخصية، الذي كلفها فيما بعد شلل الأطراف الأربعة. والسؤال ماهو السبب على وجه التحديد الذي كان خلف التحول السرطاني عند هذه السيدة الشابة؟ إننا كأطباء لانملك الرد على هذا النقطة!! وهذا يفتح الباب على فلسفة الطب، فلماذا تتمرد الخلايا على النظام العام، فتعلن ثورة على التناسق الخلوي في البدن، ولماذا تنفجر أمراضٌ بعينها بين الحين والآخر, على النحو الذي عرض في الفيلم الأخير (الانفجار الفيروسي OUTBREAK) ففي هذا الفيلم تم عرض انتشار فيروس دموس قاتل انتشر من قرد جلب من الخارج, وكان الفيروس قد غير طبيعته فبدأ ينتشر عبر الهواء مثل فيروس الرشح العادي، بل ماهي حكمة المرض والمعاناة في هذا الوجود؟!! لماذا كلنا مطوقون بالمرض والعجز والشيخوخة ؟؟!!. والآن والذي يجعل الخلايا تغير سيرتها في السرطان فتتحول من خلية عادية إلى خلية ورمية حميدة أو خبيثة؟! لايوجد عند الطب إجابة واضحة ومحددة، إذ لو كانت الإجابة موجودة لسار الاتجاه في طريق العلاج، وهذا التحدي مضاعف الوجه فلايعني قهر بعض الأمراض أن المعركة انتهت معها إلى الأبد، بل هناك إمكانية أن تغير طبيعتها فتقوم بهجمة جديدة كما هو الحال الآن مع بعض الزمر الجرثومية التي كانت طيّعة فيما سبق، فأصبحت جسوره معندة تعيث في البدن الفساد، والطب يتفاءل اليوم أنه بعد مشروع فك لغز الجينات البشرية HUMAN GENOM PROJECT أنه قد يصل إلى الإجابة على بعض الأسئلة المفتوحة حتى الآن، ونظراً لأن الكروموسومات الموجودة داخل نواة الخلية التي يبلغ عددها 23 زوجاً تحوي حوالي ثلاثة مليارات من الجينات، وهي على أشكال خيطية تصطبغ بالألوان بشدة سميت الصبغيات أو الكروموزومات وعددها 23 زوجاً يعتبر الزوج الأخير منها مسؤولاً عن التكوين الجنسي ذكراً أو أنثى والواحدة منها حبل أو سلم ذو طول مخيف وطرف أو جانب السلم مكون من قطع متراكبة فوق بعضها, وكأنها التمر في شجرة النخيل والعدد الإجمالي لحب البلح هذا حوالي ثلاثة مليارات, وكل مجموعة منها مسؤولة عن تشكيل شيء في جسدنا سواء الطول أو لون العين أو الزمرة الدموية وهكذا فإن فك الشيفرة قد يتطلب مسيرة عقد أو عقدين من السنوات القادمة، والعمل اليوم قائم على ساق وقدم في هذا المشروع الذي هو أعظم من مشروع (ناسا) لارتياد الفضاء، وبفهم الشيفرة الوراثية سوف نشق الطريق لأشياء في غاية الخطورة أبرزها المسؤولية الفعلية للجينات ووظائفها على وجه الدقة، بل وربما أيضاً السر خلف حياتنا القصيرة، ففي الوقت الذي ينضج فيه الإنسان تتخطفه يد الموت؟؟؟.