أنا هنا .. كما تتقاطرُ في دمي قوافل الوجع المرير .. كما تعتصرني أيادي المتاهة .. كما تجرحني الحياة كما لم تكن يوماً مرتعاً لابتسامة .. تختصرني هذه المعلّقة الفنيّة الأصدق بين صلوات الجرح الدامي .. حزن اليمن .. حزن البلد الذي أرهقهُ أبناؤه لا سواهم .. حين ارتضو الهلاك بأيديهم قبل أيدي علوج الدمار والنكال . لا أدري أيّ منديلٍ إلهيّ سيمسحُ دموع القهر عن ضلوع اليمن ! أيّ خابيةٍ مستترةٍ ما تزال تُخبّئ بأعماقها فسحةً جديدةً من الأمل .. هذه الكلمات التي قُدت من عروق النأي .. وذاك اللحن الشجيّ المتقاطر في دهشة الناي .. والمسافات المتراصّة في محبرة دمي .. تنزفني كأن لم أكن ذات يومٍ مشعل حضارة أطفأتها فتنة الإخوة الأعداء . ما ليس مقبولاً ولا معقولا أن يُصْبحَ اليمنُ الحبيب طلولا أن يشتوي بالنار من أبنائه ويناله منهم أذىً وذبولا بهكذا صرخةٍ استنكاريةٍ هائلة دوّت بها حنجرة الفنانة الأصيلة / شروق .. يبوح بنا ولنا شاعر اليمن الكبير وأديبها الفذّ الدكتور /عبدالعزيز المقالح وهو يرسم أوجاعنا الحقيقية التي لا تقبل زيف لغة التشظّي والمماحكات الدنيئة في أبشع شهورٍ عاشتها ومازالت تعيشها هذه البلدة التي لم تعرف الأمان والرخاء منذ عشرات السنين . فلماذا ارتضى اليمنيون بهذا الحصاد المرير وهم أهل الإيمان والحكمة؟ بل الأدهى من ذلك كيف تواطأ بعضهم وصمت أغلبهم أمام أنصار الشر والشيطان وهم يستبيحون دماء المواطنين وأرواح الجنود الأبرياء وهم يُساقون لمعارك الموت والنكال .. ولماذا لم يفلح التأريخ وموروث الحضارة وقيَم الإنسانية والتسامح والألفة والقبول بالآخر في أن يمضوا معاً لرسم مستقبل اليمن دون إراقة دماء ..! لكنهم وللأسف الشديد كما قال الدكتور المقالح: الراكعون لكل علجٍ أجربٍ والخاضعون أذلّةً وخمولا يتقاتلون على سرابٍ خادعٍ ويرون فيه المغنمَ المأمولا وطن يُباع على الرصيف بحفنةٍ من مال إسرافيلَ أو عزْريلا وكما كان مجد اليمن وأبنائه وتأريخه الإنسانيّ العريق الضارب في جذور التأريخ .. أصبح اليوم في سعير اختلاف وفُرقة أبنائه وحصادهم المرير من تجربةٍ لم يعوا قدرها وقيمتها العظيمة .. بل تناسوا أن للوطن حقٌاً عليهم إن هم أهملوه لن يمهلهم التذاكي السلبيّ والعجرفة المتعمدة والزهو الكاذب في أن يدفعوا المزيد من ثمن التخاذل والإحتيال على بعضهم البعض .. ولن يتبقّى من تأريخهم إلا أطلال ذكرى لن تُجدي نفعاً وهم يركضون في حِمم الدماء وجلب الأفكار العدوانية المناقضة لفطرة الإنسان . أين اليمانيون من تركوا على وجهِ الزمان سناءَهم مجدولا لم يبق منهم في البلاد بقيةٌ رحلوا سيوفاً في الدنى وخيولا لم يتركوا في الدار إلاَّ حاقداً متهوراً أو عاجزاً مخبولا ولا أدري أين رمى أبناء وطني بالمفهوم الشامل والطاهر للأثر الشريف « الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية»! .. واستعذبوا واقع البارود وعنفوان الخطاب التعبويّ في أسوأ مراحله وطرائقه التي لم تزد الشعب إلا وجعاً وحقداً وتوتراً لا ندري إلى أين سيؤول مصيرنا مع كل هاتهِ المفردات العالقة كغصّةٍ في صدور البسطاء وآمالهم وما تبقّى من أحلامهم . لا يسمعون نداء صوتٍ عاقلٍ أو يأخذون إلى الوئام سبيلا لَعَنتْهم الأحفاد في أصلابهم ونفتهم الأجيال جيلاً جيلا هكذا أخرج الدكتور المقالح الشجن المغمور في قلوبنا والمتناثر في أحداقنا .. والحزن العميق في نفوس من فقدوا وافتقدوا وتحملوا ويلات القتل والتنكيل والهوان في عيشهم ومأوى أرواحهم .. وحقيقتهم الأزليّة في وطنٍ يرزح تحت منصّة المؤامرات والعذاب . تحية إجلال وتقدير ومحبة وامتنان لشاعر اليمن الكبير الدكتور/ عبدالعزيز المقالح .. ولأختي البديعة صاحبة اللحن الشاهق والأداء السامق الفنانة / شروق .. وللبيت اليمنيّ للموسيقى ممثلاً بالأستاذ العزيز / فؤاد الشرجبي وهو يُظهر هذا العمل الإنسانيّ العميق والخالد إخراجاً وإنتاجاً .. بل أعتبره من أصدق ما أنتجه الإبداع اليمنيّ في أعلى مراتب وعيه وحزنهِ.. وهو يختصر كل طرقات البوح .. وكل الأماني المؤجلة في كفّ الأقدار البائسة .. ولن ينتهي الوجع إن لم نسعى جميعاً يداً واحدة لبناء يمننا الجديد تحت راية المحبة والسلام .. لكنني لن أنسى حزني المتجدد على من رحلوا لأجلنا وبقينا في دوائر دمائهم نجوس خِلال الوهم وسلال الفواجع .. وسأهتف ما حييت: أسفي على الشهداء كيف تساقطوا كي يرتدي المتذبذب الإكليلا .