الفترة الانتقالية التي أعقبت إعادة تحقيق الوحدة اليمنية المباركة لم تكن نعيماً مقيماً, قدر ما كانت فترة شهدت الكثير من المشاهد الدموية التصفوية لعدد من الشخصيات الوطنية وتحديداً من الحزب الاشتراكي, فضلاً عن الملاحقات والاعتقالات والضغوط التي مورست ضد القوى والشخصيات السياسية والاجتماعية، وبما جعلها فترة مضطربة قلقة لا مستقر فيها ولا مستودع. ورغم كل جهود الحوار والوساطات ومحاولات التهدئة, ومشاريع الخروج من نفق الأزمة المظلم, إلا أن الإصرار كان قائماً وحاداً للدخول في حرب. وكانت 27 إبريل2004م, هي اليوم الذي أعلن فيه الحرب من ميدان السبعين, وتلاحقت الأحداث إلى أن دخل أطراف المعادلة السياسية الحرب في صيف عام 2004, وهي الحرب التي أسست لمرحلة تالية من الجروح والندوب على جسد اليمن وعلى عمق الوحدة اليمنية التي اتهمت ظلماً وعدواناً أنها السبب في كل الذي حدث, وهي في حقيقة الأمر أبرأ من أن تكون كذلك، فما هي إلا حدث عظيم أداره النظام السابق، وأعمل فيه إفساداً، وحوّله من حدث عظيم منشود لعقود بل لقرون إلى حدث أفسد أحلام البعض - بحسب اعتقادهم - الذي تولد نتيجة للربط المباشر بين إعادة تحقيق الوحدة وما حدث تبعاً لذلك, ولم يذهبوا أبعد من ذلك في تحليلاتهم ليقفوا على المسؤول الحقيقي عن كل ما حدث، وهو النظام السابق الذي استباح كل شيء، ليس فقط في المحافظات الجنوبية بل في كل اليمن من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه. والذي يظهر جلياً وواضحاً في غياب التنمية الحقيقية على كل اليمن, وفي انتشار الفوضى وغياب القانون في كل اليمن, وفي شيوع الفساد والنهب في كل اليمن, وفي تنامي الفقر والبطالة في كل اليمن, وبما جعل اليمن بلداً فقيراً ينتظر الإعانات والمساعدات والمنح والقروض والتي تذهب إلى حسابات وبطون ومصالح المتنفذين، رغم أن اليمن يمتلك من الموارد والثروات والخصائص ما يجعله بلداً غنياً, قوياً, صاحب فضل الآخرين. نعود إلى موضوع الفترة الانتقالية, فنقول: إن الملامح التي تشكلت في مطلع التسعينيات، وأوصلت البلاد إلى حرب ندفع أثمانها إلى اللحظة, تتشكل الآن في الفترة الانتقالية الحالية منها: 1- الجيش منقسم وموزع في قياداته وأفراده وعتاده بين خندقين، كما كان في الفترة الانتقالية السابقة. 2- الاختلال الواضح في اليمن أبرزها حالات الاغتيال والاعتقال والاختطاف السياسي، كما كان في السابقة. 3- فقدان السلطة المركزية لقدرتها على إدارة الأطراف, كما حدث في الفترة السابقة. 4- انقسام واضح في القوى السياسية وتباين وجهات النظر والرؤى في التعامل مع المتغيرات والانتقال إلى المستقبل, كما حدث في الفترة السابقة. 5- غياب دور النخب الاجتماعية والسياسية المستقلة والأكاديمية الموضوعية، وبروز الشطحات والمزاعم والادعاءات, وشيوع الظاهرة الصوتية التي تدّعي صناعة الأحداث، بينما تخبرنا الوقائع أن هذه النخب في هامش الأحداث، وأنهم لا تأثير لهم ولا فاعلية. 6- بروز الرؤى الداعية إلى معالجة الاختلالات على حساب قضايا الوطن واستقلاله وإرادته وسيادته, والذي يلاحظ بجلاء بالدور اللامعقول واللامنطقي للدول الخارجية في هذه المعالجة, وهو ما كان واضحاً في مطلع التسعينيات، في حين كان أرثر هيوز السفير الأكريكي آنذاكو معه سفراء الدول الأوروبية يقومون بزيارات وجولات مكوكية بين صنعاء وعدن, وأوصلوا البلاد إلى نفق الحرب الظالمة التي استهدفت جيش اليمن واقتداره العسكري والاقتصادي. 7- انتشار السلاح في أوساط المجتمع, وبرز دور لشخصيات قبلية على حساب المجتمع المدني، وهو ما حدث في الفترة الانتقالية السابقة. 8 - ظهور تكتلات سياسية ومنظمات مجتمعية أقحمت نفسها في معترك الوقائع, وادّعى بعضها وصلاً بصناعتها, وهو ما حدث في الفترة الانتقالية. 9- شيوع الاتهامات السياسية, وتوزيع صكوك المواطنة والوحدوية, والثورية، والزعم بامتلاك الثورة عند البعض وتجريدها من الآخر, والادعاء بالنقاء الثوري عند جماعات وغيابه عند الآخرين، واعتبار البعض مندسين على الثورة ومتطفلين على التغيير, والبعض أخرجوا الثورة من جيوبهم، واحتفظوا بكلمة السر في خزانات خاصة وحدهم من يملك فك رموزها والوقوف على مفرداتها, وهو ما حدث في الفترة الانتقالية السابقة، حين اعتقد البعض أنهم من صنع الوحدة وأن غيرهم من ضيعها أو ينحاز لمن يعاديها!. 10- طغيان العاطفة على العقل, وبروز الحاجة أصلاً للحركة, والمصالح أساساً للسير في اتجاه التغيير, وبما أثر على دعوات الحوار الحقيقي الذي يهدف إلى لملمة القوى وتوحيدها في إطار التغيير كهدف مشترك وليس أكثر من ذلك، ومتطلباته في وجود برامج مشتركة ورؤية مشتركة للموضوعات المصيرية والاستراتيجية المتصلة بالثورة والوطن, وهذا ما حدث في الفترة الانتقالية السابقة حين افترقت القوى وظهر طغيان العاطفة في اتجاه الوحدة وفي اتجاه العودة إلى الدولة الشطرية. 11- بروز قيادات تبحث عن الضوء ولا تتجنب السقوط فيه، ولا تتردد في الإقدام على خطوات خادشة للوطنية والسيادة، ولا تتراجع عن مواقف مؤثرة سلباً حتى على شخوصهم, وهذا ما أوقع انقسامات خطيرة في صفوف الثوار وأضعف قرارهم وأوهن قدراتهم الجمعية, وهذا ما حدث فعلاً في الفترة الانتقالية السابقة. إن السير في عقد المقارنة يتطلب مساحة أوسع من الجهد والورق والقلق, ولهذا نكتفي بما سبق. ويمكن أن نعود إلى الموضوع ونعرضه بمنهجية أفضل؛ لأننا هنا لم نحرص على المنهجية قدر الحرص على المعلومة وعلى التنبيه إلى ما يجري، ولفت نظر للقوى الثورية والسياسية والممسكة بالسلطة من جانب واحد. إن التراخي وعدم اتخاذ إجراءات حاسمة وصارمة لن يحقق الانتقال الآمن, كما أن التعويل على الدور الخارجي لن يوفر قارب النجاة, ولنا في التجارب عبرة فهل نعتبر؟. وعلينا إن أردنا الانتقال الذي يحقق الآمال أن نعتمد على الجبهة الوطنية ونعمل على توحيدها وفق رؤية تقوم على أساس الدولة المدنية والتغيير وإزالة الفساد والمفسدين وتشكيل حكومة خبراء خالصة للوطن بعيداً عن المحاصصة واللفاق؟! ترتكز على الثورة في عمقها وأهدافها المعمدة بالدم والجراح. والله من وراء القصد.