بات من المؤكد – وربما قد يخالفني بعض القراء القول بأن المرحلة الحالية تتسم بغياب حالة الوضوح أو التيقن أو التأكد من وفي أي شيء، وربما في كل شيء - أننا نحتاج في هذه المرحلة الهامة من تاريخ وطننا وأمتنا إلى سماع أصوات العقل والتعقل، وإلى حكمة العقلاء من أبناء هذه الأمة، أكثر من حاجتنا إلى أي شيء آخر، وأن علينا الاختيار صراحة بين الاستماع إلى نداء العقل أينما وجد وأياً كان مصدره أو منبعه، وبين الانصياع إلى نداءات القوة، والاستماع إلى أصوات قرع طبول الحرب، وصرخات التحدي، وسياسات كسر العظم، ومهرجانات أو سباقات كسب الأنصار والجولات، ومحاولات تسجيل النقاط في مرمى الخصوم. ولقد صار من الواضح أن وطننا وشعبنا يحتاجان في هذا المنعطف التاريخي الهام والحرج إلى العقليات الوطنية المنفتحة على الآخرين، التي تعترف بحقيقة وجودهم، وبأهمية وضرورة تواجدهم، وتفاخر بهويتها الوطنية، وبتواضعها، وبعقلانيتها، وبهدوئها، وقدرتها على إدارة دفة الوطن في بحر متلاطم من الأزمات والأحقاد والصراعات. تحركها مفردات: البناء والتكامل، والتوحد، والتوسط، والاعتدال، والتقارب، والتصالح والتسامح، والقبول بالآخر، وضبط النفس، والتهدئة، والمواطنة المتساوية، والعدالة، وكثير من المبادئ والقيم والسلوكيات الضرورية من أجل تهيئة الأرضية الصالحة لإجراء حوار وطني شامل بين جميع مكونات المشهد السياسي اليمني، لمناقشة جميع القضايا ذات الأولوية والأهمية وطنياً، وغلق جميع ملفات الصراعات السياسية الماضية، وسد جميع منافذ وأسباب عودتها أو تكرارها، للحفاظ على منجزٍ لم يكن حقاً لأحد، ولم يعد حقنا وحدنا بل صار ملكاً لأجيال الحاضر والمستقبل. ولم يعد وطننا في حاجة إلى القيادات والعقليات الماضوية والقبلية والبدائية المنغلقة على ذاتها، والمكتفية بذاتها، والمتفاخرة بانقساميتها، والمتباهية بصلفها وغرورها، وعنجهيتها ورعونتها وشططها وشطحاتها، وعُقَدِها النفسية، وثاراتها الشخصية، وطموحاتها اللامتناهية. ونعتقد صادقين وناصحين أنه يتحتم على تلك القيادات أن تغير وتستبدل مفرداتها المنطوية على مفاهيم: القوة، والصراع، والفيد، والضم، والإلحاق، ، وفك الارتباط، والإقصاء، والتهميش، والتابعية، والرعية، والدونية ... ومحاولات إلغاء الآخر، والغالب والمغلوب ... إلخ، وأن تتراجع عن تهديداتها الفارغة التي تعيق أي تقدم صوب تحقيق هذا الهدف السامي، وتفرغ الحوار الوطني من أي مضمون حقيقي، وتقتل كل أمل في إمكانية خروج مجتمعنا من هذا المنزلق الذي علقنا فيه إلى رحاب المستقبل الواعد بكل الخير إن شاء الله تعالى، إن تضافرت جهود وأيدي كل أبناء مجتمعنا من أقصاه إلى أقصاه، في الداخل والخارج. ولكل هذا، قد يبدو من الغريب في هذه المرحلة أن تخفت أصوات العقلاء، وأن تتوارى ملامح التعقل والحكمة اليمانية، وأن تتعطل لغة الحوار ومفرداتها، وأن تظهر بدلاً عن كل ذلك كثير من التصريحات والمؤتمرات والمهرجانات والصراعات القبلية التي لن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، لكنها – عملياً وواقعياً – أعاقت وستعيق عجلة التاريخ عن أن تمضي إلى الأمام، وستوقف أي تقدم للمجتمع اليمني باتجاه اللحاق بركب الحضارة والتقدم، وستمنع اليمنيين من إبراز كل مؤهلاتهم، والاستفادة من كل مواردهم، والالتفات إلى قضاياهم وأولوياتهم.